الرحيل
حكاية بهنس
عضة كلب
شيطاني المفترى عليه
حديقة الموت
المسامح كريم جدا
الإرهابي
الدعوة عامة
وراء الحدود
شجرة الدر
Unknown page
مزرعة جارسيا
المأتم
الحياة بلا دخان
أبناء للبيع
قبل الطوفان
الرحيل
حكاية بهنس
عضة كلب
شيطاني المفترى عليه
حديقة الموت
Unknown page
المسامح كريم جدا
الإرهابي
الدعوة عامة
وراء الحدود
شجرة الدر
مزرعة جارسيا
المأتم
الحياة بلا دخان
أبناء للبيع
قبل الطوفان
Unknown page
عضة كلب
عضة كلب
مجموعة قصصية
تأليف
أحمد عبد الواحد
الرحيل
بعد أن أم الناس في صلاة العشاء، خرج الشيخ سليم من المسجد قاصدا داره، وفي الطريق عرج على دكان بقالة مجاور، فاشترى عددا من الأرغفة وقطعتين من الجبن الأبيض ومثلهما من الحلاوة الطحينية وعبوة شاي وكيسا من السكر. قبل أن يهم بصعود منزله استوقفه شاب ملتح، تبادلا الحديث لبعض الوقت، ثم انفرد الشيخ بالحديث، تحول الحوار إلى محاضرة، وبعد فترة قصيرة كان الشاب قد تملكه الضجر أو أعوزته الحجة، فحول بصره عن الشيخ وأخذ يتلفت يمينا ويسارا، ثم استأذن فجأة في الانصراف، وظل يحوقل بصوت مسموع حتى غاب عن الأنظار.
دقائق هي التي قضاها الشيخ سليم في منزله بعدها خرج يحمل كيسا في يده، واتخذ طريقه صوب الكوبري الجديد، ثم سار عدة خطوات بمحاذاة الترعة الكبيرة، وأمام عشة صغيرة على شاطئها وقف ينادي على خميس الأعرج، وكرر النداء مرات ولم يجبه أحد، فافترش الأرض وأخرج مسبحته.
غير بعيد، ومن بين عيدان الغاب خرج خميس الأعرج مستندا إلى عكازه يجاهد للإسراع بالعودة إلى عشته، وما إن وقع بصره على الشيخ سليم حتى أقبل عليه مهللا واتخذ مجلسه إلى جواره. - سامحني يا مولانا. أيعقل أن تتنازل فتأتي لزيارتي كل يوم حاملا معك الخير كله، وأتخلف أنا عن موعدك؟! لقد انزويت بعيدا عن أعين المارة ونزلت للاستحمام في الترعة، ويبدو أنني لست معتادا على النظافة، فما إن ارتديت ملابسي واستلقيت على ظهري منتعشا حتى غفوت في مكاني.
رد الشيخ مبتسما: الحمد لله أنك بخير. لقد تركت الكيس بالداخل.
Unknown page
ثم نهض وألقى السلام على خميس، وهم بالانصراف. استوقفه خميس قائلا: ألم يحن الوقت بعد كي تتزوج يا شيخ سليم؟ - الحمد لله على ما أعطى. - لكنني أشتاق «للطبيخ» يا مولانا.
بعد أن فرغ الشيخ سليم من تناول طعام عشائه، نهض فأعد لنفسه كوبا من الشاي، ومد يده لخزانة كتبه العامرة فأخذ كتابا، ثم جلس حيث مكانه المفضل على أريكة وضعت تحت نافذة الحجرة، واستغرق في القراءة. بعد مدة أحس بثقل جفنيه وأخذ رأسه يتساقط من حين لآخر، فنهض كي يتوضأ عله يستعيد نشاطه، وحانت منه التفاتة نحو النافذة، فاتسعت عيناه وتسمر في مكانه. على البعد أبصر ألسنة من اللهب تتصاعد من إحدى القرى القريبة، استنتج أن نيرانا تبدو من مسافة بعيدة بهذا الحجم لا بد وأن تكون صادرة عن حريق هائل. دعا الشيخ ربه أن يلطف في قضائه، وتوكل على الله فارتدى حذاءه وخرج مسرعا إلى الشارع. تلفت يمينا ويسارا، كان الليل قد انتصف وخلت الشوارع تماما من المارة. فكر الشيخ أن يستخدم مكبر الصوت في المسجد لدعوة الناس لنجدة جيرانهم، لكن الأمر على هذا النحو سوف يستغرق وقتا طويلا. توقف للحظات ثم نادى بأعلى صوته يستغيث بأسماء شباب عهد فيهم الصلاح والمروءة، ففتح الناس نوافذهم يستطلعون ما يحدث، وهرع غالبية من ناداهم من الشبان وأحاطوا به يتساءلون. وبعد أن تجمع عدد كاف من المتطوعين، قادهم الشيخ نحو القرية المشتعلة.
عندما شارفوا مدخل القرية شاهدوا صفا من الشباب يشهرون أسلحتهم البيضاء، ويقطعون الطريق على الداخل والخارج منها. واصل المتطوعون سيرهم فهم لا يحملون إلا النوايا الحسنة، تقدم اثنان من الشباب فاستوقفوهم، وخاطبا الشيخ سليم يستفسران عن مقصده، ولم يكد يفتح الشيخ فمه حتى صاح شخص من بعيد يحذرهما بأن عربات الشرطة في الطريق، فانفرط الصف وتفرق جميع الشباب هاربين.
عمت الكارثة ناحية واحدة من القرية وكأن زلزالا ضربها، أو ثار على أطرافها بركان لم يخمد بعد: التهمت النيران العديد من المنازل وما زالت مشتعلة في منازل أخرى، نساء يلطمن الخدود ويصرخن، وشيوخ يتضرعون إلى الله أن ينجيهم من الشر، ورجال يحملون جرحاهم، وآخرون يهرولون حاملين ما تبقى لهم من أمتعة، وأطفال يهيمون على وجوههم باكين، وضجيج تختلط مصادره، ودخان كثيف ينشر السواد في المكان.
انشغل الشيخ سليم ومرافقيه بإطفاء النار غافلين عن بقية المشهد، حتى بدأت قواهم تخور، وعندما تنحى البعض منهم جانبا حتى يستردوا أنفاسهم شاهدوا عجبا؛ حشد كبير من الناس يقفون على مسافة من المكان مكتفين بمشاهدة ما يدور، والأغرب أن منهم من يهللون ويكبرون ويستبشرون بنصر من الله قريب. الآن فقط أدرك الشيخ سليم ومن اتبعه أنهم مع عدد محدود فقط من أهل القرية المنكوبة كانوا يحاولون إخماد الحريق، وأن الغالبية كانت تحتفي بالخراب. فتعالت صيحات الاستهجان من فريق الشيخ، وجاء الرد وابلا من السباب واللعنات والطوب من الفريق المقابل. سار الشيخ سليم بمفرده متوجها نحو الطرف الآخر، تقدم أحدهم ورفع يده إلى أعلى فتوقف القصف، وبلهجة الواعظ الآمر قال: لولا حسن نواياكم وجهلكم بحقيقة ما يحدث، ما تركناكم تعودون إلى دياركم سالمين. لا تنصروا كافرا مسيحيا على مسلم. هل بلغت؟ «لن يثمر الحوار معهم إلا تعميقا للخلاف.» هكذا حسم الشيخ سليم أمره، وآثر الانسحاب مع أهل قريته خشية فتنة أخرى قد تقع هذه المرة بين أبناء الدين الواحد. وهكذا ترك الطرفان النار تأتي على ما تبقى.
عاد الشيخ سليم إلى منزله مكدودا، وخشي أن يستسلم للنوم فتفوته صلاة الفجر، نهض فاغتسل وتوضأ وأبدل ثيابه وأخذ مجلسه المفضل على الأريكة متأهبا للذهاب إلى المسجد، وما هي إلا لحظات حتى غفا. انتفض الشيخ على صوت طرقة خافتة على الباب، ظن أنه تخلف عن الصلاة، نظر سريعا إلى ساعة الحائط، فاطمأن قلبه وعاد إلى جلسته. كان في شك في أن أحدا بالفعل قد طرق بابه، وجاءت الطرقة الثانية لتؤكد أنه لم يكن يتوهم وأن عليه أن ينهض فيفتح الباب، ففعل. اندفع أحد الأشخاص ودخل المنزل كمن يقتحمه، استهجن الشيخ هذا السلوك: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا ...
قاطعه الشاب: عذرا يا عم الشيخ فالرعب أخرجني عن صوابي.
تأمله الشيخ سريعا، كان شابا في حوالي الثلاثين من عمره، عاري القدمين، تلطخ جسمه وملابسه بالطين والوحل، زائغ العينين، تتملكه الرعشة بين لحظة وأخرى.
أردف الشاب: ليس لي ملجأ في الدنيا سواك يا شيخ سليم، فأنت الوحيد الذي آتمنه على حياتي. لقد سمعت عنك الكثير ...
لم ينتظره الشيخ حتى يكمل، وناوله بعضا من ملابسه وطلب منه أن يذهب ليغتسل ثم يتناول بعض الطعام، وبعدها سوف يستمع إليه.
Unknown page
لم يذق الشاب الطعام الذي أحضره الشيخ سليم، فما إن جلس إلى المائدة حتى غلبه النوم. أذن بالفجر، فنهض الشاب مرتجفا وحدق في عين الشيخ ينتظر قراره. طلب منه الشيخ أن يبقى في المنزل حتى عودته، على ألا يصدر عنه أي صوت، وانطلق إلى المسجد.
عندما عاد الشيخ سليم إلى منزله وجد الشاب قد افترش الأرض وراح يغط في نوم عميق، بهدوء أيقظه: لماذا تنام على الأرض؟! يا بني، لا تحملني من الذنوب ما لا أطيق.
