Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Genres
مع ذلك، كان المكوك الفضائي يثبت أنه من أوهن المشروعات التي توضع فيها كل خيارات البلاد؛ فقد صمم على أمل إجراء خمس وخمسين رحلة قبل أن يستدعي الأمر إجراء عملية إحلال وتجديد شاملة. بدلا من ذلك، استدعى الأمر حلها جميعا كل ثلاث رحلات، لإحلال أرياش التوربين في المضخات التوربينية. كان كل محرك يكلف 36 مليون دولار أمريكي، وكان مزيج الميزانيات المحدودة وأسلوب الإدارة الموجهة نحو النجاح يعني عدم توافر كثير من قطع الغيار؛ وكنتيجة لذلك، يمكن أن تتسبب مشكلات صغيرة في محركات بعينها في تعطيل الجدول الزمني للرحلة بأسرها.
في ديسمبر 1981، أفضت حادثة صغيرة في «روكيت داين» إلى تمزق أنبوب قطره ثماني بوصات ما أدى إلى فكه من غرفة الاحتراق. ثبته العاملون في موضعه عن طريق اللحام، واختبروا اللحام لضمان تماسكه، لكنه لم يتماسك. بعدها بعام، بينما كان هذا المحرك موضوعا في المركبة «تشالنجر» في كيب كانافيرال، تشقق اللحام وتسرب الهيدروجين خلال عملية تشغيل تجريبية؛ هذا التسرب كان من شأنه أن يدمر المكوك الفضائي بتفجيره، لكن استغرق الأمر أسابيع لتحديد موضع التسرب لأنه كان في موضع يصعب الوصول إليه. شحنت ناسا محركا إضافيا من منشأة اختبارات المسيسيبي، لكن كان به أيضا تشقق في اللحام، فشحنت ناسا محركا إضافيا ثانيا، وأفلح الأمر؛ مما سمح بإجراء رحلة ناجحة.
على الرغم من ذلك، لم يكن ثمة أي محركات أخرى في المخزن خلاف هذين المحركين الإضافيين. كان المحرك الإضافي الثاني مخصصا للمركبة كولومبيا، التي أجرت خمس رحلات باستخدام المحركات الثلاثة نفسها. انطلقت كولومبيا مرة أخرى، على متن المركبة «سبيسلاب 1» في أواخر عام 1983، ولكنها كانت المرة الأخيرة، فلم تنطلق هذه المركبة المدارية مجددا حتى يناير 1986. وعندما احتاجت المركبة «تشالنجر» مرة أخرى إلى محرك، في فبراير 1984، لم يجدوا مفرا من الاستيلاء على محرك من المركبة «ديسكفري».
استعادت «ديسكفري» لاحقا مجموعة كاملة من المحركات ، لكن في يونيو أجهضت محاولة إطلاق بسبب عطل في جهاز الكمبيوتر وصمام تالف. لم تفلح الفحوصات المكثفة التي أجريت على مدى ثلاثة أسابيع كاملة في تحديد مشكلة الصمام، وألغى مدير البرنامج الرحلة تماما. نقلت حمولة الرحلة إلى الرحلة التالية التي أعقبت ذلك في أواخر شهر أغسطس، ونقلت حمولة أغسطس الأصلية على متن مركبتين تاليتين خلال الخريف؛ وهكذا سار الأمر.
بالإضافة إلى ذلك، كانت المركبة «تشالنجر» على شفا كارثة في أغسطس 1983، نظرا لوجود مشكلة في أحد صواريخ التعزيز ذي الوقود الصلب الخاصة بها؛ إذ تآكلت بطانة فوهة العادم بشدة خلال فترة تشغيل الصاروخ التي استغرقت دقيقتين، وكان من الممكن أن تحترق البطانة عن آخرها لو استمر تشغيل الصاروخ لمدة ثماني ثوان أخرى. ولو استمر الأمر لمدة ست ثوان بعدها، كانت ألسنة اللهب الساخنة المنبعثة من صاروخ التعزيز ستخترق الفوهة نفسها، وهو ما كان ينذر بوقوع انفجار هائل.
كان البنتاجون يخطط لأن يصبح المستخدم الرئيسي للمكوك الفضائي، متوقعا الاعتماد عليه حصريا متى صار جاهزا للعمل تماما؛ لكن في فبراير 1984، صدق وزير الدفاع وينبرجر على وثيقة سياسة تنص على أن الاعتماد الكامل على المكوك الفضائي «يمثل خطرا غير مقبول على الأمن القومي». في يونيو، سحبت القوات الجوية الثقة من ناسا على نحو فج. أعلنت القوات الجوية أنها ستزيل عشر حمولات من المكوك الفضائي بداية من عام 1988، وأنها ستنقلها على متن صواريخ قابلة للاستخدام لمرة واحدة.
