تمهيد
1 - العصر
2 - القرية
3 - الأزهر
4 - محلة نصر
5 - محمد بن عبده بن حسن خير الله
6 - محور حياة
7 - مع جمال الدين
8 - مع الثورة العرابية
9 - القضية القومية
10 - في الأزهر
11 - مع عباس الثاني
12 - المحسن المعلم
13 - المصلح الفيلسوف
14 - شخصية ولا شخصية
15 - سنوات في تاريخ الأستاذ الإمام
تمهيد
1 - العصر
2 - القرية
3 - الأزهر
4 - محلة نصر
5 - محمد بن عبده بن حسن خير الله
6 - محور حياة
7 - مع جمال الدين
8 - مع الثورة العرابية
9 - القضية القومية
10 - في الأزهر
11 - مع عباس الثاني
12 - المحسن المعلم
13 - المصلح الفيلسوف
14 - شخصية ولا شخصية
15 - سنوات في تاريخ الأستاذ الإمام
عبقري الإصلاح والتعليم
عبقري الإصلاح والتعليم
الإمام محمد عبده
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
نبدأ هذا الكتاب بفصل عن عصر اليقظة، يليه فصل عن حياة القرية المصرية في ذلك العصر، يليه فصل عن الجامع الأزهر فيما اتصلت به حياة القرية من رسالته الفكرية والاجتماعية؛ لأننا نفضي من كل تاريخ من هذه التواريخ الثلاثة إلى تاريخ صاحب السيرة، أعظم من أنجبته القرية ونهض برسالة الأزهر في عصره، عبقري الإصلاح والهداية محمد عبده، قدس الله روحه وأعاننا على التعريف بفضله والتعريف بواجبنا من بعده.
تمهيد نفتتح به هذه السيرة العطرة، لنبسطها على ما نتحراه في سير العظماء جميعا، صورة نفسية تعنينا منها حوادث الزمن ومواقع الأمكنة وأرقام السنين بمقدار ما تمثله لنا من ملامح الصورة ومعالم الحياة التي تصورها، وكل ما في هذه الصفحات من أحاديث التاريخ والرواية عن محمد عبده في نشأته وأسرته وصحبته وعوارض أوقاته من مولده إلى وفاته، فالذي نتحراه منه أن يكون عضوا من أعضاء قوة حية، قبل أن نتحراه جزءا من فترات التاريخ وجزءا من الخريطة الجغرافية، ويملى لنا في مقصدنا أن صاحب هذه السيرة - خاصة - ينبوع قوة روحانية تطوي عوارض الزمن وصغائر الدنيا فيما تفيض به من حياة إنسانية، يخلص لنا منها بعد تمحيص الجوهر عن نفايات الأوشاب والأخلاط، أشرف ما تتحلى به نفس الإنسان، في العالم الخالد الذي يذهب بالزبد ويبقى ما ينفع الناس.
وسنبلغ مقصدنا من هذه الصفحات إذا جلونا بها صورة يلتفت إليها طلاب القدوة الحسنة من أبناء هذا الجيل، فيجدون أمام أعينهم - محمد عبده - إماما هو أولى أئمة العصر أن يأتم به المقتدي فيما اضطلع به من أمانة العقيدة، وأمانة الفكر، وأمانة الخير، وأمانة الحق، وأمانة الإخلاص للخلق والخالق، في كل ما يتولاه الإنسان - الجدير باسم الإنسان - من نية وعمل، ومن سر وعلانية.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
العصر
قيل: إن أحلك ساعات الظلام هي ساعة الهزيع الأخير من الليل قبل مطلع الفجر الصادق بلحظات.
ويصدق ذلك على أوقات الظلام في عصور التاريخ، فإن أظلم أوقاته لهو الوقت الذي يسبق فجر اليقظة بقليل من السنوات، ثم تأتي اليقظة في حينها؛ فإذا هي بصيص النور الأول قبل تباشير الصباح.
وعلى هذه الوتيرة كان القرن الثامن عشر في الشرق العربي أحلك ساعات ليله الطويل؛ ليل الجهالة والجمود، ولم تكن بين العصور نسبة متصاعدة في ترتيب الزمن كتصاعد الأرقام في حساب القرون، فلم يكن القرن الثامن عشر - مثلا - أعرق في النكسة و«الرجعية» من القرون التي تليه إلى أواخر القرن السابع عشر الذي بدأت به نهضة العالم العربي في العصر الحديث، بل كان القرن الثامن عشر أسوأ - ولا ريب - من أسوأ القرون التي تقدمته في أيام الجهالة والجمود؛ لأنه القرن الذي انبعثت فيه المسألة الشرقية من بقايا الحروب الصليبية، فكان نذير الخطر الأكبر؛ إذ كان الخطر قد تفاقهم وتراكم، وتجمع وتوسع، حتى لا مزيد.
وكانت المسألة الشرقية قد تمخضت عن دور آخر وراء دور الحروب الصليبية؛ وهو دور التفاهم بين دول الاستعمار على تركة الرجل المريض، فبعد أن كان الغرض من المسألة الشرقية انتزاع الأقطار المسيحية من أملاك الدولة العثمانية، أصبح هذا الغرض - كما قلنا في كتاب ضرب الإسكندرية - «هو تقسيم أقطارها جميعا من مسيحية وإسلامية، وتنازل الأعضاء عن كل نصيب متفق عليه يقع في قبضة الطامعين فيه من المتنازعين على التركة وصاحبها بقيد الحياة».
غير أن المسألة الشرقية صنعت من المعجزات في إيقاظ الشرق ما لم تصنعه الحروب الصليبية.
لأن الشرق العربي انتصر على الغرب في تلك الحروب ورد عادية الدول الأوروبية عن ذماره، فقنع بما انتهى إليه وبقي على حاله التي هو فيها، وهبط من بعدها دركة تحت دركة، حتى أصبحت أممه بين موروث بقيد الحياة، وبين ميراث كأسلاب الغنيمة مقسم فيمن يقدرون على السلب والاقتسام.
لكن المسألة الشرقية جاءت في أوانها هذا فصنعت من المعجزات ما لم تصنعه تلك الحروب، وكان سر هذه المعجزة أنها فتحت أعين الشرق على مواطن عجزه ونقصه، وعلمته قهرا ما كان يأبى أن يتعلمه باختياره، فأدرك حاجته إلى التغيير العاجل، وأدرك ما هو ألزم له من ذلك، وهو حاجته إلى علم يجهله، واعتقاده أن أمم الغرب قد انتصرت بذلك العلم عليه، وأنه لا غنى له عن ذلك العلم ليستعيد القوة التي انتصر بها على أعدائه، قبل أن ينتصروا عليه ويأخذوا عليه كل طريق غير الفناء أو التغيير، ومن لم يطلب التغيير بعلم يتعلمه من المنتصرين عليه، فقد آمن بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وآمن بأن قومه غيروا دينهم فتخاذلوا وانخذلوا، فلا نجاة لهم بغير الرجوع إلى الدين الصحيح، مبرأ من لوثة البدعة والخرافة، سليما من شبهة الدجل والغفلة.
فإذا كانت قارة الاستعمار قد حصرت خطتها حيال الشرق في سياسة واحدة تريدها وتتعمدها، فهناك كما قلنا في كتابنا عن الكواكبي «سياسة أخرى لم تردها ولم تتعمدها تلقاها الشرق منها فهب لمقاومتها، وتيقظ لمطامعها، ونزل معها في ميدانها الذي استفزته له باختيارها وبغير اختيارها ... ونقصر القول على الشرق العربي كما كان في أواسط القرن التاسع عشر ... ففي تلك الفترة كانت مصر قد ظفرت بحصة كبيرة من الحكومة الذاتية، وكان لبنان قد خرج بعد الفتن والأزمات بنصيبه المقرر من الامتيازات الداخلية، وكادت جزيرة العرب أن تنعزل بالعودة الوهابية وتوشك أن تمتد منها إلى العراق، وكان العراق في صراعه مع حكم المماليك يتقدم في خطى سراع إلى الخلاص من ذلك الحكم المضطرب بين الكساد والوباء ... ولعلنا ندرك حقيقة الحال ونعلم أن وعود الإصلاح كانت ضرورة لازمة ولم تكن إنعاما ولا إحسانا من ولاة الأمور، إذا نظرنا إلى بقاع العالم العربي فلم نجد فيه بقعة راضية بما هي فيه، ولم ينهض أهلها للمطالبة بنوع من الإصلاح على نحو من الأنحاء، فتحرك السودان وتحركت الصحراء وتحركت قبائل المغرب في ثورتها، بل في ثوراتها التي تكررت ولا تزال إلى اليوم، وصدق على العالم العربي بين أطرافه المترامية قول القائلين في الغرب: «إنه مارد خرج من القمقم ولن يعود إليه.» وكان في الحق ماردا هائلا يتململ في الأسر ليخرج من قمقمه المظلم المحصور، ولكنه لم يكن ماردا معصوب العينين كما صوره أولئك الراصدون للقمقم، أو كما أرادوا أن يتصوروه؛ إذ كان للمارد زمامه في أيدي الهداة من القادة الملهمين ومن رواد الثقافة الأولين، وكان لهذه الهداية بين المسلمين وغير المسلمين طابع الشرق الخالد منذ الأزل، طابع العقيدة والإيمان. وربما قال الجامدون قبل المجددين: «إن الأوروبيين عملوا بأدب الإسلام، فأعدوا العدة ونظروا إلى حكمة الله في خلقه، فتقدموا وتأخر المسلمون.» •••
ونحن الآن نغتبط بالمصير الذي انتهت إليه المسألة الشرقية بعد منتصف القرن العشرين، ولكن واجب العظة الصادقة يتقاضانا أن نذكر في كل حين أن الشرق لم يكن سريع الخطى في انتقاله من دور الجمود إلى الخلاص؛ لأنه قضى نحو قرن كامل يجاذب بعضه بعضا عن الطريق القويم بين من يحسبون أن الخلاص كله في اتباع الجديد على علاته، ومن يحسبون أن هذا الخلاص مطلب بعيد المنال علينا، إذا نحن لم ننبذ الجديد بقضه وقضيضه، وكأنما خرج المارد من القمقم إلى فضاء الأرض والسماء، ولكنه خرج إليه مكبلا بالأغلال والأعباء التي تثقل الرءوس قبل أن تثقل الأقدام، ولبثت كل أمة من أمم الشرق الأدنى تنتظر القارعة التي تخصها بالعظة بين جاراتها وأخواتها التي تشبهها في المصاب وتشبهها في المصير، فلم تتعظ أمة من هذه الأمم بمصاب غيرها على النحو الرشيد الذي يعفيها من تكرار الجهود وابتداء المسير من جديد، وكأنما أثقال الماضي أكبر وأخطر من دواعي اليقظة والحركة في الحاضر والمستقبل، فبقيت هذه الأمم المتيقظة تجرجر وراءها تلك الأثقال شوطا بعيدا بعد استقامتها على منهج الإصلاح المحتوم.
وفي مصر كانت حملة نابليون هي الصدمة الكبرى التي خصتها بدروسها العاجلة، وكانت دروسا محتومة لا تمهل المتعلم أن يتردد بين الجمود والحركة.
وربما كانت الغلبة العسكرية أضعف تلك الدروس أثرا؛ لأن هزيمة المماليك لم تقع من الأمة موقع الدهشة، ولم يصعب على الذين كلفوا أنفسهم تدبر عواقبها وأسبابها أن يردوها إلى غضب الله، وأن يعتبروا بعبرتها عقابا للقوم على الظلم والطمع وسوء السيرة، وغلبة الترف والنعومة في الكثيرين منهم على صفات البأس والنخوة، كما قال شاعر الجبرتي:
إنما هذه البلاد لأقوا
م حموها بالصارم المسلول
وأرى دولة المماليك مالت
لشروب اللذات (كل مميل)
واغتنوا عن تجريد سيف ورمح
بقوام لدن وطرف كحيل
ولكنهم علموا أن ظلم المماليك قد يسوق إليهم من يغلبهم ويقهرهم، ولكنه لا يضع في يد الغالب القاهر سلاحه الذي يصول به على عدوه فيقهره ويستذله، وإن لم يكن أحمد منه سيرة وأقل منه فسادا، كما شهدوا بعد ذلك من سيرة «الفرنساوية» في هذه الديار، ثم نظروا فعلموا أن نابليون لم يزحف على المماليك بجيش واحد بل بجيشين؛ جيش يحمل السلاح، وجيش آخر من جماعة العلوم والفنون يحمل الكتب والأوراق، وهو الجيش الذي حشده «الفرنساوية» في المدينة. «وأفردوا للمدبرين منهم، والفلكيين، وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات، والمصورين، والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية، حيث الدرب الجديد وما به من البيوت، وفيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة، وكان في تلك المكتبة زيادة عن الكتب العلمية والتاريخية أطالس فيها صور من سلف، وصور الأماكن التاريخية، وخرط البلاد والمدن، والحيوانات والطيور والنباتات، وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم، وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانه المختص بعلم الآلات الفلكية، وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السفاري وهم المصورون لكل شيء، ومنهم أريجو الذي أبدع تصوير المشايخ المعينين بالمجلس، وفريق منهم يحنطون الحيوانات والأسماك، وأفردوا أماكن للمهندسين، وسكن الحكيم «رويا» ببيت ذي الفقار كتخدا، ونظم دار الأدوية به ومعه عدة من الأطباء والجراحين، وأفردوا مكانا في بيت حسن كاشف شركس لعمل التحليلات الكيميائية والظواهر الطبيعية، وأفردوا أيضا مكانا للنجارين وصناع الآلات والأخشاب».
وربما كان من بواعث إحياء الثقة بعد موتها، ومن بواعث الإقبال على هذه العلوم الغربية بعد النفور منها والإعراض عنها، أن أذكياء البلد فهموا أنها «بضاعتنا ردت إلينا»، وأن الفرنسيين إنما أخذوا من علومنا في المشرق ما أهملناه وضيعناه، فبلغوا به من القوة حديثا مثلما بلغناه قديما، ولا يزالون يبحثون عن المزيد ليبلغوا فوق ما بلغوه، ومكن لأذكياء البلد من هذا الاعتقاد أنهم نظروا إلى الجلة المختارة من علماء القوة، فرأوهم يجدون في البحث ولا يترفعون عن التمرغ بالأتربة والخرائب، ليكشفوا بين ودائعها عن أسرار الكيمياء والفلك وأخبار الري والزراعة، ولم يتورعوا عند سفرهم عن حمل ودائع المساجد وخزائن الكتب بما اشتملت عليه من المخطوطات المطلوبة والنسخ النادرة، تنفيذا للمادة الحادية عشرة من شروط الصلح الأخير التي تنص على: «أن أرباب العلوم والصنائع يأخذون معهم جميع الأوراق والكتب مما لا يخصهم فقط، بل كل ما يرونه نافعا لهم.» •••
وقد فارقت الحملة الفرنسية مصر ولم تفارقها فكرة التقدم العصري الذي سبق إليه القوم بعلوم ابتكروها أو بعلوم اقتبسوها منا، وآن لنا أن نردها إلينا.
ولكنها كانت فكرة تحوم بين بعض الرءوس ولا يظهر لها أثر في الحياة العامة؛ لاختلاف النظر بين طلاب الجديد على علاته وأعداء الجديد بحذافيره، ولأن التجديد في الحياة العامة مطلب تتولاه الهيئات المنظمة والحكومات المطاعة، ولا يستقل به الأفراد في جهود مبعثرة وآراء متضاربة، فلما قامت في مصر أول حكومة ذاتية بعد حملة نابليون، لم تلبث أن أحست وطأة الضرورات العملية وإلحاح المطالب الموقوتة، ولم تكن هذه الضرورات مما يحتمل التسويف بين الآراء المتشعبة والوجهات المتعارضة، ووجب على ولاة الأمر أن يوطنوا أنفسهم على مصير كمصير المماليك، أو يبتدروا الزمن إلى الانتفاع العاجل بتجديد التعليم والتصنيع، فأخذوا في بناء المدارس، وإرسال البعوث، وإنشاء المصانع، وتنظيم الدواوين، وضبط موارد الثروة، وعملت المطبعة عملها في نقل المؤلفات النافعة وإحياء الذخائر السلفية، وتداولت أيدي المثقفين القلائل كتب الأجانب في علوم التاريخ والفلك والجغرافية والطبيعة والكيمياء وشئون الحكم والاجتماع، كما تداولت كتب الأدب والثقافة من آثار السلف المهجورة، واتجهت الهمم إلى جمع هذه الآثار من مظانها في المساجد والزوايا وخزائن القصور، فلم يمض جيل واحد بعد الحملة الفرنسية حتى ظهر «الرجل المثقف» في البيئة المصرية، ولم تخل منه بيئة من بيئات التقليد والرجعة إلى القديم، وهي على عادتها في الأزمنة المختلفة أعدى أعداء التحول والتجديد.
وشرط الرجل المثقف في كل عصر أنه «ابن عصره»، وأن طابع عصره يلازمه في تفكيره وعمله كما يلازمه في نظرته إلى العالم من حوله، فلا يعيش في الزمن الحاضر بعقل الزمن الماضي، ولا يترجم الواقع والحقيقة بلغة الوهم والخرافة. وقد وجد هذا الرجل المثقف في كل بيئة من بيئات التقليد والتجديد، فثبت طابع العصر على أبناء القرن التاسع عشر قبل انتصافه، ولا نعني بثبوت طابع العصر في تلك الفترة أنها أخذت كل ما يعطيه العصر من علومه وفنونه وأفكاره وخواطره، ولا أن المثقفين في الأمة غلبوا على أفكارها وخواطرها، أو غلبوا على كل ما بقي في رءوسهم وصدورهم من ميراث ماضيهم، لكن ما نعني أنهم استطاعوا أن يفتحوا أعينهم على النور بعد الظلمة، فأبصروا غاية ما تمتد إليه تلك الأعين من منظور معروض بين أيديهم تحت أضواء النهار، ولم يزل فيهم بعد ذلك حديد النظر وكليله، بل لم يزل فيهم من هو طويل النظر ينظر إلى البعيد ولا ينظر إلى القريب بين يديه، أو ينظر إلى القريب اللاصق به ولا يعدوه إلى ما وراءه.
كان القرن الثامن عشر أحلك ساعات الليل قبل مطلع الفجر، فلما طلع الفجر وأشرق من بعده النهار تيسرت الرؤية لمن يستطيعها كما تستطيع عيناه، وهذا هو الفارق بين المثقف ابن عصره في منتصف القرن التاسع عشر، وبين الجامد على قديمه قبل ذلك بخمسين أو ستين سنة، فارق بين من ينظر بعينه، وبين من يتخبط في الظلمة أو يقاد.
من هؤلاء الناظرين بأعينهم إلى النور بعد منتصف القرن التاسع عشر، بل في الطليعة من أولئك الناظرين البصراء إلى حقائق زمانهم، نابغتنا الريفي الأزهري الذي علم علم اليقين، بل آمن إيمان الدين المتين، أن «التقدم العصري» رهين بعلوم - لنا - أهملناه وهجرناها، وعلوم للمعتدين علينا سبقونا إليها ولم نلحقهم في غير القليل منها، وهي حقيقة من «بديهيات» أيامنا هذه بعد منتصف القرن العشرين، ولكن نابغتنا الريفي الأزهري - محمد عبده - كان يقررها بعد منتصف القرن التاسع عشر، فيجد أمامه من يخاطبهم بمثل ذلك المقال الذي كتبه في صحيفة الأهرام الأسبوعية، وتحرى فيه أن يكتبه بأسلوبه المخضرم بين القديم والحديث، فقال:
ليت شعري إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم قد أرضعت ثدي الإسلام، وغذيت بلبانه، وتربت في حجره، وتقلدت في إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة ... فما حالنا بالنسبة إلى علوم جديدة مفيدة هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان ... لا بد لنا من اكتسابها وبذل المجهود في طلابها؟ ... كنا نؤمل أن المبنج يفيق بشم روح النوشادر ... في زمان جرى فيه سيل العلوم حتى عم أنحاء الكرة على العموم ... وظهر فيه التوازن بينها وبين أحوالنا المهجنة؛ كثروتهم وفاقتنا، وعزتهم وذلتنا، وقوتهم وضعفنا، وقدرتهم وعجزنا، وصولتهم وانهزامنا، وغير ذلك من المزايا والرزايا التي لا تعد ... لكن صمت الآذان وعميت الأبصار، ختم الله على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم.
