هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة ...
فقد عرفت في المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها، ومن ذلك أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، وفحواه أن «سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته، لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك، وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة، فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم.»
وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثا وقديما وعند بداءة الدعوات على التخصيص.
فأولها: كتمان الخبر عمن يحيطون بالنبي عليه السلام، فلا يبعد أن يكون منهم من هو مدخول النية عينا عليه وعلى أصحابه من قبل قريش، ولا يبعد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور، ولا يبعد أن يكون منهم الضعفاء والمخالفون، وإن الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان لسنة حكيمة من سنن النبي عليه السلام في جميع المطالب، وهي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن بالاتباع ... ولهذا كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها على النحو الذي يتبعه قادة الحروب إلى الآن.
ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش كتمان الخبر عن أصحابه، ثم وصايته ألا يكره أحدا منهم على المسير معه بعد معرفته بوجهته، وهذا هو أهم الملاحظات في هذا المقام.
فقد يحارب الرجل وهو مكره مهدد بالموت الذي يتقيه إذ يفر من القتال، ولكنه لا يستطلع وهو مكره ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه، بل لعله ينقلب إلى النقيض فيحرف الأخبار عمدا، أو يتلقاها على غير اكتراث، أو يطلع الأعداء على أسرار أصحابه وهم غافلون عنه.
ولهذا تعاني الدول أكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس، وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة، والمناقضة بعد المناقضة، حتى تطمئن إلى صحته قبل الاعتماد عليه.
وفي الحرب الحاضرة تجربة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرواد المتقدمين ...
فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبطون من الطيارات وراء الصفوف، فيتسللون إلى مراكز المواصلات ويعيثون بين القرى المعزولة، فيشيعون فيها الرعب والحيرة، ويوهمون من يراهم أن الجيش المغير كله على مقربة منهم، فلا جدوى لهم من الاستغاثة أو المقاومة، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم من بعيد.
قيل في الإعجاب بهذه الخطة الهتلرية كثير، وقيل في انتقادها والتنبيه إلى خطرها كثير.
Unknown page