Cala Difaf Nil
على ضفاف النيل: في عصر الفراعنة
Genres
طيبة المدينة الخالدة
وكانت طيبة المدينة الخالدة مركز ذلك الملك الشاسع، وكان النيل يفصلها إلى قسمين: طيبة الغربية وطيبة الشرقية؛ فأما الأولى فكانت تسمى مدينة الأموات، يكتنفها من الغرب واديان عظيمان، هما واديا الملوك والملكات، اللذان نحت ملوك وملكات الإمبراطورية قبورهم فيهما على شكل سراديب، تنحدر في باطن الجبل عشرات الأمتار، وتنتهي بردهات وحجر، يوضع في أقصاها وأبعدها غورا تابوت الملك، وبين «بيبان» الملوك والملكات ونهر النيل تقع عدة معابد جنائزية، كان الغرض من بنائها أن يصلى فيها على أرواح الموتى، وأن تقدم القرابين للآلهة؛ لكي يسهل على الفراعنة اجتياز العالم السفلي، حتى يصلوا إلى ملكوت «أوزوريس»، حيث يزن الإله «أنوبيس» أعمالهم في الميزان، ويقيد الإله «توت» نتيجة الميزان، ثم يقدم الإله «حوريس» من ثقلت موازينه إلى حظيرة «أوزوريس» - كبير الآلهة - ليدخله جنة الآخرة، وأما من خفت موازينه فتتلقفه آلهة كالوحوش الكاسرة، تلك هي طيبة الغربية مدينة الأموات.
أما طيبة الشرقية فكانت مدينة الأحياء، وكانت عامرة بقصور الملوك والأمراء، وغاصة بمساكن الطيبيين ومعابد الآلهة، وبخاصة «آمون» إله طيبة وزوجته الإلهة «موت» وابنهما الإله «خنسو».
فلنرجع القهقرى بالخيال إلى عصر «أمنوفيس الثالث» - الأسرة 18 - لنرى طيبة في أزهى عصورها.
ها هو ذا قصر فرعون على ضفة النيل، تحيط به الأشجار الجميلة، وتحفه المهابة والوقار، ويملأ ساحته الحرس الأشداء. وها هي ذي قصور الأمراء والوزراء، تكتنفها الحدائق الغناء، وتسبح في بحيراتها الصناعية خفاف القوارب والأسماك. وهذا هو معبد الأقصر قد صفحت أراضيه بألواح الفضة، وزخرفت نقوش جدرانه بالذهب وأكرم الأحجار، واكتظت تحت وهج الشمس في ساحته الخارجية آلاف الخلق من رجال ونساء، يقدمون القرابين على مذبح الإله. وهذا كاهن يلبس على كتفه جلد النمر، يخترق صفوف الأمراء والعظماء من أقصى ساحات المعبد المظلمة، حيث قدس الأقداس، ليهيب بالناس أن أنصتوا لتروا معجزة الإله.
وهذا طريق الكباش الرابضة، يؤدي إلى معابد الكرنك، حيث البحيرة المقدسة وحيث يضل السائر في ساحاتها الشاسعة بين آجام الأعمدة الزاهية وشوامخ المسلات.
وهذا رهط من الريفيات يردن المدينة: تلك تحمل على رأسها جرة فيها نبيذ، وهذه تتأبط حزمة من غزل الكتان، وتلك تسوق وقيرا من الغنم، وهذه تبحث عن حانوت الكحال، وتلك ترتاد ناحية النجاد، وبينا المدينة في حركة إذا فجأة يهرول جماعة من جند القصر الملكي من ناحية المعبد، يهتفون بالناس أن أفسحوا الطريق، ثم تمر أميرة من بنات فرعون، يحملها عبيدها السود على محفة غاية في الرواء، فيحييها الناس برفع أيديهم وبالانحناء.
وفي أحد ميادين العاصمة ترى قبيلا من رجال ونساء وأطفال، يلبسون ثيابا مختلفة الأزياء، ويتكلمون بعدة لغات، وقد وقف في وسطهم فيال، تقفز على ظهر فيله الضخم القردة والنسانيس، فيتفكه بمرآها الناس.
ثم ترى حشدا من الناس يزدحمون بالمناكب عند أرصفة طيبة؛ ليروا السفن الآتية من الجنوب والشمال، تحمل الجزية لفرعون وأسرى المستعمرات، فيسر الناس لرؤية الغنى يتدفق إلى بلادهم، والأسرى مكبلين بالأغلال والأصفاد يساقون إلى الخدمة في الحقول وإقامة المعابد «لآمون رع» مصدر الخيرات، وترى الرسامين يصورون أولئك الأسرى التعساء صورا كاريكاتورية على قطع من الخشب «كالكارت بوستال»، يبتاعها الناس، ويتفكهون بالضحك عليها.
ذلك كان مرأى الحياة في طيبة منذ ثلاثة آلاف وثلاثمائة عام، عندما كان الإمبراطور أمنوفيس الثالث أعظم رجل في العالم.
Unknown page