ففي ليلة من ليالي الربيع، بينما كان يونس يتهيأ للنوم بعد أن أدى ما عليه للنزلاء من حق، وأغلق باب الخان، سمع طرقا على الباب، فأزاح الغطاء عن جسده، وحمل شمعة موقدة في يده، وقصد إلى الباب ليرى من ذلك الطارق بليل ... وكان الطارق أبا الريحان الخوارزمي، وفي يديه فتى وفتاة يجرهما جرا في قسوة وغلظة، فما كاد ينفتح له باب الخان حتى دفع أمامه الفتى والفتاة ودخل وراءهما، ثم جلس وجلسا بين يديه صامتين، يتبادلان نظرات حزينة فيها انكسار وخوف، على حين ارتفع صوت أبي الريحان خشنا جافيا يقول ليونس: ما لك واقفا كذلك كأنما أصابك المسخ؟ اذهب فهيئ لنا عشاء طيبا وفراشا وطيئا، إنني وهذين الخبيثين لم نذق طعم الغمض منذ ثلاث، ولم نطعم شيئا منذ أمس!
ورفت على شفتي الفتاة ابتسامة خابية وهمت أن تقول شيئا ثم أمسكت، وقال الفتى متحديا وفي عينيه بريق العزم والفتوة: أما أنا فلن أطعم شيئا من الزاد حتى تنبئني أين تذهب بنا!
فصرت أسنان الخوارزمي في غيظ، ثم اصطنع الهدوء والرفق وقال في صوت ناعم: ويحك يا غلام! انظر إلى مصرباي الجميلة الهادئة، لقد كنت أحسبك أعقل منها وأكثر إدراكا لحقيقة الحال، أفلم أنبئك ...؟
قال الفتى معاندا: نعم، ولست أريد إلا أن أرجع إلى أمي ...
فربت أبو الريحان على كتفه حانيا وهو يقول: حسبك يا طومان ولا تذكر أمك، فما أظنك تراها بعد. إنك منذ اليوم لست ابن نوركلدي، ولا أبوك هو أركماس ... انس ذلك كله كأن لم يكن، فما وراء التذكر إلا الألم والندم ... وليس إلى ما فات من سبيل، فهيئ نفسك لغدك، يوم تصير مملوكا في حاشية السلطان قايتباي، أو أميرا من أمراء جنده! ...
قالت الفتاة باسمة: يا عم ...
قال الخوارزمي غاضبا: ماذا؟ حسبتك قد فهمت كل ما هنالك فلن تعودي إلى ذلك الحديث، أفلا يرضيك أن تكوني غدا سلطانة على عرش مصر؟!
وعاد يونس الرومي يحمل إلى نزلائه طعام العشاء، فكفت الفتاة عن الحديث، وكف الفتى، وأقبل أبو الريحان على طعامه لا يعنيه من أمر أحد شيء، فلما أوشك أن يفرغ ما بين يديه من الطعام، وقد امتلأ بطنه حتى اكتظ، أقبل على الغلامين قائلا: أفلا تتبلغان بشيء، أم تريدان أن تموتا جوعا؟
ونظر إلى الفتى نظرة، ثم عاد ينظر إلى الفتاة مثلها وهو يقول: كلي أنت يا بنية، إن أخاك قد أجمع أمره على أن يموت أو يعود إلى أمه، وهيهات أن يبلغ من ذلك شيئا!
ثم مد يده إلى الفتاة بفلذة من اللحم، فأخذتها من يده وراحت تأكل في نهم، حتى أتت على كل ما أفضل لها سيدها من الطعام، والفتى ينظر إليهما محزونا لا يكاد ينبس ببنت شفة ...
Unknown page