عززت أواصر الأرغيين بالآلهة الدور الملكي في الديانة المقدونية أكثر مما عززه النسب البطولي؛ إذ كان الملوك يقدمون الأضاحي نيابة عن المقدونيين، وأسسوا مهرجانات وألعابا تتطلب أبنية خاصة كالمسارح والمعابد ومواقع ملائمة لاستيعاب المسابقات الرياضية. كان مركز المملكة القديمة في آيجي يضم مسرحا ومعبدا ليوكليا، وكانت ديون تضم حرما لديميتر يعود تاريخه إلى القرن السادس. لا نستبعد أن الملك الحاكم كان يوفر أيضا ما تقتضيه مناسبات تقديم الأضحيات من قرابين ومستلزمات. فأي إله أحسن من زيوس، أبي الرجال والآلهة، يدعي المرء الانتساب إليه؟ كانت أصول الإسكندر كما يروي آريانوس تعود إلى زيوس، كحال الملوك المينوسيين الأسطوريين مينوس وأياكوس ورادامانثيس (الكتاب السابع، 29، 3). وكحالهم ربما كانت تتجلى له آيات من زيوس، كالذي حدث عندما رعدت السماء وأمطرت أمارة للمكان الذي يتخذ فيه معبدا لإله الأوليمب زيوس في سارديس (الكتاب الأول، 17، 6). وكما آمنا بانتهاء نسبه إلى سلف بطولي، ينبغي أن نكون مستعدين لقبول الرأي الذي كان الملوك الأرغيون يؤمنون به، وهو أن الآلهة العظام منوا عليهم بالتمكين.
كان الانتماء إلى نسب مجيد نعمة يتنعم بها الأرغيون، ومن ناحية أخرى كانت المنزلة الأرغية تنطوي على مخاطر حقيقية؛ فعلى مدى مائتي سنة أو نحوها من الحكم الأرغي، انبثقت فروع كثيرة من جذع الشجرة الأصلي، فصار ممكنا أن ينتمي ورثة العرش إلى عائلات عدة، وكان التنافس بين تلك العائلات في أحوال كثيرة دمويا؛ فلدى موت بيرديكاس الثاني، ولي الحكم أبناء ثلاثة أفرع لفترات وجيزة. كان من الجائز تماما أن يفتقر الملك الحاكم إلى الشعور بالأمان، وأن يكون لدى الوريث المحتمل ما يبرر اعترافه بالأخطار التي تحدق بحياته. الزيجات المتعددة سمة أخرى مبكرة تعود إلى زمن الإسكندر الأول؛ إذ اتخذ أمينتاس الثالث أبو فيليب زوجتين، ورزق من كلتيهما الأبناء. وكان من أولى مهام فيليب الثاني لدى ولايته العرش التعامل مع إخوته غير الأشقاء. واتخذ فيليب نفسه سبع زوجات، وكان له ابنان بالغان لدى مقتله هما الإسكندر الثالث وفيليب الثالث، لكن عروسه الأخيرة كانت حبلى. وعلى الرغم من المناداة بالإسكندر ملكا على الفور، فقد كان هناك تهديدان محتملان لاحتفاظه بالعرش منبعهما أهله الأقربون، ويتجلى إدراك الإسكندر التهديد الذي يحيق بفرص خلافته أبيه على العرش في العلاقات المقدونية مع أحد مرازبة كاريا الفارسية وهو بيكسوداروس، الذي عرض سنة 336 دخوله في حلف مقدونيا على أن يكلل هذا الحلف بزواج ابنته بفيليب الثالث أريدايوس ابن الملك فيليب الثاني؛ فبادر الإسكندر لدى بلوغه نبأ هذا العرض بإرسال رسول من تلقاء نفسه إلى المرزبان بيكسوداروس حاضا إياه على النظر فيه هو شخصيا بدلا من أريدايوس كزوج مناسب لابنته؛ فحال غضب فيليب على تدخل الإسكندر دون إتمام هذا الزواج، لكن مضامينه كانت مخيفة في نظر وريثه المرتقب (بلوتارخس، الإسكندر، الفصل 10، 1-3).
سيتجلى وجود النساء ونفوذهن في السلالة الأرغية لأي طفل يترعرع في الجناح السكني بالقصر. كانت النساء المهمات ضمانا للمعاهدات من خلال الزواج بأبناء الأسرة الأرغية؛ لأنهن كن ينتمين إلى أسر متنفذة في ممالك أو دول أخرى. ومع أن وظيفتهن الرسمية كانت إنجاب أبناء لوراثة العرش وبنات لتأمين التحالفات، كان نفوذهن يمكن أن يقرر مستقبل الحكم المقدوني. ومن الجائز أن يتمتع الإسكندر الثالث بحظوظ أوفر لو اتفق أن كان فيليب الثالث فاقد الأهلية، وهذا ما آل إليه حاله على يد أوليمبياس كما اشتهر عنها. وربما كان الإسكندر بدوره هدفا لأم فيليب الثالث. كان الأمن مشكلة حقيقية لأي رجل أرغي، وخصوصا ابن الملك. وستوازن ردود أفعال الوريث المحتمل على الأرجح بين إعجاب بقدرات أمه وربما اشمئزاز من أفعالها الأنانية التي يغلب عليها انعدام الرأفة.
