وغضب أولاد الناس لهوانهم بعد عزة وفقرهم بعد غنى.
ورآها العربان وفتيان الزعر فرصة سانحة للشغب وإثارة الفتنة؛ ليفسدوا على هؤلاء الجراكسة أمرهم، وينالوا الثأر من حكومة المماليك.
رجل واحد كان يحمل هم ذلك كله على كتفيه، فلولا أنه صديق الشعب والقرانصة وأولاد الناس، ولولا إحسانه وبره وتواضعه ورقة قلبه، ولولا أنه صوفي بين المتصوفة، وفتى بين فتيان الزعر، وأعرابي بين الأعراب، ولولا أنه سفير هؤلاء جميعا إلى السلطان، وسفير السلطان إليهم، ولولا أن له عينا ترى، وأذنا تسمع، وقلبا يحس ويدا تعطي، ولسانا يبين، لانتقض غزل السلطان الغوري ولم يبلغ تمام أمره، ذلك هو الأمير طومان باي، وإنه يومئذ لشاب لم يبلغ الثلاثين ...
على أن ذلك الأمير الشاب - على ما يحمل من أعباء هذه الهموم جميعا - كان ينوء بهم آخر من هموم نفسه، يجثم على صدره كالجبل الراسخ في موضعه لا يتحلحل، ذلك هو همه وهم شهددار.
يا له مما يلاقي من ذلك الهوى!
منذ بضع سنين لم يزل يحمل من حب تلك الفتاة ما يحمل صابرا ينتظر فرجة من أمل، وبصيصا من نور، وقد خيل إليه ذات يوم أنه مستطيع أن يظفر برضا عمه عن زواجه ببنت أقبردي، وماذا يمنعه من ذلك وقد مات أقبردي، فانقطع ما بينه وبين الأحياء من أسباب العداوة، وقد بلغ الغوري حيث أراد وولي العرش، فليس بينه وبين ذلك الماضي سبب ولا وشيجة من حب أو من بغضاء، فهل يأبى اليوم أن يحقق أملا لابن أخيه وأحب الأمراء إليه؟
وهم أن يتحدث إلى عمه بما أراد حين ابتدره عمه قائلا: طومان، لقد أبليت بلاءك يا بني في تثبيت قوائم هذا العرش، فأنت حقيق بأن تبلغ مني أدنى منزلة، وقد اخترتك لابنتي جان سكر، فهي مسماة عليك منذ اليوم ... فإن شئت فليكن زفافها إليك بعد أن يقدم الحاج في المحرم، أو لا فليكن ذلك في يوم عرفة قبل أن يشتد القيظ.
فنكس طومان باي رأسه بين الخجل والحيرة، وقال وصوته لا يكاد يبلغ أذنيه: مولاي!
فابتسم الغوري ابتسامة ماكرة وهو يقول: عرفت يا بني ما في نفسك، فما بك من حاجة إلى أن تشكر، وإنك لولدي ومن حقك علي أن أختار لك، وما كانت نفسي لتطيب بها لأحد غيرك.
فرفع طومان باي عينيه برهة في وجه عمه، ثم أطرق صامتا وصدره يكاد ينشق غيظا مما به. «ما به حاجة إلى أن يشكر!» عجبا! أفتراه كان يريد أن يقول له: «إنك لا تملك معي إلا الرضا والطاعة، فليس من حقك أن تأبى!» ولكنه اصطنع أسلوبه في السياسة فأبدل عبارة بعبارة؟ وهل كان الغوري يجهل ما في نفس طومان باي وما أجمع نيته عليه؟ ولكن ماذا يملك طومان باي الآن إلا أن يطأطئ رأسه في صمت وصدره يكاد ينشق غيظا مما به؟!
Unknown page