Cabqariyyat Imam Cali
عبقرية الإمام علي
Genres
قد همه إرضاء السواد والعامة، كما همه إرضاء الشرفاء وذوي الأخطار ... وبلغ من إحكامه للسياسة، وإتقانه لها، واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين، فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته ... فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه، وقال له: «أبلغ عليا أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل!»
ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رءوسهم عند القتال وحملوه بها.
1
فإن كان في هذه القصص بعض المبالغة، فهي مبالغة الفكاهة الموكلة بتكبير الملامح ليراها من غفل عنها، وليست مبالغة الخلق والافتراء.
وما هي إلا سنوات على هذه الوتيرة، حتى اجتمع له كل منتفع بالنظام الاجتماعي الجديد، راغب في تدعيمه ووقايته من نذر الخطر والزوال.
وعلى قدر هذا الدأب الشديد في اجتلاب أسباب التمكين والتدعيم كان له دأب مثله في اتقاء أسباب التمرد، والإخلال بالنظام، كما نسميه في هذه الأيام ...
فما سمعت قط صيحة فتنة إلا بادر إليها بما يسكنها، ويردها إلى طلب الاستقرار والدوام، فمن أجدى معه المال أسكته بإغداق المال عليه، ومن كان من أهل الجد والإخلاص في العبادة والزهادة، فهو محتال على إقصائه أو نفيه من الشام بحيلة يوافقه عليها شركاؤه في المصلحة ولا تعييه.
حنق بعض الزهاد على هذا الترف الذي استفاض بين العلية والشرفاء، فارتفعت عليهم صيحة أبي ذر الغفاري بالنكير، وطفق يطالب الأغنياء بالإنفاق في سبيل الله، حتى ولع الفقراء بصيحته وشكا الأغنياء ما يلقونه من نذيره أو بشيره: «وبشر الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.»
فأشفق معاوية من مغبة هذه الصيحة، وأرسل إلى أبي ذر ألف دينار يسكته بها إن كان ممن يسكتهم الغنى عن الأغنياء، فما طلع النهار حتى كانت الدنانير في أيدي المعوزين، الذين يلوذون بالداعية الأمين ويشكون إليه، ثم صلى معاوية الصبح وأرسل إلى الداعية رسوله الذي حمل إليه الدنانير يقول له: «أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإنه أرسلني إلى غيرك فأخطأت بك، فقال له: يا بني، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ... ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها» ... فعلم معاوية أن الرشوة هنا لا تغني عن القسوة، وكتب إلى الخليفة أن أبا ذر أعضل به فلا طاقة له بالصبر عليه، فأتاه الإذن بنفي أبي ذر من الشام إلى المدينة، ثم ضاقت به المدينة أيضا، فنفي منها إلى قرية من أرباضها حيث لا يسمع له دعاء. •••
وصنع بعبد الله بن سبأ - صاحب القول برجعة النبي إلى الدنيا ووصاية علي على الخلافة - مثل هذا الصنيع بعد أن داراه فأعياه، فلما يئس منه ومن ترغيبه أو ترهيبه ضيق عليه ثم أقصاه ...
Unknown page