Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Genres
بعد ذلك، ألغت القوات الجوية عقد «كونفير» تحت وطأة تخفيضات الميزانية. ولكن، كان لدى الشركة بعض الأموال غير المنفقة، التي استطاعت أن تستخدمها بالإضافة إلى أموالها الخاصة، وحصل بوسارت على تصريح لبناء ثلاثة صواريخ طراز «إم إكس-774»، انطلقت من قاعدة وايت ساندز خلال عام 1948. وكانت مصممة لبلوغ ارتفاع مائة ميل، بيد أن الصواريخ الثلاثة توقفت محركاتها ولم تفلح في الانطلاق، ولم تبلغ أكثر من ثلاثين ميلا فقط. وبعد عملية الإطلاق الثالثة، استطاع مهندسو بوسارت تحديد المشكلة وأملوا في إجراء محاولة أخرى ربما تسفر عن نجاح كامل. ولم يكن الأمر متعلقا بالميزانية.
كانت «كونفير» قد خسرت عقد بناء الصاروخ «كروز» البعيد المدى «تيتوتلر»، وهو العقد الذي فازت به شركة «نورثروب إيركرافت»، الشركة التي بنت طائرة مشابهة بلا طيار باسم «سنارك». حاولت «كونفير» الترويج لصاروخها «إم إكس-774» باعتباره صاروخ تجارب، لكنه خسر المنافسة أمام الصاروخ «فايكنج» الأكبر حجما والأكثر قدرة. وفي الوقت المناسب، صمم الصاروخ «مانهاتن» على غرار «أطلس»، وهو أول صاروخ باليستي أمريكي حقيقي عابر للقارات، وكان يعتمد في تصميمه إلى حد كبير على نموذج صواريخ «إم إكس-774» لبوسارت. ولكن، هذا كله كان لا يزال في المستقبل البعيد، ويقع خارج إمكانات خطط القوات الجوية وقتئذ. بذل بوسارت مجهودا بطوليا واكتسب خبرة ثبت في نهاية المطاف أنها لا تقدر بثمن، إلا أن ما كان يعوقه في تلك الأثناء هو عدم اهتمام القوات الجوية بالصواريخ الكبيرة، وهو ما حتم عليه الانتظار إلى حين تحسن الأحوال .
سرعان ما نما اهتمام القوات الجوية بالصواريخ، بيد أنها كانت صواريخ نفاثة طراز «كروز»، وكانت في حقيقة الأمر عبارة عن طائرات بلا طيار. كان الصاروخ «سنارك» الذي يبلغ مداه 5000 ميل أحد هذه الصواريخ، وكان ثمة صاروخ آخر هو الصاروخ «ماتادور» من إنتاج شركة «مارتن»، الذي كان يبلغ مداه 600 ميل. استطاعت هذه الطائرات التحليق باستخدام المحركات النفاثة التقليدية، دون حاجة إلى صواريخ، ولم تكن تنطوي على مشكلة الاحتراق مثل النيازك. وكانت هذه الطائرات تحتاج إلى نظم طيران آلية عالية القدرة؛ إذ كان يتعين على نموذج «سنارك» التزام مسار ثابت لمدة عشر ساعات أو أكثر، بينما لم تكن نظم الطيران الآلي في الحرب العالمية الثانية تستطيع الحفاظ على طائراتها في مسار ثابت لأكثر من خمس عشرة دقيقة أو ما يقرب من ذلك. لكن في معظم الجوانب الأخرى، بدت المتطلبات الفنية لصواريخ «كروز» هذه تقليدية تماما.
مع ذلك، توافرت الفرصة لاستغلال هذا الاهتمام بصواريخ «كروز» باعتبارها انطلاقة نحو جهد بحثي طموح كان يمكن فعليا أن يضع الأساس لتطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات. انتهزت هذه الفرصة شركة «نورث أمريكان أفياشن»، وقاد جهود التطوير ويليام بولاي؛ حيث رسمت جهوده المسار الرئيسي في علم الصواريخ الأمريكي.
