Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
فقد كانت المصادر إذن مختلفة، وكان أكثرها مرويا عن صاحبه مأخوذا من خلاصة كلامه، ولو توحدت المصادر مع حسن النية لما تباعدت بين المتناظرين في هذه المسألة، ولا في غيرها، شقة الخلاف. •••
فمصادر الأستاذ الإمام في مسائل الفلسفة الإسلامية كانت شاملة لمراجعها الوافية من كتب الفلاسفة والمعتزلة والمتصوفة والمتكلمين، ولكننا لا نعلم عن مصادره التي اعتمد عليها لدراسة الفلسفة الغربية شيئا على التفصيل، وكل ما نعلمه أنه كان يطلع عليها في بعض كتبها بعد تعلمه اللغة الفرنسية، وأن أقواله عن العقائد الإلهية تدل على علم بآراء الفلاسفة المتأخرين من الأوروبيين، وأغلب الظن عندنا أنه توافق في التفكير الذي تشابهت فيه الموضوعات الفلسفية قديما وحديثا، وهي - فيما عرضت له - من مسائل الخلاف لم تطرق موضوعا لم تسبق إليه في موضوعات الفلاسفة الإسلاميين.
ولعل من هذا التوافق قوله الذي ارتاح إليه سبنسر حين سأله عن العقيدة الإسلامية في الإله، فإنه ذكر له عقيدة أهل السنة وعقيدة المتصوفة القائلين بوحدة الوجود، ثم ذكر له أن بعض المتصوفة الإسلاميين يعتقدون أن الله وجود محض، وليس بشخص، فبدا على الفيلسوف الإنجليزي أنه ارتاح إلى هذه العقيدة، ويبدو اليوم أنها العقيدة التي يرتاح إليها كبار المفكرين الغربيين، ومنهم أينشتين صاحب الفلسفة النسبية.
وكذلك يجوز لنا أن نفهم أن الأستاذ الإمام نقل عقيدة المتصوفة القائلين بهذا وهو يفرق بين دلالة الشخص
ودلالة الذات في عقيدة التوحيد الإسلامية؛ لأن الشخص باللغات الأوروبية يوحي بالشبه والحد والمثال، من أصل الكلمة اللاتينية التي أخذت من قناع الوجه المستعار في التمثيل، وليس في كلمة «الذات» ما يوحي بهذا على الحقيقة أو على المجاز، وإنما توحي بأن الذات تحتوي الصفات وتملك ما ينسب إليها من لوازم الكمال. •••
ولا نجد في كتابات الشيخ محمد عبده أنه أراد أن ينشئ له مذهبا خاصا في المسائل الإلهية كالمذاهب التي تسمى بالنظم في اصطلاح الفلسفة الحديثة، ولكننا نجد آراءه كاملة في كل مسألة من هذه المسائل مبسوطة في تعليقاته على أقوال الفلاسفة أو المعتزلة أو المتكلمين أو المتصوفة، يوافق بها كل طائفة من هذه الطوائف أو يخالفها، مستقلا عنها جميعا بمنهجه الذي امتاز بطابعه الخاص في الفهم والتحقيق، وهو طابع الفكرة العقلية العملية، أو طابع الفكرة الصالحة للتعليم والإفادة بالتربية والهداية.
فهو مع الفلاسفة الإلهيين في مسألة الوجود الإلهي أو الوجود المطلق، ولكنه لا يقف بإدراكه للقدرة الإلهية عند استحالة الخلق من العدم؛ لأن الوجود المطلق في عقيدته وتفكيره، لا يستحيل عليه أن يفيض نعمة الوجود على خلقه، فليس الخلق من العدم بالمستحيل، بل المستحيل هو العدم نفسه مع وجود الخالق المريد الفعال لما يريد، ولا تكفير عنده لمن قال بقدم العالم وهو يؤمن بأن الله هو الفاعل لما أراده من خلقه؛ إذ كانت إرادة الله قديمة لا ندري كنه عملها السرمدي خارج الزمان، وكان الواجب في مسألة وجود العالم أن نؤمن بأن له موجدا كما شاء، فلا يكفر من قال إن الله أوجد العالم في القدم وإن يكن مخطئنا في التفكير. قال في تعليقاته على العقائد العضدية: «واعلم أني وإن كنت قد برهنت على حدوث العالم، وحققت الحق فيه، على حسب ما أدى إليه فكري، ووقفني عليه نظري، فلا أقول بأن القائلين بالقدم قد كفروا بمذهبهم هذا وأنكروا به ضروبا من الدين القويم، وإنما أقول إنهم قد أخطئوا في نظرهم ولم يسددوا مقدمات أفكارهم.»
ثم قال: «ومن المعلوم أن من سلك طريق الاجتهاد لم يعول على التقليد في الاعتقاد، ولم تجب عصمته فهو معرض للخطأ، ولكن خطأه عند الله واقع موقع القبول، حيث كانت غايته من سيره، ومقصده من تمحيص نظره أن يصل إلى الحق ويدرك مستقر اليقين.»
وهو مع المعتزلة في تحكيم العقل والاستهداء به إلى هدي الدين، ولكنه لا يرى رأيهم في الاستغناء بالعقل وحده؛ لأنه يفرق بين مطابقة الدين للعقل وبين الاكتفاء بالعقل في المسائل النظرية والشرعية؛ إذ لا بد من تسليم العقل بنصيب الشرع من الهداية، ما دام العقل يعلم أنه لا ينفذ إلى كنه الأشياء، وأن العقول الإنسانية موكولة إلى حكمة الغيب حيث وقف بها مدى التفكير.
وهو مع المتكلمين في استخدام القضايا المنطقية، ولكنه يأخذ على غلاتهم أن استخدام المنطق يذهب بهم إلى السفسطة أحيانا، ويدفع بهم إلى خلق المشكلات بينهم وبين الفلاسفة أو المعتزلة في غير داع إلى الإشكال.
Unknown page