Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Genres
في تلك الأثناء، كانت محطات «ساليوت» المدارية تبرز كعناصر أساسية ومهمة في برنامج الفضاء. كانت ثمة نماذج عسكرية تجري استطلاعات وكانت نماذج مناظرة للمختبر المداري المأهول، حيث كانت ذات سعة داخلية مشابهة. كانت تلك النماذج التي كانت موسكو ستتحدث عنها، بالطبع، مخصصة للأغراض المدنية، كما أنها كانت تشبه «سكايلاب» عموما وكانت ستستضيف على متنها أنشطة مشابهة، مثل الدراسات الطبية للرحلات الطويلة، والأرصاد الأرضية، والدراسات الشمسية. (على النقيض من الدراسات الفلكية ذات الطابع الأكثر تعميما ، قدم علم الفلك الشمسي ميزة التقاط صور فوتوغرافية خلال فترات قصيرة للغاية. كان هذا مهما لأن تحركات أفراد الطاقم - على متن مختبراتهم المدارية - كانت ستحول دون توجيه المناظير بدقة نحو النجوم والمجرات البعيدة في حال استخدام التصوير الفوتوغرافي الطويل الأمد.)
مع ذلك، كانت المركبة الفضائية السوفييتية المأهولة أبسط بكثير من نظيراتها الأمريكية؛ على سبيل المثال: كانت «سويوز» تفتقر إلى وجود أجهزة كمبيوتر على متنها، ونظم توجيه متطورة باستخدام القصور الذاتي، ونظم احتياطية للتدفئة والتبريد. كان رواد الفضاء الروس يتخذون قرارات قليلة على متن المركبة؛ إذ كانت كل الأنشطة تقريبا يجري التحكم فيها من القاعدة الأرضية، بما في ذلك إطفاء الأنوار عند النوم. بالإضافة إلى ذلك، حلق عدد من مركبات «ساليوت» الأولى في مدارات منخفضة؛ مما أدى إلى تلفها سريعا إلى حد ما، وتطلب الأمر إطلاق مركبات جديدة بوتيرة أسرع نوعا ما.
أسفرت بعثة «ساليوت 1»، في عام 1971، عن الحادث المأساوي الذي فقد على إثره طاقم «سويوز 11». لكن، كان موت أفراد الطاقم يرجع إلى مشكلة في «سويوز»، لا في «ساليوت»، وكانت «ساليوت» جاهزة لأنشطة أخرى. حلقت المركبة التالية، «ساليوت 2»، في مدار في أبريل 1973. على الرغم من اشتراكها في اسم «ساليوت» مع مركبة ميشن، كانت مركبة فضائية مختلفة تماما تسمى «ألمظ» (أي الماس)، بناها تشلومي غريم ميشن. كانت عبارة عن مركبة فضائية عسكرية، ذات منظار كبير كان يشغل الحيز من الأرضية إلى السقف. كانت المركبة ترصد أهدافها من خلال منظار بصري كان يتحرك لتعويض حركة سطح الأرض، معطيا صورا غاية في الوضوح.
كان على الطاقم التقاط الصور باستخدام هذه الآلة وتحميضها على متن المركبة، ونقل بعض منها عبر التليفزيون. استطاع أيضا رواد الفضاء الروسيون هؤلاء إرجاع الفيلم نفسه عن طريق استخدام كبسولات قابلة للاسترجاع، كل منها يتضمن صاروخا ارتكاسيا كابحا، ودرعا حراريا، ومظلة، وجهاز بيكون لاسلكيا. كانت مهاجع الطاقم تشمل نوافذ فضلا عن مكان للنوم، ومائدة طعام، ومقعد وثير. وخوفا من طائرات فضائية اعتراضية تابعة لأمريكا، خطط المصممون أيضا لتجهيز المركبة بمدفع سريع الطلقات مضاد للطائرات.
لم يحدث أن حظي أحد من قبل بهذه الميزات. كانت المركبة تتضمن صاروخ مناورات انفجر قبل وصول الطاقم؛ مما أدى إلى إغراق الفضاء القريب بقطع من الحطام والشظايا المتناثرة، فضلا عن إحداث ثقب في هيكل المحطة الرئيسي. بعدها بشهر، أرسلت بعثة إطلاق متابعة مركبة «ساليوت» مدنية إلى مدار فضائي، بيد أنها سرعان ما عجزت عن بلوغه. أصر السوفييت بشدة، وفي يونيو 1974 بلغت مركبة «ساليوت 3» - وهي مركبة عسكرية أخرى - الفضاء وأبلت بلاء حسنا. كان رائدا الفضاء الروسيان اللذان مكثا لمدة أسبوعين في يوليو، وهما بافل بوبوفيتش ويوري أرتيوخين، أول من عاش على متن مركبة «ساليوت» وعادا لقص ما جرى. ساعد في ذلك أن بوبوفيتش كان أحد أكثر رواد الفضاء خبرة في بلاده؛ فقد قاد «فوستوك 4» خلال البعثة الثنائية في عام 1962.
