وكذلك انقضى النهار، وكذلك أقبل الليل فجلل الصحراء بظلمته القاتمة، والفتى فريسة لخاطره هذا الملح، لا ينقذه منه ضوء النهار، ولا يصرفه عنه ظلام الليل. وصاحبه يرفق به، ويعطف عليه، ويواسيه حينا بالحديث، ويسليه حينا آخر بما يظهر له من مناظر الصحراء المختلفة المتشابهة. ولكن الفتى لا يسلو ولا يتعزى، وإنما هو خاطره الملح قد ملأ قلبه وشغل نفسه، وملك عليه أمره كله. ولولا بصيص ضئيل من نور العقل كان يضبط أعصابه بعض الضبط، وينظم حركاته بعض التنظيم، لما شك الفتى ولا شك صاحبه في أن عارضا من الجنون ألم به، فأنساه ماضيه، وشغله عن مستقبل أمره، ورده إلى حال لا يصلح معها التفكير ولا التقدير.
وقد انتهى المسافران ومن كان يتبعهما من الغلمان، حين تقدم الليل، إلى حصن ضخم شاهق من هذه الحصون التي كانت تنبث في الصحراء بين الشام والعراق، والتي كان يقيم فيها الجند حراسا للحدود محافظين عليها، وكان يأوي إليها السفر الذين يضطرون إلى عبور الصحراء.
انتهى الرفيقان وأتباعهما إلى هذا الحصن حين كاد الليل ينتصف، فلم تفتح لهم أبوابه، ولم يحاولوا استفتاحها، وإنما أجمعوا أمرهم أن ينفقوا بقية الليل في ظله، حتى إذا أسفر الصبح ألموا به، فأصلحوا من شأنهم، وتزودوا لمرحلتهم، ثم استأنفوا سفرهم البعيد. وما هي إلا ساعة حتى اندمجت هذه الجماعة الضئيلة في هذا الهدوء الشامل من حولها، فأصبحت جزءا منه، لا تحس نفسها، ولا يحسها أحد.
وكان الفتى قد طمع في أن ما تكلف من جهد السفر وما احتمل من مشقته، سيدفعه إلى النوم الهادئ المريح، فينسى فكرته اللازمة ويصرف عن خاطره الملح، ويسترد ما أضاع من قوة، ويجدد ما فقد من نشاط. ولم يكذب النوم أمله ولم يخلف ظنه، وإنما أسرع إليه فأظله بجناحيه، وأفاض عليه شيئا من هذا السكون الذي يجد فيه الجسم راحة، وتجد النفس فيه براءة من أوضار الحياة، وتخفيفا من أثقالها. ولكن الفتى يفيق بعد ساعة ويفتح عينيه فإذا ظلمة الليل ما زالت جاثمة على الصحراء، وإذا أشعة ضئيلة تضطرب في هذه الظلمة فلا تستطيع أن تجلوها ولا أن ترقق من كثافتها. ويستجمع الفتى نفسه المشردة، وخواطره المتفرقة، فإذا ثاب إليه رشده نظر من حوله كأنما يبحث عن شيء لا يجده، وقد كان في حقيقة الأمر يبحث عن مصدر صوت سمعه حين أفاق، ولعله هو الذي أيقظه. والفتى لا يشك في أنه لم يسمعه في الحلم، وإنما سمعه في اليقظة، أو سمعه بين اليقظة والنوم.
وكان هذا الصوت غليظا خشنا، وكان مع ذلك هادئا تشيع فيه السخرية، وكان يقول: «عجبت للذين يريدون ولا يفعلون، ويعزمون ولا يتممون، ويقصدون إلى العراق وهمهم في الحجاز، ويرحلون إلى «نسطور» وشفاؤهم عند الصبي العربي اليتيم.»
على أن الفتى لم يلبث أن عرف نفسه وأنكرها معا؛ عرف نفسه وفكرته اللازمة له وخاطره الملح عليه، وأنكر نفسه هذه المضطربة التي عجز النوم عن أن يقهرها، فإذا هي تفكر نائمة كما كانت تفكر يقظى، وإذا هي تردد في الحلم وفي جنح الليل ما كانت تردده حين كانت مستيقظة في ضوء النهار. ويعود الفتى إلى مضجعه وقد جمع إليه إرادته كلها وعزمه كله، وأنفق جهدا غير قليل ليرد عن نفسه هذا الخاطر الملح، ودعا النوم كأشد ما يكون دعاء للنوم، ولكن النوم كان قد نأى عنه، ولكن الصوت كان لا يزال يصل إلى سمعه، يأتيه من خارج، يأتيه من هذا الجو المحيط به، لا من دخيلة النفس ولا من أعماق الضمير. فلا يشك الفتى في أن إنسانا يناجيه ويغريه، فيسأل: «من المتكلم؟» ولكنه يسمع صوت نفسه فيرتاع، وقد كان يسمع ذلك الصوت الغريب فلا يحس خوفا ولا روعا.