نهض الشاب من على الأرض وظل واقفا في مكانه، فأشار الشيخ له بأن يجلس على الأريكة، ثم توجه إلى المطبخ. بعد قليل عاد يحمل صينية عليها بعض الطعام وبراد الشاي وعدة أكواب ووضعها على المائدة، ودعا الشاب ليشاركه ما أحضر. حاول الشاب الاعتذار، وأصر الشيخ: هذا ليس موعد إفطاري لكنني عجلت به من أجلك. أنت مجهد وفي حاجة للطعام والنوم.
جلس الشاب إلى المائدة، وأخذ رشفة أو رشفتين من الشاي، وشرع يقص على الشيخ سليم قصته، وما إن انتهى حتى التزم الصمت وتطلع إلى وجه الشيخ آملا.
قال الشيخ سليم: سيقتفون أثرك في الأيام القادمة، وذيوع خبر وجودك بالمنزل معي سوف يلفت نظرهم بالتأكيد. زواري لا ينقطعون عن المكان ليلا أو نهارا ولن تفلح أية محاولة لإخفائك عن عيونهم.
في موعده اليومي بعد صلاة العشاء، حمل الشيخ سليم كيسه المعتاد وانطلق نحو الكوبري الجديد، لكنه اليوم كان يسير وئيدا يتلفت يمنة ويسارا بين الفينة والأخرى. أمام عشة خميس الأعرج توقف ثم نظر خلفه، وفي لمح البصر كان الشاب إلى جواره. خرج خميس من العشة مهللا كعادته، ثم أمسك لسانه عندما لمح شخصا لا يعرفه. خاطبه الشيخ: هذا يوسف الذي حدثتك عنه. سوف يبقى داخل العشة لا يبرحها ما أمكن، فإن تصادف ورآه أحد، فقل إنه قريب لي هارب من ثأر يطارده، وقد لجأ إلي إلى أن يجد مخرجا، وهو يقيم عندك لأن مسكني هو أول مكان سوف يقصده طالبو الثأر للبحث عنه. وعندما ينتقل يوسف للإقامة معي سوف يكون لنا قول آخر.
وأردف: يوسف أمانة بين يديك يا خميس.
رد خميس: اقتلني إن قصرت.
ثم التفت الشيخ نحو يوسف: خميس محل ثقتي الكاملة، فلا تقلق، لقد حدثته عنك ويمكنك أن تصارحه بما تريد دون خوف. وعليك من الآن أن تحلق شاربك وشعر رأسك وترتدي جلبابا آخر غير جلبابك.
بعد أسبوعين كان الشيخ سليم في طريقه لأداء واجب العزاء في وفاة محمد المهدي، وإلى جانبه يسير يوسف في جلبابه الأبيض وطاقيته البيضاء. تساءل الناس عن الغريب، وكان خميس قد أعد نفسه للرد: قريب للشيخ أتى من الصعيد باحثا عن عمل، فاستبقاه الشيخ إلى جواره يعينه على فلاحة الأرض ويؤنس وحدته.
Unknown page
لم يمض الكثير حتى كسب يوسف ثقة أهل القرية، فهو يكدح طوال النهار بهمة وإخلاص في أرض الشيخ سليم، لا يتدخل فيما لا يعنيه، يغض بصره، ويعف لسانه، ولا يتسكع في طريق أو يرتاد المقهى، ويتجنب صحبة الشباب الذين هم في مثل عمره؛ صالحهم وطالحهم على السواء. وكما أجمع أهل القرية على خصاله النبيلة، فقد أدهشهم جميعا أن يوسف يرافق الشيخ سليم أينما ذهب إلا إلى المسجد! كيف يسكت الشيخ عن هذا السلوك وهو الإمام ويوسف هو قريبه ورفيقه؟ كان يصعب عليهم أن يتصوروا أن يكون الرجل على خلق دون أن يكون متدينا، فما بالك ويوسف لا يؤدي فرض الصلاة. تطوع بعض المتحذلقين بتفسير الظاهرة العجيبة، قالوا إن يوسف من المتشددين دينيا، وإن هؤلاء - وفق فتواهم - لا يجوز أن يصلوا خلف إمام يخالفهم في المذهب. وكان التفسير مرضيا مريحا، ومنح يوسف توقير الجميع واحترامهم، فتقدموا إليه ينشدون النصيحة والفتوى، فامتنع قائلا إن الشيخ لم يأذن له بعد، فتأكدت قناعتهم بأن الشيخ يعده لخلافته.
شاع بين الناس أن يوسف يعتزم الزواج من أرملة محمد المهدي، غالبية الناس استهجنوا الأمر؛ فيوسف رغم خصاله الطيبة وافد غريب، ولم تشفع محبتهم له لقبول عضويته الكاملة في القرية. في الآونة الأخيرة كان الشيخ سليم يتردد على منزل عائلة الأرملة الشابة ليتوسط في الخلاف الذي نشب بينها وبين أشقاء محمد المهدي حول توزيع الميراث، وعزز هذا قناعة الناس بصدق إشاعة لا يعلم أحد من الذي أطلقها، أما الشيخ سليم ويوسف فلم يرد بخاطرهما قط شيء مما أشيع.
الغيرة والحقد دفعا واحدا من الناس أو أكثر للنكاية في يوسف والتخلص منه نهائيا، فوشوا به لجهات الأمن زاعمين بأنه إرهابي هارب لجأ إلى بيت الشيخ سليم فآواه عنده، وكانت التهمة بالطبع جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار.
اقتاد رجال الشرطة الشيخ سليم ويوسف إلى مديرية الأمن، وكان خميس الأعرج وحده هو من حاول اللحاق بهما. حاول خميس دخول مبنى المديرية فتلقى نصيبه كاملا من الركل والسباب، لم يرفق به أحد لعاهته أو لمظهره البائس، فجلس على الطوار المقابل للمديرية يندب حظه ويئن مما أصابه، وتركه الجنود على مضض.
ظل الشيخ سليم واقفا أمام مكتب ضابط الأمن، أما الضابط فقد أدار له ظهره ووضع ساقا فوق أخرى وظل يحتسي فنجان قهوته قطرة تلو قطرة، قال: ما زلت تصر على أنك لست إرهابيا، لا بأس، فلدينا من الوسائل ما يجعلك تعترف.
رد الشيخ سليم: يا حضرة الضابط، هل بلغكم عني من قبل ما يجعلكم تسيئون الظن بي؟ كل ما في الأمر أن إنسانا ضعيفا استجار بي فأجرته، وهكذا يحضنا ديننا، لقد أنقذت إنسانا من القتل ومنعت آخر من ارتكاب جريمة.
أدار الضابط كرسيه وحملق في الشيخ غاضبا. - هل يحض الدين على نصرة الإرهابيين؟! - وهل يعد الشخص إرهابيا في نظر القانون لمجرد أنه يجمع التبرعات لبناء كنيسة! - بناء كن... كنيسة! - نعم هذا كل ما فعله. لقد أحرق المتطرفون من المسلمين منزله ونكلوا بأهله وتوعدوه بالقتل. أنتم تعلمون بالتأكيد تفاصيل ما حدث في تلك الليلة.
شرد الضابط للحظات، ثم سأل: ما اسم يوسف بالكامل؟ - يوسف دانيال مسيحة. إن له بيتا وأرضا وأهلا، وكل قريته تعرفه.
رغم أن كل الدلائل كانت واضحة دامغة بما يكفي لبراءة الشيخ سليم ويوسف من التهمة التي حاول البعض إلصاقها بهما، فقد ظلا قيد التحفظ لثلاثة أيام داخل مديرية الأمن، وظل خميس يأتي كل صباح فيلتزم الجلوس على الطوار المقابل لمبنى المديرية من الصباح الباكر وحتى الغروب. أخيرا أطلق سراحهما، فخرج الشيخ سليم يستند إلى ذراع يوسف وقد أحنى ظهره التعب، أبصرهما خميس الأعرج فانفرجت أساريره وعبر الطريق مسرعا نحوهما. - ظننت أنني سوف أبقى في انتظاركما إلى يوم يبعثون، وخشيت على ساندويتشات الفول أن تفسد، فأكلت نصفها.
على مقهى صغير في ميدان المحطة جلس الثلاثة حول مائدة واحدة، صامتين تماما، ينظر كل منهم إلى ناحية، يتقاسمون ما تبقى من الطعام الذي أحضره خميس، ويرتشفون الشاي على مهل.
Unknown page
قال يوسف: سأظل غريبا مطاردا أينما حللت.
قال خميس: أنا مثلك سوف أعيش دوما على الهامش، فلا أرض لي ولا مسكن.
قال الشيخ سليم: أهل القرية طالبوا الأمن بترحيلي، اتخذوا قرارهم وكأنهم يسارعون للتخلص من دنس علق بثيابهم. لو أن إغاثة مسيحي واحد كانت خطيئة، ألم تشفع لي سنوات طوال قضيتها بينهم أدعو صادقا إلى الخير وأنهى عن الشر؟!
ونهض الثلاثة قاصدين محطة القطار.
أعلن المذيع الداخلي للمحطة أن القطار المتجه إلى مصر سوف يتحرك في الخامسة صباحا.
على أحد المقاعد الخشبية جلس الثلاثة يترقبون بزوغ الفجر. (تمت)
حكاية بهنس
على مقعد خشبي أمام بيته الكبير، اعتاد صالح بهنس الجلوس بمفرده من العصر إلى ما بعد غروب الشمس، يميل برأسه تارة إلى اليمين حيث يمتد حقله الواسع بأشجاره العالية وبساطه الأخضر، وتارة إلى اليسار نحو أطراف البراري حيث الأرض القاحلة الجرداء إلا من بقع من حشائش قصيرة يكسوها الغبار. لا تقطع عليه خلوته إلا زوجته التي تأتيه مستندة إلى عكازها، تضع إلى جانبه كوبا من الشاي أو كوبا من الماء، وتربت على كتفه في صمت، ثم تعود أدراجها.
