وأي ذنب؟ ... ذنب لو قوبل به غير محمد لأراق فيه أنهارا من الدماء وله حجة من سلطان الدنيا والآخرة.
فلا نذكر استهزاء المشركين به وإعناتهم إياه وإلقاءهم عليه القذر والحجارة، وائتمارهم بحياته وحياة أصحابه وإخراجهم المسلمين من ديارهم إلى أقصى الديار، ولا نذكر العناد والإغاظة والاستثارة لغير جريرة إلا أنهم دعوا إلى عبادة الله والتحلي بمكارم الأخلاق وترك عبادة الأصنام وترك الرذيلة.
لا نذكر شيئا من هذا فهو أطول من أن يحصيه هذا الكتاب، ولكننا نذكر حادثا واحدا تجمع فيه من اللؤم ما تفرق في كثير غيره، وذلك حادث الرسل الأربعين - وقيل السبعين - الذي قتلوا في بئر معونة، ولا ذنب لهم إلا أنهم ذهبوا تلبية لدعوة الداعين ليعلموا من ينشد علم القرآن والدين، غير مغصوب عليه.
فماذا كانت دول الحضارة صانعة بالقاتلين الغادرين لو كان هؤلاء الأربعون أو السبعون مبشرين بالدين المسيحي قتلوا في قبيلة من الهمج الذين يأكلون الآدميين ومن حقهم أن يعذروا كما تعذر الوحوش ... إن بقي من أبناء القبيلة من يروي أنباء المقتلة، فقد يقال إن القوم لرحماء في العقاب! ...
ولم يكن حادث بئر معونة بالحادث الوحيد من حوادث الغدر بالرسل الأبرياء. فلعلنا نختم هذا الفصل عن الصداقة بخير ما يختم به حين نشير إلى غدر قبيلة هذيل بالرسل الستة الذين ذهبوا إليهم ليعلموا من شاء أن يتعلم أحكام الدين وهو آمن في داره، لا إكراه له ولا بغي عليه. فقتلوا جميعا وجيء بأحدهم زيد بن الدثنة أسيرا ليباع ... فاشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، ونصب للقتل فسأله أبو سفيان مستهزئا: «أنشدك الله يا زيد. أتحب أن محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟» فأجابه زيد: «والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ...»
فصاح أبو سفيان دهشا: «ما رأيت من الناس أحدا يحبه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمدا ...» •••
من فعلة كهذه تعلم مدى ما استحقه محمد من حب الأصدقاء، ومدى ما استحقه أعداؤه من جزاء، فقد أحب أصدقاءه وأحبوه لأنه طبع على الصداقة. أما أعداؤه فقد لقوا جزاءهم لأنهم هم طبعوا على العداء والاعتداء.
الفصل الثامن
محمد الرئيس
الرئيس الصديق
Unknown page