وقد كان الشاب محمد عبده يدعو هذه الدعوة وهو في الطليعة من أبناء جيله، ولكنه سجل بها طابع العصر كله من منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، ومن هزيع الليل الأخير، إلى مطلع النهار.
الفصل الثاني
القرية
إذا أحاطت ألفاف الظلام ببقعة من الأرض خفيت معالمها ولم يتبين منها موضع من موضع، وخيل إلى الناظر إليها على البعد أنها خلاء بلقع، أو أنها مسكن مهجور لا يأوي إليه ديار، ولا ينبعث منه بصيص نور.
ويقترب السالك إليه فلا ينمحي أمام عينيه آية الظلام، ولكنه يرى معها شيئا غير الظلمات التي أطبق بعضها على بعض، شيئا من النور هنا وهناك؛ بين سراج ضئيل على باب دار، أو فتيلة خافتة عند زاوية جدار، أو نار تشب للهداية، أو موقد يضرم للطعام، شيئا آخر من بصيص النور غير ألفاف الظلام.
على حالة مثل هذه الحالة كانت صورة القرية المصرية في العصر المخضرم بين أواسط القرن الثامن عشر وأواسط القرن التاسع عشر: صورتها من خلال التاريخ العام ظلام وموات، وصورتها من قريب تتجلى عن شيء غير الظلام والموات، بصيص من النور ورمق من الحياة.
ينظر القارئ في صفحات التاريخ العام منذ قرون ترجع إلى ما قبل الميلاد، فلا يفرغ من قصة دولة طاغية إلا ليبدأ في قصة دولة باغية، ولا ينتهي من حكم دخيل إلا لينتقل إلى حكم أصيل، يضطرب بين الضعف والشقاق وبين العسف والجمود، وينطمس في أثناء ذلك كل ما تخلله من بريق هنا ووميض هناك، فلا تنطبق الصفحات آخر الأمر إلا على ألفاف من الظلمات، كتلك الألفاف التي تحيط بالسالك في غياهب الليل، فلا يبصر وراءها غير ظلام مطبق على ظلام.
وينتقل قارئ التاريخ العام من تاريخ القرية على حدة، فيرى شيئا آخر إلى جانب الطغيان والمذلة، شيئا من العزة هنا ومن السخط هناك، وشيئا من الشعور بغير التسليم وراء كل تسليم، ولكنه متفرق متقطع يراه الناظر إذا تبينه وفتش عنه، ولا يكاد ينكشف له من النظرة الأولى في نطاق أوسع من نطاق الآحاد منفردين متفرقين.
ومن الحق ألا يعجب قارئ التاريخ العام من هذه الصورة المختلفة للقرية المصرية في تلك الفترة، فإنه كان أحرى أن يعجب لتلك القرية أن تبقى فيها بقية من التربة المخصبة بعد جوائح القحط والجدب والاغتصاب والانتهاب، وعوارض الجفاف من سوء الزرع وسوء الري أو سوء توزيع المياه إن فاضت به مجار، فإذا كان هذا كله لم يستنفذ ذخيرة الخصب في هذه الأرض العتيقة، فلا عجب أن تبقى للنفس البشرية ذخيرة من قوة الحياة بعد أن أصابها من غوائل الزمن ما أصاب أرضها من خراب وجدب واغتصاب.
وواقع التاريخ العام - عند التأمل فيه - أنه لم يخل قط من دلائل القوة الكامنة وراء ظواهر التسليم والجمود، وإن طال الكمون والجمود أحيانا إلى أجيال وراء أجيال.
فالتاريخ العام لم يخل من ثورة المقاومة بعد مظالم بناة الأهرام، ولم يخل منها في إبان دولة الرومان، وربما كانت المسيحية المصرية شعلة من شعل هذه الثورة بما شرعته لأهلها من عقيدة تنكر عقيدة الدولة الحاكمة، وربما ساقت إليه العازفين عن الطاعة العمياء من عزلة الدير ووحدة الرهبانية ... ومن أبى تلك الطاعة العمياء من غير أهل الخير والتقوى، فلعله لم يحمل سلاح العصيان ولم يذهب مع العصب والمناسر إلا استباحة لعصيان الحاكم الظالم قبل استباحته للحرام من الأنفس والأموال.
وينبغي أن نذكر أن الحاكم الظالم لم يكن في وسعه أن يستأصل جذور الحياة في القرية لو أراد، وأنه لم يكن له مأرب في استئصالها، ولم تكن له خبرة بوسائل استئصالها لو كان له من بعد النظر ما يخيفه من عواقبها في الزمن البعيد، فأما مأربه منها في حاضر وقته فكل همه منه محصول الزرع الذي يحمل إليه وهو قابع في قصور المدينة، ومن حمله إليه من أعوانه فهو في تسخيره للحارثين والكادحين لا يستغني عن مسألة فريق منهم ومداراة آخرين، بل عن بذل الرشوة لمن يعرفون في القرية من العاملين والمتمردين.
وكان ملتزم الزرع والضريبة لأصحاب السلطان في دولة المماليك أحوج ما يكون إلى تلك المداراة، سواء في القرى التي يملكها أبناؤها أو في القرى التي تزرع على «الروك» كما كانوا يسمون الزرع المشاع بعد أيام الأيوبيين.
فالمالكون لأرضهم على قلتهم كانوا في بلادهم أرسخ قدما وأعصى مقادا على الملتزم، من أن يسوقهم بعصا الإكراه والتسخير، وقد يرضي فريقا منهم بالتزامات صغيرة إلى جانب التزامه الكبير.
والزارعون في أرض «الروك» غرباء عن الملتزم في كل قرية غير قريته التي ولد فيها إن كان من أهل القرى، أو هم غرباء عن مدينته إن كان من أهل العواصم البعيدين عن الريف، فسبيله إليهم أن يرضي من يعرفهم وأن يحسب لهؤلاء حسابهم؛ لأنهم إن كانوا أضعف بأسا من أن يقدروا عليه، فهو أقصر يدا وأعجز وسيلة من أن يقدر عليهم أجمعين، وأن يستفيد من قدرته عليهم كارهين مضربين.
وقد كانت لموارد القطر كله حصيلة يحسبونها بالقراريط أربعة وعشرين قيراطا، موزعة بين الأمراء والجند ومرافق الدواوين وأعمال القناطر والجسور والأحواض، وكانت من هذه القراريط حصة محجوزة لأولئك الرؤساء المقدمين بين أبناء الريف، يسمونهم في سجلات الدولة بالعلماء أو مشايخ العربان، ويسمون «بأبناء العرب» كل من لم يكن من أبناء الترك والجراكسة وأعاجم الجند من كل قبيل، فلم يكن «مشايخ العربان» كلهم بدوا يعيشون في مضارب الخيام، بل كان أكثرهم من الفلاحين والقرويين. •••
إن منفذ الحرية، أو منفذ المقاومة، أو منفذ الشكاية الذي بقي لأبناء القرى في أواخر عهد المماليك، قد يتمثل لنا في حادث من حوادث كثيرة رواها المؤرخون لتلك الفترة، ولكن هذا الحادث قد جمع من مراجع السلطة وأساليب المقاومة، واشترك فيه الأمراء والعلماء وجمهرة الشعب على مثال يستحق أن نفرده بالذكر في هذا المقام.
روى الجبرتي في الجزء الثاني أن الفلاحين في قرية من قرى مركز بلبيس شكوا في شهر ذي الحجة سنة 1209 هجرية/1795 ميلادية، إلى الشيخ عبد الله الشرقاوي كبير علماء الأزهر، ظلما لحق بهم من أتباع محمد بك الألفي أمير المماليك المشهور، فأبلغ الشيخ شكواهم إلى كل من مراد بك وإبراهيم بك، ليخاطبا الألفي بك في هذه الشكوى ويطلبا إليه أن يكف أتباعه عما يوجبها، وانقضى زمن على هذا البلاغ بغير جدوى، فجمع الشيخ الشرقاوي علماء الأزهر وتشاوروا في الأمر مليا، فانتهوا إلى إنذار الأمراء جهرة بالمقاومة، واتفقوا على إغلاق أبواب الجامع ودعوة التجار وأصحاب الأعمال إلى إغلاق الدكاكين وحوانيت التجارة، وإعلان ما نسميه اليوم بالإضراب العام، ثم ركب الشيخ الشرقاوي والعلماء في اليوم التالي وتبعتهم جماهير الشعب إلى منزل الشيخ السادات، لإشراكه وإشراك أتباعه معهم في مقاومة الأمراء حتى يستجيبوا إلى مطالبهم، وكان لإبراهيم بك قصر بجوار بيت السادات، فرأى هذه الجموع التي لا يكف عنها المدد مما حوله، وهالته كثرتها، فأرسل من يسأل عن سبب اجتماعها، ثم علم بالسبب، فلم يجسر على الذهاب بنفسه إلى مكان الاجتماع، وأناب عنه الدفتردار أيوب بك لاستماع أقوال العلماء والسعي في تحقيق ما طلبوه، فعلم منهم أنهم يريدون كف المظالم وصيانة الأموال والأرواح ورفع المكوس والضرائب إلا ما يرتضيه الرعية، فخاطبهم أيوب بك في تخفيف بعض هذه المطالب، والاكتفاء بتعجيل بعضها مما يستطاع إنجازه لوقته، وقال: إن رفع المكوس والضرائب دفعة واحدة متعذر، وإنه قد يرفع شيئا فشيئا، وإلا «ضاقت علينا المعايش والأرزاق». فصارحه العلماء قائلين: إن الأمراء ينفقون الأموال فيما لا حاجة به ولا خير فيه، وما الحاجة إلى إنفاق المال في البذخ والترف والاستكثار من الجواري والمماليك؟ إن الأمير يعطي ولا يأخذ ما في أيدي الناس، وإن الإنفاق على اللذات وضروب الزينة الخاوية إسراف وفضول.
ولم يستمع العلماء جوابا شافيا في ذلك المجلس، فباتوا ليلتهم في حرم المسجد على أن يخرجوا في الصباح إلى الميادين والساحات العامة، معلنين الأمراء بخلع الطاعة والاستجابة إلى أحكام الشريعة، فبادر إبراهيم بك إلى طلب المعذرة منهم، وأحال التبعة في رفض مطالبهم إلى إصرار المخالفين له من أمراء المماليك، وعلى رأسهم صاحبه مراد بك، وأبلغهم أنه يؤيدهم ويحارب في صفوفهم إذا أصر المخالفون على الرفض والمراوغة، وكاشف مراد بك في الأمر مستحثا له على عمل شيء عاجل لتهدئة المدينة قبل انفجار الشعب كله بالعصيان.
وكان الوالي الأكبر يرقب الحالة لينظر ما يصنعه أمراء المماليك لتدارك الخطر قبل استفحاله، فلما كان اليوم الثالث ولم يصنعوا شيئا، قصد إلى قصر إبراهيم بك وجمع هناك كبار الجند وأصحاب الكلمة النافذة في عساكر المماليك، وأرسلوا إلى العلماء والرؤساء يدعونهم للمشاورة ويعدونهم بإبرام الأمر على ما يحبون، فحضر من رؤسائهم كل من الشيخ الشرقاوي، والشيخ الأمير، والشيخ السادات، والسيد عمر مكرم، والشيخ البكري، وهم نواب الأمة المختارون لهذه الملمات، وانفض الاجتماع بعد طول الأخذ والرد بقبول ما طلبه العلماء، وكتابة موثق بذلك على الأمراء أن يتبعوه ولا يخالفوه، ووقعوا جميعا على الحجة الشرعية التي تسجل هذا الموثق وخلاصتها: أن يدين الأمراء بقضاء المحاكم في قضايا الحقوق، وأن تفرض الضرائب بموافقة الرعية على حسب الأحكام الشرعية، وأن يمتنع عدوان الحاكم بغير جريرة من المحكومين. وسميت هذه الوثيقة بالحجة الشرعية على عادة قضاة الشريعة في تسمية هذه العقود، ولو أنها كتبت في بعض البلاد الأوروبية لجاءنا خبرها مع كتب القوم في علوم السياسة الحديثة، بعنوان من تلك العناوين الكثيرة عن حقوق الشعب، أو الدستور الأكبر، أو «الماجنا كارتا»، وما إليها من مصطلحاتهم التاريخية، ولكن العلماء الذين دعوا أمراء العصر إلى توقيع ذلك العهد، لم يحسبوا أنهم جاءوا إلى الناس بعهد جديد غير التذكير بعهد كتاب الله وسنة رسول الله التي نسبها أولئك الأمراء، وكتب الموثق «حجة» عليهم بشهادة الرعية وشهادة «الأمة» التي تأمر بالمعروف من عباده العلماء. •••
وقد بقيت للقرية هذه البقية الصالحة من القدرة على المطالبة والشكوى من الظالم إلى ما بعد عهد المماليك بزمن طويل، ولم تكن في كثير من الأوقات كافية لرفع المظالم وكف يد الظالم، ولكنها كانت في أحلك الأوقات كافية لتحريك القوة الكامنة في قلب إنسان مؤمن بالعدل والخير، متحفز للجهر بما يؤمن به حيث يجدي الجهر بالإيمان، أو يجد له مستمعا من القلوب والآذان.
وقد أرخ إمامنا صاحب هذه السيرة لهذه الظاهرة الاجتماعية في تلك الفترة بعينها، فقال رحمه الله في مقاله عن محمد علي رأس الأسرة الخديوية: إن الأمراء «اضطروا أن يخففوا من ظلمهم، وأن يتخذوا لهم من الأهلين أنصارا يؤازرونهم عند قيام الحرب بينهم وبين خصومهم، فلما أحس الأهلون بحاجة الأمراء إليهم، زادوا في الدولة واضطروهم إلى قبول مطالبهم، فعظمت قوة الإرادة الشعبية عند أولئك الذين كانوا عبيدا بمقتضى الحكومة، وانتهى بهم الأمر أن قيدوا الأمراء والملوك معا ... نعم كانت الحكومة في مصر على نوع تخالف به الحكومات الشرقية، وكانت البلاد موزعة بين أمراء كل منهم يستغل قسما منها ويتصرف فيه كما يهوى، وكان كل منهم يطلب من القوة ما يسمح له بمد يده إلى ما في يد الآخر أو يدفع به صولته، فالخصام كان دأبهم والحرب كانت أهم عملهم؛ لذلك كان كل منهم يستكثر من المماليك ما استطاع ليعد منهم جنده، وكانت تعوزهم مؤنتهم إذا كثروا فاضطروا إلى اتخاذ أعوان من أهالي البلاد، فوجدوا من العرب أحزابا كما وجدوا منهم خصوما، ثم رجعوا إلى سكان القرى فوجدوا فيهم ما يحتاجون إليه، فاتخذوا بيوتا منها أنصارا لهم عند الحاجة، وعرف هؤلاء حاجة الأمراء إليهم فارتفعوا في أعينهم وصار لهم من الأمر مثل ما لهم أو ما يقرب من ذلك؛ لهذا كنت ترى في البيوت المصرية بيوتا كبيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم ... وذلك كان يقضي على كل أمير من أولئك الأمراء أن يصرف زمنه في التدبير واستجلاب النصير، وإعداد ما يستطيع من قوة لحفظ ما في يده والتمكن من إخضاع غيره، وكان أنصاره من الأهالي يجارونه في ذلك خوفا من تعدي أعوان خصمه عليهم ... وهذا يحدث بطبعه في النفوس شمما وفي العزائم قوة، ويكسب القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احتقرت نوعها، فكانت العناصر جميعها في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه ويعرف العالم مكانته».
ثم انتقل إلى عصر محمد علي، فقال ما فحواه إنه خاف على سلطانه من أبناء البلاد، «فوجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسا يستتر فيه ضمير (أنا)، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها، فلم يبق في البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. وأخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه ... فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واستقلال نفسي، ليصير البلاد جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده، على إثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة».
ثم قال: «أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة؟ أين البيوت المصرية التي كانت لها القدم السابقة في إدارة حكومة أو سياساتها أو سياسة جندها مع كثرة ما كان في مصر من البيوت الرفيعة العماد، الثابتة الأوتاد؟ ... إنه أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها، فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا، ولكنه اتخذهم آلات تصنع له ما يريد ... وظهر بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، وظهر بعض المهندسين الماهرين وهم ليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس، فاحتاجوا إلى بعض المصريين، ولم يكن أحد من الأعوان مسلطا على المهندس عند رسم ما يلزم له من الأعمال، ولا على الطبيب عند تركيب أجزاء العلاج، فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين.» •••
ومن المحقق أن الخطة التي نسبها الأستاذ الإمام إلى محمد علي إنما كانت إحدى خططه المرسومة في سياسته العامة، التي أراد بها أن يحصر الأمر كله بين يديه، وأن يجرد البلد من كل قوة تحدث نفسها بمقاومته، أو الانتقاض على حكمه، أو منازعته في شأن من شئون الدولة، سواء بدرت هذه المنازعة من جانب أبناء الترك كما كانوا يسمون المماليك عامة، أو من جانب أبناء العرب كما كانوا يسمون الفلاحين عامة، بغير تفرقة بين أبناء البادية وأبناء الريف، وكان همه الأكبر أن يتخلص من أولئك السادة الذين رشحوه للولاية وتقدموا مرة بعد مرة لمحاسبة الأمراء من قبله؛ لأنه علم أنهم قادرون على ترشيح غيره كما رشحوه، وعلى محاسبته كما حاسبوا غيره، وخشي من جانب الريف أن يدين أبناؤه لصاحب جاه أو صاحب «عزوة» من أهله، وبخاصة بعد التحالف بين بعض أبناء الريف وبعض خصومه الذين هجروا العاصمة فرارا من القتل والغيلة. ولم ينس محمد علي أن قبائل الأطراف ربما استقلت بالحكم زمنا، وامتنعت عن أداء الخراج لولاة الأمر في القاهرة كلما اتهمهم بالمروق من سلطان الدولة أو بالجور على حقوق الرعية، فلم يكفه أن يجرد أصحاب الجاه من قدرتهم على العصيان والانشقاق، بل حرص على تجريدهم من كل جاه لا يستمدونه منه ولا يرجعون به إليه.
غير أن الحاكم المستبد قد يستطيع أن يستأصل الغروس النامية، ولكنه لا يستطيع - مهما بلغ من طغيانه وحرصه - أن يستأصل الجذور الكامنة في أعماق أرضها، ولا البذور المدفونة في انتظار نبع يسري إليها أو سحابة تهطل عليها، وتتركها لما قسم لها من الحياة في تربتها.
