ثم عاد إلى مجلسه يتخلع في مشيته، وقد ارتسمت على شفاه المريدين بسمات، فلولا ثقتهم به، ولولا مكانته من نفس شيخهم الجليل، لزعموا أنه صاحب هوى عند ذلك المملوك الجميل، وركبوه بالعبث والدعابة.
كانت المدينة تموج بهذه الأحداث والسلطان الشاب في شغل بنفسه عن كل ما هنالك، قد جمع حوله بطانة من الشباب والشيوخ، يزينون له الشهوات ويهيئون له أسبابها، ولم تكن حادثة زوجة التاجر جلال الدين هي الحادثة الفريدة في بابها، فكم فتاة وكم زوجة قد سال دمها على الفراش، أو سال على حد سيفه! وكم زوج مثل جلال الدين وكم أب! وانهتكت حرمات البيوت، حتى بيوت الأمراء وأصحاب الوظائف ... وحتى ليفتدي الأمراء أنفسهم وأعراضهم بالمال يبذلونه للسلطان، والسلطان نهم لا يشبع، شهوان لا يصبر، نشوان لا يفيق ...
وعاد من جولته في المدينة منتشيا، سعيدا بما بلغ من حظ نفسه، فاتخذ مقعدا في الحوش وحلا له أن يلعب بالكرة. ولحلبة الكرة في الحوش السلطاني نظام وتقاليد مرسومة، ولكن السلطان الشاب لا يخضع للتقاليد المرسومة، وكان في الحوش وقتئذ طائفة من صغار الأمراء، وعصبة من المماليك الخاصة، ولم يكن ثمة من الأمراء الكبراء إلا طومان باي الدوادار، ولطومان باي فنون في حلبة الكرة ...
وتقاذف الأمراء الكرة بصوالجهم في الحلبة، يتقاربون حينا ويتباعدون، ويتقابلون ويتدابرون، وتتماس أكتافهم وتتلامس سواعدهم، والكرة تنتقل على الصوالجة من يد إلى يد، وهجم عليها طومان باي الدوادار يلقفها بصولجانه من يد الناصر، واغتاظ السلطان فهوى على ظهر دواداره بالصولجان على مشهد من الأمراء ومماليك الخاصة، وتقبض وجه طومان باي من غضب ثم اصطبر، وعادت الكرة تتقاذفها الصوالجة، ولقفها الدوادار مرة ثانية، وهوى السلطان على ظهره مرة أخرى بصولجانه! واحمرت عيناه من الغيظ ثم استرد جأشه ... وعاد يلعب ... وعاد السلطان يضربه ... وكان على شفاه المماليك معان خرساء، وفي عيونهم نظرات، وجاشت نفس الدوادار بمعانيها ...
ثم انفضت الحلبة وصعد السلطان إلى قصره ...
وفي جناح آخر من القصر السلطاني كانت أصل باي أم السلطان جالسة في مقعدها الوثير بين الحشايا والوسائد، صامتة قد ضاق صدرها بما تحمل من الهم والضجر، وجلست عند قدميها جاريتها شاخصة العين إليها لا تكاد تطرف. وتنفست أصل باي نفسا عميقا، ثم خرجت عن صمتها قائلة: أنت على يقين مما تقولين يا جارية؟
قالت: نعم يا مولاتي، وقد رأيت السلطان بعيني هاتين يدخل دارها بالرملة، ليس معه أحد من مماليكه وجنده، ثم خرج تحت الليل فاتخذ طريقه راجلا إلى القلعة ...
فصرخت أصل باي غاضبة: تكذبين علي يا فاجرة ... احذري غضبي وغضب السلطان!
فشحب وجه الجارية قليلا، ثم استردت جأشها وقالت: عفوا يا مولاتي، فإنما حدثتك بما رأيت ... إن مصرباي الجركسية أرملة كرت باي، لا تزال تمد شباكها إلى مولاي، تطمع أن تكون سلطانة على العرش ...
ثم صمتت برهة، واستأنفت حديثها قائلة: ولعل سيدي الأمير قنصوه الخال يعرف طرفا من ذلك السر؛ فقد لقيت جاريته اليوم خارجة من دار مصرباي تتلفت ...
Unknown page