لسنوات طويلة مرت، كان بهنس مضرب الأمثال في جلده وصبره وعزيمته التي لا تلين. طرده أبوه من منزله لأنه تزوج دون أن يستأذنه، فلجأ إلى البراري وبنى عشته من فروع الأشجار وعيدان الغاب، وأعمل فأسه في البوار فأصلح من الأرض كل يوم شبرا. لمدة طويلة ظل يعمل أجيرا هو وزوجته، إلى أن جمعا أول محصول لهما من أرضهما المستصلحة، فتفرغا لزراعتها واستصلاح المزيد، حتى صار بهنس الآن مالكا لأكثر من عشرة أفدنة.
تحمل هو وزوجته معا كل أشكال العناء والفقر، أما أبناؤهما فقد عاشوا زمن الأمان ورغد العيش، حتى إذا ما شبوا عن الطوق حاولوا إقصاءه عن كل عمل بحجة الحرص على صحته، إلى أن أفلحوا فسجنوه داخل بيته لا يكاد يبرحه، واختاروا أكبرهم فجعلوه أبا بديلا يستشيرونه في أمورهم ويفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، وكأنهم أصدروا عليه حكما بالخرف غير قابل للنقض.
Unknown page
هبط الليل، فأتته امرأته تستعطفه أن يدخل إلى المنزل؛ فالبقاء على هامش البراري ليلا قد يعرضه ويعرض أسرته الكبيرة لهجمات الذئاب، ومن الضروري إغلاق البوابة الخارجية.
في محبسه الداخلي، في حجرته، تركوا له الراديو ليمضي معه الليل، ودائما ما كانوا يبادرون هم بتشغيله على محطة القرآن الكريم، فيحزنه أنهم يستحثونه على التوبة ويلحون على إبلاغه بأن ساعته قد حانت، بينما يتفرغون هم في الصالة الواسعة يسمرون بمشاهدة التليفزيون ولعب النرد وتبادل النكات والنوادر، وتنشغل عنه زوجته بإعداد الشاي للكبار وإعداد الحلوى لأحفادها. قليلا ما كانوا يشفقون عليه من وحدته فيدعونه لترك فراشه والجلوس معهم، ونادرا ما فعل؛ فقد كان يشعر أنه أصبح ضيفا ثقيلا في منزله.
نهض بهنس من فراشه فأدار الراديو على محطة أم كلثوم، ثم رفع عينيه إلى شهادة كبيرة موضوعة في إطار مزخرف ومعلقة على الحائط، وظل واقفا يسترجع ذكريات أثيرة لديه عن فترة من أهم فترات حياته؛ شهادة تروي باختصار حكايته في الجيش، تسجل أن العريف المجند صالح محمد المتولي بهنس قد حقق المركز الثاني في الرماية على مستوى سلاح المشاة. كان زملاؤه من المجندين يغارون جدا من رضاء قادتهم عنه؛ فقد عرف عنه إطاعة الأوامر والانضباط وإتقان العمل، وظنوا، أو كانوا يأملون، بأن الحال سوف يتبدل عندما تأتي تدريبات الرماية، فلون عينيه الفاتح جدا كان يوحي لهم بأنه ضعيف البصر، وأثبتت التجربة أن بهنس هو الصقر الذي لا يخطئ هدفه.
تفاخر أهل القرية بابنهم صالح بعد الأخبار التي بلغتهم عن مهارته الفائقة في الرماية، والترقيتين اللتين حصل عليهما تقديرا لكفاءته، وظل أبناؤه فخورين به إلى أن طمعوا في ولاية مبكرة لعهده، فنصحوه بألا ينظر إلى شاشة التليفزيون حتى لا يفقد بصره. «لماذا يتعجلون موتي والله لم يأذن به بعد؟!» هكذا كان يفكر الرجل، فتطفر من عينه دمعة باردة ويجف حلقه. لقد تعافى تماما من الوعكة الصحية التي ألمت به كما أكد الأطباء، فما بالهم يشعرونه في كل مناسبة أنه أصبح عاجزا يستجدي الحياة؟! ألحوا عليه مرارا بأن يقسم بينهم التركة، فخشي إن فعل أن يلقوا به خارج المنزل. عندما طرده أبوه وأصبح وحيدا فقيرا أمن شر الغرباء، وها هو اليوم يملك الكثير ولا يأمن شر أبنائه.
كان يوم عيد، ولحوم الأضحية تجذب القريب والغريب إلى منزل بهنس، وأفواج الزائرين لا تكاد تنقطع، والجميع صغارا وكبارا منهمكين في أداء طقوس المناسبة، وصالح بهنس قابعا في حجرته، يمن عليه بعضهم بالتحية ويتجاهله آخرون، حتى العيدية تكفل ابنه الأكبر بتوزيعها وتلقي الشكر.
وقت غروب الشمس، كان الجمع قد انفض إلا من قلة من الأقارب انشغلت بالتهام الوجبة الدسمة، بينما كانت الأم تجاهد لإقناع بهنس بتناول طعام الغداء الذي وضعته على سريره. وفجأة دوت صرخة طفل، أعقبتها صرخات وهرج وصيحات، فانتفض بهنس واقفا وهرع يخرج من غرفته ليستطلع ما حدث. كان أحد أحفاده يقف إلى جوار النافذة حين قفز نحوه أحد الذئاب مكشرا عن أنيابه، ولولا الشبكة الحديدية المثبتة على الشباك لكانت نهاية الطفل.
أسرع البعض يغلقون زجاج النوافذ، وتكوم الأطفال في صدور أمهاتهم، ووجم الكبار وهم يتلفتون في كل اتجاه. صرخ فيهم بهنس: انشغل كل منكم بشأنه، ونسيتم إغلاق البوابة الخارجية.
واتجه مسرعا ليتأكد من غلق الباب الداخلي للمنزل، ثم بلهجة حازمة: سوف أصعد إلى سطح المنزل، وليلزم كل منكم مكانه.
هم أحد أبنائه بأن يجري خلفه، فنهره بغلظة، فارتد إلى حيث كان.
بعد دقائق رجع بهنس وقد تجهم وجهه. - قطيع من الذئاب يحيط بالمنزل.
Unknown page
ومن فوره دخل غرفته، ثم خرج وقد خلع جلبابه وطاقيته البيضاء، وحمل البندقية التي احتفظ بها لسنوات داخل دولابه. وأصدر أمره الصارم: لا يفتح أحدكم باب المنزل قبل شروق الشمس.
واتجه صوب الباب. علت أصوات ترجوه ألا يخرج. جال بهنس بعينيه سريعا فيهم، ثم فتح الباب وخرج.
بعد صلاة العصر، شيعت القرية كلها صالح بهنس إلى مثواه الأخير، وكان ضابط النقطة وبعض أفرادها ضمن المشيعين، وتبادل الناس الحديث عن سيرة المتوفى بقدر كبير من الإعجاب، وتضاربت بعض التفاصيل في واقعة بهنس والذئاب حسبما أملى خيال كل شخص.
عندما حضر رجال الشرطة في صباح ثاني أيام العيد، عثروا على جثث لثلاثة ذئاب في مواضع متفرقة في فناء منزل بهنس وخارج سوره، وعلى جثة ذئب رابع في وسط الحقول، كل ذئب صرعته رصاصة أو رصاصات أطلقت من بندقية نصف آلية. أما المزارع صالح محمد المتولي بهنس فقد وجدوه ميتا وهو جالس على الأرض مستندا إلى جزع شجرة وما زال قابضا على بندقيته، وبفحص جسده لم يعثروا على أية إصابات. (تمت)
عضة كلب
اعتدنا أن نشارك الليل أحلامه وهواجسه، وأن نستر بردائه الأسود عوراتنا وأقبح مثالبنا. وبعيدا عن الازدحام والصخب وآلاف العيون العاطلة التي لا عمل لها إلا التطفل على شئون الآخرين، كنا نلتقي بعد الحادية عشرة مساء ليومين أو ثلاثة من كل أسبوع، نجوب الشوارع، ونفترش الأرصفة، ونردد الأغاني والأشعار، ونتناقش في الفلسفة والسياسة والفن وكرة القدم، لا يثنينا عن حياة الليل هذه إلا عظائم الأمور، ولا ننعم من النوم إلا بأقل القليل.
قليلون هم سكان الليل الذين ألفوا وجودنا؛ ساكنو الشوارع من الأطفال، وبعض راكبي «التريسكل» وأصحاب عربات اليد الصغيرة وهم ينقبون بين أكوام القمامة عن رزقهم من الزجاج والبلاستيك والكرتون، ورواد «الغرز» العائدون من أطراف المدينة، وحراس الأبراج السكنية، وشلل من البلطجية الباحثين عن المشاكل، ورجال الأمن وقد تأكدوا بعد تجربة طويلة أننا نحافظ على النظام.
مجموعنا في المتوسط خمسة، نزيد أحيانا وننقص أخرى تبعا للظروف، أعمارنا تدور حول الأربعين، وأغلبنا متزوجون ولهم أطفال. وقد اعتادت أسرنا على هذا الشكل الأنيق من العبث، وربما وجدت زوجاتنا في تغيبنا لوقت طويل عن المنزل راحة لهن من جدالنا الدائم وحذلقاتنا الكئيبة واهتماماتنا السمجة، وعلى أية حال كنا نعود إلى منازلنا أخف دما وأكثر نشاطا وأقل إثارة للنكد.