ويظهر من سياسة الولاة بعد محمد علي أن سياسة التجريد والاستئصال لم تجرد الريف من تلك العناصر التي يحسب الوالي حسابها، ويشفق من عواقب إهمالها كما يشفق من عواقب استئصالها؛ فإن الوالي محمد سعيد لم يلبث أن شعر بسوء المغبة من هذا الإهمال، وأدرك ضرورة الاستعانة في حكم الريف، فكتب إلى الأقاليم قبل انقضاء جيل محمد علي مراسيمه التي يقول في أحدها بعد تمهيد وجيز: «وقد سنح لخاطرنا أن أجعل الحكام ممن يوثق باعتمادهم في الأمور الدينية والمدنية من عمد أبناء العرب بنواحي المديريات مع أبناء الترك، على سبيل التجربة وإبراز ما انطووا عليه من الثمرات المقصودة بالذات أو ضدها، وهناك يكون الإقدام على تقدمهم أو بتعيين تأخرهم عن برهان واضح، فابتدأنا بتنصيب اثنين من عمد نواحي مديرية المنيا وبني مزار نظار أقسام، وجعلناهما موقعا للتجربة، وأمرنا مدير الجهة المذكورة بتنصيب جانب من العمد حكام أخطاط. والآن تعلقت إرادتنا أن يكون حصول ذلك بسائر الأقاليم، فأصدرنا أوامرنا إلى المديرين عموما وهذا إليكم لتنتخبوا من عمد أبناء العرب المجربين الأطوار المتصفين بحسن الاستقامة والسياسة، من يليق بالتقدم لمناصب الحكومة ، وترتبوا نظار أقسام مديريتكم على الثلث منهم، بأن يكون اثنان - هكذا - نظار أقسام من أبناء الترك وواحد من أبناء العرب، كما أن حكام الأخطاط يكون منهم ثلاثة من أبناء الترك وواحد من أبناء العرب، وقبل أن ترتبوهم اعرضوا علينا بيان أسمائهم وأسماء بلادهم وأقسامهم وأخطاطهم ...»
وازداد شعور الولاة بضرورة المعاونة بينهم وبين أبناء القرى على حكمها وولاية شئونها، فشاعت الدعوة إلى الحكم النيابي في عهد إسماعيل، وكان من أغراض إسماعيل في مجاراته لهذه الدعوة أن يستخلص بعض السلطة من الرقابة الأجنبية باسم الأمة، ليتصرف به ما استطاع على أيدي أعوانه وأوليائه من الوجهاء وعمد الأقاليم، ولكنه - ولا ريب - كان يعمد إلى هذه الحيلة؛ لأنه يدرك أن مشاركة هؤلاء الريفيين في حصة من الحكم وسيلة لا غنى عنها لتوطيد سلطان الحاكم وضمان البقاء لصاحب الولاية الكبرى في العاصمة، ولم تكن ثورة عرابي في عصر خليفته توفيق إلا أثرا من آثار التهاون في اتباع هذه السياسة، أو أثرا من آثار العدول عنها لتغليب عنصر «أبناء الترك» على عنصر «أبناء العرب» في وظائف الجيش والحكومة.
على أن ودائع الخير في القرية لم تكن في عصر من العصور محصورة في أبناء «البيوتات» التي تتميز بالجاه والمال وسعة الثراء من الأرض والعتاد، فإن هذه البيوت نفسها لم تكن لتستقر في مكانها لو لم يكن قرارها على أساس آخر مكين ... هو أساس الأسرة أو أساس «البيت» على الإجمال، وليس بالنادر أن يكون البيت الصغير دعامة للبيوتات العالية تعزها وتعتز بها، وتتصل جميعا بوشيجة جامعة من النسب والمصاهرة، وربما تعرضت البيوتات العالية لسطوة الحاكم المستبد إذا وقفت منه موقف المناجزة، أو وقف منها موقف الحذر والريبة؛ لأنه أقوى من كل بيت منها على حدة، وأقدر على أن يأخذها متفرقة واحدة بعد واحدة قبل أن تأخذه دفعة واحدة وهي متفقة عليه. أما البيوت الصغيرة التي تتوارى عن بصر الحاكم الكبير وتغلب الظلم بالكثرة، فهي الذخيرة الخالدة التي لا تفنى مواردها، ولا يتأتى للطغيان أن يجردها من مروءة العرف التي تتوشج مع الشعور بحقوق القرابة والمصاهرة، وحياء النسيب من النسيب، ودالة الصغيرة على الكبيرة، وكرامة الكبير على الصغير، وليس من شأن القروي الذي ينتمي إلى قرابة واسعة موفورة العدد من هذه القرابات المعروفة في بلاد الريف أن يستكين إلى حاكمه الصغير في القرية إلى غير نهاية، وليس من شأنه أن يعجز عن النجاة بنفسه من جوار إلى جوار بين عشرته وذوي قرباه، كلما ضاقت به الحال وبلغ به الجور والنكاية غاية الاحتمال.
والأسرة على أوضاعها العريقة هي عصمة القروي من جور حكامه وعوارض زمانه، سواء منها ما يتوطد بالجاه والعصبة القوية، وما يتوطد بالعدد الكثير والنسب المتشعب والصهر المتجدد والعرف الموروث، متلاحقا متمكنا على مدى الأسلاف والأعقاب.
وقد صادفتنا هذه الحقيقة في ترجمتنا لسعد زغلول كما تصادفنا الآن في ترجمتنا لأستاذه وزميله محمد عبده، فقلنا في فصولها الأولى: «إن الآصرة عظيمة الشأن في آداب المصريين من أقدم عصور التاريخ، ولم يتجرد المصري من عواطف الأرحام بين أبوة وأمومة وبنوة وقرابة وآصرة دانية أو قاصية.» وذلك هو قوام العرف الاجتماعي في أخلاقه وعلاقاته، وهو أيضا قوام المحافظة المصرية التي تحب الألفة وتعرض عن البدع والخوارق. والوصايا باتخاذ الأسرة معروفة في الأدب المصري منذ آلاف السنين، ففي وصايا بتاح حوتب التي كتبت قبل أكثر من ستة وأربعين قرنا يقول الوزير لتلميذه: «إذا كنت رجلا ذا منزلة، فاتخذ لك منزلا وأحبب قرينتك الحب الجميل، وأطعمها واكسها، وطيب أوصالها، وأدخل السرور على قلبها طول حياتك ...» ولم تنس الوصية بتوقير الأسرة وصلة الأرحام بعد ذلك كلما كتبت الوصايا في العهد القديم، ففي نسخة من وصية عاني محفوظة في مخطوطات الأسرة الثانية والعشرين يقول الحكيم: «اتخذ لك زوجة في شبابك لتنجب لك ولدا تربيه وأنت في صباك، وتعيش حتى تراه في عداد الرجال، وما أسعد الرجل الذي له عشيرة كبيرة، إن الناس يوقرونه من أجل بنيه.»
وفي هذه الوصايا يقول الحكيم: «ضاعف لأمك خبزها، واحملها كما حملتك، لقد أثقلتها وما نبذتك، وظلت تحملك حول عنقها بعد ميلادك، وظل ثديها ثلاث سنوات في فمك، ولم تأنف من تنظيفك، ولم تقل قط: ماذا أصنع بهذا؟ وأرسلتك إلى المدرسة تتعلم الكتابة، ووقفت لك بالخبز والشراب كل يوم تنتظرك. واذكر إذا تزوجت وانفردت بمنزلك كيف ولدتك أمك، وكيف ربتك وتعهدتك بكل ما عندها من وسيلة عسى ألا تصيبك بضرر، ولا ترفع يديها إلى الله بالدعاء عليك، ولا يستمع الله منها إلى شكاية.»
فهذه الرحمة البيتية قديمة لم تتغير في الزمن الحديث، ومن عظم الرأفة بالبنين أن يمتد زمن الرضاع لهم إلى ثلاث سنوات كما يفهم من هذه الوصية، وأن الرأفة في تلك الأجيال السحيقة الغريبة ولو كانت رأفة الآباء بالبنين ... فالمصري اجتماعي من ناحية الأسرة وعراقة المعيشة الحضرية، أو اجتماعي من ناحية انتظام العادات والعلاقات منذ أجيال مديدة على نظام الأسر والبيوت، وهذا هو أقوى ما يربطه بالمجتمع أو يربطه بالأمة والحياة القومية. •••
إن العصور المتطاولة قد استنزفت من ثروة القرية - أنفسا وأموالا - غاية ما استطاعت أن تسلبه أو تقنيه مما لا يحصره الإحصاء، وقد نحصره بتقدير الحساب فيكفينا أن نعلم أن تعداد أبناء مصر هبط إلى ما دون الملايين الثلاثة في أخريات عهد المماليك، بعد أن أربى على الثلاثين في بعض عصور الفراعنة على تقدير بعض المؤرخين!
وربما هبط سكان القرى إلى نحو الثلثين على الأكثر من هذه الملايين الثلاثة التي بقيت في القرن السابع عشر بعد الهجرة إلى المدن والفرار على غير قرار.
وجاء عصر الإقطاع بعد الدولة الأيوبية، فصفى هذا العدد تصفيته الأخيرة حين قسم أبناء القرى إلى فريق ملازم للقرية وسماهم بالقراريين، وفريق متردد بين القرى لا ينتسب إلى مكان معلوم منها سماهم بالفراريين، ومن ذلك الحين أصبحت صفة «القراري» عنوانا على العمل المتقن والصنعة المحكمة، وقيل عن كل صانع يحسن عمله ولا يبالي أن يحمد عليه إنه قراري في هذه الصناعة، حتى بلغ من سوء استخدام هذه الكلمة في غير موضعها أن وصف بها «اللص القراري» والمحتال القراري، بعد أن كانت وصفا للزارع الخبير بشئون السقي والبذر والحرث والحصاد، لاستقراره في القرية وعلمه بطبيعة الأرض والجو وتقلبات الأهوية وعوارض الآفات، خلافا للزارع الفراري الذي لا يعرف من كل قرية غير موسمه فيها وأجرته من محصولها.
هؤلاء الفلاحون «القراريون» حملوا أوزار المظالم من قديمها، ولكنهم احتفظوا كذلك بذخيرة العرف وشريعة من الحياء من أصولها، وحسبهم من هذه الذخيرة أن يأنف أحدهم أن يخزى هذا القريب أو ذاك النسيب بالعار الموروث، وكل عار في القرى موروث إلى الأعقاب وأبناء الأعقاب ... أو حسبهم أن يقف بهم الاحتمال عند الحد الذي لا يحمد بعده احتمال، ثم ينقلب بعد ذلك من الصبر إلى الثأر، أو يتحول من هذا الجوار إلى ذلك الجوار، فإن عم البلاء كل جوار حوله في حقبة من الزمن، فهو البلاء الذي يعم عاره ولا تلصق وصمته بهذا الجبين دون ذلك الجبين، بين آلاف ومئين.
وفي هذا القرار من القرية نشأ في القرن التاسع عشر رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، وعبد الله فكري، وحسن الطويل، وأحمد عرابي، ومحمد عبده ... وكلهم بعثت به القرية إلى الجامع الأزهر، وبعث به الجامع الأزهر إلى ميدان الكفاح والإصلاح.
الفصل الثالث
الأزهر
في منتصف القرن الثامن عشر (1748) أسندت ولاية مصر إلى الوزير العالم أحمد باشا كور، وكان من المشتغلين بعلوم الهيئة والرياضة، فرغب في مذاكرة علماء الأزهر الذين يدرسون تلك العلوم في حلقاتهم بالمسجد الجامع، وخاطب مقدم العلماء الشيخ عبد الله الشبراوي في ذلك ومعه عالمان من كبار علماء العصر هما الشيخ سالم النفراوي والشيخ سليمان المنصوري، فسكتوا ثم صارحوه بأنهم يجهلون تلك العلوم ولا يشتغلون بتدريسها، وانصرفوا بعد أول لقاء بينهم وبين الوالي وهم يحسبون أنها مسألة فرغ الحديث منها، ولكن الوالي عاد إلى الحديث مع الشيخ الشبراوي في جلسة من جلساته معه بعد صلاة الجمعة بمسجد القلعة، وكانت الخطبة في ذلك المسجد من عمل الشيخ الشبراوي، يؤم المصلين ومنهم الوالي، ويتناول الغداء على مائدته بعد الصلاة، ويجري الحديث بينهما أحيانا على شئون الأزهر وشئون الدين على العموم، ثم ينصرف إلى موعده من الأسبوع الذي يليه.
قال الوالي ذات مرة ما فحواه: كنت أحسب مصر كما نسمع في بلادنا منبع العلوم والفضائل، فلما جئتها أخلفت ظني وذكرت المثل القائل: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!»
قال الشيخ الشبراوي: بل هي كما سمعتم معدن العلوم والمعارف.
قال الوالي: وكيف؟ وأنتم أعظم علمائها ولم أجد عندكم شيئا من العلوم التي سألت عنها، وغاية تحصيلكم المنطق والتوحيد، ونبذتم علوم المقاصد من هيئة ورياضة.
قال الشيخ: نحن لسنا أعظم علمائنا، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث.
فعاد الباشا يقول: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية، بل هو من شروط صحة العبادة كالعلم بدخول الوقت، وتحرير القبلة، ومواعيد الأهلة، وعدد السنين.
فأجابه الشيخ موافقا، ولكنه قال: إن معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية؛ كرقة الطبع، وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل، والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك، أخلاط من القرى والآفاق.
فسأل الوالي: وأين البعض القائم بهذه الفريضة؟
فقال الشيخ: إنهم موجودون في بيوتهم يسعى إليهم. ودله على الشيخ حسن الجبرتي والد الشيخ عبد الرحمن المؤرخ المشهور، مطنبا في تزكية علمه وفضله.
فسألهم الوالي أن يدعوه إلى لقائه، فقال الشيخ: إنه أعظم قدرا من أن يستدعيه مثلي، ولكنكم تكتبون إليه مع بعض خواصكم فيحضر إليكم، فكتب إليه الوالي واحتفى بلقائه عند حضوره، ووجده على ما وصف من الدراية بتلك العلوم التي يدرسها الباشا، فأكثر من الاجتماع به بعد ذلك للمذاكرة فيها.
ونحن نعرف هذه القصة من رواية الجبرتي في تاريخه، كما نعرف من قصص التاريخ الأخرى شيئا كثيرا عن حقيقة العلوم الفلكية التي تلقى بعضها عن أبيه، فإذا هي على صحتها واشتمالها على أدق المعارف الفلكية التي حصلها علماء الحضارة الإسلامية، تجمع بين العلم الرياضي الصحيح وأخلاط من التنجيم وقراءة الطوالع وأرصاد السعود والنحوس ، ومن ذاك قول الشيخ عبد الرحمن في مقدمة كتابه عن الحملة الفرنسية: «إن وقائع الأيام وخطوبها، وحوادث الحادثات وكروبها ... داخلة في حين الإبداع والاختراع بما أودعه الله من الخصائص في الآثار العلوية عند اقتران بعضها ببعض، وارتباط المناسبات الخفية بينها وبين ما على وجه الأرض، وذلك بحسب جري العادة الإلهية له مسببات وحوادث يستدل عليها بتلك القرانات والمناظرات، وقد أودع الله في بعض خالصي النفوس البشرية والأرواح المجردة عن العلائق الجسمية والشهوات النفسية معرفة بعض تلك الحوادث، إما بإلهام أو باكتساب ونظر في علم الأحكام، فبالنجم هم يهتدون، وبالنظر في ملكوت السماوات والأرض يستدلون فيعرفون، من غير أن ينسب لتلك الآثار تأثيرات، وإنما هي أسباب عادية وعلامات، وإن من أعظم الدلائل على ما رميت به مصر، وحل به لأهلها تنوع البؤس والإصر، بحلول كفرة الفرنسيس، ووقوع هذا العذاب البئيس، حصول الكسوف الكلي في شهر ذي الحجة بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر ...»
ولكن هذا الخلط بين علم الهيئة والتنجيم لم يكن وقفا على الفلكيين بالمشرق أو البلاد العربية، بل كان النظر في الكواكب لاستطلاع السعود والنحوس دراسة مقررة في الجامعات الأوروبية، وكان أكبر الفلكيين في عصره - جوهان كبلر - المتوفى قبل منتصف القرن السابع عشر يدرس الفلك والرياضة بجامعة جراز، ويصدر بأمر الجامعة تقويمها السنوي مشتملا على أرصاد العالم كله، منبئا بطوالع البروج التي تشرف على مواليد الأمراء والملوك وتقبض على أعنة الحوادث من سلم وحرب، وخصب وقحط، ورواج وكساد، وكان العالم الكبير يؤمن بأسرار تلك الطوالع والأرصاد، ويعزو مخالفة النبوءات أحيانا إلى خطأ الحساب، أو إلى شوائب النفوس التي تتولى الرصد وتتلقى منه النبوءة، كما قال المؤرخ العربي فيما تقدم. وقد كان إسحاق نيوتن يضبط حركات الأفلاك بقانون الجاذبية وهو يدون مئات الصفحات في مباحث الطوالع والأرصاد وطلاسم السحر والزايرجة السوداء. •••
ونمضي مع الجبرتي في حديثه عن نذير النجوم ببلاء الفرنسيس، فنقول: إن هذا المؤرخ الأمين قد شهد حلول البلاء في القاهرة، ووصف أعمال المقاومة في خارجها وداخلها بين كفاح المحاربين ودعاء المسالمين، فقال: إنه «لم تكن إلا ساعة وانهزم مراد بك ومن معه، ولم يقع قتال صحيح وإنما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل جدا من الفريقين، واحترقت مركب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية، واحترق بها رئيس الطبجية خليل الجردلي، وكان قد قاتل في البحر قتالا عجيبا هو ومن انضم إليه من الغليونجية وبقية العسكر والمشاة الذين في المراكب مع مراكب الفرنسيس، وأقدم إقدام الأسد، فقدر الله أن علقت نار بالقلع، فنزل البعض منها إلى البارود الذي في المركب فاحترقت ومات هو ومن بالمركب من المحاربين، فلما عاين ذلك مراد بك ولى منهزما وترك الأثقال والمدافع وتبعته عساكره، والمشاة نزلت في المراكب وانفصل الفريقان بدون طائل.»
قال: «وقد كانت العلماء عند توجه مراد بك للقتال تجتمع في الأزهر كل يوم لقراءة البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والسعدية والرفاعية وغيرهم من طوائف الفقراء وأرباب الأشاير، كل يوم يذهبون للأزهر فيجلسون للأذكار، وتجتمع أطفال الكتاتيب للدعاء وتلاوة اسمه تعالى لطيف، وكل هذا حصل بسببه النفع العظيم، فهو وإن لم يدفع دخول الفرنسيس مصر لكونه أمرا مقضيا محتما لا يرد بالدعاء، لكن وقع اللطف بسبب هذه الدعوات، واجتماع القلوب بمجالس الذكر والاستغفار، وآثار اللطف التي حصلت مشاهدة ولا تنكر ولله الحمد.»
ثم قال: «ولما أصبح يوم الأحد المذكور، والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ويتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه، ورجع الكثيرون من الفارين وهم بأسوأ حال من العري والفزع، فتبين أن الفرنج لم يعدوا إلى البر الشرقي، وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا، فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الفرنج وينظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر صحبته، فغابا وعادا وأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه، ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: وأين عظماؤكم ومشايخكم؟ لم تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة؟ وطمنهم وبش في وجوههم ... ثم قال لهم: لازم المشايخ والشرباجية يأتون إلينا لنرتب منهم ديوانا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور. ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس، وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة، فتلقاهم وضحك لهم وقال: أنتم المشايخ الكبار؟ فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال: لأي شيء يخافون؟ اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانا لأجل الراحة ...»
ولا بد أن نذكر ونحن بصدد الأزهر والحملة الفرنسية أن دعوات الأذكار كانت في حينها «قوة عملية» من جانب واحد على الأقل، وهو جانب اليقين بنفاذها في عقيدة الرعاة والرعية، لا يشكون في أثرها إذا خلصت النية وصدقت الشكوى، ولا يأمن الحاكم الظالم أن تستجاب من المظلوم في شدة البلاء وانقطاع الرجاء في غير الله. وقد مضى على حملة نابليون نحو مائة وسبعين سنة، ونشبت الحرب بين مصر والحبشة، وتوالت الهزيمة بعد الهزيمة، فاعتصم الخديو إسماعيل يومئذ بتلك القوة - قوة التلاوة في البخاري والتماس الدعوات من العلماء - فلم يخامره الشك في أثرها، ولكنه قال للعلماء بعد اتصال الهزيمة: إما أنكم لا تقرءون البخاري، وإما أنكم لستم بعلماء. فردها إليه عالم جريء وذكره بالحديث النبوي؛ إذ يقول عليه السلام: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم ...»
