Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Genres
لكن، كان موقع كيب كانافيرال مثل حوض الأسماك ؛ فالجميع في إمكانهم حضور عمليات الإطلاق. وكان ثمة ناد محلي للسيدات اسمه «ميسيل مسيز»؛ حيث كانت عضواته يرقبن عمليات الإطلاق من الشاطئ، وهو ما عنى أن نجاح عمليات إطلاق الصواريخ أو فشلها كان مرئيا للجميع؛ ومن ثم، كان من الصعب على أعضاء الكونجرس والصحافة تصديق النجاح الوشيك لهذه البرامج، في الوقت الذي كانت ثمانية صواريخ من إجمالي أحد عشر صاروخا قد انفجرت في المنصة أو سقطت من السماء محطمة إلى أجزاء متطايرة ملتهبة. وتعارضت هذه الكوارث الهائلة بحدة مع الإنجازات التي كان سيرجي كوروليف على وشك تحقيقها، بعد إخفاق صاروخه القوي طراز «آر-7» في الانطلاق عندما كان يجري اختباره في سرية تامة.
كان الصاروخ «آر-7» أكبر حجما وأكثر قوة بكثير من الصاروخين «أطلس» و«ثور»، وكانت قاعدة إطلاقه أكثر تعقيدا من قاعدة إطلاقهما؛ فقد نقلت مكونات الصاروخ - الصاروخ الأساسي والصواريخ المعززة الأربعة الموثقة به - إلى تيوراتام بالقطار، ليجري تجميعها في حظيرة طائرات أكبر حجما. ثم نقل الصاروخ بعد تجميعه بالكامل، وهو منبطح في وضع أفقي، إلى منصة الإطلاق عن طريق القطار أيضا. وكتب المحلل نيكولاس جونسون متحدثا عن هذه المنصة، أنها كانت «تشبه إلى حد كبير شرك حيوان ضخم، على أهبة الاستعداد للقفز والإيقاع بكل ما كان يقع في قبضته داخل الشرك». وكانت هذه المنصة هي منصة «تيولبان» (أي زهرة التوليب)، التي تتميز بهياكل كبيرة على شكل زهرة التوليب مكونة من عوارض من الصلب تحافظ على بقاء الصاروخ في موضعه، علاوة على توفر منصات عمل لإجراء عمليات الفحص. وخلال عمليات الإطلاق، كانت حواف المنصة تنغلق إلى الداخل كزهرة التوليب، وكان عادم الصاروخ، الذي تبلغ قوة دفعه 880 ألف رطل، يصطدم بعاكس لهب هائل مطلقا موجة هائلة من اللهب تفرغ وتصب في «الاستاد»، وهو حفرة عميقة هائلة بجوار منصة الإطلاق.
موقع كيب كانافيرال في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين (دون ديكسون ).
شرع كوروليف في عمليات الإعداد لمحاولة الإطلاق الأولى في فبراير 1957، آملا في إتمام عملية الإطلاق النهائية في الشهر التالي. واصطدم كوروليف بعقبتين أفضتا إلى تأخير عملية الإطلاق، وتبددت فرص إطلاق الصاروخ في مارس، مثلما تبددت المواعيد المقررة في أبريل. وأخيرا، في 15 مايو، انطلق أول صاروخ «آر-7». حدث تسرب في أحد أنابيب الوقود؛ مما أدى إلى إطلاق لهب أفضى بدوره إلى وقوع انفجار تفككت على أثره أجزاء الصاروخ بعد مرور مائة ثانية فقط على عملية الإطلاق، وتبين أن ذلك كان بسبب عملية تجميع غير متقنة في مصنع الإنتاج التابع لكوروليف نفسه.
