Calam Sudud Wa Quyud
عالم السدود والقيود
Genres
يوم الإفراج
يوم الإفراج.
أو يوم البعث والنشور.
أو يوم الحرية.
أسماء كثيرة يسمى بها يوم الخروج من السجن، والناس يحسبونه أسعد أيام المسجون؛ لأنه اليوم الذي انتظره مئات الأيام أو ألوف الأيام، ويحسبون أن المسجون إذا قارب فجره لم تغتمض عيناه سرورا بلقياه وأوشك أن يطير فرحا بالوصول إليه! وهم على حق فيما يحسبون لو أن الشعور مما يقاس بأمثال هذه المقاييس التي تقاس بها الأحجام والأرقام، ولكن الشعور يجري على منطق غير هذا المنطق، وينقاد لأحكام غير هذه الأحكام، فيوم الإفراج يوم لا تهتز له نفس السجين بسرور عظيم ولا تقبل فيه على موعد جديد، وسبب ذلك هو بعينه السبب الذي يحسبونه جالبا للفرح واللهفة والتهلل والاغتباط، وهو أن السجين قد انتظره مئات الأيام أو ألوف الأيام.
يظل السجين ينتظره ويطيل انتظاره ويتأمله من كل جانب ويحسب المسافة بينه وبينه بالأشهر والأسابيع والأيام والساعات، ويقدر ما يصنعه فيه ويعيد التقدير ويعيد الإعادة ولا يفكر طوال ساعات الفراغ أو ساعات العمل في شيء غير هذا التفكير الدائم الدائب الذي يستنفد كل صورة وكل احتمال وكل خيال: حتى إذا جاء اليوم الموعود إذا بالسجين يراه كأنه وجه قديم طالما رآه وأدمن النظر إليه وعرف ملامحه وقسماته خفية وظاهرة وكبيرة وصغيرة، ولم تبق منه لمحة واحدة لم يرها ويحقق رؤيتها بدل المرة عشرات ومئات، فهو منظر من مناظر الماضي السحيق المتغلغل في القدم والألفة، وليس بمنظر ظريف ولا بموعد جديد.
والمساجين ينظرون كل يوم إلى المفرج عنهم ويعجبون لهم ما بالهم لا يطيرون ولا يبتهجون! ويحسبونهم يتوقرون ويكتمون ما يخامرهم من شعور، حتى إذا جاء يومهم في الإفراج عجبوا لأنفسهم بعد أن كانوا يعجبون للآخرين، وهكذا كان من حظ بني الإنسان أن يستنفدوا السرور بالمتعة التي تطول الرغبة فيها ويطول انتظارها، فلا يستشعرون السرور الصحيح إلا بأنصاف الآمال أو المفاجآت التي لا تخطر على البال!
ويخيل إلي أن أبخل البخلاء إذا انتظر مليون جنيه بعد عشر سنوات وهو على يقين من الوصول إليه عند موعد محقق لا خلاف فيه لأصبح هذا المليون وكأنه مبلغ في الخزانة داخل في الحساب، لا يشعر بالزيادة عند وروده ولا يشعر بفقده قبل يوم الموعد المنظور، فهو ضائع من حسبانه في حالتي الترقب والاستيلاء عليه، وهو أقل من مائة جنيه يغنمها ويشعر بزيادتها ولم يحسب لها ذلك الحساب الطويل.
على أن اليوم - سواء عددته من أيام السعادة أو من أيام الفتور وقلة المبالاة - هو يوم ينطبع في الذاكرة وينطبع معه كل ما يلازمه من المناظر والمسامع والأحاسيس، فهو محسوس به إحساسا عميقا شديدا راسخا في قرارة الوعي والبديهة، وذلك شيء أندر جدا من المسرات وأندر جدا من الأحزان.
وإذا أراد الإنسان أن يشعر بأغوار هذا العمق فما هو بقادر على ذلك إلا إذا فوجئ في اللحظة الأخيرة بتغيير في الموعد أو خروج عن خط الانتظار المرسوم: هنالك يعالج شعور الفقد والشك بعد شعور الاطمئنان واليقين، ويعلم أن تأخير ذلك اليوم ساعات معدودات هو بمثابة الحرمان المباغت من أعوام لا يحدها الإحصاء، وقد رأيت سجينا يركبه البؤس والكرب والقنوط؛ لأنهم أوشكوا أن يؤخروه يوما واحدا لخطأ في المضاهاة بين الأشهر العربية والأشهر الإفرنجية، فلما ردوا له ذلك اليوم الواحد إذا به يشعر بالخلاص منه أشد من شعوره الأخير بالخلاص من الأشهر والسنوات.
Unknown page