وقد ركب الفرنسيون رءوسهم بمصر، واقتحموا الجامع الأزهر ودنسوا محاريبه وربطوا فيه الخيل والدواب، فلم ينتقض غير قليل حتى خرجوا من مصر مدحورين، بعد أن خيل إليهم وإلى الناس أنهم لن يرحلوا عنها مكرهين، ولم ينس أبناء البلد أن يربطوا بين جلائهم السريع وبين عدوانهم على ذلك الحرم المقدس ودعوات علمائه عليهم بالخذلان والنكال. •••
هذه نبذة موجزة من تاريخ الأزهر خلال فترة من فترات ذلك العهد، الذي كان كما تقدم أحلك ساعات الظلام قبل مطلع النهار، ويكفي تاريخ كل فترة من حياة هذا المعهد الخالد للتعريف بوظيفته التي استقر عليها، وبيان مكانته التي تبوأها من الأمة في أيام خضوعها لسلطان الدخلاء الواغلين عليها؛ فقد تقرر بحكم العرف والتقليد وحكم العقيدة والسمعة أنه صوت الأمة الذي يسمعه الحاكم الدخيل من المحكومين، وأنه ملاذ القوة الروحية في نفوس أبناء الأمة وفي نفوس الحاكمين الذين يدينون بعقيدتها، ومن لم يكن من أهل تلك العقيدة فقد يحسب لها حسابها الذي ينساه إخوانها في الدين مع الجهالة المطبقة أو مع هوى الساعة، وقد حسب له الفرنسيون هذا الحساب ونسيه أناس من أمراء المسلمين، ولكنه لم يضع قط كل الضياع في وقت من الأوقات.
ومن فهم الواقع على جليته أن نذكر أن أهل البلد قد حددوا وظيفة الأزهر ووظائف علمائه تحديدا يعز أحيانا على الدستور المكتوب، فكان منهم من يتولى الصدارة في شئون السياسة ومخاطبة الحكام؛ لأنه أقدر على هذا العمل وأصلح له من زملائه، وإن كان فيهم من هو أوسع علما وأشهر بالتقوى، وكان منهم من يثق الناس بتقواه ويطمئنون إلى نزاهته في أمور الدين والرئاسة، وهكذا كان منهم من يفاوض الوالي التركي وليس هو بأعظم علماء البلد، وكان منهم من يفاوض القائد الفرنسي وليس هو بمكان الرئاسة العلمية، ولكنهم كانوا مرشحين لوظيفة السفارة بين الأمة والحكومة بما لهم من خبرة في سياسة الناس وأساليب الإقناع وعلاج المشكلات، ولغيرهم سمعته في هداية القلوب والبصائر والتماس الوسيلة عند الله إذا خابت الوسائل عند العباد.
ولم تنقطع الصلة زمنا طويلا بين هذه الرئاسة القوية الروحية وبين القرية المصرية من قرى الريف أو قرى الصعيد، وقد يغنينا عرض أسماء الشيوخ والرؤساء الذين اختارهم نابليون وألف منهم الديوان الكبير للعلم بمبلغ هذه الصلة بين الأزهر والقرية، فقد تألف هذا الديوان من عشرة ندر منهم من لم ينسب إلى قرية يعرف بنسبته إليها كما يعرف باسمه ولقبه، وهم: عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ موسى الرسي، والشيخ مصطفى الدمنهوري، والشيخ أحمد الويشي، والشيخ يوسف الشبراخيتي والشيخ محمد الدواخلي. وقبل ذلك كان الشيخ «الشبراوي» يقول للوالي العثماني: إن الغالب على أبناء الأزهر أنهم أبناء القرية والريف.
وقد تقدم في الكلام على القرية خبر الثورة التي أثارتها شكاية أهل بلبيس لابن إقليمهم الشيخ الشرقاوي الكبير، فلا يفوتنا أن نذكر أن شكاية الأقاليم كانت تصل إلى قادة الأزهر من كل طائفة معتدى عليها، ولو وقع العدوان عليها في رحلة الطريق. وحدث أن سليمان بك أغا نهب سفينة لبعض أبناء الصعيد تحمل التمر والميرة وشيئا من الأزواد والأطعمة، وزعم الأغا أنه استخلص بما نهبه ديونا له على أولاد وافي من أهل الصعيد، فغضب المجاورون من الصعايدة وأبلغوا مشايخ الأزهر أن السفينة إنما كانت تحمل رزقا مرسلا إليهم من عشائرهم في قراهم، فركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ المصيلحي إلى الأمير إبراهيم بك، وواجهوا سليمان أغا في حضرته بكلام شديد، ولم يرجعوا إلا على وعد برد ما استلبه كله، مع البقية التي فضلت عنده مما استولى عليه. •••
ومن الواضح أن الجامع الأزهر إنما استقرت له هذه المكانة في العالم كله؛ لأنه المدرسة الجامعة في الرقعة الوسطى من العالم الإسلامي الفسيح من المشرق إلى المغرب، بين مدارس بغداد في المشرق ومدارس قرطبة في المغرب، وقد أفلت هذه المدارس حينا مع أفول الدولة العباسية وأفول الدولة الأموية وسائر الدول الأندلسية، وورثت الجامعة الأزهرية شهرتها جميعا، كما ورثت القاهرة شهرة مصر القديمة بالعلوم والمعارف التي حسبت من السحر المباح زمنا عند كثير من حكماء الإسلام، وتلك هي العلوم والمعارف التي كان «ذو النون» المصري يبحث عنها في نقوش البرابي وتحت ركام الكنوز المدفونة في الرغام، وإنما كان الوزير العثماني «أحمد باشا» يقول عن مصر إنها اشتهرت في العالم كله بأنها «معدن العلوم والمعارف»، وهو يعني تلك الشهرة العريقة التي ذاعت عنها قديما، ثم اتصلت بها بعد الإسلام شهرة الجامع العتيق، ثم شهرة الأزهر بعد انفراده بأمانة العلم في بلاد الإسلام.
والمأثور عن الفاطميين أنهم كانوا يشتغلون بالنجوم والكيمياء والعلوم الكونية التي نسميها اليوم بالعلوم الطبيعية أو العلوم الحديثة، وكان الإمام جعفر الصادق - وهو إمام رفيع القدر بين علماء الإسلام من جميع المذاهب - حجة في علوم الدين والدنيا، يعلم أبا حنيفة الفقه ويعلم جابر بن حيان الكيمياء، وكان علماء الفاطميين ودعاتهم يقتدون به في الجمع بين هذه العلوم، ويستعينون بالمنطق والفلسفة على نشر دعوتهم بين أهلها من طلاب الدنيا والدين. وليس في أوراق المحفوظات الباقية سجل ثابت لتدوين أسماء العلماء وأسماء الكتب التي درسوها بالأزهر من هذه العلوم، ولكن إجازات العلماء بعد إنشاء الأزهر بأكثر من ثمانية قرون كانت تحتوي أسماء العلوم التي أجيز لهم أن يلقنوها الطلاب في حلقاتهم، ومنها سند العالم الكبير الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري المتوفى قبل نهاية القرن الثاني عشر للهجرة (1192ه)، وفيها بيان الدروس التي حضرها وأجادها وألف فيها، وهي عدا علوم الفقه واللغة دروس «الحساب والميقات والجبر والمقابلة والمنحرفات، وأسباب الأمراض وعلاماتها، وعلم الأسطرلاب والزيج والهندسة والهيئة، وعلم الأرثماطيقي، وعلم المزاول، وعلم الأعمال الرصدية، وعلم المواليد الثلاثة وهي الحيوان والنبات والمعادن، وعلم استنباط المياه، وعلاج البواسير، وعلم التشريح، وعلاج لسع العقرب، وتاريخ العرب والعجم ...»
وهذه العلوم المتفرقة تجمع في ذلك العصر صفوة المعارف الإنسانية التي تدرس في معاهد الثقافة العليا، وكانت - على ما يظهر - تباح لمن يستعد لها من الطلاب المتقدمين الذين يختارهم أساتذتهم ويأنسون فيهم القدرة على النقل عنهم، ولعل هذا ما عناه الشيخ الشبراوي بقوله عن هذه العلوم إنها «فروض كفاية» يتخصص لها من يطلبها، ولا تفرض على الذين يحضرون دروس العلماء الآخرين ولا يقبلون عليها، ولعل الأساتذة الذين يبلغون فيها مبلغ التعليم والإفادة يعتزلون الحلقات العامة بطلابهم ومريديهم، كما فعل الشيخ الجبرتي الكبير، وهو على الأرجح قد تلقى مبادئها عن شيوخ من قبله تعلموها وعلموها على طريقته في أخريات أيامه، وعلى هذه الطريقة بعينها تعلم الشيخ الدمنهوري كما سيرد في الصفحات التالية.
وإذا بدا من هذه الطريقة أن «العلوم الكونية» كانت من الدراسات «المخصوصة»، أو الدراسات التي لا تباح على عواهنها، فمن جزاف القول أن ينسب ذلك كله إلى الجمود وضيق الأفق وقلة الاكتراث بالحجر على القول أو الحجر - كما نقول في عصرنا الحديث - على حرية التفكير.
فقد يقع الذنب على شيء غير الجمود والحجر على الحرية الفكرية.
نعم، قد يقع ذنب «التقييد» الذي أحيطت به دراسة العلوم الكونية على طريقة تدريسها، أو طريقة إعداد الطلاب للتقدم فيها، وما من علم من تلك العلوم سلم من الخلط بينه وبين علم زائف يشبهه ويحمل عنوانه، وليس هو بذلك العلم الأصيل في حقيقته ونفعه.
فعلم الفلك قد اختلط بعلم التنجيم، وانتقل من ثقاته وأمنائه إلى المحتالين والملفقين لأكاذيب الطوالع وعلاقات الألفة والزواج والمشاركة في أعمال الكسب والارتزاق.
وعلم الكيمياء قد اختلط بتحضير الذهب، وسحر المعادن، وصناعة السموم بغير رقابة عليها وعلى الجرائم الخفية التي تستخدم فيها.
وعلم المنطق قد اختلط بالسفسطة والجدل، وظهر من طريقة تعليمه في الأمم القديمة من عهد الإغريق إلى عهد البيزنطيين أنه مفسدة للعقول، ومدرجة للعبث بالعقائد وقواعد التفكير الصادق والبحث المفيد.
وليس من الإغراب في الظن البعيد أن نعتقد أن أصحاب الرأي وذوي البصر بالتربية في العصر الحديث كانوا يحيطون تلك العلوم بمثل ما أحيطت به من القيود بالأمس، لو أنها بقيت إلى اليوم بأضرارها وشوائبها، ودامت على حالها من اختلاط الصحيح بالزائف واختلاط المتعلمين بين طلابها على استعداد وعلى غير استعداد، وبين المشتغلين بها للعلم والفائدة والمشتغلين بها للاحتيال والشعوذة، فليس الجمود وحده علة تقييدها بالأمس، وليست حرية الفكر وحدها هي التي رفعت عنها قيودها اليوم، ولكنها حكمة بصيرة دعت إليها أسبابها في حينها، وأوجبتها أمانة الفكر وسلامة المجتمع على المسئولين عنها من أهل العلم والسياسة.
إلا أن الحكمة البصيرة إذا حاف عليها الجمود، واصطلحت عليها الأثرة مع الجمود، ذهبت أسبابها وبقيت قيودها، وتحولت من الرقابة البصيرة إلى الحجر الأعمى والعداء اللجوج، وكان فعل الأثرة هنا أشد من فعل الجمود في كراهة المزايا العلمية التي يمتاز بها العارفون، ويحرمها أصحاب الظهور بالمعرفة وهم يكرهونها مخلصين لجهلهم بحقيقتها، إن لم يكرهوها مغرضين لخوفهم من مزاحمتها، وقد أوشك الحذر من تلك العلوم أن ينقلب في أوائل القرن السابع عشر من الحكمة البصيرة إلى الجمود المعيب والغرض المريب، وضعف الغيورون عليها من حمايتها واحتمال تبعاتها ومصاعبها، ولكنهم استفادوا من قوارع الهزيمة بعد الحملة الفرنسية شيئا واحدا على الأقل، وهو الشعور بالأسف عليها، والجرأة على بث هذا الأسف في كتبهم المتداولة، ومنها كتبهم التي ألفوها في صميم علوم الدين والشريعة، فلم ينس الشيخ حسن العطار - وهو يبسط القول في أصول الفقه في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - أن يصرح بأسفه لإهمال علوم الحكمة واللغة، فيقول في كلامه على القياس من الجزء الثاني: «من تأمل ما سطرناه وما ذكر من التصدي لتراجم الأئمة الأعلام، علم أنهم كانوا من رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم، وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها، حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع، يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شبههم، وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير أهل الإسلام؛ فإني وقفت على مؤلف للقرافي رد فيه على اليهود شبها أوردوها على الملة الإسلامية لم يأت في الرد عليهم إلا بنصوص من التوراة وبقية الكتب السماوية، حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها على ظهر قلب، ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات.
ومن نظر ما دار بين المصنف - رحمه الله - وبين عصريه الأديب الصلاح الصفدي من المراسلات البليغة والأشعار الرقيقة، علم أنه - رحمه الله - ممن تخضع له رقاب البلغاء وتجري في مضماره سوابق الأدباء. وكذا ما دار بين سلطان المحدثين الحافظ ابن حجر العسقلاني ومن عاصره من فحول الأدباء من لطائف الأشعار والنكات الأدبية، وكذا العلامة الدماميني، بل بين الحافظ السيوطي والسخاوي من المناقضات وما ألفه من المقامات، وفيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه؛ علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم، فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئا من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة ، بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون المستمدون من كلامهم، نكررها طول العمر ولا تطمع نفوسنا إلى النظر في غيرها، حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب، فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخصلنا منه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه، أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في جمع الجوامع فلا أصل لها، أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة، وهكذا؛ فصار العذر أقبح من الذنب. وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس، فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم، فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها، وإن تفطنا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساويا، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى، ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة الأدب. وأما إذا وقعت مسألة غامضة من أي علم كان، عند ذلك تقوم القيامة، وتكثر القالة، ويتكدر المجلس، وتمتلئ القلوب بالشحناء، وتغمض العيون على القذى، فالمرموق بنظر العامة الموسوم بما يسمى العلم إما أن يتستر بالسكوت حتى يقال إن الشيخ مستغرق، أو يهذر بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع.
وقالوا سكرنا بحب الإله
وما أسكر القوم إلا القصع
فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظ ببغداد:
ما في الديار أخو وجد تطارحه
حديث نجد ولا خل تجاريه
وهذه نفثة مصدور، فنسأل الله السلامة واللطف.»
ثم عاد الشيخ إلى بث هذا الأسف بعد ذكر العلوم العصرية والإلمام بمؤلفاتها المترجمة عن اللغات الأوروبية، فقال في عرض الكلام على الخلاء والملاء وضغط الهواء: «إنا لو وضعنا خشبة مستوية أو أنبوبة مسدودة الرأس في قارورة، بحيث يكون بعض الأنبوبة داخل القارورة وبعضها خارج عنها، وسددنا رأس القارورة بحيث لا يدخلها هواء ولا يخرج، وذلك بأن نسد الخلل بين عنق القارورة والأنبوبة سدا محكما لا يمكن نفوذ الهواء فيها، فإذا أدخلنا الأنبوبة فيها أكثر مما كانت بحيث لا يخرج شيء من الهواء عنها انكسرت القارورة إلى خارج، وإذا أخرجناها عنها بحيث لا يدخل فيها شيء من الهواء انكسرت إلى داخل، ولولا أنها مملوءة بالهواء وما فيها من الأنبوبة بحيث لا تحتمل شيئا آخر لم يكن كذلك، فدل ذلك على امتناع الخلاء. وقد قال شارح حكمة العين: إن هذه إقناعيات لا برهانيات. وأقول: إن مسألة الخلاء ومسألة إثبات الميل في الأجسام من مسائل العلم الطبيعي، وبتحقيقها ينكشف للفطن أسرار غريبة، وعليها ينبني كثير من مسائل علم جر الأثقال وعلم الحيل واستحداث الآلات العجيبة. ووقع في زماننا أن جلبت كتب من بلاد الإفرنج وترجمت باللغة التركية والعربية، وفيها أعمال كثيرة وأفعال دقيقة اطلعنا على بعضها، وقد تتحول تلك الأعمال بواسطة الأصول الهندسية والعلوم الطبيعية من القوة إلى الفعل، وتكلموا في الصناعات الحربية والآلات النارية ومهدوا فيها قواعد وأصولا، حتى صار ذلك علما مستقلا مدونا في الكتب، وفرعوه إلى فروع كثيرة، ومن سمت به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته - إن كانت سليمة - في رياض الفهوم.
فكن رجلا رجله في الثرى
وهامة همته في الثريا
فالنفس الإنسانية بالاطلاع على حقائق المعارف تتكمل، والفاضل الكامل بأنواع العلوم يتفوق ويتفضل، لا بتحسين هيئة اللباس والمزاحمة على التصدر في مجالس الناس. قال الحكيم الفارابي:
أخي خل حيز ذي باطل
وكن والحقائق في حيز
فما الدار دار مقام لنا
وما المرء في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لذاك على
أقل من الكلم الموجز
محيط السماوات أولى بنا
فماذا التنافس في المركز؟
فلا تجعل سعيك لغير تحصيل الكمالات العرفانية مصروفا، ولا تتخذ غير نفائس الكتب أليفا ومألوفا.
ولا تك من قوم يديمون سعيهم
لتحصيل أنواع المآكل والشرب
فهذي إذا عدت طباع بهائم
وشتان ما بين البهيم وذي اللب
وهذه نفثة مصدور، ولله عاقبة الأمور، لعمري لقد تساوى الفطن والأبله الأفن، واستنسر البغاث وسد طريق النظر على الناظر البحاث، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»
والشيخ حسن العطار - نافث هذه الشكوى - قد كان مثلا للعالم المثقف بثقافة عصره قبل نحو القرن ونصف القرن. ولد بالقاهرة سنة 1190، وتوفي بها سنة 1250 هجرية (1776-1835م)، وشهد حملة نابليون وعاشر علماءها واستفاد من زيارة معالمها، وعاش زمنا في دمشق وزمنا في أشقودرة بالبلاد الألبانية، واجتهد لنفسه في تحصيل المعارف الحديثة، فدرس الطبيعة والفلك والهندسة والمنطق، وطرفا من علم الميكانيكا الذي كان يسمى بعلم الحيل، وألف الرسائل في العمل بالأسطرلاب، والربعين المقنطر والمجيب، والبسائط، وأدمن الاطلاع على كتب الأدب، فنظم الشعر وأجاد كتابة الرسائل، وأسند إليه تحرير الوقائع المصرية عند إنشائها لاشتهاره بجودة الأسلوب والتمكن من صناعة القلم، مع حسن الاطلاع على المعارف الحديثة وحسن الفهم للعلاقة بين قواعدها النظرية ونتائجها العملية في المخترعات وعجائب الفنون، ثم تولى مشيخة الجامع الأزهر بعد أن قارب الخامسة والخمسين، فبقي فيها إلى سنة وفاته. •••
ولقد تولى هذا العالم الفاضل مشيخة الجامع الأزهر - وهو كما نرى - لا تعوزه الغيرة على العلم الحديث، ولا الرغبة في تعميمه واجتذاب العقول الناشئة إليه، ولكنه كان - رحمه الله - رجلا من رجال الفطنة والكياسة، ولم يكن على غرار ذوي البأس الصارم والعزيمة الغلابة من أولئك المصلحين النوادر، الذين يناط بهم افتتاح العهود وهدم العوائق الراسخة في سبيل الإصلاح، ولا سيما الإصلاح الذي يعارضه أعداؤه باسم الدين، ويعتصمون منه بالحصون المنيعة من العادات المتأصلة والمصالح المتأشبة، وصغائر الغرور والادعاء ووجاهة المظاهر والألقاب، ونحسبه - لو كان من أولئك المصلحين النوادر - لما تسنى له في مدى السنوات القلائل التي تولى فيها مشيخة الجامع أن يقوم بعمل ذي بال لتجديد نظام التعليم وإتمام العدة اللازمة لابتداء ذلك النظام؛ فإن العزيمة الغلابة لا تكفي وحدها للغلبة على معارضة الشيوخ وإعراض الطلاب، وتبديل مصالح هؤلاء وهؤلاء في النظام القديم بمصالح مثلها أو أكبر منها تعوض عنها العلماء المعارضين والطلاب المعرضين. وقد تكفي عزيمة الشيخ للابتداء في العمل، إن لم تكف للتقدم البعيد في طريقه، لو أنه وجد من ولاة الأمر معونة صادقة تفعل بالسلطان ما لا يفعله البرهان، ولكن ولاة الأمر في عهده كانوا يؤثرون سكوت العلماء عنهم على إثارتهم بالشكوى والاتهام من أجل عمل يغضبهم ولا يرضي أحدا غيرهم، وليس هو - بعد - من العمال التي تلجئهم الضرورة العاجلة إليها.