ولد بولاي في ألمانيا عام 1911، وكان الاسم هيجونوتيا في الأصل؛ إذ كان أسلافه قد فروا من الاضطهاد الديني في فرنسا أثناء فترة حكم لويس الرابع عشر، وكان والده ضابطا في الجيش الألماني. ثم في عام 1924، وسط الأضرار البالغة للتضخم في فترة ما بعد الحرب، رحلت عائلته عن منزلها في شتوتجارت، وهاجرت إلى إيفانستون بولاية إلينوي؛ حيث وجد بولاي الذي كان طالبا في السنة النهائية في المرحلة الثانوية عملا في مخزن فحم. وأقام بولاي الشاب في مدينته الأم، حيث انضم إلى جامعة نورثوسترن؛ وفي عام 1933، مثلما تذكر أرملته جين: «جاء ذات يوم يقفز عبر حرم الجامعة وعيناه تلمعان، وكان قد حصل وقتها على منحة بقيمة 300 دولار أمريكي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.»
كان لا يزال أمامهما عام على الزواج، بيد أنها تبعته إلى الساحل الغربي، مسجلة نفسها لإتمام سنتها النهائية في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، بينما التحق هو بكلية الدراسات العليا. وتتذكر ذلك قائلة: «كنت أذهب إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في عطلة كل أسبوع، مستقلة الترام. في المعهد، لم يكن ثمة وقت كثير للخروج معا. وفي معظم الوقت، كنت أجلس إلى جانبه بينما كان يستذكر دروسه.» جذب عمله اهتمام فون كارمان، الذي اتخذه مساعدا له؛ وأجريا عمليات حسابية لإقامة قبة مرصد ماونت بالومار، وحاولا فهم هيدروديناميكا آبار البترول. وتواصل جين ذكرياتها قائلة: «كان فون كارمان يبدأ في طرح أفكاره في الساعة العاشرة مساء تقريبا، ويواصلان العمل حتى الساعة الثالثة صباحا. ثم كان بيل يعود بعينين أجهدهما التعب، ويذهب إلى الصف في تمام الساعة الثامنة صباحا في اليوم التالي.»
5
أعجب بولاي أيضا بفرانك مالينا، وكان من المعتاد أن ينظم طلاب الدراسات العليا حلقات دراسية، وبالفعل نظم بولاي حلقة دراسية حول بناء طائرة صاروخية تبلغ سرعتها 1200 ميل في الساعة. وانضم أيضا إلى مالينا في أرويو سكو، حيث جثم وراء كومة من أجولة الرمل لإجراء اختبار صاروخي مبكر. لكن على الرغم من اهتمامه بالصواريخ، لم يكن يعتزم أن يبدأ حياته المهنية من خلال مجال لا تزال معالمه غير واضحة. وكان موضوع رسالته في الدكتوراه عبارة عن بحث على غرار بحوث فون كارمان حول نظرية الأجنحة، ولم يكن يتناول شيئا مستقبليا أكثر من مجال ديناميكا الهواء التقليدي. ظل بولاي فترة يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا كمدرس شاب، ثم التحق بجامعة هارفرد عضوا حديث السن في هيئة التدريس. وفي هارفرد بنى نفقا هوائيا، في الطابق السفلي لأحد مباني الجامعة، مستخدما محركات كهربية إضافية من مترو أنفاق بوسطن.
مع ذلك، استطاع بالكاد أن يفلت من نذر الحرب التي كانت تلوح في الأفق. وكان النازيون يمتلكون منظمة تضم مناصري الولايات المتحدة؛ المنظمة الألمانية- الأمريكية، وهي المنظمة التي اتصل أحد أعضائها ببولاي، آملا في أن تسهل أصول بولاي الألمانية انضمامه إلى المنظمة. وتتذكر جين رده قائلة : «كان بيل مستاء للغاية من فكرة مساعدتهم، فخرج وتبع أخاه يوجين، الذي كان قد انضم قبل ذلك إلى قوات الاحتياط في البحرية.» وكان يوجين عالم أرصاد عرضت عليه البحرية الانضمام إلى مكتب الأرصاد الجوية التابع لها؛ أما ويليام، فعرضت البحرية عليه وظيفة في مجال الصواريخ.
في سبتمبر 1941 استدعته البحرية في مهمة، ووصل إلى واشنطن ووجد أن عليه التعامل مع أدوات ربط الأجزاء المعدنية مثل الصواميل والمسامير، ولم يرق الأمر له، لكنه كان مستعدا لاستخدام علاقاته. وكان بعض زملائه في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا قد صاروا ضباط بحرية في رتب عالية، فطلب بولاي المساعدة منهم؛ وفي غضون يومين، جرى نقله إلى فرع تطوير محطة توليد الطاقة في مكتب الملاحة الجوية في أنابوليس.
Unknown page