ولم يكن أبو بكر على ما علمنا صاحب «الشخصية الباطشة» التي تروع الناظر إليها لأول وهلة.
ولم تكن سيادة بيته سيادة جبارين يملكون الناس بالبأس والسطوة.
فسبيله إذن أن يعتصم بصدقه ومروءته ليحفظ بهما كرامة الشرف الذي ينتمي إليه، وأن يستزيد من ذلك الصدق وتلك المروءة بما يزيدهما في التمكين ويملي لهما في الثبات والرسوخ، وأن يتجنب فلتات الطبع واللسان ويتنزه عن كل مخل بالوقار مزر بالصيان؛ لأن وقاره وصيانه هما الحجاز القائم بينه وبين كل مهانة واستخفاف، ولو كان باطش المظهر أو باطش السيادة لقد يستغني عنهما بعض الاستغناء في بعض الأحيان. أما وهو بعيد من البطش في مظهره وسيادته فليس من شأنه أن يغفل عن سمت الوقار والمروءة طرفة عين.
وقد عرف الصديق بالحدة وهي أيضا من خلائق هذا المزاج التي يغالبها من يحرصون على وقارهم ومروءتهم أن يستهدفا لجرائر الحدة أو يندفعا في غير عمل حميد.
إلا أن يمس الرجل فيما هو من أخص الخصائص التي يقوم عليها مزاجه وتستقيم عليها عاداته وسماته فعندئذ تعسر المغالبة وتبرز الحدة من مكمنها، وهي على حق إذن في بروزها.
لهذا نرجع إلى حوادث أبي بكر في الحدة والصرامة على خلاف عادته من الرحمة والألفة، فإذا هي كلها مما يمس الصدق والتصديق أو يمس الإيمان، أو يجري مجرى الاستهزاء الذي يمس الوقار.
بلغ أقصى ما بلغ من غضب وحدة في عقاب الفجاءة بن إياس بن عبد ياليل، وبقي طوال حياته يندم على حدته في ذلك العقاب ...
وماذا صنع الفجاءة حتى هاج منه تلك الحدة التي كان يغالبها أقوى مغالبة؟ أثاره في مكمن الثورة فيه ...
كذبه الأمانة، وخدعه وخدع المسلمين، وقتل من قتل من الآمنين، وقلما غضب إنسان كما يغضب الصادق لصدقه المخدوع، ولا سيما الخديعة التي فيها غدر وسفك دماء.
جاءه يطلب سلاحا ليحارب به المرتدين، فأخذ السلاح وحارب به المسلمين الآمنين، وعاث في الطريق ينهب ويسلب ويهدر الدماء، فلما وقع في الأسر لم يجزئه عنده إلا أن يقذف به في النار.
Unknown page