محمد رياض
القسم الأول
العالم القطبي
الفصل الأول
العالم القطبي في عالم متغير
يمر الكثير من الدراسات في الجغرافيا الإقليمية على الإقليم القطبي مر الكرام؛ أي دون إجراء دراسات تفصيلية له، وليس ذلك دون سبب، فإن الإقليم الواقع في أقصى شمال العالم وجنوبه هو أكثر أقاليم العالم معاداة للحياة الإنسانية في صورته الحالية؛ ولذا فهو أقل مناطق العالم كثافة في السكان، ومن أكثرها تبعثرا في السكن، وفي الوقت نفسه فإن موارد العالم القطبي كانت حتى فترة ليست بعيدة محدودة جدا، وبالقياس إلى هذا كله نجد أن الجغرافيا الإقليمية توجه نفسها إلى دراسات مستفيضة عن الأقاليم ذات الثقل الموزعة فوق الكرة الأرضية، وخاصة الأقاليم التي تحتل العروض الوسطى، وإلى حد ما أقاليم العروض الدنيا، بل إن الجغرافيا كانت تدرس بالتفصيل أقاليم مشابهة للعروض الشمالية والقطبية من حيث قلة محتواها السكاني وتخلخل وتبعثر نمط السكن فيها مثل الإقليم الجاف الموجود في العالم القديم: أقاليم الصحراء الأفروآسيوية.
ولكن لهذا الأمر أسبابه أيضا، ذلك أن العالم الجاف - وإن شابه العالم البارد في جفافه - إلا أن علاقات الموقع مختلفة، فالعالم الجاف يحتل منتصف العالم القديم، ويقع على كل الطرق التي تربط مناطق الكثافة السكانية العالية في أوروبا وآسيا الجنوبية والشرقية وأفريقيا المدارية، بينما يقع العالم القطبي في هامش المعمور الشمالي لأوروآسيا، ومن ثم تجنبه الناس والشعوب، ولم يدخله إلا المجموعات القبلية التي دفعت إليه دفعا بواسطة مجموعات أقوى، وفوق ذلك فإن العالم الجاف صالح للسكن البشري في كل ظروفه المناخية في حالة وجود مصدر دائم للمياه ، وتظهر المصادر المائية في العالم الجاف في مناطق عديدة مبعثرة في صورة الينابيع والمياه الجوفية الجديدة التي كونت مئات الواحات الكبيرة، كما أن أطراف العالم الجاف تنتهي إليها أحيانا مياه أنهار قصيرة أو طويلة تنبع من خارج العالم الجاف فتكون سكنا دائما على مر الآلاف المؤلفة من السنين، ومن أمثلة ذلك النيل والدجلة والفرات وسرداريا وأموداريا، وقوس النيجر الشمالي والسنغال الأدنى والسند الأدنى والأردن والعاصي وعشرات الأنهار القصيرة في سوريا وإيران وأفغانستان وسنكيانج ومنغوليا.
وقد أدت الواحات والوديان النهرية المختلفة بالإضافة إلى علاقات الموقع الجغرافي في العالم إلى أن تصبح مناطق العالم الجاف أكثر مناطق العالم المعروف توسطا وأهمية في الانتقال العالمي، ولظروف كثيرة لا داعي للإفاضة فيها فقد كان العالم الجاف المهد الأول للحضارات العليا القديمة منذ العصر النيوليتي - الحجري الحديث، ففي هضاب إيران إلى دلتا النيل كان الكشف الأول عن الزراعة - حسب المعلومات الراهنة التي تمدنا بها دراسات حفريات ما قبل التاريخ، وفي هذه المنطقة أيضا كان استئناس الحيوان، وفي هذه المنطقة أيضا نشأت عشرات الحضارات العليا في فترات لاحقة لاكتشاف المعادن: حضارة مصر فيما قبل الأسر وفي العهود الفرعونية، حضارات العراق القديمة من أكاد إلى سومر إلى بابل وآشور، الحضارات الفينيقية المختلفة وحضارات السند القديمة.
وفوق كل هذا زادت أهمية العالم الجاف بعدا رابعا بكونها المهد الأول للديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.
ولم تقف أهمية العالم الجاف عند ذلك، بل إن العصر الحديث بما فيه من تقدم تكنولوجي قد كشف عن أن العالم الجاف يقع فوق بحيرات عديدة من البترول الذي يكون أحد أهم مصادر الطاقة في عالم القرن العشرين، وهكذا تضافرت جميع العوامل الطبيعية والبشرية والاقتصادية والدينية لتجعل من العالم الجاف مجالا هاما في الدراسات الإقليمية الجغرافية.
Unknown page