أنت الشاعر، أنت الأديب، أنت الفنان، أليس أنك تذكر من أعوامك الأولى ظرفا خاصا، أو مشهدا جميلا، أو كلمة محمسة، أو وجها محبوبا أهاج بلابلك، ولفتك إلى نفسك، وكأنه وسع فيك أفق نور وفتح في جنانك بركان نار؟ أليس أن لك ساعة تفتق فيها من نبوغك البرعم الأول؟
ولعائشة مثل تلك الساعة! ما هو الباعث فيها على الشعر؟ هو الوجه الذي تسفر له المرأة المحجوبة؛ وجه الطبيعة. حنت الطبيعة ذات ليلة على الشاعرة الصغيرة فتولدت في نفسها الفتية خوالج جديدة، ورأت البدر منيرا والليل جميلا، وكأن لصفحة السماء روحا تحس وتناجي. دعها تلقي علينا حديث وحيها:
في خلال هذه المدة كنت أنظر في دواوين الشعراء ، وأعالج النظم بالأوزان السهلة. وفي إحدى الليالي جاءتني مربيتي بباقة ورد وضعتها في مشربيتي. وكانت الليلة ليلة البدر. ففيما أنا أمتع ناظري بذلك المنظر دعتني أمي إليها. فجعلت باقة الورد في أمانة البدر. ثم عدت من عند أمي فوجدتها مبددة فأحزنني ذلك كثيرا ... ووضعت ناصيتي في كفي، وأخذت أفكر فجادت قريحتي ببيتين من الشعر الفارسي ...
11
ألا يحلو لك تيقظ العاطفة على هذا النمط؟ أتبصر معي تلك الطاقة النضرة في نور القمر، والبنية تستعطف البدر لأجل ما تحب؟ ثم تعود فترى البدر غافلا، وطاقة الورد مبددة، وتوسلها وأملها هباء ...
رمز يا عائشة، رمز إلى ما في الحياة الممتدة أمامك! فلا ما هو موضوع الإعجاب والرجاء ليستجيب، ولا ما هي نضرة الأزهار لتبقى. وإنما الإنسان هو الذي يثق ويبتهل ويخيب ويحزن. فيؤدي به ذلك إلى تجربة مرة، أو عاطفة جريحة، أو اختبار قاس!
ذاك وحيها الأول، وهو منظر ما زال غني الوحي لقرائح الشعراء، ومخيلات العاشقين، بل لجميع القلوب الحساسة. ولكن لنصغي إلى بقية الحديث.
وعندئذ دخل علي أبي فرأى ما بي من الحزن وسألني عن حالي، فأنشدته الشعر وأنا في خجل وحذر. وإنما كنت كذلك لأن أبي كان كلما رأى في يدي ديوان شعر يقول لي: «إنك إذا أكثرت من مطالعة الشعر الغزلي فسيكون ذلك سبب زوال كل دروسك من ذاكرتك ...»
أما الآن فإنه لما سمع شعري أعاد كلامه الأول وزاد عليه قوله: «إن الشعر إذا لم يكن باللغات الثلاث - العربية، والفارسية، والتركية - لا تكون له حلاوة ...» ثم قال لي: «إذا أتممت الكتب التي بدأت بها سآتيك بمعلمة تعلمك العروض. وإني أتوسم فيك السرعة في تعلمه ما دامت عندك هذه الرغبة ...» فأجبته بأني قد حصلت على قليل من معرفة النظم باللغات الثلاث. فطلب مني أن أنظم قطعة من الشعر. فقبلت ذيله وانزويت في غرفتي. ففتحت كتاب المثنوي الشريف مستمدة من روحانية ناظمه. وبدأت أنظم على وزن شعر الرباعيات الذي مطلعه: عزم ديدار تودار دجان ما .
12
Unknown page