49

بل نحن نخطر هذا في أخلادنا، فنفهم كيف اشتد التغلبيون في حرب المسلمين وكيف اشتد المسلمون في حرب التغلبيين يوم اشتبكت جيوش الإسلام وجيوش الأكاسرة على إثر حروب الردة، فهي شدة لها أوائلها ونهاية جاءت بعد بداية. وكانت رحلة سجاح إلى الجزيرة العربية هي أولى الطلائع في حرب الأكاسرة والإسلام. •••

من جملة هذه الأسباب يجوز لنا أن نقول: إن المدينة ومكة وجيرتهما كانت تقف وحدها في وجه البادية العربية بأسرها، ومن وراء البادية دول كبيرة تنصرها ولا تنصر المدينتين في هذه المعركة.

وقد كانت حروب الردة طائفا من الشر لا شك فيه.

ولكنها ولا ريب لم تكن شرا محضا خلوا من جانب المصلحة والفائدة؛ لأن هذه الحروب وحدت عناصر المدينتين وهما وشيكتان أن تفترقا كل مفترق، فاجتمعت منهما قوة تكافئ كل قوة في البادية على انفراد، وتيسر لهما من ثم أن تأخذا من البادية قوة تفل قوى الدول الواقفة لهما بمرصد قريب ...

ولولا حروب الردة؛ لكان الخلاف بين المهاجرين والأنصار خليقا أن يتشعب ويستفحل، وكان الأنصار فيما بينهم مختلفين شيعتين كبيرتين ثم شيعا صغارا في كل من الشيعتين، وكذلك كان المهاجرون من هاشميين وأمويين ومن سائر بطون قريش، فإن بني هاشم على انفرادهم لم يجتمعوا بينهم إلى كلمة، ولم يكن لهم مطمع في الوفاق بينهم وبين بطون قريش الأخرى، ودع عنك الوفاق بين طوائف المسلمين أجمعين.

فلما تحفزت البادية للوثوب على المدينة، أحس المسلمون جميعا أنهم فريق واحد، مهدد بخطر واحد، فاتفقوا بوحي البداهة التي لا موضع فيها لتعمل التفكير وحيلة الحض والتحريض، ولبثوا متفقين ما كانوا بحاجة إلى الوفاق، وما كان الشقاق بينهم مرهوب العواقب محذور الأخطار.

وغني عن القول، أن خالد بن الوليد كان في وسط هذه الحومة بكل داع من دواعيه النفيسة والعقلية؛ بداعي العقيدة الإسلامية، وداعي العصبية القرشية، وداعي النشأة الحضرية، وداعي القيادة العسكرية التي قدمته إلى طليعة المجاهدين في هذا الميدان.

فشهد حروب الردة من أوائلها إلى نهاياتها، وقسمت له الحصة الكبرى في أهم وقائعها وأعصب أوقاتها، ومنها وقعة واحدة ترجح بها جميعا وتعد من حروب الإسلام الحاسمة في صدر تاريخه، وهي وقعة اليمامة التي انتصر فيها بعد هزيمة قائدين.

وتنقسم أعمال خالد في حروب الردة إلى قسمين: أحدهما الذي اشترك فيه مع كبار الصحابة بقيادة الخليفة في المدينة وما جاورها، والآخر الذي استقل به أو استقل على الأصح بناحيته العسكرية، وهو أعظم عملية في هذه الحروب. •••

توفي النبي - عليه السلام - وجيش أسامة بن زيد في الجرف من أرباض المدينة، والفتنة على مقربة منها تتطلع برءوسها، فعاد فريق منه إلى المدينة وأشار بعض الصحابة على الخليفة أن يرجئ مسيرته ويستبقيه عنده فترة من الزمن ريثما يطمئن في عقر داره خلال تلك الغاشية، فأبى أشد الإباء أن يخلف وصية للنبي أوصى بها في مرض وفاته، وقال قولته المأثورة: «والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الطير تخطفتنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة» ونادى في المسلمين: «ليتم بعث أسامة! ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف ...»

Unknown page