Calam Sudud Wa Quyud
عالم السدود والقيود
Genres
وأناس منهم يرحبون بساعة الوعظ كما يرحب التلميذ بساعة لعب يستريح فيها من حصة الدراسة، ويأنس فيها بالجلوس بين إخوانه في شيء من الطلاقة والسماحة.
وأناس آخرون يرحبون بساعة الوعظ؛ لأنهم يغتنمون فيها الفرصة حين يزجرهم الواعظ ويصب عليهم اللوم والتبكيت، ليبثوه الشكوى من قسوة الحراس وجور الأحكام، ويلقوا شيئا من اللوم على (النظام) وشيئا من اللوم على الأيام.
ولا تخلو جموعهم من أفراد تلمحهم عند انصرافهم منكسي الرءوس كاسفي البال من أثر الوعظ أو من تداعي الخواطر واسترسال الخيال، وربما سمعتهم يرثون لأنفسهم ويندمون على ما فرط منهم، ويودون لو هداهم الله وردهم أناسا كسائر خلقه لا يعرفون المحاكم والسجون، ولا يبتغون العيش إلا من الرزق الحلال، ناعمين وادعين بين الأمهات والآباء والأزواج والأبناء، ثم يعلقون ذلك كله على القدرة والاستطاعة، وهم مستقرون في ضمائرهم على أنهم لا يقدرون ولا يستطيعون؛ لأنهم لا بد لهم من العيش وكسب الرزق، وهم يشكون بوار الصناعات وشح الناس وندرة الأعمال. •••
على أن أثر الوعظ في الجملة ضعيف سريع الزوال، وقد يبلغ من ضعف أثره وسرعة زواله أن ينقضه بعض سامعيه في ساعة سماعه، وأن يصبح الواعظ نفسه هدفا يرميه أولئك الخبثاء، وصيدا يصيدونه، ودليلا يثبتون به أو يثبتون فيه بطلان وعظه وضياع جهده وعبث رجائه، حتى يخيل إلى الإنسان في هذه الحال أن حلقة الوعظ إنما هي حلقة سباق وصيال بين الجريمة والهداية، تلتقيان فيها لتنظر كلتاهما أيهما هي الأقدر على الظفر بالأخرى وتعريضها بين المتفرجين للهزيمة والسخرية! انتقاما منها لاعتدادها بنفسها وسوء ظنها بقوة غريمتها! وقلما تتمثل حلقة المباراة هذه في شيء كما تتمثل في القصة التالية التي سمعتها من أحد موظفي السجن، والعهدة على راويها.
أعرف واعظا مشهورا يطوف بلاد القطر ويحب أن يتخذ له أبناء من موعوظيه في كل بلدة وكل إقليم، يرعاهم رعاية أبوية ويسره أن يرى منهم حفاوة البنوة وتحيتها، ويمد يده للتقبيل كلما انتهى من وعظه غير ممتنع ولا ناظر إلى تقبيل يده إلا كما ينظر الأب إلى تحية الاعتراف والشكر من ولده.
وشاخ الواعظ الذي أعنيه وضعف عن الطواف في أنحاء القطر، ولكنه لم ينقطع كل الانقطاع عن الوعظ في السجون وإن أطال الفترة بين عظاته كلما تقدمت به السن.
وجاء الشيخ يوما وهو لا يكاد يقوى على الجلوس والحركة إلا بمعونة معين، فأسهب في نصائحه على عادته وملأ السجن بأصوات الدعوات يلقيها على سامعيه، ثم يطلب منهم تكريرها مرات متواليات بنغمة مرتلة يلقنهم إياها وهو يهتز بينهم على نغمة ترتيلها، أو يتركهم يعيدونها ويسبح في غيبوبته العلوية حتى يفيق منها!
فلما ختم عظاته وترتيلاته تدافع السجناء حوله يهمون بتقبيل يديه والتماس البركة منه فإذا هو يحجم عنهم ويصيح بهم صيحة منكرة: «مكانك يا ولد! إياك أن تقترب يا ولد! من بعيد يا ولد!» كأنه يرتل هذه الكلمات على طريقته في ترتيل النغمات!
قلت لبعض الموظفين ممن اتفق وجودهم على مقربة مني: «ما خطب الشيخ يأبى تقبيل اليد من هؤلاء؟ أزهادة منه في السجناء؟ أم زهادة في هذا الصنف من قبلات الأبناء؟»
قال: «لا هذا ولا ذاك، ولكنه معذور لأنهم سرقوه مرة ويخشى أن يعيدوا عليه الكرة، فهو يجانبهم هذه السنوات ويستعيض الله خيرا من تلك القبلات.»
Unknown page