ليالي الشتاء الباردة والطرقات الموحلة لم تكن سببا كافيا لكي نزهد في دنيانا شديدة الخصوصية، بل على العكس؛ فبعضنا كان يجد لذته في فرك يديه ورؤية بخار الماء يصعد من فمه وأنفه ومنظر حذائه وقد خاض في الوحل. وكلنا بلا استثناء كنا نجد «سندويتشات» الفول المدمس الساخنة في ليالي الشتاء لذيذة بشكل لا يوصف، وربما لهذا السبب كان عم جمعة صاحب عربة الفول أكثر الغرباء قربا إلينا.
لا نعرف عن عم جمعة إلا القليل، فهو نادرا ما يتحدث عن شأنه الخاص، مظهره يخبر عن أنه تجاوز الستين من عمره، لكنه لا يحترف إسداء النصائح وصب اللعنات على الحاضر والجيل الحالي كما يفعل كبار السن، وهو أحيانا أكثر تمردا على الواقع وثقة في المستقبل من غالبية الشباب. لا نعرف له زوجة ولا ولدا، ولم نسأله عن محل ميلاده أو عنوان مسكنه. توقف في تعليمه عند الإعدادية كما أخبرنا، ومع هذا فهو طلق اللسان يستشهد في حواراته معنا بآيات من القرآن والأحاديث النبوية. يعشق عبد الحليم وأم كلثوم، ويروقه الاستماع إلينا ونحن نردد أشعار نجم وفؤاد حداد، وفي عينيه تختلط الدموع بنظرة الأسى عندما يأتي ذكر جمال عبد الناصر.
Unknown page
عربة عم جمعة إلى جوار الجامع الكبير كانت إحدى محطاتنا الرئيسية في رحلة الليل، ولأن وقفتنا حولها كانت غالبا ما تطول، فقد تعرفنا على بعض زبائنه، وغالبا ما كان هذا التعارف سطحيا على هامش النكات والقفشات وقضم أرغفة الفول، أما لقاؤنا بسعيد قصاقيص فقد كان مختلفا تماما.
كنا نهم بالانصراف عندما ألقى علينا سعيد السلام، فاستوقفنا عم جمعة معربا عن رغبته في أن نتعرف بسعيد، ثم أشار إليه ولم يكمل حتى رأينا سعيد ينحني مبتسما: محسوبكم سعيد. وأكمل بالإنجليزية: «بت نوت هابي.» (وهو يعني بهذا أن اسمه سعيد لكنه ليس سعيدا). واستفسر ضاحكا: البعدا مش كده برضه؟
وعلت ضحكاته تقلق سكينة الليل.
لاحظ عم جمعة امتعاضنا فتدخل قائلا: الأستاذ سعيد مدرس أول الرياضيات بالمدرسة الثانوية.
عقب أحدنا متعمدا أن يكون سمجا: مساء الهندسة يا عم.
رد سعيد: ده تفاضل منك.
وواصل ضحكاته المتقطعة الحادة. تركنا المكان غير معقبين، وواصلنا سيرنا، وأدركنا سعيد بعد عدة أمتار، وضاحكا أيضا قال: أشكالكم تثير فضولي وأنا مصر على صحبتكم، لنمض سويا إذن. وتأبط ذراعي!
ضحكته علامة مسجلة تنطلق بنغمة واحدة، وترتسم على وجهه بنفس الملامح في كل مرة مهما تغيرت المواقف، وكأنها قناع استعاره من شخص آخر أو اشتراه من أحد المتاجر. كنا مرغمين على صحبته في اليوم الأول، ثم برضانا تواعدنا على اللقاء مجددا في اليوم التالي، وسريعا ما ذابت الفواصل بيننا وأصبح عضوا في جماعتنا. قارئ جيد، لماح، ويسخر من كل شيء، يبدو بسيطا وشديد التواضع، ناقما بشدة على الأثرياء لكنه ليس بشكاء ولا بكاء. يستمع أحيانا إلى فيروز، ويمل سريعا من مشاهدة مباريات كرة القدم. لا يتابع بانتظام نشرات الأخبار والبرامج السياسية كما نفعل، ويدعي أنه غير مهتم بشئون السياسة والحكم. يطيل الإصغاء لحديث جاد ولا ينسى أبدا أن يعقب في النهاية بكلمة إنجليزية قد تكون غير ملائمة شكلا للموقف لكنها بإيجاز توحي برأيه في الأمر، يعقبها بضحكته المعهودة وما يجري على لسانه اللاذع الخفيف الظل . ينطق بالحكمة تارة وعابثا يطلق النكات تارة أخرى. أنيق في غير إسراف أناقة الشباب في أوروبا وأمريكا، وفيما عدا ملابسه فمظهره يوحي باللامبالاة والعبث؛ نظرة عينيه وشعره ولحيته ووقفته وجلسته ومشيته وحديثه وضحكاته.
تعرف واحد منا على زميل لسعيد يعمل في نفس المدرسة، فأخبرنا بما لم يخبرنا به سعيد عن نفسه: سعيد قصاقيص زعيم الرياضيات بلا منازع، عبقري لا يدانيه في الرياضيات حتى مستشار المادة في الوزارة؛ ولذا يتجنب الموجهون مناقشته في المادة العلمية ويخشون من إبداء الملاحظات على أدائه، وهم لا يستريحون إليه ويقدمون عليه من هم دونه في التقارير السنوية، ويرشحون غيره للترقية. أما زملاؤه من المعلمين فهم على العكس يحبونه ولا يخجلون من طلب مشورته في الرياضيات؛ ربما لأنه ليس منافسا لهم في الدروس الخصوصية، فهو لا يسعى إليها، وأغلب من درس له الرياضيات من التلاميذ لا يستمرون معه، فلا يبقى معه إلا النوابغ، وهم قليلون، وبعضهم أحرز مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة. يرفض العمل في مدارس البنات والتدريس للفتيات، ويتجنب تماما التعامل مع زميلات المهنة. يصر دائما ألا يعطي درسا خاصا لتلميذ واحد بمفرده، وأيا كان الأجر الذي يعرض عليه فهو يرفض بشكل قاطع أن يذهب إلى تلميذ في منزله، وقد عرضه هذا الموقف المتشدد لبعض المشاكل مع أولياء الأمور من وجهاء المال والسلطة.
ويتناقل زملاؤه حكايته الشهيرة مع المحافظ؛ فقد أرسل إليه المحافظ من يتفق معه على درس خصوصي لابنته، وبالطبع طلب منه أن يكون الدرس في فيلا سيادته، والأمر من كل الوجوه كان صادما للأستاذ سعيد فلم يتردد في الاعتذار. حذره البعض من مغبة هذا الرفض، وكالعادة كان هازئا يرد: هيسخطوك يا قرد يعملوك إيه؟ ناظر! أما المحافظ فقد ظن أنه معتوه، أو هكذا يخمن البعض.
Unknown page
وقصاقيص سعيد هي عصا التأديب التي يقرع بها أصحاب الملايين من الموجهين الذين يسيطرون على مراكز الدروس الخصوصية. والقصاقيص جمع قصاصة من الورق، ورقة صغيرة يلتقطها سعيد عشوائيا من المكان الذي يوجد فيه ولو كانت ملقاة في كوم قمامة، ويخرج قلمه ويخط عليها معادلة أو مسألة رياضية يطلب من أحد التلاميذ توصيلها لغريم تجرأ على التقليل من شأنه في الرياضيات، وغالبا ما يفشل الجميع في حلها، وقصاقيص سعيد لا يرد عليها أبدا بمثلها، هكذا علمتهم التجارب معه.
تقدم سعيد لمسابقة للترقية إلى وظيفة موجه، ربما لكي يشاكس رؤساءه فحسب، وجاءت النتيجة طبعا في غير صالحه، فتوجه إلى مكتب التوجيه الفني والذي بيده قرار اختيار الأنسب للوظيفة، وأثناء اجتماع المكتب جذب سعيد أحد المقاعد وجلس في مواجهة الجمع بابتسامته المعتادة وخاطبهم: سؤال سهل وليس قصقوصة: لماذا تم استبعادي؟ دمي ثقيل أم مسألة كفاءة علمية!
أجاب كبيرهم: لا هذا ولا ذاك، أسلوب التعامل مع الزملاء والرؤساء.
مط سعيد شفتيه ثم أطلق ضحكته المميزة، وجالت عيناه في المكان، وراقته سلة القمامة، فرفعها ثم أفرغها فوق رأس الموجه العام. وهادئا وسط دهشة المجتمعين لوح بيده قائلا بالإنجليزية: «سي يو ليتر.» (أي إلى اللقاء)، وترك المكان، وأصداء ضحكاته تنسحب بطيئة في إثره.
لم يمض الكثير حتى توطدت علاقته بنا بل وأصبحنا نفتقده جدا إذا غاب، فقد أضفى علينا ربما ما كنا نسعى بالفعل إليه وننكره على أنفسنا: روح العبث. لم نعلن لحظة الصدق هذه لأحد ولا لأنفسنا؛ فقد كنا في شك دائما من جدوى ما نفعله لأنفسنا ولمن حولنا، إننا نحوم في الفراغ كفراشات شيطانية ونظن أننا نحرث الأرض للحرية، وكان سعيد هو الذي قذف في وجهنا بالحقيقة التي أعمينا بصيرتنا عنها.
فر الناس من حرارة علب الطوب التي يسكنون فيها إلى الشوارع والميادين يستجدون نسمة هواء باردة، وامتدت جولاتهم وجلساتهم في الطرقات وعلى الأرصفة إلى أذان الفجر. لقد استعمروا مملكتنا واغتصبوا الخلاء الذي نحلق فيه، لكننا نملك رفاهية البدائل المتاحة، فاتفقنا على الفور على شراء فراغ جديد أرحب نعبث فيه كما اعتدنا. قررنا أن تكون لقاءاتنا ليلا في المصايف المجاورة حيث البحر والهواء المنعش والمطاعم «والكافيهات» ولامبالاة المصطافين بالغير، إضافة إلى متعة السفر ليلا على طرقات غير مزدحمة وبصحبة صديق مقرب. واعتزمنا أو كنا مجبرين على أن نخفي الأمر عن أسرنا، ومكنتنا سياراتنا الخاصة من السفر والعودة إلى المنزل في المواعيد المعتادة دون أن يلحظ أحد. واتفقنا أن أصطحب سعيد معي في سيارتي، وانطلقت أول قافلة لنا.
