Calam Sudud Wa Quyud
عالم السدود والقيود
Genres
وكان من عادته إذا فرغ من شرحه ووعظه أن يطلب إلى أحد السجناء أن ينهض للصلاة والدعاء ويجهر بما يجيش في نفسه ونفوس زملائه، فمنهم من يحسن الكلام ومنهم من يتعثر بالألفاظ المألوفة في الأدعية والصلوات، وكل أولئك مما يستحب الإصغاء إليه والتأمل في مغزاه.
ولا أحسب أن أحدا منهم كان يجيد الكلام في دعائه وصلاته كما كان يجيده رجل من أضراهم بالشر وأولاهم بالعقاب وأسوئهم سيرة بين السجناء، وإن شهدوا له بالبراعة والذكاء: وهو تاجر مخدرات مشهور.
سمعته مرة يصلي ويذكر خطايا الخاطئين وآثام بني الإنسان ... فسألت عنه فقيل لي هذا فلان صاحب الحيل المعروفة في ترويج المخدرات، وكنت قد سمعت عنه وعن قضاياه وأحابيله في إيقاع صرعاه، وإغرائهم بتناول السموم وإدمانها، فقلت: لو كان هذا المصلي الخاشع يدعو الله ليستجاب دعاؤه لما دخل السجن، ولا قام مقامه هذا للصلاة فيه! ولكنها حيلة جديدة من حيله الكثيرة، ولعلها أيضا من حيل التخدير! •••
ويتردد على سجن مصر عدة من الوعاظ المسلمين بين الصبيحة والظهيرة، ولكن في غير موعد مقرر أو يوم معلوم.
فإذا وصل أحدهم إلى السجن جمعوا له سجناء دور من الأدوار في ساحته الأرضية، وجلس هو على كرسي أمامهم ينصح لهم ويحذرهم عقاب الآخرة بعد عقاب الدنيا على طريقته في النصح والتحذير.
فبعضهم كان يحفظ خطبه ويعيدها كما هي كل مرة بعد تحوير طفيف لا يقدم ولا يؤخر، وهو يحاول أن يذهل سامعيه من السجناء عن هذا التكرار برفع الصوت والتلبس بالغضب والصرامة في الزجر والإنذار، ويمضي في تكراره مطمئنا إليه؛ لأنه يعظ في كل مرة سجناء دور واحد من أدوار السجن الكثيرة، وتنقضي مدة طويلة بين العظتين في الدور الواحد يخيل إليه أنها كفيلة بالتشكك والنسيان.
وبعضهم يتوخى الطريقة العصرية في اختيار المناسبات، واتخاذ المناسبة الأخيرة من بعض الحوادث الطارئة التي لها مساس بأحوال سامعيه.
وبعضهم يعتمد على التأثير بالسن والمهابة والسمت والثياب الفاخرة، ويحيط عظاته بمراسم طنانة كأنها مراسم أصحاب العزائم والتعاويذ.
وكان يعنيني أن أراقب السجناء حين يحضرون إلى العظات وحين ينصرفون، لأرى كيف يقبلون عليها وكيف ينصرفون عنها وكيف - فيما بين ذلك - يستمعون إليها؟
فبدا لي أن أناسا منهم يحضرونها بروح الهازئ المستخف الذي يتحدى الواعظ بشقاوته واستعصاء أمره، وكأنما يقول بينه وبين نفسه: (هلموا إلى ذلك الرجل الطيب الذي يحسب أنه يفهم من الأمور ما لا نفهم، لنرى كيف يعلمنا العقل والدربة، ويصلحنا بكلماته وتهويلاته.)
Unknown page