ثم حان دور المركبة المدنية «ساليوت 4» التي انطلقت إلى الفضاء بعد أعياد الكريسماس مباشرة. أطلقت هذه البعثة برنامجا من الرحلات الطويلة التي كانت تهدف إلى مواصلة ما كانت «سكايلاب» قد انتهت إليه. اطلع الأطباء السوفييت على النتائج الطبية التي توصلت إليها «سكايلاب»، كجزء من عمليات التبادل التي سبقت التحام «أبولو» و«سويوز» بعدها بستة أشهر، بيد أنهم كانوا يريدون إجراء فحوصاتهم الخاصة. كرر أول طاقم وصل إلى هذه المحطة، ممثلا في ألكسي جوباريف وجورجي جريشكو، بعثة «سكايلاب» الأولى المكوث لمدة تسعة وعشرين يوما، مع تنفيذ جدول زمني مكثف من الدراسات الطبية والشمسية؛ كما أنهما حظيا بتلك الميزة التي في مركبة «ساليوت» هذه التي قدرها رواد الفضاء أيما تقدير، وهي حديقة صغيرة على متن المركبة، باسم «الواحة»، حيث حاولا زراعة نبات البازلاء. لم يتجاوز حجم الحديقة حجم حقيبة سفر، وذبلت البازلاء في غضون أسابيع، لكنها بدت في الرحلات الطويلة طريقة واعدة لإبقاء معنوياتهم مرتفعة.
أكدت هذه البعثة نتائج «سكايلاب» بإثبات أن رحلة تستغرق ثلاثين يوما لم تكن بالفكرة الصائبة؛ فكل ما تفعله هذه الرحلة أنها تجعل رواد الفضاء يتكيفون جزئيا مع حالة انعدام الجاذبية، بينما تعرضهم إلى جميع المتاعب عند ولوجهم مجددا إلى مجال الجاذبية الأرضية. كان من الواضح أن ثمة رحلات أطول جاهزة للإطلاق، وفي أبريل 1975، صعد رائدا الفضاء فاسيلي لازاريف وأولج ماراكروف إلى متن مركبة «سويوز» لإجراء المحاولة. أصيب صاروخ المرحلة الثالثة بخلل وظيفي؛ فاعتقد المراقبون الأرضيون أن المشكلة كانت في معداتهم، وثارت ثائرة لازاريف حتى إنه لعنهم لعنا قبل أن يدركا أن البعثة في مأزق. أخضعت المركبة لعملية هبوط اضطراري، وصار رائدا الفضاء هذان أول رائدي فضاء يهبطان اضطراريا بينما كانا في طريقهما إلى الفضاء. وبالفعل، هبطا على مسافة ألف ميل من منطقة الإطلاق.
كان مصدر قلقهما الأول أنهما قد يهبطان في الصين، وهو ما قد يضعهما رهن الاعتقال. أثناء تتبعهما لمسارهما، سأل أحدهما بحزن: «لدينا معاهدة مع الصين، أليس كذلك؟» ثم حانت لحظة معاودة الولوج إلى الغلاف الجوي؛ حيث حدث اختراق حاد للغلاف الجوي على نحو لا يشبه بأية حال الهبوط الخفيف والسلس الذي كان موضوعا ضمن خطة الرحلة. تخطت قوى التسارع 18 عندما تجاوز عداد على متن المركبة المقياس، وعلى الرغم من إصابة رائدي الفضاء، فقد نجيا. فتحت المظلات، وهبطت المركبة الفضائية في جبال ألتاي، على منحدر ثلجي، ثم تدحرجت الكبسولة المستديرة على المنحدر الجبلي، متجهة صوب جرف. في الوقت المناسب، علقت حبال المظلات ببعض الأشجار القصيرة وأنقذتهما. وصل رجال الإنقاذ، وأدرك رائدا الفضاء حينها أنهما أصبحا في مأمن حقا؛ حيث كان رجال الإنقاذ روسيين.
بعدها بستة أسابيع حاول الطاقم الاحتياطي، ممثلا في بايوتر كليموك وفيتالي سيفاستينوف، مجددا. كان كلاهما مخضرما؛ فقد شارك سيفاستينوف على وجه التحديد في بعثة «سويوز 9» التي استغرقت ثمانية عشر يوما في عام 1970. بلغا «ساليوت 4» التي كانت النظم على متنها في سبيلها إلى التدهور. كانت الحياة في محطة فضائية تستوجب التحكم في الرطوبة؛ حيث كانت الرطوبة في نفس المرء تصل إجمالا إلى عدة أرطال يوميا، وهو ما كان يجب إزالته من الهواء. لم يكن يتطلب ذلك أكثر من ألواح باردة لتكثيف الرطوبة، بيد أن هذا الأمر لم يفلح على متن «ساليوت 4».
يشير المحلل جيم أوبرج إلى أنه بعد مضي شهر في الفضاء، كان لدى رائدي الفضاء كثير مما يشكوان منه؛ أشار أحدهما قائلا: «كانت النوافذ لا تزال مضببة. بلغ الفطر الأخضر الآن منتصف الجدار. ألن نتمكن من العودة إلى الديار؟» كانت الإجابة: «ليس بعد.» إذ كان عليهما - شأنهما شأن جنود في الحرب الوطنية الكبرى - البقاء في مواقعهما وأداء مهامهما من أجل الوطن. واصل الفطر الأخضر الانتشار وواصل رائدا الفضاء السؤال عما إذا كان في مقدورهما الهبوط. أخيرا، في نهاية يوليو، تلقيا الأمر الذي كانا ينتظرانه. تداخلت رحلتهما مع رحلة أبولو؛ «سويوز»؛ مما استوجب من محطة التحكم الأرضي التعامل مع كلتا المهمتين المنفصلتين في آن واحد. أكدت الأيام الثلاثة والستون التي قضياها في الفضاء التزام موسكو بالرحلات الطويلة في مركبة «ساليوت» المدنية.
Unknown page