Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
وقد ألهم فضلاء المسيحيين ذلك من وحي فكره ووحي اعتقاده ووحي كلامه في تفسير القرآن، وشرحه للدين في كل موطن أقام به أو رحل إليه، فكان أدباء المسيحيين يتسابقون إلى دروسه بمساجد بيروت أيام منفاه، وكان القس الإنجليزي إسحاق تايلور يرى أن شرح المسيحية كما يبسطه الأستاذ الإمام يوشك أن يعينه على إقناع الأوروبيين بالتوحيد بين الديانتين على الجادة الوسطى التي يلتقي لديها المؤمن بالأناجيل والمؤمن بالقرآن. وعبر العلامة يعقوب صروف تعبيره الصادق عن شعور فضلاء المسيحيين يوم قال ساعة دفن الأستاذ الإمام لمن حوله من تلاميذه: «إني أسمعكم تقولون: فقيد الإسلام والمسلمين ولا تزيدون، إنه فقيد الفكر والعلم حيث كان ... إنه فقيدنا أجمعين.»
الفلسفة الاجتماعية
ومن البديهي أن الفيلسوف المصلح لا يقصر تفكيره على العقليات والإلهيات، أو على فلسفة ما وراء الطبيعة كما تسمى عند المعاصرين؛ إذ لا بد من فلسفة اجتماعية يتبعها في إصلاح المجتمع على مبادئه التي يتوخاها ويتخذها هاديا له إلى فضائل المجتمعات المثالية ومواطن عيوبها التي يجتهد اجتهاده في تبديلها أو إزالتها، وهذا هو الواقع في منهج محمد عبده المصلح الفيلسوف؛ فإن فلسفته الاجتماعية مفصلة واضحة من كل ما كتبه في مطولاته ومختصراته بلا استثناء كتابته عن العقليات والإلهيات، ولكننا نستطيع أن نسمي فلسفته الاجتماعية في لبابها فلسفة أخلاقية لا تفرق بحال بين مشاكل الاجتماع ومشاكل الأخلاق، وليس للاجتماع عنده مشكلة قائمة إذا توفرت العزائم على علاج آفات الخلق في الفرد والجماعة، وليست عنايته بالناحية الخلقية سهوا عن أثر الشئون المادية أو شئون النظام في آداب المعاملات وآداب النفوس على الإجمال؛ لأنه كان يؤمن بأثر الفاقة والثروة معا على ضمائر الناس من الرجال والنساء، وكان يقول دائما: إن العفة ثوب تمزقه الفاقة، وإن الثروة بغير عمل مفسدة. وعناصر الكيان الاجتماعي عنده - كما عددها في رده على هانوتو - سبعة، هي: العلم، والأدب، والتجارة، والصناعة، والعدل، والدين، والسلاح، فليس قيام الكيان الاجتماعي على الأخلاق في رأيه سهوا عن عمل التجارة والصناعة، ولا عن عمل النظام العادل في سياسة الناس، ولكنه كان يعتبر أن الجهل فقر أشد على الناس من فقر المال، وهو القائل في إحدى خطب الجمعية الخيرية: «إن بلادنا ليست بلاد الجوع القتال، ولا بلاد البرد القارس المميت، ولا بلاد الشقاء التي لا ينال الإنسان فيها قوت يومه إلا بالعذاب الأليم، بل نحن في بلاد رزقها الله سعة من العيش، ومنحها خصوبة وغنى يسهلان على كل عائش فيها قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكنها ويا للأسف منيت مع ذلك بأشد ضروب الفقر، فقر العقول والتربية.»
وقد قال قبل ذلك في خطاب المدرسة السلطانية ببيروت: «... إننا لو نظرنا إلى ثروة بلادنا لا نجدها قاصرة على حاجتنا، ولكن القاصر عن الحاجات هو إدراكنا لاحتياجنا، فقد نرى الغني يبذل أموالا جمة في زخارف زينة لا مقام لها في نظر العاقل، ولا يرى في بذله هذا مغرما، ثم إذا دعي إلى مساعدة وطنه وملته ودولته يستكثر القليل ويعطي وهو كاره.»
فإذا تحرى النظام العادل توفير أسباب المعيشة الحسنة، فالرخاء - وهو غاية ما يبلغه هذا النظام - لا يكفي لإقامة كيان المجتمع، ولا لحفظ بقائه من عوامل فنائه، ولا من أخطار أعدائه، ولن يقام للمجتمع كيان بغير المعرفة العلمية والتربية الأخلاقية، ولن يقر له هذا الكيان إذا حرم منهما أحد جنسيه وإحدى طبقاته.
ومن أخطر أسباب الضعف التي أصابت المسلمين كما قال في رده على هانوتو: «إن النساء قد ضرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن بستار لا يدرى متى يرفع.» وقد قال في إحدى خطب الجمعية الخيرية الإسلامية: «نحن نتمنى تربية بناتنا، فإن الله تعالى يقول:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشرك الرجل والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية ... وترك البنات يفترسهن الجهل وتستهويهن الغباوة من الجرم العظيم.»
وكان أشد ما ينعاه على من يحسبون أنفسهم من العارفين، قولهم: لا شأن لنا بالعامة. «فلا يمكن الإنسان أن يعمل بمصلحة العامة ما لم يحس برابطة بينه وبينهم.»
والعلم في رأي الأستاذ الإمام سبب من أسباب الثروة والقوة، وسبب من أسباب المعرفة الذهنية التي تبصر العقل بأدوات النجاح في أعمال المعيشة، ولكن التربية الأخلاقية شيء آخر غير المعرفة الذهنية، ولا سيما المعرفة التي تتأدى آخر الأمر إلى الإيمان بالمادة دون غيرها، وهو ما يسمونه بالفلسفة المادية، وقد لمس الأستاذ الإمام آثار هذه الفلسفة المادية في حضارة الغرب، فأشفق من عواقبها على بني الإنسان وزادته اعتقادا بضرورة الدين لصلاح النفوس البشرية وهداية الأمم في حياتها الاجتماعية، وأكدت له هذه الضرورة مناقشته للفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر (سنة 1903)؛ إذ قال له الفيلسوف الإنجليزي: إن الإنجليز يرجعون القهقرى، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة. فسأله الأستاذ الإمام: وفيم هذه القهقرى؟ قال سبنسر: إنهم «يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وسببه تقدم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق قومنا وهكذا سائر شعوب أوروبا.» ثم قال: إنه لا أمل له في صد هذا التيار؛ «لأنه لا بد أن يأخذ مده إلى غاية حده في أوروبا. إن الحق عند أهل أوروبا الآن للقوة».
وفارق الأستاذ الإمام دار الفيلسوف وهو يدير في خاطره كلمة الحق للقوة، ويصف أثرها في نفسه، ويحس أنها ما كانت لتحدث لديه هذا الأثر لو جاءت من ثرثارة يهرف بما لا يعرف، ثم يدون هذه الخاطرة في مذكراته:
Unknown page