Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
إني رأيت الكثيرين من إخواني خدمة العلم في منصب المشيخة، فوجدتهم أبعد الناس عن الاشتغال بالسياسة وأشدهم فرارا من مظاهر الدنيا الباطلة. •••
وهذا هو شرط «الأزهر» الصالح في عرف المشيخة التي اختارها ولي الأمر لتعتدل به من طريق الزيغ والشغب إلى طريق الإيمان والأمان!
معهد يستبد ولي الأمر بإدارته وتعليمه ليستخدم سمعته الدينية في تعزيز سلطانه وتوفير ثروته، ثم يكل المشيخة فيه إلى أناس يريدونه في القرن العشرين مدرسة كبرى لا تعرف شيئا عن علوم «الأعصر»، ولا تدري شيئا عن الدنيا والديوان؛ لأن كل شيء عن الدنيا والديوان إنما هو سياسة تترك لولي الأمر، ولا يحسن برجل الدين أن يعرض لها من قريب أو بعيد!
ومن تمام العلم بهذه السياسة التي نعاها الشيخ الصالح على المفتي وأصحابه أن نذكر أنها سياسة في صميم العمل الأزهري؛ لأنها سياسة الحاكم الشرعية ومساجد العبادة والتدريس، وقد كانت في صميم السياسة التي أدخلها المفتي في برنامج الإصلاح بعد ولاية الإفتاء، وعلى أساسها تم الإصلاح اليسير الذي سمحت به الأحوال بعد ذلك بسنوات، ولكنه لم يسلم قط من دسائس الخديو وحلفائه في دور التعليم وفي دور التوظيف؛ فقد كان من أصعب الأمور تخريج قضاة يحكمون في المواريث، ويبرمون العقود والمواثيق، وينظرون في مشكلات الأسرة والوصاية على التركات وهم لا يعرفون شيئا عن الحساب والرياضة وعن نظم الإدارة وتقاليد الدواوين، وكان أصعب من ذلك حرمان طلاب الأزهر من وظائف المحاكم الشرعية قضائية وكتابية، وهم ألوف يتخرجون بلا عمل ولا يستعدون بتعليمهم الأول لوظائف التدريس في المدارس الأميرية أو الأهلية، وقد كان الخديو أشد المعارضين لإنشاء المدرسة الخاصة التي يتخرج منها القضاة الشرعيون، ولكنه كان لا يبالي أن يعلن الوعد بإنشائها على حدة يوم كانت المسألة عنده مسألة الحملة على تدريس العلوم العصرية في الأزهر، فقال في خطابه الذي تقدم ذكره عن تاريخ القضاة الشرعيين: «إنه ستنشأ له مدرسة مستقلة يقصدها كل من يحصل على شهادة العالمية في الأزهر ويريد التوظف في القضاء.»
وبهذا الوعد الذي أعلنه وهو ينوي المراوغة فيه خيل إليه أنه يسكت طلاب الأزهر وعلماءه عن تحريم العلوم، وعن تخريج القضاة والموظفين الشرعيين من مدرسة خاصة، غير الجامعة الأزهرية!
أما إصلاح المساجد فقد كان مشروعا من مشروعات الإصلاح الكثيرة التي عني بها ذلك الرجل المغضوب عليه؛ لأنه لا يترك موضعا للإصلاح بمكان يسند فيه إليه عمل، ولو كان من أعمال الاستشارة والمراجعة.
كان المفتي - بحكم وظيفته - عضوا في المجلس الأعلى لديوان الأوقاف، ومن عملها الإشراف على مساجد العبادة والتعليم في الأقاليم، فكان أول ما نظر فيه إنشاء إدارة مستقلة بالديوان تسمى إدارة المساجد، وتتخصص لتعيين الأئمة والمدرسين في مساجد المدن والقرى التي تتسع لإلقاء الدروس على مثال الدروس العصرية بالجامعة الأزهرية، ولزم من ذلك أن ترصد النفقات لتدبير الوسائل الصحية في المساجد وما يلحق بها من أماكن الوضوء، وأن يختار الأئمة من العلماء الأزهريين الذين يصلحون للخطابة والتعليم ونشر التربية العصرية عن طريق الوعظ والإرشاد، وأن ترفع مكافآت الأئمة والوعاظ من جنيه واحد أو جنيهين في الشهر إلى المرتب الذي يناسب طبقة العلماء والمدرسين، واشتمل التقرير المتقدم إلى المجلس الأعلى بديوان الوقاف على تفاصل لهذه اللائحة - لائحة المساجد - تبسط الغاية من هذا المشروع لولاة الأمور، وهي تزويد البلاد بقوة من قوى التربية الاجتماعية واليقظة الوطنية، تحقق للأمة مقصدا لا يقل في أثره الواسع عن أثر المدارس والجامعات.