كان جيمس بيجز يدرك تماما أن القوات الجوية ربما تفعل الشيء نفسه مع حمولات أخرى كثيرة خلال السنوات القادمة، وثارت ثائرته لذلك حيث صاح مزمجرا: «المكوك الفضائي هو أفضل نظام نقل فضائي يمكن التعويل عليه على الإطلاق.» لم توافقه القوات الجوية الرأي. كان من المنتظر أن تستخدم المكوك الفضائي من حين إلى آخر، بيد أن مركبة إطلاقه الرئيسية كانت ستصبح نموذجا محدثا آخر من الصاروخ «تايتان 3» المطور من قبل شركة «مارتن ماريتا». أعادت هذه الشركة بناء الصاروخ باستخدام محركات جديدة تعمل بالوقود السائل، زادت من قوة الدفع بنسبة 30 في المائة. أدت المحركات إلى تحسن هائل في الأداء، حتى إن هذا الصاروخ الجديد قد سمي «تايتان 4». تمكن هذا الصاروخ من رفع ما يصل إلى 39 ألف رطل إلى مدار فضائي، وهو ما أكسبه قوة تنافسية كبيرة أمام المكوك الفضائي، الذي كان وزنه زائدا زيادة مفرطة، وكان لا يتخطى في تعزيزه أكثر من 47 ألف رطل. زاد الطين بلة أن الصاروخ «تايتان 4» كان يستوعب حمولات أكبر بكثير من تلك التي كان المكوك الفضائي يستطيع حملها.
جاء تصويت آخر بسحب الثقة في سبتمبر 1985، مع انسحاب «أورثو فارماسوتيكالز» للصناعات الدوائية من شراكتها مع «ماكدونل دوجلاس». ظلت كلتا الشركتين مهتمتين للغاية بإنتاج الإريثروبويتين للحد من الأنيميا، وكانت وحدة المعالجة في انعدام الجاذبية لدى «ماكدونل» تحلق بانتظام على متن بعثات المكوك الفضائي. لكن، طورت شركة ناشئة في كاليفورنيا تسمى شركة «آمجين»، آلية جديدة تعتمد على الهندسة الوراثية؛ من خلال هذه الآلية الجديدة، استطاع علماء الشركة الربط بين جينات ملائمة في صورة بكتريا سريعة النمو. قال أحد مديري الشركة: «إن الفرق بين ما تفعله «ماكدونل» وما نفعله نحن، يشبه الفرق بين نسخ كتاب يدويا في العصور الوسطى واستخدام ماكينة نسخ.» صار بروتين «آمجين»، المسمى «إبوجين»، أكثر المنتجات نجاحا في صناعة التكنولوجيا الحيوية.
تخلت «أورثو» عن شراكتها مع «ماكدونل» لتشكل فريقا مع «آمجين»، وهو ما كان يوضح بجلاء كيف أن الشركات الناشئة تستطيع انتهاز الفرص. حاولت «ماكدونل» مواصلة أنشطتها، لكن بمرور الوقت كان عليها أن تقر بتفوق آلية «آمجين»، لا سيما أنها كانت تعمل على نحو جيد في وجود الجاذبية. كان هذا بمنزلة ضربة مدوية لناسا، التي كانت قد بالغت في شراكة «ماكدونل-أورثو» وجهودهما معا باعتبارها دليلا على إمكانية المعالجة في الفضاء. كانت ناسا قد واصلت جهودها بكثافة خلال عامي 1984 و1985؛ حيث سعت إلى اجتذاب شركات كعملاء من أجل البحوث التجارية على متن المكوك الفضائي، بل عرضت أيضا توفير حيز خال على متن الرحلات، لكن لم تسفر الجهود التي استغرقت عامين عن اجتذاب أي عملاء. في أعقاب ذلك، كانت شركة «ثري إم» هي الشركة الكبرى الوحيدة التي لا تزال تؤدي بعثات في مدارات فضائية. أضعف هذا التطور بدوره من منطق إنشاء محطة فضائية، وهو المشروع الذي كان مؤيدوه قد روجوا له باعتباره ميزة إضافية للصناعة.
ثم جاء يوم 28 يناير 1986، يوم «تشالنجر».
Unknown page