في 9 يونيو، قبل يومين من إجراء المحاولة الأولى لإطلاق الصاروخ «أطلس»، حاول كوروليف مجددا؛ وفي هذه المرة، لم يتمكن الصاروخ من الانطلاق. وكان السبب مجددا يرجع إلى كوروليف؛ حيث كان أحد الفنيين في المصنع قد ركب صمام الوقود في وضع معكوس. وكانتا هاتان حالتي فشل متواليتين؛ مما يعني أن الأمر ينطوي على ما هو أكثر من مجرد مصادفة؛ إذ مثلما أشار كاتب سيرته، ياروسلاف جولوفانوف، قائلا: «لم يكن كوروليف يبدأ أبدا عملية استقصاء مصادر الفشل باستقصاء أخطائه المحتملة أولا.» وكان يفضل دوما التصرف كما لو كان تصميم الصاروخ خاليا تماما من الأخطاء، وكان يحاول إلقاء اللوم على جلشكو متى استطاع ذلك، آملا في أن تكون المشكلة بسبب أحد المحركات. لكن جلشكو كان يرد عليه اتهامه قائلا: «ماذا عنك وعن صاروخك؟ أتراك قديسا؟» وفي ظل هذه المشاحنات، كانت المشكلات تستمر في بعض الأحيان دون حل.
كان كوروليف مصدر المشكلات هذه المرة، لكنه كان لا يزال يحاول التنصل منها؛ فقد كتب تقريرا، أعد فيه افتراء متقنا، يسرد فيه جاهدا الأسباب المحتملة للعقبات التي وقعت في عمليات الانطلاق، بينما لم يشر إلى «أكثر الأسباب رجحانا» إلا قرب نهاية التقرير. ولم يفلح الأمر؛ فرؤساء كوروليف كانوا يتمتعون بخبرات واسعة، حتى إن كوروليف فشل في خداعهم. قال أحدهم: «يا لك من رجل ماكر! تكثر من الذم في المشكلات التي ربما تسبب فيها الآخرون، وتكثر من الإشادة بالإنجازات التي قمت بها!»
كتب كوروليف إلى زوجته قائلا: «الأمور تسوء، ومزاجي سيئ. لن أخفي عليك الأمر، فمن الصعب جدا تجاوز عقباتنا. ثمة حالة من الجزع والقلق. تبلغ درجة الحرارة هنا 55 درجة مئوية.»
3 (حوالي 130 درجة فهرنهايت.) كان توتر كوروليف واضطرابه يتجلى بطرق مختلفة، وفي كثير من الأحيان، كان قويا؛ على سبيل المثال: خلال يومين جرى فيهما تأجيل عملية الإطلاق الأولى لصاروخ من طراز «آر-5» يحمل سلاحا نوويا عام 1956، لم يستطع كوروليف النوم إلا لفترات قصيرة للغاية، واكتشف مساعدوه أنه كان يعاني من إجهاد عصبي شديد. وأصيب أحد النواب المهمين بحالة إعياء شديدة وتورم وجهه بصورة مريعة، وأصيب كوروليف نفسه باحتقان في الحلق وخضع للعلاج بحقن بنسلين.
في 11 يوليو ارتفع الصاروخ «آر-7» الثاني صوب السماء، ومع ارتفاعه وبداية ميله، صنعت مجموعة محركاته المتصالبة شكل صليب مشتعل في السماء. ويذكر أن الإمبراطور الروماني قسطنطين، في أوائل القرن الرابع، قد رأى رؤيا كهذه، مصحوبة بعبارة «ستنتصر باسم هذه العلامة». بيد أن كوروليف لم ينتصر باسم هذه العلامة؛ حيث خرج الصاروخ عن نطاق السيطرة وتحطم، وكانت المشكلة ترجع هذه المرة إلى نظام التوجيه، وكان كوروليف سعيدا وهو يقول لزملائه: «اذهبوا إلى نيكولاي بيليوجن (المسئول الرئيسي عن نظام التوجيه)، واجلسوا هناك حتى تجدوا الإجابة.»
مع ذلك، حققت المحاولة الثالثة نجاحا خارقا؛ ففي 21 أغسطس، نجح صاروخ «آر-7» آخر في الانطلاق إلى مدى 4000 ميل، ليكون بذلك أول صاروخ في العالم يحلق على مسافة تتعدى القارات. وتحطمت الرأس الحربية، التي كانت نموذجا محاكيا وغير حقيقية، فوق كامشتكا، لكن لم يكن الأمر مهما. وفي غمرة تأثره البالغ بهذا الإنجاز، ظل كوروليف مستيقظا حتى الساعة الثالثة صباحا، يتحدث بحماس إلى أعضاء فريق الإطلاق عن احتمالات القيام برحلات فضائية.
Unknown page