ولو كتب لهذا المشروع أن ينفذ على الوجه الأمثل لخلق تلك العناية في مدى سنوات، ولكنه لم يكد ينتهي إلى علم الخديو قبل عرضه على المجلس الأعلى، حتى تحركت دواليب الدسيسة لإحباطه والتشهير به في كل مكان، ولم يكن من السهل أن يجترئ أحد على التشهير بمشروع كهذا المشروع لا يختلف في نفعه رأيان، ولكن الحجة التي لا يسندها الرأي قد تسندها حروف المواثيق المطوية في أضابير الديوان، وليس في تلك المواثيق نص على المباخر الصحية، ولا على دروس التربية الاجتماعية، وليس لكل مسجد وقف محبوس عليه يكفي لمرتب الإمام العالم وتكاليف الدراسة العامة، وقد يجوز للناظر على الأوقاف عامة أن يرصد تكاليفها جملة ولا يفرقها أجزاء ينفصل بعضها عن بعض بإداراته والإشراف عليه، ويجوز له أن يتمم النفقة على المسجد بالنفقة على سائر الخيرات التي لم يقيدها الواقفون بوجه من وجوه الإنفاق غير وجوه الإحسان، ولكن الناظر العام على الأوقاف يصنع ذلك إذا كان من همه أن يصنع الخير حيثما السبيل وجد إليه، ولكنه يقف عند كل حرف من حروف الحجج المطوية إذا كان من همه غير ذلك، أو كان من همه - على عكس ذلك - أن يغلق الباب دون كل مشروع من هذه المشروعات العامة تتحول إليه مصارف الأوقاف وتخرج بذلك من قبضة يديه. وقد كان القاضي الأكبر في القاهرة لذلك الحين يتولى منصبه بالإرادة السلطانية من دار الخلافة العثمانية، وكان ينقم على المفتي رأيه في استقلال مصر عن السيادة التركية، وينقم عليه فوق ذلك مكانته في البلاد الإسلامية، وهو في رأي نفسه أولى بتلك المكانة من مفتي القاهرة التابعة لمقر الخلافة في الآستانة، فلم يكن أيسر من حمله على الحكم بمخالفة المشروع لشروط النظارة واحتجاجه على تنفيذه بغير إذن من صاحب الولاية الشرعية، ولم تكن شئون المساجد مما يعرض على الوكالة البريطانية؛ لأنها من صميم المسائل الدينية التي تعهدت باجتناب المساس بها فيما أعلنته من سياستها العامة، ولكن ولي الأمر الشرعي أرسل اللائحة إلى دار الوكالة، ثم أبلغها احتجاج القاضي الأكبر عليها، وأراد مرة أخرى أن يأباه الدين ويخشى أن يعرضه لاستنكار دار الخلافة وتدخل الوكالة البريطانية! •••
أما الرجل المغضوب عليه؛ لأنه مصاب بداء الإصلاح ... فقد لاحقه ذلك الداء العضال إلى عقر داره بعين شمس، ففارق الجامعة الأزهرية وهو يفكر في خطته الأولى التي اقترحها على أستاذه السيد جمال الدين في مقتبل صباه، وراح يعد العدة لافتتاح مدرسته إلى جوار بيته لتخريج الدعاة ورسل الإصلاح ممن يتقبل دعوته ويؤمن بمقاصده، وتمت العدة لذلك، أو كادت، لو لم تدركه المنية قبل موسم العمل، فقضى نحبه صيف ذلك العام بعد اعتزاله إدارة الأزهر بثلاثة أشهر.
الفصل الحادي عشر
Unknown page