على غير عادته مكث سعيد صامتا أغلب الطريق، حاولت أن أحفزه على الحديث فكان يجاملني وسريعا ما يعود إلى صمته. بعد أن التأم شملنا قضينا بعض الوقت على الشاطئ وقد انفرجت أسارير سعيد بعض الشيء، لكن ضحكته الرنانة لم تنطلق بعد، وأمسك لسانه اللاذع عن أي تعليق واكتفى بمراقبتنا وكأنه يرانا للمرة الأولى. دعانا واحد منا إلى عشاء فاخر بأحد المطاعم على نفقته، ثم جلسنا لبعض الوقت في أحد الكافيهات، وأصر سعيد أن يتحمل فاتورة الكافيه. أنعش هذا التغيير روحنا فعدنا إلى منازلنا أسعد حالا بعد أن تواعدنا على اللقاء التالي.
تخلف سعيد عن صحبتنا لفترة طويلة حتى استبد بنا القلق عليه، لم يكن أحد منا يعرف عنوان سكنه، فاعتزمت المرور على عم جمعة، وهو تصرف أكثر لياقة من الذهاب إلى مقر عمله في المدرسة.
استقبلني عم جمعة عاتبا: سعيد رجل طيب، ماذا حدث بينكم؟
أخبرته أنه تغيب عن لقاءاتنا دون سبب، وأنني أتيت لمقابلته عساه يعرف عنوان مسكنه، تردد الرجل قليلا ثم قال: هو يسكن معي.
Unknown page
كان رده مفاجأة لي، حاولت أن أخفي تعجبي وآثرت الصمت كي أترك له ولي فرصة تأكيد الخبر أو نفيه، عم جمعة كان فطنا بما يكفي كي يعرف ما يدور برأسي. - سعيد ابني. إنه ليس من صلبي لكنه جزء مني وأنا جزء منه، وهو من تبقى لي في هذه الدنيا.
الأمر إذن لم يكن يتطلب رغيفا وطبقا من الفول أتناولهما واقفا، فأنا في أمس الحاجة إلى سيجارة وجلسة طويلة. وجلسنا أنا وعم جمعة على إحدى درجات سلم الجامع الكبير.
مات والد سعيد وهو ما زال طفلا في العاشرة من عمره، يحمل ذكرى أبيه وحيدا بلا أخ ولا أخت. كان المعاش الذي تركه الأب يقيه وأمه ذل السؤال وإن لم يكفل لهما رغد العيش. بعد عام واحد من وفاة زوجها تزوجت الأرملة الناضجة بشاب يصغرها بسنوات، وكأنها جلبت لابن الحادية عشرة من عمره غريما متحفزا لا أبا. كانت تتغاضى عن وحشية زوجها في التعامل مع الصبي، وكانت تتعامى عن رؤية دموع سعيد تستعطف الأمومة فيها أن ترحمه؛ فقلبها كان يقطن مكانا أبعد كثيرا من صدرها. أجبره زوج أمه على العمل وترك المدرسة على أن يأتيه بكل ما يحصل عليه من أجر لقاء بقائه بالمنزل، وخضع الصبي، فازدادت شهية زوج الأم لمال لا يكد لأجله وطالبه بالمزيد، ولأن سعيد كان أجيرا فقد كان يحصل فقط على ما يرضى صاحب العمل أن يمنحه، وعندما حاول أن يجد عملا آخر أو عملا إضافيا، علم صاحب العمل بأمره فطرده، وطرده زوج أمه من المنزل أيضا وكأنما وجد الفرصة السانحة لنيل مأربه. لم تعترض زوجته، ولم تراجعه في الأمر، ولم تركع أمام قدميه تستجديه العفو والرحمة، بل لم تربت حتى على كتف ابنها وهو يغادر منزله، فبصق سعيد في وجهها وانصرف.
يحكي عم جمعة أنه تعرف على سعيد في نفس اليوم الذي ترك فيه منزله. كان عم جمعة يعمل خادما لزاوية، وفي الوقت نفسه كان يدرب الصغار على حفظ القرآن. وفي إحدى الليالي توجه كعادته كل يوم لفتح الزاوية ورفع أذان الفجر، فوقع بصره على الصبي يرقد نائما أمام الباب مباشرة، أيقظه بهدوء، فانتفض سعيد من نومه مذعورا، ربت عم جمعة على كتفه وطلب منه أن يتوضأ ليشارك الجماعة صلاة الفجر. انفض المصلون وتلكأ سعيد في الانصراف، فجلس عم جمعة قبالته يسأله برفق عن حاله.
فقد عم جمعة زوجته وأبناءه عندما انهار المنزل على من فيه، وظل يعيش وحيدا لسنوات، حتى وجد سعيد، فأصبح منذ اليوم الأول أعز ما يملك في دنياه، وكان سعيد أوفى الناس نحو منقذه. حفظ سعيد القرآن كاملا عن عم جمعة في وقت وجيز جدا أثار دهشته، ورأى الرجل فيه صبيا نابها ومن الظلم أن يعده ليخلفه في الزاوية أو يحترف قراءة القرآن على المقابر. تفرغ سعيد بالكامل لمذاكرته وتقدم لامتحان الابتدائية ثم الإعدادية (منازل)، ورفض أي عون عرض عليه لمساعدته في دروس الثانوية العامة، واجتاز اختباراتها من المرة الأولى والتحق بكلية العلوم. جاءه خبر وفاة أمه فاكتفى بأن قال ممتعضا: أراحتني. رجاه عم جمعة أن يذهب لتلقي العزاء، فأقسم ألا يفعل.
تفاصيل الحكاية كانت تشدني، لكن الأولى وقتها أن أطمئن على حاله وأعرف سبب تغيبه. قاطعت عم جمعة: ما الذي أغضبه منا؟
فتعجب الرجل: ظننت أنه هو الذي أغضبكم.
رافقنا سعيد في الرحلة التالية إلى المصيف، ولاحظنا جميعا أنه يتكلف في سلوكه وينتقي كلماته على غير عادته، كان يحاول جاهدا أن يبدو كما عهدناه فبدا غريبا جدا. تجاهلنا الأمر حتى لا نفسد ليلتنا وعزمنا على الذهاب لتناول الطعام في أحد المطاعم كما نفعل في كل لقاء، وفوجئنا بسعيد يعتذر عن مرافقتنا. واجهناه كلنا مستهجنين اعتذاره، تجاهل ما قلناه، وطلب منا أن نصطف جالسين أمامه كتلاميذ مدرسته، ففعلنا ممنين أنفسنا بفاصل فكاهي يروح عنا. وقف سعيد في مواجهتنا متعمدا أن يكون جادا، وهو نادرا ما يفعل، قال: سؤال بسيط وليس قصقوصة: لماذا يغض رجال الأمن أنظارهم عنكم؟ وأدهشنا السؤال فهو يوحي بإساءة جسيمة لنا، ولم يرد أحد، وانتظرناه حتى يفصح عن غرضه. أكمل وكأنه موقن أنه لن يجيب أحد: كنت أظن أن أجهزة الأمن في بلدنا غافلة عنكم، لكنني تأكدت فيما بعد أنهم يجيدون عملهم، ويدركون جيدا ما يفعلون. إنكم أكثر ملكية من الملك، تصدعون رءوسنا بالثورة والاشتراكية والعدالة والانتصار للفقراء، بينما تعيشون في بذخ وتشاركون الأغنياء في سرقة نصيب الفقراء والتعالي عليهم، وتهيبون بالحكام أن يمعنوا في إفقار الناس لتطوير أدوات الإنتاج، وأن يتمادوا في إذلالهم كي ينضج وعيهم الطبقي. لا ترون حرجا في أن تمروا إلى المستقبل فوق جثث الملايين من البؤساء!
عقب أحدنا: لا تنتظر منا أن نكون أعضاء في جمعية خيرية.
رد سعيد: ولا تنتظر أنت يا سيد لينين أن يصدقكم أحد.
Unknown page
علت وجهه ابتسامة ساخرة وهتف مقلدا صوت مهرجي السيرك: هلموا الآن يا رفاق نخرج للنضال في مطعمنا الفاخر، زاد الثورة بانتظارنا.
ساد الوجوم، وما لبث أن أطلق سعيد ضحكته المعهودة وصرخ في وجوهنا بالإنجليزية: «ليرز.» (أي كذابون)، ولوح مودعا، وانصرف، ولم يستوقفه أحد.
مرت أسابيع لم نلتق خلالها بسعيد، كنا نأمل ألا تنقطع صلته بنا، وكأننا في اشتياق لجلد ذواتنا والتطهر من خطيئة لا نعرف سبيلا إلى الخلاص منها. وفي إحدى ليالي الشتاء، كنا قد بلغنا تقريبا ميدان الجامع الكبير حيث عربة الفول وعم جمعة، حين تهادى لأسماعنا صوت نباح لمجموعة من الكلاب يعلو أحيانا ويخفت أخرى، وفجأة اختلط نباح الكلاب بعواء متقطع، فالتفتنا إلى الخلف فأبصرنا ما لم نصدقه، كان سعيد يعدو مطاردا جماعة من الكلاب، والكلاب تفر من أمامه مذعورة!
لمحنا سعيد فلوح من بعيد قائلا بالإنجليزية: «هالو كومرادز.» (مرحى أيها الرفاق).
وواصل ما كان فيه، وغاب في أحد الشوارع الجانبية، ثم ظهر من جديد مستمرا في مطاردته، وعندما حاذانا أبطأ وهو يشير إلى الكلاب التي تلهث مبتعدة: ابن الكلب ده مزق بنطلوني الجديد ليلة أمس، كان ينوي أن يمزق لحمي أيضا.
