ومهما يلم اللائمون أو يعذر العاذرون في هذه الزلة، فمقطع القول فيها بين المنصفين أنها خطأ وأن الإبقاء على خالد بعدها صواب؛ لأن صواب الإبقاء على خدمته بعد غزوة بني جذيمة قد ظهر أيما ظهور في حروب الردة وحروب الفرس والروم.
وذلك مثل من تربية النبي - عليه السلام - لأفذاذ الرجال.
ويتجلى تمام هذا المثل بإعطاء الرجال فرص المراجعة والإصلاح في أمر يشبه الأمر الذي أخطأوا فيه، وموقف قريب من الموقف الذي عرضهم للملامة وهذا الذي توخاه عليه السلام حين أرسل خالدا دون غيره إلى بني المصطلق - وهم من بني جذيمة - ليستخبر له خبرهم ويتبين الحق فيما بلغه عن ارتدادهم، وكان الوليد بن عقبة قد أخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام، فندب عليه السلام خالدا «وأمره أن يثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه، فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى ما يعجبه، فرجع على النبي
صلى الله عليه وسلم
فأخبره».
وهو مثل ينبئ عن كثير، وقد ينبئ فيما ينبئ عنه أن خالدا لم يتعسف كل التعسف في شكه الأول ببني جذيمة على اختلاف بيوتهم؛ لأن الشك فيهم ما زال يتكرر بعد ذلك بشهور، وما زال يدعو إلى تلقي الإشاعة عنهم وإيفاد الوفود إليهم مرتين للتمحيص والاستخبار. (3) غزوة حنين
ولم تمض أيام معدودات على مقتلة بني جذيمة حتى لمس خالد موضع الثقة من نفس النبي في حادث من أكبر حوادث الإسلام وهو غزوة حنين.
لمس هذه الثقة في غزوة حنين مرتين؛ مرة في إسناد قيادة الخيل إليه على طليعة الجيش، ومرة في سؤاله عنه وعنايته به بعد هزيمة الخيل مولية عند اشتباك الجمعين.
وحق خالد في تلك الثقة إنما يستبين من غرض الغزوة كلها لجلاء الأسباب التي أوقعت الهزيمة الأولى بجيش المسلمين، ولا يد فيها لخالد من قريب أو بعيد ... بل لعلها توحي إلينا أن هزيمة خيله يومئذ إنما كانت كصد الأجسام للأجسام ضرورة مادية لا دخل فيها للعوامل النفيسة، أمام جارفة من الجوارف القوية، تأخذ ما أمامها من إنسان أو حيوان ومن شجاع أو جبان.
فقد فتحت مكة والأعراب من حولها ثائرون محنقون، وعلموا يومئذ أنها الوقعة الفاصلة وأنه لا مطمع بعدها في مكافحة النبي إذا تطاولت الأيام على قيام دينه في البلد الحرام وموطن الكعبة والأصنام، فاجتمعت قبائل همدان من هوازن وثقيف وجشم، ومشى بعضهم لبعض يقولون: «إن محمدا قد فزع من قتال قومه ولا ناهية له عنا. فلنغزه قبل أن يغزونا»، واستنفروا القبائل فلباهم من أقربائهم عدد كبير، منهم بنو سعد بن بكر الذين تربى بينهم النبي وهو رضيع.
Unknown page