ومن ثم لم تكن أواصر البنوة ضرورية لنجاح ابن ملك بعينه فحسب، بل كانت تزيد أهمية نسبه. ظل الجدود الأوائل على أهميتهم، لكن الأواصر العائلية الجديدة من خلال الزواج كان يمكنها إضافة أسلاف عظام آخرين. كان الزواج وسيلة بديهية يوسع بها المرء أسرته، لكن التبني كان وسيلة أخرى؛ فعندما استعاد الإسكندر الملكة آدا كملكة شرعية على كاريا، كانت العلاقة بينهما تجسيدا للعلاقة بين الأهل؛ إذ كان الإسكندر يخاطب آدا كأمه، وأما هي فاتخذته ابنا وخليفة (آريانوس، الكتاب الأول، 23، 7-8).
شجعت بيئة القصر في الغالب أي ذكر أرغي شاب على البحث عن صداقة في مكان آخر. وأحد الخيوط التي تقودنا إلى مصدر أصدقاء الإسكندر المقربين فترة التعليم التي قضاها مع أرسطو؛ ففي حرم حوريات الماء بالقرب من ميزا، تلقى الإسكندر تعليمه بصحبة العديد من أقرانه ومنهم بطليموس بن لاجوس، وكاساندروس بن أنتيباتروس، ومارسيا البيلي الذي ألف رسالة في تعليم الإسكندر لكن ضاعت للأسف، وهفايستيون الذي وصفه آريانوس بأنه أحب الرجال إلى الإسكندر (الكتاب السابع، 14، 3)، وربما بيرديكاس وليسيماخوس أيضا. تتجلى إمكانية دوام تلك الصداقة في تعيين بطليموس وهفايستيون كعضوين في حرس الإسكندر، عندما اجتاز المقدونيون مسيرتهم الشاقة عبر صحراء جيدروسيا. وتوجد شواهد أخرى على استمرار علاقة الإسكندر مع أصدقائه من أيام شبابه الذين نفوا بسببه بعد شجاره مع أبيه فيليب الثاني سنة 337، وهم: بطليموس، وهاربالوس، وإريجيوس وأخوه لاوميدون وهما من ميتيلين بجزيرة ليسبوس، ونيارخوس بن أندروتيموس الذي وفد من كريت لمعاونة فيليب، فقد ولي هاربالوس منصبا ماليا مهما في بابل في عهد الإسكندر ومات بعد ملكه، وارتقى نيارخوس ليتولى إمارة الأسطول الذي أبحر من الهند عبر الخليج الفارسي ومات هو الآخر بعد الإسكندر، وقاد إريجيوس خيالة الحلفاء في جاوجاميلا وقاد فيما بعد قوة أرسلت للتعامل مع الزعيم الفارسي في آريا بآسيا الوسطى، وكان بطليموس واحدا من أنجح من خلفوا الإسكندر، وأما هفايستيون فمات قبل ملكه لكن بسبب المرض لا بأوامر من ملكه لخيانته.
كان الأصدقاء الثقات ضرورة حيوية، وكانت البسالة تنقل الوافدين الجدد إلى دائرة أقرب الرفاق؛ إذ كان إكليلا البسالة اللذان منحا في شوشان سنة 324 من نصيب بوكستاس وليوناتوس، فضلا عن جوائز أخرى كانت من نصيب الأصدقاء الأقدمين (الكتاب السابع، 5، 4-6). صار كراتيروس بالمثل موضع ثقة خاصة لدى الإسكندر بعد أن خدم أبيه، وكان الإسكندر يرفعه إلى مكانة تضاهي مكانته شخصيا (الكتاب السابع، 12، 3). وتجلى إخلاص هؤلاء الأصدقاء وتفانيهم في أفعالهم التي نمت عن الشجاعة والفداء نيابة عن الملك.
في الوقت نفسه يمكن للصداقة أن تنتهي؛ إذ راح كلايتوس الأسود، الذي سبق أن أنقذ حياة الإسكندر في معركة نهر جرانيكوس، ضحية اتهامه الإسكندر بادعائه لنفسه من المجد أكثر مما ينبغي له. وأدان الإسكندر، بسبب تهديد التآمر ضد حياته، حارسه فيلوتاس بل أباه بارمنيون أيضا الذي كان فيليب يعتبره أكفأ معاونيه. كانت الصداقات بالغة الأهمية لكن هشة.