على أننا قد نبلغ في تهوين أثر القدوة الحية إذا خطر لنا أن نفثة المصدور ذهبت في الهواء، فإنها نفثة عالم كبير يسمعها منه العاقل والغافل، ويقرؤها في كتبه مئات الطلاب من مريديه ومريدي غيره من العلماء الموافقين والمعارضين، وتأتي في أوانها الذي مهدت له الحوادث وتهيأت له النفوس المتطلعة والآمال المتوثبة، فهي من طلائع الجو الذي يتفتح له الأفق وإن لم يمتلئ به لأول وهلة، وعلى هذه السنة من سنن التجديد تبتدئ طلائع الأجواء في جميع الآفاق.
ثم تعمل الضرورة الواقعة عملها غير مدفوعة بحيل المحتالين وتعلات الكسالى المتعنتين، فقد نفث الشيخ نفثته في مفتتح القرن التاسع عشر والمدارس الحديثة تتوالى عاما إثر عام، بين مدرسة للهندسة ومدرسة للطب، ومدرسة للألسن ومدرسة للعلوم الطبيعية، ويتوالى معها بناء المعامل لصناعات السلم والحرب، ويختار لها الطلاب والمحترفون من أبناء الأزهر الناشئين، كما تختار منهم البعوث إلى البلاد الأوروبية، فيقضون فيها الأعوام المعدودة ويعودون إلى مناصب الرئاسة أو مناصب الأستاذية، ويصعدون من تلك المناصب إلى أرفع مراتب الدولة، وتتهيأ لهم وسائل التنفيذ التي لم تكن مهيأة لشيخهم في منصبه، فلم يمض جيل واحد حتى كان في القاهرة من تلاميذ العلوم الحديثة حزب كبير يفهم ما ينبغي عمله للمضي بالنهضة العلمية في سبيلها، ويملك من الرأي والمشورة المسموعة ما يعينه على خصومها ...
ويتفق أن يكون أكبر دعاة هذه النهضة تلميذا للشيخ العطار اختاره للسفر إلى الغرب، ونصح له قبل سفره «أن ينبه على ما يقع في هذه السفرة، وعلى ما يراه وما يصادفه من الأمور الغريبة والأشياء العجيبة، وأن يقيده ليكون نافعا في كشف القناع عن محيا تلك البقاع».
ذلك التلميذ الناجح هو نابغة جيله (رفاعة بدوي رافع الطهطاوي) رحمه الله، وهو القائل في فضل العلوم الحديثة، بعد أن نبه بغاية ما يستطاع من الصراحة في ذلك الزمن إلى إهمال محمد علي الكبير لتعميم تلك العلوم في الجامع الأزهر: «... ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور، ولم يجذب طلابه إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحكمية التي كبير نفعها في الوطن ليس ينكر. نعم، إن لهم اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العلمية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الاثني عشر، وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، غير أن هذا وحده لا يفي للوطن بقضاء الوطر، والكامل يقبل الكمال كما هو متعارف عند أهل النظر، ومدار سلوك جادة الرشاد والإصابة، منوط بعد ولي الأمر بهذه العصابة، التي ينبغي أن تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة، ورفع أعلام الشريعة المنيفة، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية، التي لها مدخل في تقدم الوطنية، من كل ما يحمد على تعلمه وتعليمه علماء الأمة المحمدية، فإنه بانضمامه إلى علوم الشريعة والأحكام يكون من الأعمال الباقية على الدوام، ويقتدى بهم في اتباعه الخاص والعام، حتى إذا دخلوا في أمور الدولة يحسن كل منهم في إبداء المحاسن المدنية قوله، فإن سلوك طريق العلم النافع من حيث هو مستقيم، ومنهجه الأبهج هو القويم، يكون بالنسبة للعلماء سلوكه أقوم وتلقيه من أفواههم أتم وأنظم، لا سيما وأن هذه العلوم الحكمية التي يظهر الآن أنها أجنبية، هي علوم إسلامية نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية، ولم تزل كتبها إلى الآن في خزائن ملوك الإسلام كالذخيرة، بل لا زال يتشبث بقراءتها ودراستها من أهل أوروبا حكماء الأزمنة الأخيرة، فإن من اطلع على سند شيخ الجامع الزهر الشيخ أحمد الدمنهوري الذي كانت مشيخته قبل شيخ الإسلام أحمد العروسي الكبير، جد شيخ شيوخ الجامع الأزهر الآن السيد المصطفوي العالم الشهير؛ رأى أنه قد أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير، وأنه له فيها المؤلفات الجمة، وأن تلقيها إلى أيامه كان عند أهل الجامع الأزهر من الأمور المحلية، فإنه يقول فيه بعد سرد ما تلقاه من العلوم الشرعية وآلاتها معقولا ومنقولا:
أخذت عن أستاذنا الشيخ المعمر علي الزعتري خاتمة العارفين بعلم الحساب واستخراج المجهولات، وبما توقف عليها كالفرائض والميقات، ووسيلة ابن الهائم ومعونته كلاهما في الحساب، والمقنع لابن الهائم، ومنظومة الياسميني في الجبر والمقابلة، ودقائق الحقائق في حساب الدرج والدقائق لسبط المارديني في علم حساب الأزياج، ورسالتين إحداهما على ربع المقنطرات والأخرى على ربع المجيب، كلاهما للشيخ عبد الله المارديني جد السبط، ونتيجة الشيخ اللدائقي المحسوبة لعرض مصر، والمنحرفات للسبط المارديني في علم وضع المزاول، وبعض اللمعة في التقويم. وأخذت عن سيدي أحمد القرافي الحكيم بدار الشفاء بالقراءة عليه كتاب الموجز واللمحة العفيفية في أسباب الأمراض وعلاماتها بشرح الأمشاطي، وبعضا من قانون ابن سينا، وبعضا من كامل الصناعة، وبعضا من منظومة ابن سينا الكبرى، والجميع في الطب. وقرأت على أستاذنا الشيخ عبد الفتاح الدمياطي كتاب لقط الجواهر في معرفة الحدود والدوائر للسبط المارديني في الهيئة السماوية، ورسالة ابن الشاط في علم الأسطرلاب، ورسالة قسطا بن لوقا في العمل بالكرة وكيفية أخذ الوقت منها، والدرر لابن المجدي في علم الزيج. وقرأت على أستاذنا الشيخ سلامة الفيومي أشكال التأسيس في الهندسة، وبعضا من الجغميني في علم الهيئة، وبعضا من رفع الإشكال عن مساحة الأشكال في علم المساحة. وقرأت على شيخنا الشيخ عبد الجواد المرحومي جملة كتب، منها رسالة في علم الأرثماطيقي للشيخ سلطان المزاحي. وقرأت على الشيخ محمد الشهير بالسحميمي منظومة الحكيم درمقاش المشتملة على التكسير وعلم الأوفاق وعلم الاستنطاقات وعلم التكعيب، ورسالة أخرى في رسم ربع المقنطرات والمنحرفات لسبط المارديني، وعلم المزاول ومنظومة في علم الأعمال الرصدية، وروضة العلوم وبهجة المنطوق والمفهوم لمحمد بن ساعد الأنصاري، وهو كتاب يشتمل على سبعة وسبعين علما، أولها علم الحرف وآخرها علم الطلاسم، ورسالة للإسرائيلي، ورسالة للسيد الطحان، كلاهما في علم الطالع، ورسالة للخازن في علم المواليد، أغنى الممالك الطبيعية وهي الحيوانات والنباتات والمعادن. وأخذت عن شيخنا الشيخ حسام الدين الهندي شرح الهداية في الحكمة، ومتن الجغميني في علم الهيئة بمراجعة قاضي زاده ومطالعة السيد عليه. وأخذت عن سيدي أحمد الشرفي شيخ المغاربة بالجامع الأزهر كتاب اللمعة في تقويم الكواكب السبعة ...»
ولما ذكر ما تلقاه من هذه العلوم أعقبه بما طالعه بنفسه بدون الأخذ عن شيخ، فقال: «طالعت كتاب إحياء الفؤاد بمعرفة خواص الأعداد في علم الأرثماطيقي في كراسين، وكتاب عين الحياة في علم استنباط المياه، في نحو كراسين، والرسالة في الكلام اليسير في علاج البواسير في نحو كراسين، ورسالة التصريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح في نحو كراسين، ومنها كتاب إتحاف البرية بمعرفة الأمور الضرورية في علم الطب في نحو خمسة كراريس، ومنها رسالة القول الأقرب في علاج لسع العقرب في نحو كراس، ومنها منهج السلوك في نصيحة الملوك في نحو عشرة كراريس، ومنها كتاب بلوغ الأرب في أسماء سلاطين العجم والعرب، معنونا باسم السلطان مصطفى خان ابن السلطان أحمد خان، المولود في رابع عشر شهر صفر سنة تسع وعشرين ومائة وألف، يوم الأربعاء أول النهار في الساعة الأولى بعد الشمس، الجالس على سرير الملك في سابع عشر شهر صفر الخير سنة إحدى وسبعين ومائة وألف، يوم الأحد قبل الشمس.» انتهى كلامه ملخصا بتصرف.
وانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له في العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام فضلا عن كون أشياخه كانوا أزهرية، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفضل العلامة الجبرتي المتوفى في أثناء هذا القرن في هذه العلوم وفي فن التاريخ أمر معلوم، وكذلك العلامة الشيخ عثمان الورداني الفلكي، وكان للمرحوم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيضا مشاركة في كثير من هذه العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة المشهور أيضا بالملك المؤيد، وللشيخ المذكور هوامش أيضا وجدتها بأكثر التواريخ وعلى طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلع دائما على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوع شديد بسائر المعارف البشرية، مع غاية الديانة والصيانة، وله بعض تآليف في الطب وغيرها زيادة عن تآليفه المشهورة ... فلو تشبث من الآن فصاعدا نجباء أهل العلم الأزهريين بالعلوم العصرية التي جددها الخديو الأكرم بمصر بإنفاقه عليها أوفر أموال مملكته، لفازوا بدرجة الكمال وانتظموا في سلك الأقدمين من فحول الرجال، وربما يتعللون بالاحتياج إلى مساعدة الحكومة، والحال أن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، وترجع المسألة دورية، والجواب عنها أن الحكومة قد ساعدت بتسهيل الوسائط والوسائل ليغتنم فرصة ذلك كل طالب وسائل، وكل من سار على الدرب وصل، وإنما تكون المكافأة على تمام العمل ... فهذا ما يتعلق بطبقة العلماء، وقد ذكرنا ما يتعلق به في الفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب مبسوطا بما فيه الكفاية. •••
وهذا الفصل من كتاب «مناهج الألباب» يعتبر وثيقة «رسمية» من أهم الوثائق في تاريخ التعليم بالجامع الأزهر؛ لأنه يشتمل على ثبت صحيح بأسماء المؤلفات الكثيرة التي كانت تؤلف في علوم الطب والرياضة والطبيعة وغيرها من العلوم التي تسمى بالعلوم الكونية تمييزا لها من العلوم الإلهية أو الشرعية، ويشتمل كذلك على أسماء مؤلفيها والعلماء الذين يدرسونها وطريقتهم في تحصيلها، إما بالقراءة على أصحابها أو بالمطالعة في مراجعها. ومن هذا الثبت الصحيح يتبين لنا أنها كانت تحيط بصفوة المعارف البشرية كما عرفها الناس إلى نهاية العصور الوسطى في بداية القرن السابع عشر، وأنها كانت دراسات «موسوعية» جامعية من طراز مناهجها في أنحاء العالم كله على عهدها.
ويدل هذا الفصل على موقف الحكومة يومئذ من مسألة التعليم بالجامع الأزهر، فإنها كانت على موقف الحذر من تقرير علوم تدرس فيه بغير طلب من أهله، هيبة لعلمائه وخوفا من تهمة المساس بالدين والاجتراء على سنن السلف ومجاراة البدع المستحدثة؛ بدع الفرنجة أو بدع الفلاسفة كما قال الشيخ العطار بألسنتهم حين تتلى عليهم مسألة من مسائل المعرفة لم ترد في كتاب من كتب المتأخرين، وكأنما كان النابغة الأزهري - رفاعة - يلوح لشيوخ العلماء بالخطة التي يسلكونها إذا ترقبوا من الحكومة أن تغير مسلكها، «فإن الحكومة إنما تساعد من يلوح عليه علامات الرغبة والغيرة والاجتهاد، فعمل كل من الطرفين متوقف على عمل الآخر، وترجع المسألة دورية ...» إن لم يبدأ علماء الأزهر من قبلهم بمسلك جديد.
وقد دل رفاعة بما كتبه عن مسألة التعليم الأزهري على صراحة الرائد المجدد وحصافته في وقت واحد، فكان صريحا في تنبيهه إلى إهمال محمد علي الكبير لتلك المسألة، وكان صريحا في تنبيهه العلماء إلى موضع تقصيرهم أو موضع مشاركتهم في تبعة ذلك الإهمال، وكان حصيفا في عنايته بسرد أسماء العلوم والمؤلفات التي سبق إليها العلماء الأسبقون، فإنه - ولا شك - قد فطن للوجهة التي اتجه إليها تيار الفكر الحديث في البلاد، وكشف عن الموطن الحساس الذي لمسته هذه المسألة من جانب العاطفة القومية، فمنذ الحملة الفرنسية وقعت الصدمة في ذلك الجانب من العاطفة القومية موقعين متناقضين متلازمين: موقع اليقين بغلبة القوم، وفيه من دواعي الوجوم والانكسار ما فيه، وموقع العزاء بسبق الشرق إلى تلك العلوم، والإيمان بأنها عند القوم عارية مستعارة نستردها لنقول لأنفسنا وللعالم إنها بضاعتنا ردت إلينا، وفي ذلك من تجديد الثقة ما فيه.
ورفاعة في دعوته نجباء الأزهر إلى العلم العصري باسم السلف، إنما تسلم هذه العاطفة من حيث تركها رواد الفكر الحديث، ولعله تعمد أن يسوق الكلام فيها بذلك الأسلوب التقليدي المسجوع، ليدخل في روع قرائه أن الكاتب العصري لا يعجز عن مثل ذلك الأسلوب، أو لا ينقصه ولا يخلعه عن قلمه؛ لأن المعرفة العصرية لا تنقطع بكاتبها عن ماضيه.
ولم يتمكن رفاعة من تقرير النظام الذي كان يؤثره لتعليم طلاب الأزهر؛ لأنه أبعد إلى السودان في أخريات أيامه لتنظيم التعليم فيه، وتوفي سنة 1871 والأزهريون لا يحفزون لتلك الخطوة التي كان ينتظر منهم أن يخطوها تشجيعا للحكومة على استخدام سلطانها في تقرير نظامه اعتمادا على دعوة أهله، ولكن شيخ الجامع لعهده - الشيخ مصطفى العروسي - خطا في داخل الأزهر خطوة حسنة بالرقابة على علمائه وطلابه، وانتقاء الصالحين منهم للتعليم والتعلم ومتابعة الدرس في العلوم التي يتطلبها العمل الجديد في دواوين القضاء ومدارس الحكومة العصرية، وأهمها علوم الحديث والتفسير والأصول والتوحيد والفقه، والنحو والصرف، والمعاني والبديع والمنطق، ثم جاء خليفته الشيخ محمد المهدي العباسي فأسس نظام الامتحان لشهادة العالمية على نظامها الحديث، بعد استئذان الحكومة لاعتبار هذه الشهادة في ولاية الوظائف العامة غير التدريس بالجامعة الأزهرية، وجعل هذه الشهادة على درجات: أولى وثانية وثالثة، على حسب إجابة الطالب وطبقة الكتب التي يجرى الامتحان في مادتها. •••
على هذه الحالة كان الجامع الأزهر حين وصل الشاب محمد عبده إلى القاهرة لينتظم في سلك طلابه.
المفروض فيه بحكم الشهرة الموروثة أنه جامعة عالمية تزود طلابها بكل ما وسعته العقول البشرية من معارف الماضي والحاضر، وعلوم الدين والدنيا.
والحقيقة الواقعة أن دروسه يومئذ كانت مقصورة على قشور من علوم الفقه واللغة يتلقاها الطالب عن أستاذه، ويعول في تحصيلها على حفظ الذاكرة، وقلما يطالبه أحد من أساتذته أو يطالب هو نفسه بوعيها والتصرف في لفظها ومعناها.
وكان التعليم والتعلم كلاهما فوضى مهملة لا رقابة عليها لأحد، فلما دعا الأمر إلى اختيار طائفة من خريجي الأزهر لوظائف القضاء والتعليم، رسمت لهم شروط الامتحان ودرجات الإجازة على مثال الشهادات المدرسية التي كانت ترشح الحاصلين عليها من خريجي المدارس العصرية لوظائف الدولة.
وقد كان الراغبون في تغيير هذه الحالة غير قليلين، ولكنهم كانوا لا يملكون سلطة التغيير، أو يملكونها ويؤثرون أن يتمهلوا حتى يجيء طلب التغيير من أهله؛ تجنبا لإثارة الشبهات بابتداع البدع واتباع دعاة الزندقة - أو الفرنجة - في أمر المعهد الأكبر من معاهد الدين.
الفصل الرابع
محلة نصر
ولد أستاذنا الإمام بحصة شبشير من قرى إقليم الغربية، ولكنه نشأ بقرية «محلة نصر» من قرى مركز شبراخيت بإقليم البحيرة، حيث نشأ والده ونشأت أسرته من قبله.
وقرية «محلة نصر» هذه إحدى القرى الصغيرة في أقاليم الريف، ولكنها - على صغرها - كانت من تلك القرى التي يصح أن يقال فيها إنها موصولة التاريخ بتاريخ القطر كله، ذات كيان اجتماعي مكين، تتمثل فيه أحداث العهود ويحس أهله فيه طوارئ الزمن من عهد إلى عهد، بل من ولاية إلى ولاية؛ لأنهم يعيشون في ظل كيان غير منقطع عن مجرى الحوادث الكبرى في الإقليم، وفيما حول الإقليم من ميادين الحياة في أنحاء البلاد.
ولا يخطرن لنا أن هذا شأن عام مشترك بين جميع القرى في هذه الأنحاء، فإن من هذه القرى ما يبلغ من عزلته أن يتغير الوالي في القطر كله ولا يدركون تغيره بعمل ظاهر في القرية، بل منها ما يعم الوباء وينتشر بين أقاليم شتى، ولا يصل إليها، لقيام العلاقة بينها وبين ما حولها على المعاملات البعيدة، وقد تكون منها معاملات «حولية» تعود مع المواسم والمحاصيل، ولا تخرج من نطاقها المحدود بقية أيام الحول.