وعاد يعدو وجميعنا نضرب كفا بكف. غابت المطاردة عن أعيننا لكنها ظلت مستمرة في نفس الشارع الجانبي مرة أخرى، وكالبلهاء أسرعنا الخطى كي نرقب نهاية المعركة. كان الشارع الجانبي في الواقع حارة مغلقة لا منفذ لها غير مدخلها، وكان سعيد يحاصر الكلاب يمينا ويسارا يسد عليها منفذها الوحيد. وأخيرا وجدناه يقفز مرتميا فوق أحد الكلاب بعد أن حاصره في إحدى الزاويتين. كان الظلام يعوقنا عن رؤية دقائق ما يحدث، لكننا سمعنا الكلب يطلق عواء مستمرا، ثم وجدناه وقد أفلت من سعيد وأطلق سيقانه للريح مبتعدا حتى اختفى عن الأنظار. نهض سعيد من على الأرض ينفض التراب عن ملابسه واتجه نحونا، ومطلقا ضحكته المعهودة قال: قضمت أذنه. كلب. (تمت)
شيطاني المفترى عليه
كشفت عن نفسك لي للمرة الأولى ليلا كما تفعل كل الشياطين، كان الظلام يغشى حجرة نومي ساعتها ، فكيف تسنى لي أن أراك والظلام لا يضيء ظلاما؟! وكأننا تواعدنا على اللقاء، أنت جئت في موعدك، وكنت أنا في انتظارك، فلم يتملكني الرعب لرؤيتك كما تروي الأساطير القديمة.
الأطفال لا يعرفون الشياطين، ليس لأنهم لا يخطئون، بل لأنهم لا يتعمدون الخطأ، ولقد بلغت الآن من العمر ما يؤهلني للدخول إلى مملكتك.
كدت أركع عند قدميك أستجديك المعصية، لكن النار التي اشتعلت بداخلي كانت أخف وطأة علي من جحيمك، فصبرت، لعلك تبادر أنت لا أنا بالخطوة الأولى فتحمل عني بعضا من وزر الخطيئة. وقد تعلمت بعد أن خبرت خبثك، أنك لا تأتي أبدا دون دعوة صريحة، وخيلاؤك الطاووسي يمنعك أن تطلب، إنك فقط تمنح من يستجدي.
Unknown page
سريعا تجاوز حبي للفتيات رسائل الغرام والزهور الحمراء وفسحة الكورنيش وتبادل الإشارات الخجولة عبر الشرفات وأسطح المنازل، ما عدت أختلس النظرات إلى الفتيات فحسب، أصبحت أنظر إلى كل الإناث من تحت ملابسهن، لكن ضعفي، والسوط في يد أبي، والطرحة البيضاء على رأس أمي تكفلوا بالإبقاء على بكارتي.
مكثت طويلا أبكي خيبتي وأنا أصغي لمغامرات الرفاق في مقاعد السينما الخلفية وعلى درجات السلم وفي الفنادق السيئة السمعة وشقق العزاب، ولا أدري إن كانوا يبالغون أو يختلقون الوقائع، أو أنني أكذبهم لأنهم يأتون بما لا أقدر على الإقدام عليه.
لأنني قد تربيت على القهر، فقد كان رضاء الناس عندي أولى من اتباع الحق. كنت أخشى أن تنبذني جماعة الرجال، أو أن تأمنني النساء إذا ما خلوت بهن. أردت أن يباركني الشيطان فورا وبأي ثمن، وأن يعلن على الملأ أنني قد اقترفت خطيئتي الأولى وأضحيت ذكرا.
كي يأتيني عونك أيها الشرير ضحيت بالجنة، ورضيت أن يراق دمي قربانا لرضائك. لا رعد ولا برق ولا عواصف ولا زلازل، حضرت ناعما كالأثير، وعلى حافة فراشي جلست، سرت بجسدي رعشة، فانتفضت من نومي ورأيتك تبتسم، فتحت فاهي وما كدت أنطق حتى أومأت برأسك أنك قد فهمت شكواي. كان النوم يغالبني، فأغمضت عيني مستسلما.
أخذت بيدي بنعومة واستسلمت أنا كطفل وديع لا حيلة له، حلقت بي فوق كل المحظورات والنواهي، وفي منزل جارتي الجميلة المتعالية التي ألهبت ذكورتي هبطنا معا. أشرت إلى حجرة نومها فتراجعت وأنا أنهر تلصصك على الآخرين، تركت يدي تفلت من قبضتك دون مقاومة منك، واتجهت أنت صوب التلفاز وجلست تقلب مفتاح القنوات وتحاول إخفاء ضجرك، وبعد قليل رأيتك تستلقي على الأريكة المجاورة وتستغرق في مشاهدة أحد أفلام «ميكي ماوس». أما أنا فقد تصلبت في مكاني ورأيت أن الأولى بي أن أنصرف فورا. تراجعت، ورحت أستطلع المنزل، وعند حجرتها توقفت، والتفت إليك لأرى إن كنت تراقب حركاتي، وما إن أيقنت أنك استغرقت في النوم، حتى انحنيت مسرعا لأنظر من ثقب مفتاح حجرتها. لم أشاهد ما رجوت أن أشاهده، فاعتدلت ووضعت يدي على مقبض الباب مترددا، وعندها أسرعت أنت إلي ودفعتني إلى داخل الغرفة.
رأيتها تستلقي في نعومة تحتضن الوسادة وقد انحسر ثوب نومها الأبيض عن ساقيها الناعمتين وثدييها النافرين. كم كنت أتمنى فقط أن ترد علي تحية الصباح، وها هي الآن وجبة شهية تنادي من يلتهمها، بالأمس كانت ترفل في الحرير وتسبح في السحاب فلا تطالها عين أو يد، وهي الآن أمامي، في متناولي، لحما وأنفاسا وعرقا وملابس صنعت لتخلع. نظرت إليك أستعطف خبثك، واستجبت أنت على الفور، وفي لحظات رأيتها عارية تماما وقد أخذت تستيقظ، ورأتني فما حاولت حتى أن تغطي جسدها، بل مدت ذراعيها تدعوني، وتلفت خلفي فأيقنت أنك أخليت لي الساحة.
هل كانت خادمتك أيها القواد الأكبر، أم أنها إحدى ضحاياك؟
أفقت فلم أجدك عند حافة الفراش، كنت قد فرغت من أداء دورك، وكان علي أن أمضي في الطريق منذ الآن بمفردي، أشعلت بداخلي نارا جوعى لا تطفأ، وتركتني أبحث عن فرائسي.
في مساء اليوم التالي طرقت بابها في جرأة لم أصدقها، رحبت بي، أردت أن أتأكد أن ما حدث بيننا بالأمس لم يكن مجرد حلم، سألتها، طلبت ثمن الإجابة عن السؤال مقدما، أعطيتها كل ما معي، أجابت: نادرا ما أتذكر وجها من الوجوه العديدة التي أراها.
بإرادتي أنا، ومن عرقي وجهدي وأعصابي ومال أبي ونصائح رفاقي، تسوقت واشتريت كل ما يلزمني من وسائل العشاق، وأرقت الدماء زلفى لآلهة الحب، ونجحت بعد مشقة في التهام الثمرة الحرام. وانتظرتك كي تأتي مهنئا، فلم تفعل.
Unknown page
استعذبت الخطيئة وتباهيت بدنسي، وأخرجت لساني للعرف والقانون والأخلاق وأبي ومعلم اللغة العربية، لكن الحياة خارج جدران السجن تجعلك المسئول الوحيد عن مصيرك، فتتمنى لو أعادوا وضع القيود حول معصمك.
في كل مرة وبعد أن تسكن رعشة النشوة في جسدي، ترتخي أعضائي وينشط ضميري معذبا، وبدلا من أن تمد لي يد العون ساعتها، تفر هاربا، إنك حتى لا تعينني على النسيان وتمنحني بعضا من المخدرات التي أدمنتها، وتضطرني لسرقة مال أبي. نعم، أدركت الآن فقط أن حلقات الشر يجب أن تكتمل. أنت تاجر جملة أيها الملعون.
كيف امتدت أظافري تمزق شرف أقرب الأصدقاء إلى قلبي؟! لم تكن زوجته جميلة وما كنت وقتها مشتاقا لأحضان أية أنثى، لكنني بذلت كل جهد ممكن للإجهاز عليها. لقد رقي صديقي إلى الوظيفة التي كنت أطمح لنيلها، إنه بالفعل غير جدير بها، وأنا على ثقة أنه قد اشتراها من بائعي الضمائر. لقد استعنت بك فخذلتني عندما اقترحت علي أن أقدم رشوة معتبرة لقاء اختياري للترقية. رفضت اقتراحك المكلف الثقيل الظل؛ فشراء المخدرات عندي أولى، وكنت أظن أنني بلغت من الفسق الحد الذي يجعلك لا تدخر وسعا لإشباع نزواتي دون ثمن، لكنك شحيح حتى في الشر!
كانت المخدرات تستنزف راتبي الضئيل، وكنت مستعدا أن أبيع أي شيء مهما غلا وعز واستحال تعويضه، كي أطردك من رأسي لبعض الوقت فأتناسى ما اقترفت من ذنوب. كنت أناصبك العداء تلك المرة فوجدتني أستعين بأسلحتك أنت على حربك. كنت غبيا إلى أقصى حد وهزمتني أنت شر هزيمة.
منعت عن أسرتي المبلغ الضئيل الذي كنت أعينهم به على مصاعب العيش، وتراجعت عن المساهمة في تكاليف زواج أختي الصغيرة، وقبلت الرشوة في وظيفتي بفجور. أصبحت في حاجة إلى المزيد من المخدرات فازددت فجرا.
