لو اطلعنا على ما في عالم الغيب لاخترنا الواقع، وعلمنا أن حكمة المولى فوق كل حكمة، وأن العدل الإلهي موجود، وأن عقولنا التي نعتمد عليها في كل شيء ليست شيئا مذكورا إلى جانب ما في هذا الوجود من أسرار وعجائب، وإنما نعقب على هذه الكلمة بما وقف سبنسر يناجي ويسائل نفسه به حيث كان يقول: «ما هي القوة التي يتحتم بقاؤها؟ أهي تلك القوة التي تؤثر في عضلاتنا، والتي تشعر بها حواسنا؟ كلا، بل هي تلك القوة المطلقة المجهولة المستقرة وراء الصور والمشاهدات، ونحن مع عدم إمكاننا أن ندركها فإننا نتأكد من أنها أبدية، لم تتغير ولن تتغير، كل شيء زائل، أما هي فباقية إلى أبد الآبدين، وهي علة العلل.»
وليس من ينكر آثار المستكشفات الحديثة، وأعمالها في حياة الأفراد والجماعات، ولا من يجحد فضل المادية على بني الإنسان بعد أن استطاع بهذه المستكشفات أن يسخر الماء والهواء، فجاب عباب الماء، وحلق في الفضاء، وانتفع بالكهرباء، وألان جماع هذا للإنسان السعد فتلقاه مصافحة وعناقا، وسهلت لديه الحياة فأصبح في العصر الحاضر يتنعم بنعماء المادة، ويتمتع في رغد عيشها.
ليس من ينكر كل هذا، ولكنا ننكر على المادية ما جلبته من ضر وشر على الإنسانية، إلى جانب كل هذه المظاهر الخلابة، وحسبك أن ترى أن المادة قد شغلت الناس عن الرقي الأدبي والخلقي، وألهتهم عن الفضائل، فاعتنقوها وشغفوا بها حبا، وصاروا ماديين في كل مظهر من مظاهر حياتهم، لا يرون إلا بأعين مادية، ولا يسمعون إلا بآذان مادية، ولا يعملون إلا بأيد مادية، ولا يتحركون حركة واحدة إلا للمادة ومن أجل المادة، ذلك بأنهم قد اندمجوا في المادة اندماجا كليا، فأصبحوا ماديين في كل شيء، وكان من أثر ذلك أن أقفرت قلوبهم من الرحمة، ونضب معين الحياء فيهم، وضجت الأرض من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، وهلعت الأفئدة وتململت النفوس، وانعكست آية الهناءة والسعادة على الأرض، وفسد الأمر كله؛ ذلك لأن تقدم العلوم والصنائع والاستكشافات الحديثة، كل هذا لم ينتفع، ولا تنعم به إلا العدد القليل من الأغنياء والمترفين، انظر وقابل بين حياة الموسرين والمعوزين، واحكم من بعد ذلك على مدى انتفاع الفقير من أثر هذا التقدم، ثم قابل بين هذ الرقي وأثره في حياة بني الإنسان وبين الرقي الأدبي؛ لتعلم من بعد ذلك أن المادية قد عصفت ريحها بكل فضيلة وخير وبر، فتلاشت عاطفة الإخاء من قلوب الناس، وزادت الشرور على الأرض، بعد أن نفثت المادية سمومها في الضمائر، وحسبك أن تعرف أن الفوضوية والنيهلستية من آثار التعاليم المادية الضارة.
وليس لذلك من سبب إلا أن الرقي المادي ليس هو كل شيء في حياة الإنسان وسعادته، ولا هو الغاية من الوجود على هذه الأرض، وإنما الرقي الأدبي والخلقي هو الغاية الغائية، وهو السعادة الحقة، آية ذلك أن الرقي من ناحية الذكاء أو العلم أو الفن أو أي شيء غير الخلق، لا يدرك الحياة من كل نواحيها، ولا الطبقات في أية أمة بكل من فيها من كبير وصغير وغني وفقير، وإنما الرقي الخلقي هو المدار الحق في حياة الأفراد والجماعات، وهو المثال الوسط الذي يشترك فيه كل عنصر من عناصر الأمة.
أين الشاعرية الحية؟ أين العقل الفياض؟ أين الوجدان المتأجج؟ أين الولاء؟ أين الإخاء؟ كلها أشياء لا وجود لها في العصر الحاضر، بفضل المذهب المادي وطغيانه على موائل الاستعدادات، ومواطن الخير والنفع، وينابيع الرحمة في الإنسان، واستيلائه على مشاعر الناس وملكاتهم.
ولئن كان الإنسان الغابر قد ضل فكفرت طائفة من الخلق، وتنكبت سبيل الهداية، بفضل هذا المذهب وذيوعه بين طبقات الناس، فإن كفر المحدثين أشد، وتبجحهم قد فاق كل تبجح؛ لشدة تأثرهم بهذا المذهب وخنوعهم له، وخضوعهم لمؤثراته الفعالة الأخاذة، فتراهم يجادلون في الحق بغير علم، ويناقشون مسائله وهم يعيشون في ظلمة المادية مع الجهل، وكل ما على هذه الأرض من عقول فعالة، وعلوم محدثة نافعة ، وفلسفات ناضجة لا تنفع فتيلا إلى جانب رقي الوجدان والخلق، والأخذ بالفضائل والكمالات. هم يريدون أن يعرفوا الحق بعقولهم المادية الضئيلة، وكيف يدرك العقل الحق وهو ليس كذلك؟ ألا إنه لا يعرف الحق إلا الحق، ولا يرى النور إلا من كان في النور، أما الذين يعيشون في الظلمة فإنهم في ضلالتهم يعمهون.
ولو شاء الإنسان أن يصل إلى الحقيقة، ويعرف هويته، ومآله، لاندمج في حسه، ودرس نفسه فعرفها، ومن عرف نفسه فقد عرف كل شيء.
يقول الإمام الغزالي: لولا ما في الإنسان من صدق الرؤى، واستعداد للتنبؤ لما كان يصدق بنبوة الأنبياء وذوي الوحي، وأنت تعجب العجب كله؛ إذ ترى ما يكون من صدق الرؤى، وتسمع أو توفق إلى إنسان لا يحلم حلما إلا وقع كما رآه في نومه، فما هي العلاقة بين عقل الإنسان في نومه وبين هذه الحالة المدهشة، حالة تحقق ما رآه النائم في نومه؛ إلا ما في الإنسان من أسرار واستعدادات نحن نجهلها كل الجهل، ونحاول مع هذا أن نتغلغل في كل شيء، ونتعرف كل مجهول! ألا إنه لا حياة إلا حياة الآخرة، ولا سعادة إلا مع الفضائل وكمالات النفس.
يقول راجا يوجا: «إن الإنسان بذرة تزرع هنا، ثم تنقل إلى المكان المناسب لما استعدت له.»
ويقول الفارابي: «الناس في الآخرة أشبههم في الدنيا، ورقيهم هناك كتحسين الخط.»
Unknown page