هنالك ينهض الفتى من مضجعه، ويمشي أمامه خطوات، ثم يتحول فيمشي خطوات أخرى عن يمين، ثم يتحول فيمشي خطوات إلى شمال، فلا يرى أحدا، ولا يحس شيئا! فيعود إلى مكانه قلقا بعض الشيء، مستشعرا بعض الخوف. ولكنه لا يكاد يستقر حتى يبلغه صوت آخر يأتيه من بعيد، فيه عذوبة ورقة وحنان، ولكنه يسمعه ولا يفهم عنه شيئا. فينهض مرة أخرى، ويمضي شطر الوجه الذي يأتيه منه الصوت، وما يزال يسعى خائفا يترقب، حتى يخيل إليه أنه يرى شخصا ماثلا، فيدنو منه في بعض الحذر والرفق، حتى إذا كان منه غير بعيد تبينه فإذا هو رفيقه الراهب «بحيرى» قائما يصلي وقد رفع وجهه إلى السماء، وهو يتمتم في لغته السريانية التي يسمع لها الفتى فلا يفهمها. وما كان أشد حاجة الشاب إلى أن يدنو من صاحبه، فيمس كتفه، ويدعوه إلى معونته، ويتحدث إليه بأمر هذا الصوت الذي سمعه! ولكنه ينظر إلى رفيقه فإذا هو غارق في صلاته، لا يحس مكانه منه، ولا يحس شيئا من حوله، ولعله لا يحس نفسه أيضا. فيكره الفتى أن يصرفه عن هذه الصلاة، وأن يخرجه من هذه الحال التي يود لو أتيح له شيء مثلها أو قريب منها. ويعود أدراجه ويستقر في مكانه، ويدعو النوم كأشد ما يستطيع له دعاء، وينفق جهدا عنيفا ليذود عن نفسه كل خاطر. وها هو ذا قد أخذ يستريح، ويحس هذا الفتور الذي يشيع في أعضائه كأنه يبشره بمقدم النعاس، فيستسلم له، ويود لو استطاع أن ينغمس فيه انغماسا.
ولكنه يسمع الصوت الغليظ الخشن، الهادئ الساخر، يعيد جملته تلك: «عجبت للذين يريدون ولا يفعلون، ويعزمون ولا يتممون، ويقصدون إلى العراق وهمهم في الحجاز، ويرحلون إلى «نسطور» وشفاؤهم عند الصبي العربي اليتيم.»
هنالك يستوي في مجلسه وقد امتلأ رعبا، وكظم صيحة عنيفة كادت تسبقه إلى الهواء، فتنبه النائمين من أتباعه وتلفت إليه هذا الراهب المستغرق في الصلاة. ولكن فضلا من حياء أمسك عليه نفسه ورده إلى بعض الروية والأناة؛ فقد جعل يسائل: ما هذا الصوت؟ ومن أين يأتيني؟ إن كنت قد سمعته حالما أول الأمر فلست بالحالم الآن. ثم يمتلئ قلب الفتى أمنا ودعة واطمئنانا، وإذا هو يرى في نفسه ما لم يكن يقدر، ويطمئن إلى ما لم يكن يطمئن إليه، ويستيقن أن هذا الصوت لم يبلغه إلا لأمر يراد.
لا ينبغي إذا أن يمضي في طريقه إلى العراق، ولا أن يصمم على رحلته إلى «نسطور»! فإن الله لا يريد له ذلك ولا يعينه عليه. ولا بد من أن يعود أدراجه حتى يبلغ الدير، فيفضي بأمره كله إلى صديقه الشيخ، ويتزود عنده بشيء من هذه الراحة التي يعرف كيف يشيعها في ضميره، وهذا اليقين الذي يعرف كيف يملأ به قلبه. وها هو ذا ينهض، وها هو ذا يمضي أمامه حتى يبلغ رفيقه الراهب، فيراه ما زال ماثلا يتمتم في لغته السريانية وقد رفع وجهه إلى السماء لا يحس شيئا، ولعله لا يحس نفسه. فينظر الفتى إليه ويطيل النظر، وكأنه يريد أن يؤذنه بانصرافه عنه وتحوله إلى الدير. ولكن الراهب مستغرق في صلاته، فما إخراجه منها وما صرفه عنها! وهذا الفتى يتحول عن صاحبه مسرعا، ويمضي أمامه لا يلوي على شيء وما هي إلا لحظات تمضي حتى يصير الفتى سرا مكتوما في هذا الضمير الغامض الذي يأتلف من ظلمة الليل وامتداد الصحراء.
Unknown page