خلف وكيل النيابة الإدارية كنت تقف وترمقني ساخرا، كنت تتشفى في فأر استقوى على ملك الغابة فناصبه العداء، ولكي تؤكد لي أنك وحدك المخلص، ولكي يزداد ريشك المزركش تألقا، همست في أذني بخطة محكمة استطعت بفضل دهائها أن ألصق الاتهام بغيري، وأفلحت، وأفلت من العقاب على ذنب اقترفته عامدا.
تزوجت، وما كان ينبغي لي أن أتزوج، فمثلي لا يثق برجل أو بامرأة. وأظنها كانت زوجة صالحة أرسلتها لي العناية الإلهية، كانت تسهر على راحتي كأم حنون، وتسدي لي النصح كخل وفي، وتحاول إسعادي قدر الممكن كزوجة مطيعة مخلصة، وكانت تحاصر أخطائي كشيخ بار. أما أنا فكنت أكره أبي وأساتذتي في المدرسة والجامعة ورجال الشرطة ونصائح كبار السن، كنت أكره أي سجن يسحق إرادتي مهما بدا جميلا، فبدأت أنفر منها وأحملها خطايا كل السجانين. وحينها أتيت أنت على عجل تقترح علي أن أطلقها، فلما رفضت ألححت علي أن أفعل، فطلقتها. وبدونها أضحت حياتي أكثر قبحا وفسادا، أما هي فقد تزوجت بثري أرمل، منحها من الود والمال ما لم تكن تحلم به لأنها كانت تراعي الله في أبنائه اليتامى. كانت تحول بيني وبينك أيها الشرير فأردت التخلص منها حتى لو كان في بعدها عني سعادتها. مثلك لا يجود بخير، والحقيقة أن زوجتي كانت عصية على إرادتك.
مرت سنوات العمر وأوشكت أن أبلغ نهاية الطريق، فنظرت خلفي أسترجع ما فات. ماذا يفيدك أيها الشيطان لو أن مملكة الجحيم اكتظت بالوافدين إليها؟ لن يجديك التفاخر شيئا لأنك هالك لا محالة وقد كتبت عليك اللعنة، ولو أننا برحمة من ربك نجونا لأضحى مصيرك أكثر بؤسا. تحاملت عليك كي أجد منفذا للنجاة.
صرخت ألعنك، فأتيت على عجل تسد علي طريق التراجع، نهرتك، ونزعت القناع عن وجهك، تراجعت مذعورا، لقد رأيت وجهي أنا وكأنني أنظر في مرآة. (تمت)
حديقة الموت
Unknown page
طالب المواطنون في الدولة العالمية أن يتضمن دستورهم الجديد حق الإنسان في أن يقرر بنفسه متى تنتهي حياته، واعتبروه حقا طبيعيا كالحق في الطعام والشراب والعلاج والسكن والتنقل ، وعلى الدولة أن توفر لمواطنيها الوسائل التي تمكنهم من تحقيق مطلبهم هذا بصورة إنسانية. وقد عكف مجلس الحكماء على دراسة هذا المطلب العام وتقنينه قبل أن يتم قبوله كأحد مواد الدستور.
رأى المشرعون أن الانتحار قرار فردي، غالبا ما يكون متعجلا ويفتقر إلى مبررات جدية، يلجأ إليه الشخص تحت ضغط ظروف طارئة، وأنه إذا ما أمهل هذا الشخص بعض الوقت كي يعيد تقييم موقفه، فإنه سوف يعدل عن قراره، لكن شخصا كهذا لا يصح أن يكون مواطنا في الدولة العالمية؛ فهو ضعيف، متردد، تقوده أهواؤه، وولاؤه لنفسه لا للدولة، ومن الصواب أن يتم استبعاده.
ويشدد الحكماء على قولهم بأن «علينا ألا نكون أكثر ترددا منه، فنمنحه فرصة مجانية لمراجعة قراره، أو نستعطفه لكي يحيا. الجينات المريضة لهذا الشخص يجب ألا تورث لمواطنينا.»
فإما أن يتناول الشخص «حبة الجنة» كما يطلقون عليها، فيفارق العالم على أصوات الموسيقى دون أن يشعر بأي ألم، أو يعدل عن رأيه وتتعلق ذاته المريضة بالحياة، فيساق جبرا إلى معسكرات العمل ليقضي فيها عشر سنوات. هكذا أقر مجلس الحكماء عقوبة التراجع عن قرار الموت الاختياري.
لهذه الأسباب كان اسم «ميتا زد» يبعث على الفزع، وميتا زد هو الاسم الذي أطلق على المؤسسة المسئولة عن تنفيذ قرار الموت الاختياري، إذا ما تخطى الشخص بوابتها الهائلة فقد ذهب في طريق لا عودة منه.
تضم المؤسسة ثلاثة مبان عملاقة تحيطها الأشجار العالية من كل جانب، وخلف تلك الأشجار يرتفع سور شاهق أشبه بأسوار السجون في العصور القديمة. ويستطيع المارة أمام البوابة الرئيسية أن يشاهدوا بسهولة حديقتها الغناء الشاسعة ونافورتها البديعة، وكأن المؤسسة تحاول التملص من هويتها الكئيبة، أو أنها، كما يتندر المواطنون، قد صنعت على هذا النحو كي تغريهم بالدخول! ولهذا أطلقوا عليها اسم حديقة الموت.
في البداية أقبل الناس على الموت كما لو أنهم حرموا من متعته لزمن طويل! وتدريجيا تراجع الإقبال على الموت الاختياري لكنه لم ينقطع، وظلت معدلات الوافدين إلى حديقة الموت ثابتة لسنوات طويلة. وصار الأمر مألوفا حتى بات لا يلتفت إليه أحد، إلى أن نشرت إحدى الصحف إحصائية أشارت إلى أن أعداد الوافدين إلى مؤسسة ميتا زد قد هبطت فجأة في الشهور الثلاثة الأخيرة إلى أقل من العشر، وما زالت آخذة في التراجع.
أثار هذا الخبر فضول الصحفية أرينا، خاصة لأنها كانت مهتمة بما تناثر من أخبار أو شائعات عن مؤسسة ميتا زد، تساءلت: ما دام أن تغيرا لم يحدث في المجتمع أغرى بعض البائسين فجأة بالاستمرار في الحياة، وأن الموت ما زال هو نفس الموت، فلماذا أجفل المنتحرون من هذا الموت المريح الذي يمنح مجانا في ميتا زد؟
أقدمت أرينا على مغامرة لم يسبقها إليها أحد، قررت أن تدخل إلى حديقة الموت وأن تخرج منها أيضا!
بعد ثلاثة أسابيع تقدمت نور، الصديقة المقربة إلى الصحفية أرينا، ببلاغ إلى الإدارة المركزية للأمن ذكرت فيه: أن صديقتها تغيبت منذ مدة طويلة، ولم تتمكن إدارة الأمن المحلية في المدينة من العثور عليها أو معرفة أسباب اختفائها. وقالت إن أرينا زميلة لها وتعمل صحفية لدى إحدى المجلات الواسعة الانتشار، وكانت تعتزم قبيل اختفائها إعداد تحقيق صحفي عن حديقة الموت، ترصد فيه مشاعر اللحظات الأخيرة لمن اتخذوا قرار الموت الاختياري، فتقدمت بطلب للمؤسسة المعنية ورفض طلبها. ووجدت أرينا أن الحل الوحيد لمشكلتها هو أن تتقدم بطلب للموت الاختياري وتعيش التجربة كاملة، وما إن تفرغ من مهمتها حتى تكشف عن شخصيتها الحقيقية للمسئولين هناك. وأضافت الصحفية نور أنها أقلت زميلتها في سيارتها الخاصة حتى بوابة ميتا زد، ولم تسمع عنها شيئا منذ ذلك اليوم.
Unknown page
أخفت نور الغرض الحقيقي من دخول زميلتها أرينا إلى ميتا زد كي لا تثير ضدها حفيظة المسئولين في إدارة الأمن.
كلفت إدارة الأمن المركزية الكابتن أديمار ببحث الموضوع، فأرسل على الفور مساعده الملازم عمرو إلى ميتا زد ليجمع كل ما يمكن من بيانات عن رواد المؤسسة خلال السنة الأخيرة، وبيانات العاملين بها، وكذلك أية معلومات عن الصحفية أرينا. أما الكابتن أديمار فقد انطلق للقاء الصحفية نور .
أكدت نور من جديد أنها أوصلت أرينا إلى بوابة ميتا زد بنفسها، وكانت كلماتها ونبرة صوتها توحيان بأنها تحمل المؤسسة مسئولية اختفاء صديقتها.
سألها الكابتن أديمار: أتعتقدين أنها اختطفت؟
أجابت نور: أو قتلت، فربما توصلت خلال تحقيقها الصحفي إلى رصد مخالفات تشكل خطرا على العاملين بالمؤسسة.
رد أديمار: حسك الصحفي قد يضخم أمورا هي في الواقع بسيطة ومألوفة. لا تنسي أننا نتحدث عن مشاريع موت لبشر قد نفضوا أيديهم من الحياة كلها، وأي مخالفات ترتكب في تنفيذ مشروع الموت لن تؤدي إلى شيء إلا إطالة الحياة! فمن نعاقب؟ وعلى أي شيء؟
ما قاله الكابتن شوش تفكيرها، فحديثه منطقي، والثقة التي يتحدث بها تجبرها على التراجع عن ظنونها، لكن نور ظلت بعد اللقاء على يقين بأن هناك خطأ ما؛ ولذا فقد عقدت عزمها ألا تدع الأمر كله بيد الأمن، وعليها أن تعيد النظر فيه معتمدة على مهارتها الصحفية.
