كان عادلا لأسباب، كأنه عادل لسبب واحد لقلة التناقض فيه. وربما كان تعدد الأسباب هو العاصم الذي حمى هذه الصفة أن تتناقض في آثارها؛ لأنه منحها القوة التي تشدها كما يشد الحبل المبرم، فلا تتفكك ولا تتوزع، فكان عمر في جميع أحكامه عادلا على وتيرة واحدة لا تفاوت بينها، فلو تفرقت بين يديه مائة قضية في أعوام متباعدات، لكنت على ثقة أن تتفق الأحكام كلما اتفقت القضايا، كأنه يطبعها بطابع واحد لا يتغير.
إلا أن الصفات إذا بلغت هذا المبلغ من القوة الرائعة، لم تكد تسلم من طروء التناقض عليها، وإن سلمت منه بطبيعتها؛ لأنها تدخل في صفات البطولة التي تثير الإعجاب والمبالغة، وكل بطولة فهي عرضة للمبالغات والإضافات، ومن ثم لا تسلم من تناقض الأقاويل.
وصفات عمر كلها صفات لها طابع البطولة، وفيها دواعي الإغراء بالإعجاب والمبالغة. وممن؟! من الأصدقاء المصدقين؛ لأنهم لا يتهمون بقصد السوء، وهم في الواقع أولى بالاحتراس من الخصوم المتهمين، فمن هنا يجيء التناقض لا من طبيعة الصفات التي تأباه.
فالعدل مثلا هو المساواة بين أبعد الناس وأقربهم في قضاء الحقوق، وإقامة الحدود.
وليس أقرب إلى الحاكم من ابنه.
فإذا سوى الحاكم بين ابنه وسائر الرعية، فذلك عدل مأثور يقتدي به الحاكمون.
ولقد سوى عمر بين أبنائه وسائر المسلمين، فبلغ بذلك مبلغ البطولة في هذه الصفة النادرة بين الحكام.
وذلك كاف في تعظيم قدره، لا حاجة بعده إلى مزيد.
إلا أنها صفة من صفات البطولة التي تروع وتعجب، وتملأ النفس بالرغبة في التحدث بها والإطناب في أحاديثها، فهي لا تكفي المبالغين حتى يجعلوا عمر مقيما للحد على ابنه، مشتدا في عقوبته اشتدادا لا يسوى فيه بينه وبين غيره. ثم لا يكتفي المبالغون بهذا حتى يموت الولد قبل استيفاء العقوبة، فيمضي عمر في جلده وهو ميت لا تقام عليه الحدود! ومن اعتدل من المبالغين لم يذكر الموت وإتمام العقوبة، وذكر لنا أن الولد مات بعد ذلك بشهر من مرض الضرب الذي ثقل عليه، وعجز عن احتماله.
نعني بما تقدم قصة عبد الرحمن بن عمر في مصر، وهي كما رواها عمرو بن العاص والي مصر يومئذ حيث يقول: «... دخلا - عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة - وهما منكسران، فقالا: أقم علينا حد الله، فإنا قد أصبنا البارحة شرابا فسكرنا. فزبرتهما
Unknown page