بحلول سنة 336 كان الإسكندر الثالث المقدوني قد بلغ عامه العشرين، وقد تلقى تدريبا لائقا لكي يحكم كقائد للجيش المقدوني، الذي كان أهم أداة للحفاظ على مملكة موحدة قوية. كان قد تفادى أخطار الدسائس التي حيكت ضد وراثته العرش، والإعاقة بفعل حادث بدني أو بكيد من شخص آخر، والرفض من فيليب نفسه كوريث له. كانت أمه قد أمنت بقاءه على قيد الحياة وهو طفل، واختط له أبوه مسارا تعليميا لإعداده كوريث محتمل. كان معظم ذلك التعليم بدنيا، وصقلته طبيعة مقدونيا القاسية، والموروثات القديمة كالقدرة على قتل خنزير بري دون استخدام شبكة، وتدريبه لكي يصير فارسا وجندي مشاة لا يشق له غبار ولا يبزه إلا الملك شخصيا. وهكذا يمكننا تصور الإسكندر كشخص مهيب بدنيا، ولا يعني هذا بالضرورة أنه كان فارع الطول أو ضخما بائن الضخامة، بل كان بالأحرى قويا مشدود البنية وعلى درجة عالية من الرشاقة، وكانت همته بادية في أفعاله وأقواله. كان قد اكتسب عصبة من الأصدقاء الذين صادق بعضهم مصادفة أثناء تلقيهم التدريب في بيلا كغلمان للملك، وبعضهم الآخر بالألفة. ظل معظم أصدقاء الإسكندر الأوائل معاونين له جديرين بالثقة وأصدقاء طوال حياته. ولنا أن نؤمن أنه كان يعرف قيمة هؤلاء الصحابة، وخصوصا مع ازدياد إدراكه المخاطر التي تحيق بشخصه ومنصبه. كان ابن عمه أمينتاس يطالب بأحقيته في العرش من خلال أبيه بيرديكاس الثالث الذي حال صغر سنه دون أن يخلفه عندما قتل في الغزو الإليري في 360 / 359، لكنه بات آنذاك مكتمل النضج؛ إذ كان يكبر الإسكندر بنحو أربع سنوات، ومتزوجا بإحدى بنات فيليب. وكان أخو الإسكندر غير الشقيق فيليب الثالث أريدايوس منافسا آخر. الأكثر من ذلك أن أحدث زوجات فيليب، وهي كليوباترا، كانت حبلى، وبما أنها كانت تنتمي إلى نسب مقدوني مهم، فلو وضعت ذكرا فقد يقع عليه اختيار فيليب كوريث بدلا من الإسكندر؛ بما أن فيليب لم يكن يتوقع بالطبع أن يقتل قبل مولد هذا الطفل، أو حتى قبل بلوغه العقد الثاني من عمره. ومن الممكن تماما أن الإسكندر كان قلقا على مستقبله.
ربما انتقل ذلك القلق إلى أمن مملكة مقدونيا. أتيحت للإسكندر فرص متكررة لاكتساب وعي بهذا؛ إذ كان الجيش ناشطا طوال السنة، وكانت بيلا زاخرة بالتخطيط للحرب، وكان الرسل يفدون دوما للتفاوض. كان توسيع المملكة قد حدث منذ وقت قريب جدا، وكان الإغريق قد هزموا قبل ذلك بعامين فقط، ولم تكن مضت غير سنة واحدة على خروج الحلف الكورنثي إلى الوجود. ولم تستتب الأوضاع قط في الأقاليم التي كانت معادية من قبل، وحتى ممالك مقدونيا العليا كان يمكنها تأكيد استقلالها.
هل لنا أن نقترح وجود أي انفعالات داخلية كانت تنتاب الإسكندر في هذه المرحلة الزمنية المعينة؟ ربما يمكننا الاعتراف مطمئنين بطموحه إلى خلافه فيليب إيمانا منه بلياقته للاضطلاع بما ينطوي عليه المنصب من مسئوليات. ولا ريب أن علمه أنه من نسل زيوس وهرقل وآخيل، فضلا عن فيليب، زاده إيمانا بلياقته. من المحتمل أن هذا التقييم الإيجابي أضعفه بعض الشيء قلقه على سلامته واعترافه بجسامة المهام التي ستلقى على عاتقه إذا كتب له البقاء. وتمخض يونيو 336 عن هذه الانفعالات المتضاربة؛ إذ اغتيل فيليب أثناء احتفاله بزيجة أخرى ملوكية، طرفاها كليوباترا شقيقة الإسكندر وخالها الملك الإسكندر الإبيروسي؛ ففي اليوم الثاني من الاحتفالات افتتح موكب مهيب تتصدره تماثيل الأوليمبيين الاثني عشر، بالإضافة إلى تمثال لفيليب، دورة الألعاب التي رتب لإقامتها ذلك اليوم، ولدى دخول فيليب نفسه المسرح الكائن في آيجي، طعنه أحد حراسه وسرعان ما لفظ أنفاسه الأخيرة. في أعقاب البلبلة الفورية التي تلت ذلك ، قدم أنتيباتروس - الرجل الثاني بعد فيليب - الإسكندر إلى جمعية الجيش، فنادى به أعضاؤها ملكا عليهم. (2) توطيد دعائم السلطة الملكية أول الأمر
Unknown page