Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Genres
كانوا جميعا يرقدون على ظهورهم في المركبة الفضائية في مساء 27 يناير 1967؛ حيث كانوا يجرون تدريبا مطولا. قال شافي على نحو عفوي قليلا: «حريق! أشم رائحة حريق!» ثم جاء صوت وايت بعدها بلحظات، أكثر حزما، يقول: «حريق في القمرة!» في برج المراقبة، تابع المراقبون الأرضيون في حالة من عدم التصديق المشهد على شاشة تليفزيون ذي دائرة مغلقة، بينما كانت ألسنة اللهب تتصاعد بقوة وامتلأت القمرة بالدخان. صاح أحدهم على نحو هيستيري قائلا: «ثمة حريق في المركبة!»
في غضون خمس عشرة ثانية قفز الضغط الداخلي إلى ثلاثة أضعاف الضغط الجوي تقريبا، وتصدعت جدران المركبة. تماوجت ألسنة اللهب في القمرة ثم خمدت، مخلفة دخانا كثيفا فضلا عن أول أكسيد الكربون. أصيب رواد الفضاء الثلاثة بحروق بالغة، بيد أنها لم تشكل خطرا على حياتهم، بل ماتوا بالاختناق.
ماذا حدث؟ كانت مركبة «أبولو» تحتوي على نظام لإنقاذ الحياة، يملأ القمرة بالأكسجين النقي عندما تكون المركبة في مدار فضائي، عند ضغط خمسة أرطال لكل بوصة مربعة، وهو ما يعادل ثلث الضغط الجوي. كان هذا النظام يوفر كمية من الأكسجين أكثر مما في الهواء عند مستوى سطح البحر. لكن، لم يكن هذا يمثل في الفضاء أي خطر لاندلاع حريق؛ لأن الحريق لا ينشب إلا إذا تصاعدت غازات الاحتراق الساخنة في ألسنة النيران من خلال عملية الطفو، وهو ما يسمح بوصول الأكسجين النقي إلى اللهب. عند انعدام الوزن، لا تحدث عملية الطفو؛ ومن ثم تظل الغازات المحترقة قريبة من النيران وتخمدها قبل أن تنتشر.
أثناء عمليات إطلاق «ميركوري» و«جيميني»، كانت ناسا تطبق أسلوب استخدام نظام الأكسجين في القمرة في التجارب الأرضية؛ حيث كانت تملأ المركبة بهذا الغاز عند ضغط أعلى قليلا من الضغط الجوي. استمر هذا الأسلوب في «أبولو». عند اندلاع النيران، كان رواد الفضاء يغمرون في الأكسجين النقي عند ضغط 16,7 رطلا لكل بوصة مربعة، وهو ما يزيد بمقدار خمس مرات عن تركيز الهواء عند مستوى سطح البحر. كان طيار الاختبار سكوت كروسفيلد يقول إن ذلك كان «أشبه بما لو كانوا موجودين في قنبلة ثرميتية شديدة الاحتراق».
كان من الممكن أن تنقذهم فتحة سريعة الإعتاق، وكانت كبسولات «ميركوري» مجهزة بهذا النوع من الفتحات. لكن للمفارقة، كانت رحلة جريسوم، في منتصف عام 1961، هي التي جعلت ناسا تتخلى عن هذه الفتحات في المركبات الفضائية اللاحقة. هبطت كبسولة جريسوم في المحيط الأطلنطي بواسطة مظلة، وكان قد ضغط دون قصد على أزرار المصاريع السريعة الفتح؛ مما أدى إلى فتح فتحة الخروج قبل الوقت المحدد لذلك. امتلأت مركبته بالماء وغطست تحت سطحه، بينما اضطر جريسوم نفسه - الذي كان يتحرك بصعوبة في الماء مرتديا بزة فضائية غير ملائمة - إلى السباحة حتى وصل بر الأمان وكاد يغرق.
كانت التعديلات النهائية في مركبة «أبولو» بسيطة وواضحة؛ حيث شملت فتحة تتضمن زر إعتاق عند الطوارئ، وجهودا كبيرة لجعل القمرة مقاومة للحريق، والأهم من ذلك أنها تضمنت نظاما مكونا من غازين؛ حيث يخفف الأكسجين باستخدام النيتروجين أثناء التجارب الأرضية. لكن، مثلما أشار فون براون قائلا: «كنا بصدد مشكلة لا نعلم عنها شيئا.» وكان ستورمي ستورمز، رئيس قسم الفضاء في شركة «نورث أمريكان أفياشن»، هو من تكبد صعوبات من جراء ما حدث.