أكدت البيانات التي جمعها الملازم عمرو صحة الإحصاءات التي نشرت في الصحيفة، والتي تشير إلى التناقص الملفت والمفاجئ في أعداد الوافدين على ميتا زد، وأكدت في الوقت ذاته أن المؤسسة لا تسعى لإخفاء الأمر. وكانت المفاجأة التي أثارت دهشة الكابتن أديمار أن البيانات تخلو تماما من ذكر أي شيء عن أرينا؛ فلا هي دخلت ميتا زد، ولا أنهت حياتها، ولا أرسلت إلى معسكرات العمل، فقفزت بعقله فرضية لا تخلو من منطق، هي أن الأسباب التي جعلت الناس يبتعدون عن المؤسسة، هي ذاتها التي تفسر سبب اختفاء أرينا، إن كانت أرينا قد دخلت ميتا زد بالفعل.
دقق أديمار في بيانات العاملين بالمؤسسة فلم يجد شيئا فيها يلفت النظر، لكنه توقف عند اسم البروفسير ماريو رئيس المؤسسة؛ فالاسم بدا مألوفا لديه، وهذا يعني أنه شخصية معروفة، فهل يستحق منصبا متواضعا كهذا أن يشغله شخص جدير بالاعتبار! لم يكن أديمار ليتجاهل هذه الملاحظة وسط هذه الضبابية التي تكتنف مأموريته.
بعد أن جمع أديمار بعض المعلومات الأولية عن البروفسير ماريو، قرر اللجوء لأحد أساتذة الجامعة والذي يعمل في نفس تخصص ماريو.
Unknown page
ذكر الأستاذ الجامعي أنه عمل تحت إشراف ماريو لعدة أشهر في مركز الهندسة الوراثية، وهو عالم جليل لا ينكر أحد نبوغه، وقيل وقتها إنه يعمل في أحد المشاريع الكبرى، وكل ما يعرفه أن المشروع محاط بسرية تامة.
سأله أديمار: هل ما زال هذا المشروع قائما إلى اليوم؟ - سبق أن ذكرت لك أنني لا أعلم ما هو المشروع ولا أين تجرى أبحاثه. - هل تعلم أن البروفسير يرأس حاليا مؤسسة ميتا زد؟ - أعلم، ولا أفهم كيف لشخصية مرموقة مثله أن يقبل بوظيفة «حانوتي» متعهد لدفن الموتى!
ترك الكابتن أديمار قيادة السيارة إلى مساعده الذي استمر يدور حول سور المؤسسة ولا يدري سببا لما يفعل، وظل الكابتن يدقق النظر إلى مباني ميتا زد لفترة، ثم طلب من الملازم عمرو أن يصف له مباني المؤسسة من الداخل. ذكر عمرو أن المؤسسة تضم ثلاثة مبان رئيسية؛ الأول مخصص للنزلاء، والثاني للشئون الإدارية، والمبنى الثالث الأضخم يضم المعامل ومراكز الأشعة وقاعات الفحص الطبي ... وهنا قاطعه أديمار متعجبا: أشعة وفحص طبي! أتراهم يسعون للاطمئنان على صحة موتاهم!
فغر الملازم فاه: كيف فاتتني هذه الملاحظة؟ لقد رأيت هذا المبنى من الداخل، إنه مجهز تجهيزا متطورا جدا.
أكمل أديمار: إن مباني المؤسسة أضخم بكثير جدا من احتياجاتها المعلنة، كما أن جيش العاملين بها ومؤهلاتهم العلمية يتعديان بكثير طبيعة المهمة التي تقوم بها المؤسسة.
قبل أن يتناول أديمار إفطاره، تم إبلاغه بأن الصحفية نور تود لقاءه بشكل عاجل، فأسرع إليها. أخبرته نور أن مصدرا، رفضت ذكر اسمه، أبلغها بأن الإدارة المحلية للأمن تلقت عشرات البلاغات التي تتهم ميتا زد بارتكاب مخالفات جسيمة، وقد رفض المصدر الكشف عن طبيعة هذه المخالفات. وذكرت نور أن كل البلاغات لم تكن تحمل أي اسم، باستثناء بلاغين تحرت هي عنهما على أمل اللقاء بمن أرسلهما، فاكتشفت أن الأول لباحث في مركز العلوم الاجتماعية ومحتجز الآن في مصحة عقلية ونفسية ومحظور زيارته، والمفاجأة أن الثاني كان وما زال إلى الآن يعمل في مؤسسة ميتا زد، وقد أنكر حينما تم سؤاله أي صلة له بالبلاغ.
بهدوئه المعتاد قال أديمار: إنك تقحمين نفسك في أمور قد تكون مصدر خطر عليك. مسموح لك بالطبع بعدم الإعلان عن مصادرك، وإن كان التصريح به قد يجنبنا الكثير من المتاعب.
أدركت نور مقصده فهزت رأسها بالرفض، فأكمل: هذا المصدر طبقا لروايتك أصبح معرضا هو الآخر للخطر، ومن واجبنا حمايته.
قالت: لقد أبدى استعداده للإدلاء بشهادته إن تطور الأمر فوصل إلى المحكمة.
لم يجد الكابتن منفذا يصل عبره لمعرفة هوية هذا المصدر، فاختتم حديثه محذرا نور من معاودة التدخل في سير التحقيق، لكنه تعمد أن يكون هذا التحذير أقرب للنصيحة منه إلى الأمر الواجب النفاذ.
Unknown page
في اليوم التالي توجه أديمار إلى إدارة الأمن المحلية للاطلاع على تلك البلاغات، فتلقى من كل المسئولين ردا واحدا يفيد بأنه تم إرسال البلاغات للإدارة المركزية، وأنهم لا يعرفون أي شيء عما احتوته. أثار هذا الإجماع شكوكه، لكنه أرجأ بحث الأمر إلى حين.
كلف الملازم عمرو بمهمة مراقبة الصحفية نور، وليومين متتاليين لم يلحظ الرجل شيئا غير عادي سوى أنها لا تذهب إلى عملها في المجلة، ولا تبرح منزلها إلا للتسوق أو للذهاب إلى المغسلة. وفي وقت متأخر من الليل في اليوم الثالث، فوجئ الملازم عمرو بأصوات صرخات عالية رجح أنها تصعد من شقتها، فأسرع بالصعود إليها، وكان غريبا أن باب شقتها كان مفتوحا، وعندما دخل وجدها ملقاة على الأرض فاقدة الوعي وحولها بضعة أشياء مبعثرة، ولم تكن هناك آثار ظاهرة لجروح أو كدمات.
نقلت الصحفية نور إلى أحد المراكز الطبية، وأفاد الأطباء هناك بأنها تعاني من إجهاد عصبي حاد، وأنها سوف توضع تحت الملاحظة لعدة أيام، ومنعت عنها الزيارة.
لم يمض سوى أسبوع واحد منذ آخر لقاء جمع بين الكابتن أديمار والصحفية نور، ولهذا تعجب أديمار من التغير الكبير الذي طرأ على نور خلال أيام قليلة فقط. عندما دخل حجرتها في المركز الطبي بصحبة أحد الأطباء، كانت نور نائمة وإلى جوارها كان يجلس رئيس تحرير المجلة التي تعمل بها. بدت نور شاحبة هزيلة، والعرق يتصبب من جبينها بغزارة، ومن وقت لآخر كانت أطرافها ترتجف وتفتح عينيها للحظات وسريعا ما تغلقهما. انتظر الحضور حتى أفاقت، أو استيقظت، ونهض الطبيب يفحصها ويهمس إليها ببعض الكلمات. كانت مرهقة للغاية حتى إنها وجدت صعوبة في الجلوس على السرير فساعدها الطبيب حتى استندت إلى إحدى الوسائد. كانت شاردة ولا تستقر عيناها على شيء أو أحد، واستغرقت بعض الوقت إلى أن أدركت وجود أديمار ووجود رئيس التحرير. سألها الكابتن: ماذا حدث؟
بصوت خافت ولحظات توقف وجمل مبتسرة، ذكرت نور أن كل ما تتذكره أن صوتا أيقظها من نومها أثناء الليل، ولم تتبين مصدر ذلك الصوت، ربما كان نداء، أو صوت ارتطام، أو شيئا آخر. وكان من الصعب عليها أن تعود للنوم بعد أن استيقظت، فجلست إلى جهاز الحاسوب، وفوجئت بأن كل ما حفظته على الجهاز من بيانات وصور وأفلام وغيرها قد تلاشى تماما. وعندما تفحصت بريدها الإلكتروني وجدت رسالة مفادها أن المجلة قد وافقت على منحها إجازة لمدة أسبوعين، رغم أنها لم تتقدم بطلب بهذا الشأن، وقد صدق رئيس التحرير على قولها وأنكر صلة المجلة بالرسالة، وأكدت نور أن الرسالة لم تكن تحمل أي اسم أو عنوان للمرسل.
سألها: لماذا صرخت؟
تعجبت: لا أذكر أنني صرخت، ولا أعلم من الذي أتى بي إلى هنا.
توقفت لبرهة وهي شاردة، ثم أردفت: لقد رأيت ... لا لا ربما كان حلما. - يقولون إن باب الشقة كان مفتوحا، هل كنت بمفردك في المنزل؟ هل طرق بابك أحد؟ هل كنت تهمين بالخروج؟
ألحت نور أن يستمر حديثها مع الكابتن، لكن الطبيب أصر على أن تتوقف عند هذا الحد.
اصطحب أديمار رئيس التحرير أثناء خروجهما من المركز، بادر رئيس التحرير قائلا: حدثتني نور مرات في الأمر. ألا ترى أي علاقة بين ميتا زد وما يحدث لها الآن؟ وما حدث كذلك لزميلتها أرينا؟ - نحن لا نعرف إلى الآن ما الذي حدث لأرينا. - وجود مجموعة من العلماء في مؤسسة كتلك يثير الكثير من الأسئلة؟
Unknown page