أما هذه القرية الصغيرة في إقليم البحيرة - محلة نصر - فكانت من تلك القرى الممتازة بدوام اتصالها بالحياة الاجتماعية والحياة السياسية في سائر أنحاء البلاد، وتاريخها في خلال القرن الذي ولد فيه الأستاذ الإمام شاهد على هذه الصلة الدائمة بينها وبين كل حادث خطير من الحوادث القهرية، التي سجلت لنا أدوار التاريخ في الوطن المصري بحذافيره.
مارست العيش في ظل نظام الإقطاع، وسميت باسم محلة «نصر»؛ لأنها كانت إقطاعا لرجل بهذا الاسم، لم يبق من تاريخه ما يعرف غير هذه النسبة.
ولما نشأت أنظمة «التفاتيش» الزراعية التي خلفت عهد الإقطاع، كان أكبر هذه التفاتيش من أملاك الخديو إسماعيل على مقربة منها، أو على علاقة بأهلها، وإلى جوار هذا التفتيش بمركز السنطة هاجر أبو الأستاذ وعمه، وكان معهم - كما قال الأستاذ في تاريخه - قدر من المال يسمح لهم باستئجار أطيان يعملون فيها بأيديهم ومعونة شركائهم، فاشتهر والده بين أهلها «بالفتوة والبراعة في الصيد بالسلاح، فأحبه لذلك مصطفى أفندي المنشاوي ومحمد أخوه، وكانا موظفين في دائرة إسماعيل باشا الخديو؛ أولهما في وظيفة مفتش زراعة، والثاني في وظيفة ناظر، وطابت له صحبتهما، فعدوه كأنه واحد من أهلها، ودام ذلك مدة سنين».
وقد كان أهل «محلة نصر» يشعرون بتقلب الأحوال بين وال ووال من أبناء الأسرة الخديوية، فاعتقل بعض أهلها في زمن عباس الأول، ثم أفرج عنهم في عهد خلفه محمد سعيد، ومنهم والده وبعض رؤساء أسرة المنشاوي، لاتهامهم بحمل السلاح وإيواء بعض المطلوبين للخدمة العسكرية، في أشد أيام النقمة عليها.
ولم تنج المحلة الصغيرة من وباء الطاعون الذي فتك بكثير من سكان القطر في منتصف القرن التاسع عشر، فمات به جده «حسن خير الله» عن ولدين هما أبوه وعمه.
وكان للقرية مقامها الديني، أو كان هذا المقام هو نواتها الذي التفت به سائر مساكنها، وذلك أن أجداد محمد عبده كانوا يسكنون الخيام مدة من الزمن، ثم اتفق أن اتصل بهم شيخ يسمى عبد الملك لا يعرف نسبه، وكان معتقدا ينسبون إليه الكرامات، فاتخذ خلوة يتعبد فيها بالمحل الذي قامت عليه بعد ذلك «محلة نصر»، ثم توفي فنهض جدهم - وكان من بيت الشيخ - ببناء قبة له جعلوا لهم مساكن من حولها، وانضمت إليها بيوت كثيرة تألفت القرية من مجموعها بعد فترة وجيزة.
ولم تخل القرية من «قوتها الحيوية» التي أسلفنا في الكلام على القرية المصرية أنها كانت عدة الريفيين في مقاومة سلطان الطغاة الكبار، ومقاومة أعوانهم من الطغاة الصغار أصحاب الإقطاع أو أصحاب الالتزام؛ إذ كان هؤلاء الطغاة أعجز من أن يسوقوا الزارعين جميعا بعصا الإكراه، ولم يكن لهم بد من مداراة العلية البارزين منهم، ومصانعة الأسر التي تمكنت من مقاد أهل القرية بجاه الثروة أو بجاه الكثرة.
روى المؤرخ المشهور «علي مبارك باشا» أنه اطلع بين مراجعه المخطوطة على رحلة لعبد اللطيف البغدادي تعرف بالرحلة الكبرى، رأى فيها اسم محلتي نصر ومسروق، وقال إنه نزل ضيفا في بيت خير الله التركماني، وإن البيوت الكبيرة في البلد كانت ثلاثة: بيت الشيخ، وبيت خير الله، وبيت الفرنواني.
ويظهر أن بيت التركماني من هذه البيوت - وهم أجداد محمد عبده - كان أقواهم شكيمة وأعصاهم مقادا على سادة القرية من أصحاب الإقطاع والالتزام، فحاربوه وطاردوه ولم يكفوا عن متابعته بالمطاردة والاضطهاد، كأنهم أيقنوا أنهم لا يأمنون مقاومته وتمرده عليهم أو يستأصلوه، فلم يزالوا بعصبة جده لأبيه حتى اعتقلوا منهم نحو اثني عشر رجلا، وسعوا بهم لأنهم ممن يحمل السلاح ويقف في وجوه أعوان «السلطة» عند تنفيذ المظالم، ثم جاء دور أبيه بعد حين، فحورب في رزقه وعمله حتى هاجر القرية وقضى بعيدا منها نحو خمس عشرة سنة.
وليس في أخبار هذه الأسرة ما يدل على ثراء كبير في ماضيها البعيد أو القريب، ولكن كل خبر من أخبارها التي بقيت لنا يدل على كثرتها وسعة انتشارها في إقليم البحيرة وما جاوره من بلاد إقليم الغربية.
فأخوال أبيه كانوا أكثر سكان القرية التي عرفت باسم «كنيسة أورين»، ومنهم - الحاج محمد خضر - عمدة القرية، وأخواله هو كانوا معظم سكان الحصة التي اشتهرت بحصة «شبشير»، وجده لأمه هو عميد أكبر بيوتها بيت عثمان الكبير.
وكان له أقارب بمنية طوخ في مركز السنطة، وأقارب في القرى بين الإقليمين، أما أقاربه في محلة نصر فهم كما جاء في ترجمته «كثيرون يتصلون بهم من جهة الناس» أي بالنسب والمصاهرة، ولم يكن في القرية عند تأسيسها سكان غير أهله بيت التركماني، وغير بيتين آخرين هما بيت الفرنواني وله بهم صلة كما يظهر من سيرة صاحب الضريح المدفون في محلة نصر، والبيت الثالث هو بيت الشيخ الذي أشار إليه الرحالة البغدادي، وربما كانت عصبته من الأقارب والأصهار أكبر هذه العصب عددا وأصعبها مقادا؛ لأنها كانت - كما تقدم - هدف المقاومة والاضطهاد من أعوان الحكام، وكان مصابها بالمظالم يكشفها لتلك المقاومة كلما حلت المظلمة بواحد من المنتسبين إليها واللاجئين إلى جوارها. •••
ولا يخفى أن قيام «دستور الأسرة» أدل على كيانها الاجتماعي من مجرد الكثرة العددية أو سعة الجاه المكتسب بالوفرة والثروة؛ لأن الكثرة والوفرة قد تدلان على وجود الأسرة ولا تدلان على رعاية آدابها وحماية حوزتها والتزام سمتها وسمعتها، ونحن في العصر الحاضر نذكر دستور الأسرة في قرى الريف ونسمع من يسميه تارة بسبر البلد أو بسبر العائلة، قبل أن تسري على الألسنة كلمة التقاليد العائلية أو كلمة العرف الاجتماعي، وكان هذا «السبر» ولا يزال أقوى سلطانا بين أهل البلد من سلطان الحكم والشريعة في كثير من الأحوال ...
ومن الأخبار القليلة التي رويت لنا عن «محلة نصر» نعلم أنها - على صغرها - قرية ذات أسر مسماة وبيوت منسوبة، وأن أسرة التركماني من أسرها الثلاث المعدودة كان لها بيت كبير فيها بغير باب تعيش فيه أكثر من «عائلة» واحدة من عائلات الأسرة الكبيرة. وترك الدار الكبيرة بغير باب في الريف علامة في وقت واحد على الكرم المقصود والجوار المرهوب، فلا تقام السدود في وجه الضيف الغريب، ولا يجترئ المعتدي على اقتحام الدار على كره أهلها، وتلك هي آية الكرم والمنعة في كل عرف وكل بيئة، فليس للبيت مكانة وراء مكانة الموئل الذي لا يغلق ولا يستباح.
ويروي الأستاذ الإمام من ذكريات طفولته أنه كان قبل أن يدرك معنى الكرم والمنعة يرى أن الكبراء من زوار القرية ينزلون في بيته ضيوفا على أبيه، ولا يذهبون إلى بيت العمدة وهو أغنى من أبيه وأقرب إلى مقام الرئاسة في الحكومة، وكان أبوه يأكل مع الضيوف ولا يأكل مع أهله في الدار، فإذا خلا البيت من الضيوف تناول طعامه وحده على حكم هذه العادة، فكان الطفل الصغير يضيف هذا الانفراد إلى سمت الوقار الذي يرعاه لأبيه، ويحسبه أكبر رجل في الدنيا؛ لأنه لا يعرف من الدنيا غير «محلة نصر» وما جاورها من شبيهاتها في الإقليم المحدود.
وكل أبناء القرى تروي لنا عن هذه الأسرة أنها كانت تنشأ على الفروسية وتحمل السلاح، وتتعرض للشبهة والمطاردة، بل للسجن والمصادرة من جراء هذه الخصلة المتأصلة فيها، ومن أنباء الأسرة في جيلين قريبين نعلم أنها لم تكن قط تستكين إلى المقام في موطنها على كره ومهانة ... فلا يزال البارزون من أبنائها بين مقام مرض في ديارهم أو إيثار للهجرة والاغتراب، إن لم يقعدهم عنها السجن والاعتقال.
ولا ينبئنا صاحب الترجمة بأصل هذه النسبة - نسبة التركماني - التي اشتهر بها بيته وسمع «المزاحين » من أهل البلد يلقبونه بها وهو لا يفقه معناها، ولكنه سأل عنها كما نسأل عنها اليوم، فقال له والده: «إن نسبنا ينتهي إلى جد تركماني جاء من بلاده في جماعة من أهله، وسكنوا في الخيام مدة من الزمن ...»
ويلفت النظر في هذه الرواية أن اللقب كان مما سمعه الطفل الصغير من «المزاحين» في القرية، ولم يسمعه من أبيه ولا أحد من ذوي قرابته، فليس هو باللقب الذي تتحدث به الأسرة وتدعيه لنفسها مفاخرة به كما كان يفعل بعض المنتسبين إلى غير هذا البلد في عهود الطغيان الأجنبي، بل لعله كان مما يقال على سبيل المغايظة والاستثارة للأطفال الصغار، فإذا جاء اللقب بغير دعوى، فقد يكون له مرجع من التاريخ نهتدي إليه من مراجعة أخبار التركمان في هذه البلاد منذ كانت لهم أخبار مترددة بهذا الاسم في التاريخ الحديث.
فإذا قدرنا أن البيت التركماني عرف بهذا الاسم قبل وفود عبد اللطيف البغدادي إلى «محلة نصر» بنحو خمسين سنة، فقد مضى عليه في مصر نحو ثمانية قرون، وهي مدة كافية لإعراقه في هذا الوطن بالنسبة إلى الوافدين إليه من أبناء الأمم التي اختارته لسكناها بعد زوال الدولة الرومانية، على تفاوت في الأزمنة من فتح العرب إلى أيام المماليك.
ويرد ذكر التركمان كثيرا في أخبار القرون الأولى من تلك الفترة، فيقول المقريزي وقد ذكر أنه أدرك عهد الظاهر برقوق: «إن جيوش الدولة التركية كانت بديار مصر على قسمين: منهم من هو بحضرة السلطان، ومنهم من هو في أقطار المملكة وبلادها وسكان بادية كالعرب والتركمان، وجندها مختلط من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات، أكابرهم من له إمرة مائة فارس وتقدمة ألف فارس.»
ومن هذا السياق العابر نعلم أن التركمان كانوا بين فرق الجيش، وأنهم لم يكونوا من المماليك المبتاعين؛ لأنهم كانوا سكان خيام، ولم تجر العادة بشراء الأسرة بخيامها من أهل البادية، ويوافق هذا الخبر ما رواه صاحب الترجمة عن أبيه من سكنى أجدادهم في الخيام قبل انتقالهم إلى البيوت حول مقام الشيخ «عبد الملك» الذي سبقت الإشارة إليه، ولا بد أن يكون هذا قد حدث قبل عهد الظاهر برقوق.
ونحن إذن بين فرضين: أحدهما أن هذا اللقب المتواتر قد لقبت به الأسرة عدة قرون بغير معنى ولغير سبب، والفرض الآخر أن الاتفاق بين التسمية وبين المذكور من سكناها الخيام ومن نشأتها على الفروسية وحمل السلاح لم يكن بعض عوارض المصادفة أو الاختلاق، بل كان بقية منقولة بين التذكر والنسيان، يجوز لنا أن نفهم منها أن جدا قديما للأسرة وفد إلى مصر قبل نحو ثمانية قرون، واختار المقام في إقليم البحيرة لموافقته في ذلك العهد على الخصوص لسكنى البادية، ويرجح أن مقدم هذا الجد إلى مصر كان على أيام صلاح الدين؛ لأنه كان يستكثر من جنود الأكراد وجيرانهم التركمان، وكان شديد العناية بإقليم البحيرة وكل ما جاور ميناء الإسكندرية إلى الغرب أو طريق الصحراء الغربية من حيث وفد الفاطميون أسلافه في حكم مصر، ولم يزل على حذر من جانب هذا الطريق بعد إسقاط الدولة الفاطمية بعدة سنين، فلا جرم يختص بإقطاعه أقرب الناس إليه، وينشر فيه جنده التركمان والأكراد ليقيموا فيه مقام الأهل ويحرسوه حراسة العسكر مع مقامهم فيه.
أما نسب صاحب الترجمة لأمه، فجملة ما نعلمه عنها أنه كانت تنسب إلى بني عدي بالصعيد، وهم منتسبون إلى القبيلة القرشية قبيلة عمر بن الخطاب كما هو معلوم، ولكن الأستاذ الإمام يقول إن «ذلك كله روايات متوارثة لا يمكن إقامة الدليل عليها».
وقد كانت مع أهلها من البيت الذي عرف في قرية «حصة شبشير» باسم «بيت عثمان الكبير»، وتزوج منها والده أثناء هجرته إلى إقليم الغربية، واسمها «جنينة» بنت عثمان، ويصفها ولدها الأمين فيقول: «إنها كانت ترحم المساكين وتعطف على الضعفاء، وتعد ذلك مجدا وطاعة لله وحمدا ...» ويقول: إن منزلتها بين نساء القرية لم تكن تقل عن منزلة أبيه بين رجالها.
والذي نراه أن انتساب هذه الأم إلى بني عدي بإقليم أسيوط، وانتساب بني عدي إلى القبيلة القرشية المعروفة ، أمر لا داعية للشك فيه؛ لأن هجرة القبائل القرشية إلى إقليمي المنيا وأسيوط خبر من أخبار الفتح العربي المتواترة، ولزوم هذا الاسم للقبيلة المعروفة به عند منفلوط لا يتسلسل مع الزمن اختلافا بغير سند أصيل، وقد ينتسب رجل أو امرأة إلى إحدى القبائل دعيا فيها بغير سند، ولكن انتساب قرية كاملة إلى القبيلة أمر نحسب أن تكذيبه أصعب من تصديقه، ولا موجب لتكذيبه على أية حالة بغير دليل.
وإنما تحتاج الرواية إلى دليل راجح إذا ارتفعت النسبة إلى رجل معلوم؛ إذ لا يلزم من صحة النسب إلى قبيلة عمر بن الخطاب أن يكون العدوي المنسوب من ذريته، ولا يثبت ذلك إلا بسلسلة النسب المحدود، ومتابعة أخبار الأبناء والأجداد ما بين الموطن الأول في الحجاز وموطن فروع في هذه الديار.
على أن الأخبار المتقدمة جميعا لا تتناقض في اختلافها ولا تتباعد كثيرا في جوهرها، فكلها تنتهي إلى نتيجة واحدة لا غرابة فيها، وهي أن المصلح الغيور قد أنبتته قرية موصولة بالتاريخ ترشحه لرسالته التاريخية، ونمته أسرة أبية تورثه ما قد ورث عنها من عزة وعزيمة.
الفصل الخامس
محمد بن عبده بن حسن خير الله
نشأ الطفل «محمد عبده» في بيت من بيوت القرية المتوسطة، لا يحسب من أفقرها؛ لأن الفقير في القرية لا يقتني الخيل ولا يفرغ لرياضة الفروسية وما إليها، ولا يملك من موارد الكسب ما يعينه على فتح بيته للضيافة وإيواء الضيوف من علية الزائرين في نظر أبناء القرية.
ولا يحسب من أغناها؛ لأن القرية كان فيها من هو أغنى من أرباب ذلك البيت، ولم تكن من السمعة بحيث يتسع زمامها كما يقول أبناء الريف لبيوت كثيرة من أصحاب الثراء، وعدة سكانها في أيام نشأة الطفل الصغير لم تزد على ألف نسمة عند نهاية القرن التاسع عشر، كما جاء في إحصاء سنة 1897 ميلادية.
والمعلوم من شأن هذا البيت في تلك الفترة أن أبناءه كانوا يزرعون أرضهم بأيديهم، ويستأجرون معها أرضا من ملك غيرهم يتعاونون على زرعها مع جيرانهم، ويكفل لهم ما عرف عنهم من الجد والاستقامة وصلابة العود أن يزيدوا موردهم بين عام وآخر في حدود طاقاتهم، فقد بلغ ما ملكوه من الأرض عند نشوب الثورة العرابية نحو أربعين فدانا في خبر رواه الدكتور عثمان أمين عن صحيفة إنجليزية، ولم نطلع على مرجع آخر يحدده بهذا المقدار، ولكنه لا يجاوز حده المعقول إذا نظرنا إلى الأسرة التي كان يعولها والد الطفل على حالة بعيدة من حالة الفاقة والاضطرار.
ونحن نعرف أفرادا من تلك الأسرة قليلين ممن وردت أسماؤهم في تراجم الأستاذ الإمام في أثناء حياته وبعد مماته.
فمنهم جده حسن خير الله، وعمه بهنس حسن خير الله، وابن عمه إبراهيم، وأخواه من أبيه علي ومحروس، وأختاه شقيقتاه: زمزم ومريم، وأخوه من أمه مجاهد؛ لأن أباه تزوج من أمه وهي أيم تقيم مع أبيها عثمان الكبير بقرية حصة شبشير على مقربة من طنطا، وهؤلاء غير أفراد أسرته من أخوال أبيه أو أخوال في غير المحلة، وكلهم من رجال الأسرة عملوا في الزراعة ولم يعرف لهم عمل من أعمال كسب المعيشة في غيرها.