كان ستورمز مسئولا عن صاروخ المرحلة الثانية «إس-2» في الصاروخ «ساتورن 5»، فضلا عن مركبة «أبولو»، ورأت ناسا أن أداءه لم يكن مرضيا فيما يتعلق بالصاروخ «إس-2». سجل الصاروخ رقما قياسيا في خفة الوزن، ولإبقاء وزنه خفيفا، تجنب مصممو الصاروخ استخدام المسامير، معتمدين في تصميمه على اللحام. استلزم الصاروخ نحو 3000 قدم من الأجزاء الملحومة، الشديدة الدقة والخالية من العيوب، التي بلغت دقة الكثير منها 1 / 75 من البوصة. بالإضافة إلى ذلك، اختار المصممون سبيكة ألومنيوم لم تكن مفضلة في عمليات اللحام؛ مثل هذا الخيار إجراء آخر من إجراءات تخفيف الوزن؛ لأن السبيكة كانت تكتسب قوة عند تعرضها إلى وقود الغازات السائلة الفائقة البرودة في الصاروخ؛ وهو ما يسمح باستخدام كمية أقل من المعادن في هيكل الصاروخ.
لم يكن يصلح لهذه المهمة عامل لحام تقليدي، يتطاير الشرر من مشعل قرب رأسه الذي يعتمر عليه خوذة؛ كان الأمر يتطلب معدات آلية. لكن، تعطلت عملية تجميع أجزاء صواريخ المراحل الأولى للصاروخ «إس-2»، وزاد الأمر سوءا عندما تحطم صاروخان منها أثناء الاختبارات. استاء مسئولو ناسا كثيرا لذلك، وكان على ستورمز أن يقبل بإجراء تغييرات شاملة في إدارة مشروعه قبل أن تخرج الصعوبات عن نطاق السيطرة. في ظل مرور مركبة «أبولو» بمصاعب مشابهة، أصرت ناسا على رحيله، وإلا فالاحتمال الأرجح أن تفقد شركة «نورث أمريكان» عقدها مع ناسا.
رأى رئيس ستورمز، لي آتوود، في ذلك ظلما شديدا؛ إذ كانت ناسا، وليس ستورمز، هي من اتخذت القرار بملء المركبة بأكسجين عالي الضغط. في حقيقة الأمر، تولت تلك الوكالة المسئولية الكاملة عن الأنشطة التي كانت تتم في مركز كيب، ولم تكترث حتى بأن تخبر ستورمز بما كان يفعله عاملوها. لكن، كان لا بد من وجود كبش فداء للإطاحة به، وكان ستورمز مناسبا لذلك. أثبت ستورمز أنه سيئ الحظ. كان نابليون قد عزل جنرالات لسوء حظهم، وكانت ناسا على استعداد لأن تفعل المثل. في النهاية، كان على كبار مسئولي ناسا أن يبحثوا عمن يشغل منصب ستورمز ليطمئنوا له؛ لم يكونوا يرغبون في الانتظار حتى يتلقوا مزيدا من الأخبار السيئة منه. كذلك، لم تقر الوكالة قط بأنها كانت مخطئة في قرار العزل، بينما لم يكن ستورمز سوى كبش فداء. مع ذلك، ظل ستورمز في «نورث أمريكان»، وأنزل منصبه إلى نائب رئيس؛ ومن ثم، صار كل ما في وسعه هو تقديم توصيات؛ إذ كانت الإدارة الجديدة وحدها هي من لها سلطة التصرف.
أحلت عملية التغيير الجديدة ويليام برجن، الذي كان رئيسا لشركة «مارتن»، محل ستورمز. جاء مع برجن مساعدان مهمان، هما باستيان هالو لإدارة منشأة كيب كانافيرال التابعة لشركة «نورث أمريكان»، وجون هيلي لتولي مسئولية مركبة «أبولو» الفضائية. قال كروسفيلد، وهو أحد أفراد فريق ستورمز المخلصين، شاكيا: «عينوا أشخاصا من شركة «مارتن» في مستويات الإدارة العليا.» لكن، أسفر هذا التغيير الشامل عن نتائج؛ حيث بلغ أداء الشركة المستوى المطلوب.
Unknown page