تكون الدول الخمس الأوروبية الشمالية: دول اسكندنافيا الثلاث السويد والنرويج والدنمارك، ودولتا فنلندا في الشرق وأيسلندا في الغرب، إقليما واضح المعالم من القارة الأوروبية، وهذا الإقليم الذي يسميه أهل اسكندنافيا باسم نورديا أي الشمال، لا يتميز فقط بظروف جغرافية طبيعية، متشابهة، ولكن تميزه وتفرده يرجع بدرجة أكبر إلى تاريخه وحضارته، وهما رابطتان قويتان وحدتا سكان هذا الإقليم، ففي هذه الدول الخمس نجد شعوبا من أصل مشترك ولغة مشتركة - بالإضافة إلى أقليات سلالية ولغوية، والغالبية الساحقة من السكان في الدول الخمس تدين بدين واحد، وفي الدول الخمس أعداد السكان قليلة والموارد الاقتصادية في عمومها محدودة وغير متوازنة، وبرغم قلة الأرض الجيدة في الدول الخمس التي تكون أراضي هامشية بالنسبة لمساحة كل دولة، فإن مستوى المعيشة هو من أعلى المستويات في أوروبا، كما أن مستوى الصحة والتعليم والرخاء الاجتماعي في نورديا من أعلى مستويات العالم، ويشترك سكان نورديا في وجهات نظر مشتركة في النواحي الاقتصادية والاجتماعية، ويسهمون قدر الإمكان في الإبقاء على شخصيتهم، وخلاصة القول أن أمم نورديا موحدة في شتى الصور عدا الوحدة السياسية.
ودراستنا لهذه الدول تحدوها الرغبة في فهم واستطلاع هذا النوع من الدول الأوروبية المنعزلة نسبيا: أسماؤها غير لامعة، ودورها في حياة القارة أقل بكثير من دور بعض الأمم الأوروبية مثل فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا أو الاتحاد السوفيتي ، وظروفها المناخية قاسية، والتربة الزراعية قليلة، ومع ذلك تقف على رأس دول العالم في نواح معينة، ومن الناحية السياسية موقف هذه الدول غريب. في أوروبا تمت وحدات أممية كثيرة: الوحدة الألمانية أكبرها، ولكن هذه الدول الشمالية لم تسع للوحدة برغم اشتراكها في كثير من طبائع الحياة والحضارة، بل على العكس نجد لكل من هذه الدول دورا سياسيا خاصا ومختلفا عن جيرانها، وفي عالم المعسكرات العالمية المعاصرة اختلفت اتجاهات هذه الدول الخمس اختلافا بينا في دور كل منها في المواقف الدولية المعاصرة: «الحرب الباردة» - «التعايش السلمي» - «استراتيجية السلام العالمي»، لكي نفهم هذه الموضوعات جميعها، ونعرف ماذا يمكن أن يئول إليه مصير هذه الدول، علينا أن ندرس صفاتها العامة الجغرافية والحضارية ثم نتناول كلا منها على حدة.
الفصل الأول
الأوضاع الجغرافية
مكونات نورديا وموقعها
تقع نورديا في شمال أوروبا مما جعلها تتمتع بنوع من الانفصال عن بقية القارة، ولكن هذا الانفصال ليس تاما كما هو حادث في بريطانيا وأيرلندا، ولهذا لم يكن أمام دول نورديا الفرصة المماثلة للخروج تماما عن مؤثرات القارة الأوروبية، هذا التأثير من القوى الأوروبية المجاورة لم يكن دائم الحدوث، ولكنه في فترات التأثير يصبح عاملا حاسما في تشكيل دول الشمال.
وانفصال نورديا عن أوروبا غير كامل؛ لأن نورديا تتكون من أشباه جزر باستثناء أيسلندا، فهناك شبه جزيرة وجزر الدنمارك، وما يشبه شبه الجزيرة في فنلندا، وأكبر شبه جزيرة في نورديا تتقاسمها كل من السويد والنرويج، أما بحر البلطيق وخليجا فنلندا وبوثنيا فيكونان حدود نورديا الشرقية، ومضايق السوند والكاتيجات وسكاجراك تكون الحدود الجنوبية، بحر الشمال وبحر النرويج يكونان الحدود الغربية والبحر الأبيض والمحيط الشمالي تكون الحدود الشمالية لها، وتغطي الجبال الالتوائية الوعرة غربي سكاندينافيا وتغطي نورديا مساحات شاسعة من الغابات المخروطية والآلاف من البحيرات والمستنقعات، وربما كان ذلك سببا من أسباب عدم تشجيع الهجرة من الشرق إلى أشباه الجزر النوردية، برغم العرض الكبير لليابس الفاصل بين خليج فنلندا والبحر الأبيض.
وبين طرف خليج بوثنيا وخليج كندلاكشا - الامتداد الغربي للبحر الأبيض - توجد مسافة لا تزيد عن 350كم، وإلى الشمال من هذا الخط يوجد اثنان من أشباه الجزر هما: (1)
شبه جزيرة كولا التي تقع كلها داخل الاتحاد السوفيتي . (2)
شبه جزيرة سكندينافيا الممتدة إلى الجنوب الغربي مسافة 2000كم، وهي تنقسم في الجنوب إلى قسمين بواسطة مضيق سكاجراك وفيورد أوسلو، مما يتكون معه مركزان أرضيان منفصلان نشأت في كل منهما نواة دولتي السويد والنرويج، ولكن ليس معنى هذا أن تعرجات اليابسة في داخل أشباه جزر فنوسكانديا قد أدى إلى فصل كل منها إلى دول ثلاث، بل الواقع أن الأحداث التاريخية والحضارية هي المسئولة عن التعدد السياسي في هذه المنطقة المتشابهة.
Unknown page