ويتقاضانا البحث عن كل ما له دلالة خاصة من شأن هذه الأسرة أن نلتفت إلى «سبرها» أو عادتها في التسمية، فإنها تختار الأسماء لمعانيها ومناسباتها، فإذا اختارت اسما من غير أسماء الأنبياء وأعلام الصحابة، لم يكن هذا الاختيار جزافا لغير معنى مقصود، فمن أسمائهم محمد وإبراهيم وعلي وحسن وعثمان وحمودة، ومنها بهنس ودرويش ومجاهد ومحروس. ومعنى بهنس أنه يمشي مشية الأسد أو مشية الفارس المتبهنس، وهو اسم ينم على عراقة في حب الفروسية بين أجيال هذه الأسرة، ودرويش لم تكن من الأسماء التي تطلق على المولودين حيثما اتفق؛ لأن صاحبه كان من أهل التصوف، وكانت له رحلات إلى شيوخ الطريق في المغرب كرحلات السياح المتنسكين، وقد سماه به والد اسمه «خضر»، وهو اسم الإمام الذي نعلم من القرآن أنه كان يجوب الآفاق ويعلم موسى عليه السلام معرفة أهل الباطن وأسرار الشريعة الخفية ... واسم محروس غير عجيب أن يكون مقصودا بمعناه من حراسة الله في بيت مرزأ مضطهد، قد ابتلي العشرات من أبنائه بالنفي والسجن والمصادرة، وقضى منهم من قضى بالطاعون، ومن بقي بعده لم يزل بين خصومه الألداء عرضة للوشاية والخراب. واسم مجاهد ظاهر الدلالة على حب العمل في سبيل الله. وتظهر العاطفة الدينية في تسمية البنات باسم زمزم ومريم؛ فإنها تسمية أناس مشتغلين بأمر الدين. واسم عبده مضافا إلى الضمير الذي ينوب عن جميع الأسماء الحسنى، معناه أن المتسمى به «عبده» هو سبحانه وتعالى وليس بعبد أحد من خلقه، وقد يطلق هذا الاسم بغير نظير إلى هذا المعنى، ولكنه إذا أطلق على المولود في زمن يسام فيه أهله الذل والعنت، ويرفعون فيه الرأس بالتحدي والمناجزة، فليس هو من الأسماء التي تطلق جزافا ولا تراد لمعنى. وكذلك اسم خير الله كبير الأسرة، إنه خير الخالق وليس بخير أحد سواه. وأصغر أبناء الأسرة «حمودة» هو اسم محمد للتحبيب، سمي به لأن له أخا أكبر منه يسمى محمدا، وينادي أخوه الأصغر باسم حمودة كأنه ينادى باسم محمد الصغير.
ونحن نلتفت إلى هذه العادة في التسمية ونرجح القصد فيها؛ لأنها مناسبة لحالة الأسرة غير منقطعة عن معانيها كما تنقطع معاني الأسماء في كثير من الأسر التي تجري في اختيار الأسماء لأبنائها وبناتها مجرى التقليد، الذي تتساوى فيه ظروفها وظروف غيرها. فإذا صح ما ذهبنا إليه، فهو آية أخرى من آيات الاستقلال بالرأي في هذا البيت، وعادة من عادات أناس يريدون لأنفسهم ولا يراد لهم فيما يعنيهم من شئون الآباء والأبناء.
واسم صاحب الترجمة «محمد» هو الاسم الذي يقترن باسم أبيه، فيساوق لفظ التحية الإسلامية كلما ذكر النبي «محمد عبده» ورسوله.
فمحمد عبده اسم للوليد وذكرى محبوبة لنبي الإسلام عليه السلام، وأغلب الظن أن «محمدا» نذر من يوم مولده لطلب العلم؛ لأنه ولد بجوار مدينة طنطا في أواخر سنة 1265 هجرية أو أوائل السنة التي تليها، وهو موعد من السنة يحتفل فيه بإحياء ليلة جامعة يشهدها المريدون من أنحاء الأقاليم، وتتلى فيها سور القرآن الكريم يرتلها أشهر القراء بالمسجد الأحمدي، وهو مشهور منذ بنائه بعلوم القرآن حفظا وتجويدا وتفسيرا، وله في كل ليلة من ليالي الأسبوع مقرأة باسم أحد المحسنين من أصحاب الوقوف عليه، ومن عادة قرائه الكبار أن يجلسوا بعد صلاة الجمعة، أو بين العشاءين، كل ليلة من ليالي المقارئ لاستماع سور القرآن من المبتدئين بحفظه وتجويد تلاوته، وهم الذين يخلفون كبار القراء بعد إتمام الحفظ وإحكام التلاوة والإلمام بما يتيسر لهم في سنهم من تفسير آيات الفرائض والعبادات.
فإذا كان الوالد المغترب قد شهد بالمسجد ليلة الختام وشهد معها تسابق الفتية الصغار إلى تجويد القراءة والاستعداد لطلب العلم بمعهده الذي كان يسمى بالأزهر الصغير، أو الأزهر الثاني، فليس أقرب إلى الذهن من أن يخطر له أن ينذر وليده في هذا الجوار لمثل هذه الكرامة، وهو على ما طبع عليه من التدين والتطلع إلى عظائم الأمور، ولم يكن لابن القرية يومئذ من مستقبل أعظم من مستقبل العالم الذي يقود الأمة في شئون الدين والدنيا، ويحاسب ولاة الأمر على ظلم أهل القرى، وهو في اغترابه لا ينسى ذلك الظلم ولا يتمنى لولده مقاما أكبر من مقام ذلك الحسيب المهيب. •••
لذلك بقي الطفل الصغير بعد عودة أبيه إلى «محلة نصر» معفي من تكاليف العمل في الحقل مع أخويه وذوي قرباه، وتعلم الكتابة والقراءة في منزل والده، ثم وكل إلى حافظ معتقد لتحفيظه القرآن، ثم أرسل في سن طلب العلم إلى طنطا لتلقي علومه؛ تمهيدا للترقي منه إلى الجامعة الأزهرية، ولم يقبل منه أبوه عذرا للتخلف عن المسجد بعد تزويجه المبكر في نحو السادسة عشرة، ولعله حسب أن إحجامه عن متابعة الدرس كان عرضا من أعراض سن المراهقة، وأنه مع ذكائه الذي ظهر منه في تعلم الكتابة وحفظه للقرآن في نحو سنتين خليق أن يعدل عن المعاندة في طلب العلم الذي نذره له منذ ولادته، وتفصيل ما بعد ذلك من مراحل تعليمه مبسوط في سيرته التي كتبها، ننقله بنصه ولا نرى لنا مرجعا أولى بالاعتماد عليه وأوفى منه في بابه مما كتبه بعنوان «نشأتي وتربيتي» من تلك السيرة التي نشرت بعد وفاته، قال رضوان الله عليه:
تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي، ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة، ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعه في مدة سنتين، أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية جاءوا من مكتب آخر ليقرءوا القرآن عند هذا الحافظ، ظنا منهم أن نجاحي في حفظ القرآن كان من أثر اهتمام الحافظ. بعد ذلك حملني والدي إلى طنطا - حيث كان أخي لأبي الشيخ مجاهد رحمه الله - لأجود القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد، وكان ذلك في سنة 1279 هجرية.
وفي سنة مائتين وإحدى وثمانين هجرية جلست في دروس العلم، وبدأت بتلقي شرح الكفراوي على الآجرومية في مسجد الأحمدي بطنطا، وقضيت سنة ونصفا لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم، فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها، فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدروس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر علي أخي فأخذني إلى المسجد الأحمدي، وأراد إكراهي على طلب العلم، ولم يبق علي إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي، وانتهى الجدال بتغلبي عليه، فأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع، ورجعت إلى «محلة نصر» على نية ألا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة 1282 على هذه النية.
فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر ... وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبيل في التعليم ... وسبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئا، فيستمرون على الطلب إلى أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يبتلى بهم الناس وتصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية؛ لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد، ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم، ويحولون بينه وبين نفع الناس بعلمه.
عودة إلى طلب العلم
بعد أن تزوجت بأربعين يوما، جاءني والدي صحوة نهار وألزمني بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم ... وبعد احتجاج وتمنع إباء، لم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر، ووجدت فرسا أحضره فركبته وأصحبني والدي بأحد أقاربي ... وكان قوي البنية شديد البأس، ليشيعني إلى محطة «إيتاي البارود» التي أركب منها قطار السكة الحديد إلى طنطا.
كان اليوم شديد الحر، والريح عاصفة ملتهبة تحصب الوجه، يشبه الرمضاء ... فلم أستطع الاستمرار في السير، فقلت لصاحبي: أما مداومة المسير فلا طاقة لي بها مع هذه الحرارة، ولا بد من التعريج على قرية أنتظر فيها حتى يخف الحر ... فأبى علي ذلك فتركته، وأجريت الفرس هاربا من مشادته، وقلت إني ذاهب إلى (كنيسة أورين) بلدة غالب سكانها من خئولة أبي، وقد فرح بي شبان القرية؛ لأنني كنت معروفا بالفروسية واللعب بالسلاح، وأملوا أن أقيم معهم مدة يلهو فيها كل منا بصاحبه ... أدركني صاحبي وبقي معي إلى العصر، وأرادني على السفر، فقلت له خذ الفرس وارجع وسأذهب صباح الغد، وإن شئت قلت لوالدي إنني سافرت إلى طنطا ... فانصرف وأخبر ما أخبر، وبقيت في هذه القرية خمسة عشر يوما تحولت فيها حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي.
مع الشيخ درويش
ذلك أن أحد أخوال أبي، واسمه الشيخ درويش سبقت له أسفاره إلى صحراء ليبيا ... ووصل في أسفاره إلى طرابلس الغرب، وجلس إلى السيد محمد المدني والد الشيخ الظافر المشهور الذي كان قد سكن الآستانة وتوفي بها، وعلم عنده شيئا من العلم وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ «الموطأ» وبعض كتب الحديث، ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه، واشتغل بما يشتغل به الناس من فلاحة الأرض وكسب الرزق بالزراعة.
جاءني هذا الشيخ صبيحة الليلة التي بتها في الكنيسة ، وبيده كتاب يحتوي على رسالة كتبها محمد المدني إلى بعض مريديه بالأطراف بخط مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئا لضعف بصره ... فدفعت طلبه بشدة ولعنت القراءة ومن يشتغل بها، ونفرت منه أشد النفور، ولما وضع الكتاب بين يدي رميته إلى بعيد، ولكن الشيخ تبسم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بي حتى أخذت الكتاب وقرأت منه بضعة أسطر، فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت، ثم بعبارة واضحة تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي. وبعد قليل جاء الشبان يدعونني إلى ركوب الخيل واللعب بالسلاح والسباحة في نهر قريب من القرية، فرميت الكتاب وانصرفت إليهم.
بعد العصر جاءني الشيخ بكتابه، وألح علي في قراءة شيء منه، قرأت ثم تركته إلى اللعب، وفعل في اليوم الثاني كما فعل في الأول، أما اليوم الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه، وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أمل فيها، فقال لي إنه في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة ليعمل فيها، فطلبت منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرأه، وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت عليها علامة لأسأله عنها إلى أن جاء وقت الظهر، وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب، وكل هوى ينازعني إلى البطالة ... وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه، فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة والميل إلى الفهم.
مفتاح سعادتي
كانت هذه الرسائل تحتوي على شيء من معارف الصوفية، وكثير من كلامهم في آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق، وتطهيرها من دنس الرذائل، وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا.
لم يأت علي اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلي ما كنت أحبه من لعب ولهو، وفخفخة وزهو، وعاد أحب شيء إلي ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم، وكرهت صور أولئك الشبان الذين كانوا يدعونني إلى ما كنت أحب ويزهدونني في عشرة الشيخ رحمه الله، فكنت لا أحتمل أن أرى واحدا منهم، بل أفر من لقائهم جميعا كما يفر السليم من الأجرب.
وفي اليوم السابع سألت الشيخ: ما هي طريقتكم؟ فقال: طريقتنا الإسلام. فقلت: أوليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال: ولو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر، ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب.
هذه الكلمات كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم ... متاع تلك الدعاوى الباطلة، والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة ساهية.
سألته: ما وردكم الذي يتلى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا ورد لنا سوى القرآن، تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع من الفهم والتدبر. قلت: أنى لي أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئا؟ قال: أقرأ معك، ويكفيك أن تفهم الجملة وببركتها يفيض الله عليك التفصيل، وإذا خلوت فاذكر الله - على طريقة بينها لي، وأخذت أعمل على ما قال من اليوم الثامن - فلم تمض علي بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير الذي كنت أعهد، واتسع لي ما كان ضيقا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرا، وعظم عندي من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرا ... وتفرقت عني جميع الهموم، ولم يبق لي إلا هم واحد، وهو أن أكون كامل المعرفة كامل أدب النفس، ولم أجد إماما يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد ... هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي، وهو الشيخ درويش خضر من أهل (كنيسة أورين) من مديرية البحيرة، وهو مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب من غريزتي، وكشف لي ما كان خفي عني مما ودع في فطرتي.
وفي اليوم الخامس عشر، مر بي أحد سكان بلدتنا (محلة النصر) فأخبرني أن والدتي ذهبت إلى طنطا لتراني، فعلمت أنها ستقول لوالدي إنني لا أزال في بلدة الكنيسة، فأصبحت مبكرا إلى طنطا خوف عتاب الوالد واشتداده في اللوم؛ لأنني لو كنت أقمت له ألف دليل على أنني وجدت في مهربي مطلبه ومطلبي لما اقتنع.
في ساحة الدرس
ذهبت إلى طنطا، وكان ذلك قرب آخر السنة في شهر جمادى الآخرة من سنة 1282 الهجرية، فاتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت بنته، فعاقه الحزن عليها من إتمام شرح الزرقاني على العزية، وآخر عرض له عارض منعه عن إتمام شرح الشيخ خالد على الآجرومية، فأدركت كلا منهما في أوائل الكتاب الذي كان يدرس، وجلست في الدرسين فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد لله، وعرف ذلك مني بعض الطلبة، فكانوا يلتفون حولي لأطالع معهم قبل الدرس ما سنتلقاه.
وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة، كنت أطالع بين الطلبة وأقرر لهم معاني شرح الزرقاني، فرأيت أمامي شخصا يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب ... فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلوى مصر البيضاء! فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله، من جد وجد ... ثم انصرف، فعددت ذلك القول منه إلهاما ساقه الله إلي ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا.
وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر، وداومت على طلب العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس، حتى كنت أستغفر الله إذا كلمت شخصا كلمة لغير ضرورة ... وفي أواخر كل سنة دراسية، كنت أذهب إلى (محلة نصر) أقيم بها شهرين من منتصف شعبان إلى منتصف شوال، وكنت عند وصولي إلى البلد أجد خال والدي الشيخ درويشا قد سبقني إليه، فكان يستمر معي يدارسني القرآن والعلم إلى يوم سفري، وكل سنة كان يسألني ماذا قرأت، فأذكر له ما درست، فيقول: ما درست المنطق! ما درست الحساب! ما درست شيئا من مبادئ الهندسة! ... وهكذا كنت أقول له: بعض هذه العلوم غير معروف الدراسة في الأزهر. فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان ... فكنت إذا رجعت القاهرة، ألتمس هذه العلوم عند من يعرفها، فتارة كنت أخطئ في الطلب، وأخرى أصيب، إلى أن جاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر سنة 1286ه.
لقاء بالسيد جمال الدين
وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة 1287ه، وأخذت أتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية (الفلسفية) والكلامية، وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك.
وأخذ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقولون عليه وعلينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، وقد يهوي بالنفس في ضلالات تحرمها خيري الدنيا والآخرة، فكنت إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك على الشيخ درويش، فكان يقول لي: «إن الله هو العليم الحكيم، ولا علم يفوق علمه وحكمته، وإن أعدى أعداء العليم هو الجاهل، وأعدى أعداء الحكيم هو السفيه، وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء من العلم بممقوت عند الله، ولا شيء من الجهل بمجحود لديه إلا ما يسميه بعض الناس علما، وليس في الحقيقة بعلم، كالسحر والشعوذة ونحوهما إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس.»
الفصل السادس
محور حياة
صحبنا الفتى الناشئ في مراحل التعليم إلى نحو الثانية والعشرين من عمره، فلو أننا أردنا أن نلتمس لحياته في هذا الدور محورا تدور عليه يجتمع لنا في كلمة واحدة، لما كانت هذه الكلمة أصدق ولا أوفى من كلمة التعليم.
صحبناه إلى أول لقاء له بأستاذه العظيم جمال الدين الأفغاني، وسنصحبه بعد ذلك ردحا من العمر في الصفحات التالية، ولا نرانا نعرف لحياته المباركة محورا غير ذلك المحور الذي دارت عليه كل أدوار حياته، على تعداد جوانبها واتساع ميادينها.
بل نحسب أننا لو صحبناه في كل صفحة من الصفحات التي عنيت بأخباره وآثاره، لما ابتعدنا من ذلك المحور المكين، وإن ذهبنا إلى غاية الأمد الذي أحاطت به حياته الحافلة بجلائل أعماله، متعلما ومعلما وعاملا على نشر العلم النافع حيث استطاع، وقد استطاع ما لم تستطعه العصبة أولو العزم في جيل واحد، من الثانية والعشرين إلى السادسة والخمسين .
إننا نصاحب الطفل محمد عبده كما نصاحب الفتى محمد عبده، والشيخ محمد عبده، فلا نراه أبدا إلا على مفترق طريقين من طرق العلم، أصلحهما هو الذي يختاره له القدر أو يختاره لنفسه، منذ تعلم الكتابة في بيته إلى أن فارق دنياه وهو يناضل نضاله الدائم في سبيل أصلح الثقافتين وألزم التعليمين.
كان في نحو السابعة حين ابتدأ بتعلم الكتابة والقراءة، فكان في قريته الصغيرة أمام طريقتين في هذه المرحلة الأولى من مراحل التعليم: طريقة السوط والفلقة وصياح العشرات من الصبية بين جدران المكتب العتيق، وطريقة التعلم في البيت بين يدي أستاذ واحد من أهله يفهمه ويعنى بتفهمه، ويعز عليه أن يعنته بالسوط والفلقة وجلبة الصياح في مكان كالمكان الذي يختار للمكتب في ذلك الزمن، فكان من حظه أن يتعلم حروفه الأولى على أفضل الطريقتين.
وارتقى في المرحلة الثانية من مراحل التعليم في القرية وهي حفظ القرآن، فلم يتعلمه في المكتب العتيق مأخوذا بقسوة الضرب والشتم، مرتاضا على الترديد مع زملاء له يحفظون غير حفظه ويرددون غير ترديده، ويستعينون بالحركة الآلية على هذا الحفظ الآلي الذي لا يعقله الأستاذ ولا التلاميذ، بل هو قد حفظ منه ما استطاع أهله أن يعلموه في البيت، ثم أسلموه إلى الحافظ المعتقد الذي يقرأ الكتاب مع تلميذه الوحيد قراءة بعد قراءة، قبل أن يأخذه باستظهاره من فاتحته إلى ختامه مقروءا أو غير مقروء، لا فرق بين تعليم الضرير وهو لا ينظر إلى الصفحة، وتعليم البصير الذي ينظر إلى الكلمات والآيات فيدرك جهده من الإدراك معنى الانتقال من آية إلى آية، ويستعيده للفهم جهده قبل أن يستعيده للحفظ والاستظهار ... فكان في هذه أيضا مجدودا موفقا إلى أمثل الطريقتين، وفضله في مثل هذه السن أنه وافق هذه الطريقة باستعداده للمضي فيها إلى غايتها، ولم ينفر منها كما نفر من التعليم - وهو أكبر من تلك سنا - لأنه تعليم معيب. •••
ثم ألفى نفسه مترددا عند مفترق الطريقين أيضا، على فجوة أوسع من كل فجوة مرت به منذ اختبر التعليم في البيت أو عند حافظ القرآن.
ألفى نفسه على مفترق الطريقين بين دروس المسجد الأحمدي يوم ذاك، ودروس قريبه الصوفي الحكيم الشيخ درويش بكنيسة أورين.
ألفى نفسه بين طريقة الأذن والذاكرة، وطريقة الذهن والوجدان.
في الطريقة الأولى يبتدئ المعلم بتدريس النحو لجمع من التلاميذ الذين يجهلون كل شيء عنه، فيلقي عليهم في أول درس ومن أول صفحة إعراب: بسم الله الرحمن الرحيم، ويحدثهم عن حرف الجر وعن الاسم المجرور، وعن المضاف والمضاف إليه، وعن النعت ومطابقة الوصف للموصوف، كأنهم قد فرغوا من دروس العربية كلها قبل أن يقرءوا البسملة على بابها الأول ... فمن وعى ما سمع فقد أدركته بركة العلم والمسجد، ومن لم يع شيئا مما سمع، فذلك عندهم مطموس محجوب عن البركة والفائدة.
