Cabqariyyat Imam Cali
عبقرية الإمام علي
Genres
وساء ظن الناس بنقمة طلحة على عثمان حتى حدث بعضهم أنه رآه يوم مقتله يرمي الدار، ويقود بعض الثائرين إلى الدور المجاورة؛ ليهبطوا منها إلى دار عثمان، وهو حديث يفتقر إلى السند الوثيق، ولكنه ينم على ظن الناس بصداقة طلحة للخليفة المقتول.
وخذ لذلك مثلا حجة معاوية حين علل ثورته باتهام علي في دم عثمان ، وعلل اتهامه لعلي بتقصيره في القود من الثائرين ... وهم ألوف يحملون السلاح، وهو لم يسكن بعد إلى سلطان يعينه على القود من هؤلاء الألوف المسلحين، فماذا صنع معاوية بقاتلي عثمان حين صار الملك إليه، ووجب عليه أن ينفذ العقاب الذي من أجله ثار واستباح القتال؟ إنه اتبع عليا فيما صنع، وأبى أن يذكر الثأر المقيم المقعد، وقد ذكروه به وألحفوا في تذكيره، ولقد كان أول ما سمعه يوم زار المدينة، ودخل بيت عثمان صيحة عائشة بنته وهي تبكي: «وا أبتاه.» فلم تزده هذه الصيحة المثيرة إلا إصرارا على الإغضاء والإعفاء، وقال لها يعزيها: «يا ابنة أخي ... إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره ... فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خيرا من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين ...» •••
ولو كانت الثورة كلها من أجل عثمان لما انتهت بهذا التسليم الهين ... ولكان عذر علي في بداية المحنة أعظم حجة، وأحق بالقبول ...
أو خذ لذلك مثلا علة عمرو بن العاص، وقد كان أول الناصحين لعثمان بالاعتزال، بل كان عثمان يخطب ليسترضي الناس، وعمرو يصيح به من صفوف المسجد: «اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت أمورا وركبناها معك ... فتب إلى الله نتب ...» ثم ترك عثمان في المدينة بين المؤتمرين به ومضى إلى فلسطين، وسمع وهو يقول: «والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان.»
فكل علة للثورة على خلافة علي، فهي تعلل موضوع ينخدع به قائله أو يخدع به غيره ... إلا تلك العلة التي طوت فيها جميع العلل ظاهرها وخافيها، وصريحها ومكذوبها، وهي الخلاف بين مبادئ الخلافة الدينية ومبادئ الدولة الدنيوية، وضرورة الفصل بين هاتين الخطتين ... وإن كان في ظاهره فصلا بين رجلين ...
فلما بويع بالخلافة، كانت هذه البيعة إيذانا بانقسام الحلقة بين الندين للصراع الأخير، أو كانت إيذانا باصطفاف المتسابقين إلى غاية لا بد من بلوغها ... ولن تخطر على البال غاية لهذا السباق المحتوم غير انتهاء الخلافة، أو انتهاء الملك على النحو الذي تهيأت له عناصر النظام الاجتماعي الجديد.
فأما انتهاء الملك في بدايته، فقد كان بعيدا - بل كان عسيرا جدا في تلك الآونة - كما يعسر انطفاء النار وهي تهب بالاشتعال ...
وأما انتهاء الخلافة فهو الذي كان، وهو الذي كان منظورا أن يكون، ولن يكون غيره بمنظور ... فمن الفضول لوم علي على شيء من الأشياء التي أفضت إلى هذه الخاتمة، وهي محتومة ليس عنها محيد ...
إذ لم يكن طبيعيا أن يصمد الناس على سنة النبوة أكثر من جيل واحد، تثوب بعده الطبائع إلى فطرتها من نشأة الخليقة الأولى، وقد يتفق كثيرا أن يغمرها جلال النبوة أو جلال الخلافة، وهي في إبان النضال والحمية الدينية، فتنسى المطامع وتسهو عن الحزازات، وتستعذب الألم والفداء إلى مدى الطاقة الإنسانية، ولكنها تبلغ مدى الطاقة الإنسانية بعد حين، وتفتر عن النهوض من قمة إلى قمة، فتركن آخر الأمر إلى الأرض السواء، حيث لا حافز ولا مستنهض إلا مجاراة الطبيعة في مجاريها التي لا تشق عليها، وإن المصلحين ليرضون غاية الرضا إذا هي حفظت من إصلاحهم عند ذلك وازعا يهديها بعد ضلالة عمياء، ويردعها بعد جماح مريد، ويكفكف من غلوائها ما كان من قبل منطلقا بغير عنان ...
وقد نظر النبي - عليه السلام - بعين الغيب إلى هذا المصير فقال: «الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك» ... وأنبأ بانقسام الفرق وتشعب الأهواء، وكأنما كان ينظر إلى ذلك بعينيه - صلوات الله عليه - واتبع علي من اليوم الأول في خلافته أحسن السياسات التي كان له أن يتبعها، فلا نعرف سياسة أخرى أشار بها ناقدوه أو مؤرخوه ثم أقاموا الدليل على أنها خير من سياسته في صدق الرأي وأمان العاقبة، أو أنها كانت كفيلة باجتناب المآزق التي ساقته الحوادث إليها.
Unknown page