وكان قادة الجند يفتحون البلدان ويقيمون فيها الولاة والقضاة على النحو الذي ألفوه في الجزيرة العربية، ومن عرضت له مشكلة من مشكلات الإدارة في بلد أجنبي تركها على النحو الذي كان مألوفا في ذلك البلد، إلا ما كان فيه خلاف للدين.
وكل من ولاه النبي عليه السلام في حياته عملا من الأعمال العامة أبقاه الصديق في مكانه، أو رده إليه إن كان قد تحول عنه، أو استأذنه في تحويله عنه إن بدا له من مصلحة المسلمين ما أوجب تحويله، كما كتب إلى عمرو بن العاص:
إني كنت قد رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولاكه مرة، وسماه لك أخرى: مبعثك إلى عمان، إنجازا لمواعيد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت - أبا عبد الله - أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.
وأشار عمر بن الخطاب بعزل خالد بن الوليد بعد أن قتل مالك بن نويرة على غير بينة قاطعة في رأي عمر، وتزوج بامرأته في ميدان القتال وهو أمر تكرهه العرب قبل الإسلام وبعد الإسلام. فاختلف الفاروق والصديق اختلافهما الذي يرجع من كل منهما إلى أصل أصيل في الطباع والنظر إلى الأشياء والرجال: والفاروق وديدنه أن يوقع الجزاء بمن يستحقه كائنا من كان، والصديق وديدنه أن يتألف ويستبقي ولا يبتدئ شيئا بغير سابقة، وساعده على إبقاء خالد سابقة للنبي عليه السلام معه في حرب بني جذيمة. فإنه تعجل يومئذ في قتل بعض الأسرى فوداهم النبي عليه السلام حتى رد إليهم ميلغة الكلب، ورفع يديه يبرأ إلى الله مما صنع خالد، ولكنه لم يعزله من الإمرة أو القيادة. فكانت هذه السابقة أمام الصديق يوم لام خالدا على ما بدر عنه ثم أبقاه.
وما من شيء يدل على تكافؤ العظمة بين الرجلين، كما تدل عليه الحجة التي يعتمد عليها كل منهما حين يختلفان. فما اختلفا قط بحجة تضعف من ناحية، وحجة تقوى من الناحية الأخرى، بل كان لكل منهما حجته الناهضة فيما يجنح إليه، وإن كانت هذه حجة اقتداء، وهذه حجة ابتداء.
جاءت الغنائم والأنفال إلى بيت المال لتوزيعها بين من يستحقونها من الرجال والنساء. فكان الفاروق يجنح إلى تمييز الأنصبة على حسب المآثر والأقدار، وحجته أنه لا يسوي بين من قاتل رسول الله، ومن قاتل مع رسول الله، وكان الصديق يجنح إلى التسوية بين الأنصبة بغير تمييز، وحجته أن «الأعمال شيء ثوابه على الله، وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة.»
وما اختلفت حجة الابتداء وحجة الاقتداء - أو ترك الابتداء - كما اختلفت هاتان الحجتان على مساواة في النهوض والإقناع.
Unknown page