Cabqariyyat Imam Cali
عبقرية الإمام علي
Genres
وللنفس الإنسانية نواحيها الكثيرة غير نواحي العطف والتخيل والتفكير، وتذوق الحسن الجميل من التعبير.
فمن نواحيها الكثيرة ناحية لم تنقطع قط في زمن من الأزمان، وهي ناحية الخلاف بين الطبائع والأذهان، أو ناحية الخصومة الناشبة أبدا على رأي من الآراء، أو حق من الحقوق، أو وطن من الأوطان.
فقد يفتر العقل والذوق بعض حين، وقد يفتر الخيال والعاطفة بعض حين، ولكن الذي لم يفتر قط ولا نخاله يفتر في حين من الأحايين خصام العقول، وجدل الألسنة واختلاف المختلفين، وتشيع المتشيعين.
وإن ها هنا للمجال الرغيب والملتقى القريب في سيرة هذا الإمام الأوحد، التي لا تشبهها سيرة في هذه الخاصة بين شتى الخواص، وهو - رضوان الله عليه - قد قال في ذلك أوجز مقال حين قال: «ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي، ويبغضني أقوام حتى يدخلوا النار في بغضي» ... أو حين قال: «يهلك في رجلان: محب مفرط بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني.»
وصدق الإمام الكريم في غلو الطرفين من محبيه ومن مبغضيه، فقد بلغ من حب بعضهم إياه أن رفعوه إلى مرتبة الآلهة المعبودين، وبلغ من كراهة بعضهم إياه أن حكموا عليه بالمروق من الدين: هنا الروافض الغلاة يعبدونه وينهاهم عن عبادته فلا يطيعونه ... ويستتيبهم فيصرون على الكفر أي إصرار، ويأمر بإحراقهم فيقولون وهم يساقون إلى الحفيرة الموقدة: إنه الله وإنه هو الذي يعذب بالنار! ...
وهناك الخوارج الغلاة يعلنون كفره ويطلبون منه التوبة إلى الله عن عصيانه ... ويسبونه على المنابر كما سبه خصومه الأمويون، الذين خالفوهم في العقيدة ووافقوهم على السباب ...
ميدان من ميادين الملاحاة لم يتسع قط ميدان متسعه في تواريخ الأبطال المعرضين للحب والبغضاء: يقول أناس: إله، ويقول أناس: كافر مطرود من رحمة الله! ...
وناحية أخرى من نواحي النفس الكثيرة تلاقيها سيرة الإمام في أكثر من طريق: وتلك هي ناحية الشكوى والتمرد، أو ناحية الشوق إلى التجديد والإصلاح ...
فقد أصبح اسم علي علما يلتف به كل مغصوب، وصيحة ينادي بها كل طالب إنصاف، وقامت باسمه الدول بعد موته؛ لأنه لم تقم له دولة في حياته، وجعل الغاضبون على كل مجتمع باغ وكل حكومة جائرة، يلوذون بالدعوة العلوية كأنها الدعوة المرادفة لكلمة الإصلاح، أو كأنها المنفس الذي يستروح إليه كل مكظوم ... فمن نازع في رأي ففي اسم علي شفاء لنوازع نفسه، ومن ثار على ضيم ففي اسم علي حافز لثورته ومرضاة لغضبه، ومن واجه التاريخ العربي بالعقل أو بالذوق أو بالخيال أو بالعاطفة، فهناك ملتقى بينه وبين علي في وجه من وجوهه، وعلى حالة من حالاته، وتلك هي المزية التي انفرد بها تاريخ الإمام بين تواريخ الأئمة الخلفاء، فأصبحت بينه وبين قلوب الناس وشائج تخلقها الطبيعة الآدمية إن قصر في خلقها التاريخ والمؤرخون.
وكل ملتقى من هذه الملتقيات يدع الكاتب في حذر ما بعده حذر؛ لأن اشتباك العوامل النفسية يزيد صعوبة الباحث عن نفس من النفوس، ولا ينقصها أو يئول بها إلى البساطة والوضوح، وكلما قلت هذه العوامل، وانحصرت في ناحية من النواحي سهل الخلوص إلى مقطع الحق فيها. فالبطل الذي يلتقي بالفكر وحده أسهل من البطل الذي يلتقي بالفكر والعاطفة، وإن هذا لأسهل من الذي يلتقي بالفكر والعاطفة والخيال، وكل أولئك أسهل ممن يلتقي في ألف سنة متوالية بدخائل النفوس جميعا من طموح إلى المثل الأعلى، أو حرص على الملاحاة، أو شغف بالبلاغة أو رياضة على التقوى، مزيدا على الخيال والشعور والتفكير.
Unknown page