Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
وليس هؤلاء الصحفيون من الغباء بحيث يجهلون حكم الفضلاء عليهم وحكم التاريخ من بعدهم، إذا علم الناس أنهم في القرن العشرين يستنكرون التعليم الحديث باسم الدين، فنقلوا المسألة بحذافيرها من حرب بين الإصلاح واللصوصية إلى حرب بين المفتي والسلطة الشرعية، وحسبوا عجز الخديو عن فصل الموظف الكبير بغير محاكمة تأديبية دليلا على تأييد الاحتلال الأجنبي لذلك الموظف الكبير، ومثله في حماية القانون ونظام الدواوين لهم ألوف الموظفين.
أما المسألة بحذافيرها في وضعها الصحيح، فهي أن المفتي لم ينتفع بحقه في وظيفته لجر منفعة شخصية، أو ترويج سياسة بريطانية، أو التفريط في حق من الحقوق الوطنية، فإذا كان سماسرة القصر يريدون أن يقولوا إن إصلاحه للتعليم وتطهيره للدواوين ونهوضه بأبناء وطنه وأبناء دينه عمل يوافق الاحتلال ولا يوافق الوطنية، فذلك هو الخزي الأكبر لمن يفتريه؛ لأنه يدمغ الوطنية بميسم الهوان، ويدعي للاحتلال فضلا يسقط حجة الوطني عليه ولا يطمع في ادعائه بألسنة مأجوريه.
وإنما الخيانة للوطن ذلك الجرم المهين الذين أقدم عليه الخديو، ودافعوا عنه دفاع المستميت يوم وقف تحت العلم البريطاني ليحيي جيش الاحتلال، وأقبح منه في الإجرام أن يقترف هذه الجريمة في حق وطنه وحق عرشه، ليتوسل بها إلى حمل الإنجليز على الإغضاء عنه حين يتعرض لوظائف الحكومة التي يحميها القانون، وأقبح من كل هذا أن يكون هم الأمير من التعرض لتلك الوظائف خيانة الأمانة، وسلب المال الحرام، وتلويث موظفيه الكبار بلوثة الجبن والاختلاس، أما الموظف الذي يعمل في تلك الوظيفة ما يشرفه ويشرف أبناء وطنه ودينه، فلا جناح عليه أن يحسن ويسيء الأمير وتابعوه، وإنما يسيئون إلى أقدس المقدسات من حرمات الحق والفضيلة. •••
ولسنا في مقام الموازنة بين وطنية محمد عبده ووطنية عباس الثاني وسماسرة قصره، فإننا بهذه الموازنة نهبط بقدر الرجل العظيم الذي لا نعرف في زمانه قدرا أحق من قدره بالتشريف والإكبار، ولكننا نزيد هذا الشرف بيانا لمن يجهلونه بمثل من أمثلة كثيرة لمواقفه إلى جانب الخديو حين يعتدي عليه المحتلون، وحين ينظر الخديو حوله فلا يرى له سندا أقدر على حمايته من مكانة الشيخ في العالم الإسلامي، ومن شجاعته التي لا يعنيها إغضاب الإنجليز منه، وهو لا يأمن عضب الأمير عليه.
ونحن في هذا الكتاب الموجز لا نملك الإسهاب حيث يغنينا الإيجاز المفيد، وحسبنا - على قاعدتنا هذه - حادث واحد هو الذي استهدف فيه الخديو لأشنع إهانة تلحق بصاحب عرش من العروش في بلاده، وهو حادث ليون فهمي الذي أدى إلى صدور الأمر من الوكالة البريطانية بتفتيش قصر رأس التين، بحثا عن ليون فهمي هذا لاتهام الإنجليز إياه بقتله في قصره أو إخفائه هناك لتقييده ونقله على الرغم منه إلى الآستانة إجابة لطلب «المابين»، أو قصر السلطان عبد الحميد.
يومئذ لجأ الأمير إلى حمى الشيخ وصائب رأيه، فلباه ورجاه أولا أن يستوثق من خلو القصر ويخت المحروسة من ذلك الطريد العثماني إن كان حقا مقبوضا عليه، ثم أشار عليه بأن يكتب بلاغا إلى معتمدي جميع الدول المعترفين باستقلال مصر بأن السلطة المحتلة تعتدي على حرم قصره، وأن يبلغ المحتلين في الوقت نفسه أنه يفعل ذلك إذا هم اجترءوا على تنفيذ أمر التفتيش؛ فتراجع الإنجليز حذرا من إثارة هذه القضية الدولية بطلب من صاحب السلطة الشرعية، ويقينا بأن «المابين» العثماني يؤيد هذا الطلب الذي وجهه الأمير إلى الدول بسببه، ويقينا من الجهة الأخرى بتأييد الرأي المحترم من أبناء البلاد لأميرهم وعلى رأسهم مفتي الديار الذي يهابون اجتماع فتواه الدينية إلى جانب الوثائق القانونية، واعتقادا منهم أن الأمير لا يهددهم هذا التهديد وفي قصره ذلك الطريد الذي يبحثون عنه. •••
وفي ختام هذا الفصل ننشر بعض الفقرات من خطاب الخديو إلى موظفه الكبير أحمد شفيق باشا، حين علم أنه مشى في جنازة المفتي مع كبار المشيعين ... فبعد أن سمح أدب العرش لذلك الأمير المسكين أن يقول عن فخر وطنه بعد وفاته - لو كان يعقل: «إنها جنازة حارة والميت كلب.» مضى يقول:
يظهر - والله أعلم - أنكم أردتم بالسير وراء نعشه المجاملة بعد الموت، وهو على ما تعهدونه عدو الله، وعدو النبي، وعدو الدين، وعدو الأمير، وعدو العلماء، وعدو المسلمين، وعدو أهله، بل وعدو نفسه، فلم هذه المجاملة؟
إن هذا الانتقال من أخلاق الفلاح محمد عبده إلى أخلاق الأمير عباس الثاني مفاجأة شديدة الوقع على النفوس الآدمية التي ينتمي إليها الفلاحون كما ينتمي إليها الأمراء، ولكنه في ختام هذا الفصل أصدق من تسويد الصفحات بأشتات الوقائع والأخبار، وصنوف الدسائس والوشايات، للدلالة على كنه الخلاف بين الرجلين، وعلى طبيعة تلك العداوة المزرية وطبائع خدامها الذين باعوا ضمائرهم في سوق المنافع، أو فيما هو شر من سوق المنافع؛ سوق الحسد البغيض والغرور الباطل.
وقد ذهب محمد عبده وعباس الثاني إلى ذمة التاريخ، ولحقت بهما الأسرة الخديوية بقضها وقضيضها، ومعها منافعها التي تباع الضمائر من أجلها، ولكن باعة الضمائر هؤلاء هم أسلاف في النسب أو أسلاف في العمل لخلفائهم الذين عاشوا ويعيشون بعدهم إلى هذه الأيام، وحاجتهم إلى مداراة أنفسهم كحاجة أسلافهم في زمانهم، كلما أعيد القول في قضايا الإصلاح وقضايا الجهاد عادوا إلى الستار القديم يتوارون خلفه، وأعادوا معاذيرهم تهما للمخلصين وتبديلا لوقائع التاريخ وافتياتا على الوطن والدين، وسيماهم على وجوه صفحاتهم لا تخفى على الناظرين.
Unknown page