وهذه هي الطريقة التي سميناها بطريقة الأذن والذاكرة؛ لأن أساتذتها يخاطبون في تلميذهم أذنا تسمع الكلمات، وذاكرة تثبتها كما هي وتعيدها كما سمعتها، ولا يعنيهم منه بعد ذلك أن يكون له ذهن يفهم ويتصرف فيما يفهم، أو وجدان يستضيء بنور المعرفة المفهومة ويستلذ الشعور بما وعاه منها.
وقد عاف الفتى الناشئ هذه الطريقة، ولم يستطع أن يغالط نفسه في حقيقتها، وإنما يفعل ذلك أحد اثنين من الطلاب: طالب مغلق الذهن عن كل معرفة مفهومة أو غير مفهومة، فهو عاجز عن الاستماع إلى ما يفهم وما لا يفهم مما يلقى على أذنيه، فلا يلبث بعد معالجة الحفظ والمراجعة زمنا أن يسلم الأمر تسليم اليائس؛ لأنه من أولئك المطموسين «لم يفتح عليهم»، وليس لهم من العلم نصيب مقدور.
والطالب الآخر الذي يزهد في تلك الطريقة ولا يغالط في حقيقتها، هو صاحب الذهن الذي يتطلب الفهم والوجدان، والذي يلمح النور إذا رآه، فإن لم يجدهما في ساحة الدرس لم يبال أن يتركه لما هو أقدر عليه من شواغل حياته، وبخاصة حين تكون هذه الشواغل رياضة كرياضة الفروسية تستريح إليها كل نفس حية وكل طبع سليم، وعملا كعمل الزراعة يقوى عليه صاحب الجسد في العمل، وصاحب البنية التي تحتمل الجهد ولا تعييها المشقة.
ولعمري إن من بواكير العظمة المستقلة في هذا الفتى الناشئ أن يركن إلى عقله في الحكم على هذه الطريقة بالعقم، ولا يستسهل قبل ذلك أن يتهم عقله وأن يصنع ما صنع الألوف من قبله في مثل بدايته، فإنهم كانوا يكبرون أن يعيبوا هذا التعليم، وهو محفوف بتلك الهالة المرهوبة التي تحف باسم المعهد الأحمدي وأسماء العلماء الذين يجلسون للتعليم فيه، ومن اسم السيد البدوي تستعيد تلك الطريقة هيبتها، وهو ثاو في ضريحه براء منها، وأنه كما قال الشيخ مصطفى عبد الرازق في ترجمته للأستاذ الإمام: «أشهر أولياء القطر المصري، وصيته وكراماته ذائعة في أنحاء وادي النيل، وللناس فيه اعتقاد، ولزائريه من صور التوسل والزلفى ما لا يخلو من إسراف.»
ولا شك أن الشيخ «عبده حسن خير الله» قد تلقاها خيبة أمل مرة في وليده المنذور للعلم والرئاسة الدينية والدنيوية، ولولا رجاء الأب الذي يأبى أن تزعزعه صدمة أو صدمتان لما عاود الكرة على الفتى المتمرد، ولا حال بينه وبين البقاء في القرية كما أراد، ولكنه لو كشف له حجاب الغيب، لعلم أنه يشاهد من فتاه الصغير أنضر بواكير العقل المستقل والمعارضة القوية، التي صار بها الطالب «الخائب» أستاذ الشرق الناهض بعد سنين.
أما الطريقة الأخرى، طريقة العقل والوجدان، فلم يكن بينه وبينهما غير إشارة لطيفة من أستاذه الفلاح البسيط درويش خضر، وغير كتاب مخطوط يلقى بين يديه ليقرأه ويستقل بفهمه ويسأل عما يغمض عليه من كلماته، إن شاء.
فلم تكن لهذه الطريقة مهابة المعهد الكبير أو الأساتذة الكبراء، ولم يكن لذلك الكتاب اسم يروع بالتواتر والتقليد، أو شكل يعجب بصنيع الطبع والتجليد، ولكنه كان بصفحاته المشوشة المبعثرة، وخطه الساذج الممسوح، كافيا لاجتذاب الطالب المتمرد على العلم وانصرافه عن لهو الفتوة في ملاعب الخيل وحلبات السباق؛ لأنه خاطب منه الذهن المتفتح والوجدان المتطلع إلى النور.
ولسنا نعلم اليوم شيئا عما احتوته تلك الصفحات المخطوطة، إلا أنها نخبة من حكم الصوفية وجوامع النوادر والأمثال.
ولكننا نستطيع أن نعلم عن تلك «الصوفية» أنها شيء غير الجذاب والتواكل، وغير الكسل والزهد في أعمال المعيشة؛ لأن أستاذه الذي هداه إلى ذلك الكتاب كان فلاحا يعمل في الزراعة، وكان يحضه على تعليم الحساب والهندسة والمنطق وعلوم الحياة، وينهاه عن العزلة واجتناب الناس، ولو كانوا على غير ما يرضاه من خلق وسيرة؛ لأنهم بذلك أحوج إلى الهداية ومصاحبة العقلاء.
ولا يخلو مذهب صوفي قط من التفرقة بين الظاهر والباطن، وبين شواغل الجسد وشواغل الروح، ولكن هذه التفرقة قد تتباعد بالفوارق كما يتباعد النقيضان، وقد تتباعد بها كما يتباعد اللباب والقشور. ومثل هذه الصوفية هي التي نعلقها من مزاج رجل كالشيخ محمد عبده له بنية الفلاح السليم، ونشاط الرياضي المقدام، وثقة العقل المستقل، وهمة الكفاح الذي يأبى أن يستكين لمغالبة الأحداث أو مغالبة الخصوم.
وفي الأسرة كلها على ما يظهر نفحة من هذه الصوفية العاملة التي تؤمن بحقيقة لهذه الدنيا وراء قشورها الظاهرة، فمن أجداد محمد عبده أولئك الفلاحون الذين أقاموا مساكنهم حول ضريح «عبد الملك»، وقامت المحلة كلها - من ثم - على أساس ذلك الضريح.
ومن خئولة أبيه الشيخ «خضر» الذي تدل تسميته على هذه النزعة من أبيه، ومنهم الشيخ «درويش بن خضر» الذي وضع بين يدي تلميذه ذلك الكتاب، وهو لا ينسى أن يحثه على العمل والعلم في كل لقاء، ومنهم أبوه «عبده» وأخوه «مجاهد» فيما تخلقا به من خلق، وما عرفنا عنهما من غيرة على العلم، مع اشتغالهما بالفلاحة وكفاح الحياة، وهذه الطبائع التي تهديها الفطرة السليمة إلى الإيمان بشيء وراء القشور وسر وراء الكلمات، قد تهديها هذه الفطرة السليمة بعينها إلى العصمة من أكاذيب الأدعياء وأباطيل اللصقاء بالصوفية؛ لأن طبيعة العمل والجد في فطرتهم تأبى عليهم أن ينخدعوا بما ينخدع به الكسالى الذين ينفرون من الجد الصادق بمقدار ارتياحهم إلى الأوهام الباطلة، ويرحبون بما يحبب إليهم التواكل والاستقامة إلى أحلام اليقظة وتعلات الغرور بمقدار إعراضهم عن الواقع الصادع والبرهان الدامغ، إن كان وراءهما جهد واجتهاد.
وغاية ما تسيغه الفطرة السليمة من استطلاع الأسرار أن تتفاءل بها لتمضي في عملها، ولكنها لا تتفاءل أو تتشاءم منها لتعرض عن العمل أو تركن إلى الكسل، وكذلك كانت فطرة هذه الأسرة في «صوفيتها» البريئة، فإننا سمعنا عن عقائدهم في الأولياء وأبناء الطريق، ولكننا لم نسمع عن واحد منهم ساقه اعتقاده إلى إهمال حقله أو إلقاء فأسه، والتخلي عن كفاحه للعيش، أو كفاحه للخصوم. •••
ومن هذا التفاؤل إصغاء الطالب المتبرم بدروس المعهد إلى الكلمة التي لوح بها من قال عنه: «إنه يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب» ... وقد سمعها منه يوم كان يحدث نفسه بالانتقال من طنطا إلى القاهرة، عسى أن يجد في الأزهر ما لم يجده في الأزهر الثاني أو الأزهر الصغير.
ولم يلبث أن أقام بالقاهرة أياما حتى ألفى نفسه في الأزهر كما ألفى نفسه قبل مرة على مفترق الطريقين: طريق الأذن والذاكرة، وطريق الذهن والوجدان، وقد سميتا يومئذ بين طلاب العلوم الدينية بطريقة التقليد وطريقة التجديد.
وحسبنا من تلخيص واف لصلابة المقلدين على جمودهم، أن نعلم أن رئيسهم عليشا خرج يسعى بخنجره إلى مجلس الشيخ السنوسي ليقتله؛ لأنه كتب في مؤلف له أنه يجتهد بعلمه في فهم الشريعة من كتاب الله، غير متقيد بما كتبه الفقهاء من المتأخرين أو المتقدمين، ولولا سفر الشيخ السنوسي من القاهرة لما برح الشيخ يتعقبه حيث كان يقضي عليه.
وقد كانت لأنصار التجديد مدرسة مستقلة يقصدها من يريدها، وقلما يبحث عنها من كان يطلب العلم ممن يفتتحون كتاب النحو بإعراب البسملة، ويختمون الكتب كلها بخاتم الذاكرة. فبحث الطالب الأزهري الغريب عن أساتذته المختارين من علماء التجديد، وحضر على عالمين جليلين من أشهرهم وأقدرهم، هما حسن الطويل والشيخ محمد البسيوني، وكلاهما من تلاميذ الشيخ حسن رضوان الذي تفرغ لحكمة النصوص بعد أن استوفى حظه من العلوم العقلية والشرعية، ثم يئس من الدرس والتدريس في الجامع الكبير، فتركه ليلحق بأستاذه الذي كان يلقي دروسه في غير حلقاته، ونظم وهو يودع حلقاته أرجوزة يقول فيها عن جماعة المقلدين:
لو كان هذا وصفهم ما شنعوا
بل وقتهم في «جاء زيد» ضيعوا
ظنوا بأن العلم علم القول لا
والله بل علم القلوب فضلا
وعلم القلوب هذا هو العلم الذي ميزه الطالب الناشئ في قريته وجاء إلى العاصمة الكبرى ينشده، فيجده على تلك الحال؛ إمامه العارف بفضله يبحث عن تمامه بعيدا من حلقات الجامع، وخليفتاه النابغتان بعده يقنعان من درسه وتدريسه بالجانب المأمون من خنجر الشيخ عليش!
قال صاحب المنار نقلا عن الأستاذ الإمام: ... كان الشيخ حسن الطويل ممتازا في الأزهر بعلم المنطق، وحضره عليه، ولم يكن يشفي ما في نفسه، بل كانت تتشوف دائما إلى علم غير موجود، فكان يبحث في خزائن الكتب الأزهرية عن طلبته المجهولة، فيظفر ببعض الشيء، ومما ظفر به كتاب القطب على الشمسية ناقصا. «وقرأ الشيخ حسن الطويل لهم شيئا من الفلسفة، ولكن لم يكن يجزم بأن المعنى كذا، بل كان الدرس احتمالا أو شبهات الحذر فيما بينهما، حتى جاء السيد جمال الدين، فسكنت إليه نفسه من اضطرابها، ووجدت عنده جميع طلبتها وأقصى أمنيتها ...»
أهو مفترق الطريق مرة أخرى؟
نعم، ولكنه في هذه المرة مفترق طريق في مدرسة واحدة؛ مدرسة علم القلوب والعقول. وبديهة التلميذ الصادقة هي هاديه الأمين إلى أقوم الطريقين وأفضل الغايتين، بين تعليم الشيخ حسن الطويل وتعليم السيد جمال الدين.
وإنما افترق التعليمان هنا بين طريق النظريات وطريق العمليات.
وكلاهما يخاطب الذهن والوجدان، ولكن النظريات لا تذهب بعيدا وراء الفهم والمناقشة، ولا تستريح النفوس المطبوعة على الحركة زمنا طويلا إلى بحث من بحوث الذهن قصاراه ترجيح نظرية على نظرية، وتوضيح شبهة واردة أو تصحيح غلطة خفية؛ لأنها تفهم كيف تعمل، وتهتدي لتسلك إلى الغاية التي تتحراها ولا تستريح إلى السكون دونها.
وغير هذه الطريق، طريق النظريات، كانت طريق جمال الدين إلى «العمليات» التي تعيش مع صاحبها في معترك الحياة، وتعقب لها أثرا في نفسه وفيما يحيط به من أحوال قومه، وخلاصة الفارق بين الطريقتين هي خلاصة الفارق بين صاحب درس وصاحب رسالة، وقد يلتقيان ولكنهما لا يتساويان. •••
وبعد، فإننا في صفحات هذه السيرة لا نتوخى ترتيبا يقيدنا بترتيب أرقام السنين في التقويم؛ لأننا نتكلم عن نفحة من نفحات الحياة العالية بأوصافها وملامحها، ولا نتكلم عن نبذة من الزمن بترتيب حوادثه وأرقامه، فمكان الحادث من هذه السيرة هو مكانه في موضع الدلالة على جوانب تلك الشخصية الحية، ولا سيما جوانبها البارزة التي تنتظم من مبدأ العمر إلى نهايته، وأولها وأهمها هذا الجانب الذي نراه على الدوام كأنه يوحد بين مسألة التعليم ومسألة العمر كله في سيرة هذا المصلح العظيم الذي سمي بحق بالأستاذ الإمام.
ولهذا نتناول في بعض هذا الفصل جملة الحوادث التي تتابعت بعد لقاء الطالب محمد عبده بأستاذه جمال الدين، ومنه ما كان الخلاف فيه بين التلميذ والأستاذ بعد ملازمة السنوات الطوال. •••
تولى التحرير في الصحف، فكان مدار مقالاته التي كتبها فيها جميعا على الدعوة إلى التعليم، والتمييز بين التعليم النافع والتعليم العقيم الذي أدرك عقمه بالتجربة بعد التجربة من بواكير صباه.
ولم تمض سنوات بعد أول لقاء له بالسيد جمال الدين حتى جاشت البلاد بقلاقل الثورة الأولى، وكان الطالب الذي تخرج يومئذ من معهده للتدريس يلقي دروسه، ويكتب مقالاته، ويشارك زعماء الثورة، فيوافقهم على أمور ويخالفهم على غيرها، ومن أهم ما خالفهم عليه أن يهتموا بتعليم الأمة لتوكل إليها حقوقها وهي أمينة عليها، فإن ما يمنحه سلطان الحاكم بأمره يسلبه سلطان الحاكم بأمره، «وإنما علينا - كما قال للزعيم عرابي - أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بعض سنين، وأن نحمل الحكومة على العدل بما نستطيع، وأن يبدأ بترغيبها في استشارة الأهالي في بعض مجالس خاصة بالمديريات والمحافظات، ويكون ذلك كله تمهيدا لما يراد من صد الحكومة، وليس من المصلحة أن نفاجئ البلاد بأمره قبل أن تستعد له، فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد، فيفسد المال ويفضي إلى الهلكة.»
وانتهت الثورة العرابية بنفيه إلى بيروت، فكان عمله فيها التعليم بالمدرسة السلطانية، ومحاضرة الطلاب والمريدين في منزله وفي المساجد المشهورة، وكان الأستاذ الشرتوني صاحب المعجم الكبير المسمى بأقرب الموارد يقول عن دروسه هناك: إنه يتكلم فيخرج النور من فيه.
وأذن له بالعودة إلى مصر، فلم يفارق بيروت إلا بعد أن أودع آراءه في إصلاح الأمة الإسلامية بالتعليم والتربية في رسالتين أو «لائحتين»، أرسل إحداهما إلى شيخ الإسلام بالآستانة، وأرسل الثانية إلى والي بيروت ليشرح فيها ما اهتدى إليه أثناء مقامه من وسائل إصلاح البلاد من طريق التعليم والتربية.
وقد اتبع أستاذه جمال الدين في حملات الإصلاح من طريق السياسة، وعلى أيدي الأمراء والملوك الذين توسما فيهما صدق الرغبة في استجابة الدعوة، فلما بلغا بهذه الحملات المتداركة غاية مطافها، عاد التلميذ يراجع أستاذه فيما هو أقوى وأجدى، وقال له - روى صاحب المنار:
أرى أن نترك السياسة ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض لا يعرفنا فيه أحد، نختار من أهله عشرة غلمان أو أكثر من الأذكياء السليمي الفطرة، فنربيهم على منهجنا ونوجه وجوههم إلى مقصدنا، فإذا أتيح لكل واحد منهم تربية عشرة آخرين، لا تمضي بضع سنين أخرى إلا ولدينا مائة قائد من قواد الجهاد في سبيل الإصلاح، ومن أمثال هؤلاء يرجى الفلاح.
قال السيد لتلميذه في رواية صاحب المنار: «إنما أنت مثبط، نحن قد شرعنا في العمل ولا بد من المضي فيه، ما دمنا نرى منفذا.»
ولكنه اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين؛ أحدهما خلق للتعليم والتهذيب، والآخر خلق للدعوة والحركة في مجال العمل السياسي والثورة «الأممية»، وظل المعلم المهذب على رأيه وعلى فطرته في انتظار الفرصة الملائمة لأداء رسالته على حسب استعداده.
فلما عاد إلى مصر كان في مرجوه أن يسند إليه عمل من أعمال التدريس في معاهده العليا التي لا يعوقه فيها عائق من التقاليد الموروثة عن الانتفاع ببرامج الثقافة العصرية، وأقرب هذه المعاهد إليه وأشبهها بعمله وبالرسالة التي أجمع العزم على أدائها هو معهد دار العلوم، يجمع بين ثقافة الأزهر وثقافة العصر الحديث.
غير أن ولاة الأمر أوجسوا - على ما يظهر - من إسناد وظيفة التدريس في دار العلوم إلى رجل مثله في إيمانه بقوة التعليم، واقتداره على بث هذه القوة في نفوس الناشئة من معلمي المستقبل، ومنهم مئات يتولون تعليم أبناء القطر كله بعد سنوات، وينشرون في أنحائه بذور نهضة متشعبة الأطراف، هي أخطر على ولاة الأمر من الثورة العرابية التي أخمدوها وخيل إليهم أنهم استراحوا منها.
فأبعدوه عن وظائف التعليم واختاروا له وظيفة القضاء، وهي وظيفة لوحظ فيها علمه بالشريعة ونزاهته في الحكم، وكفايته لتوجيه المحاكم الجديدة إلى وجهتها الصالحة في أوائل نشأتها، ولكن لم تلاحظ فيها رغبته ولا كفايته للإصلاح من طريقة التربية والتعليم، وكان خليقا أن يقبلها لو أنه نظر إلى مستقبله ولم ينظر إلى مستقبل رسالته في الإصلاح؛ لأن درجات الارتقاء فيها ممهدة إلى أرفعها وأعلاها في مناصب الدولة، ولم يكن للمعلم في ذلك الحين مستقبل أرفع من مستقبل النظارة على مدرسة من المدارس الصغيرة؛ لأن نظارة المدارس الثانوية والمدارس العليا كانت موقوفة يومئذ على الإنجليز والأجانب، ولم يكن ناظر المدرسة الابتدائية يرتقي إلى درجته إلا وهو على باب الإحالة إلى المعاش. فلما حيل بينه وبين معاهد التعليم، أسف لذلك وأوشك أن يستعفي ولاة الأمور من وظيفته القضائية؛ لأنه - كما قال - جرب عمله في التعليم، وعلم أنه خلق له ولم يخلق «ليقول حكمت على هذا وحكمت لذاك ...» •••
إن الذي خلق للتعليم يعلم حيث شاء، ويتعلم ما استطاع، وقد كان القاضي «محمد عبده» معلما في أحكامه، كما روى عنه الذين شهدوا جلساته وسمعوا كلماته التي كان يلقيها على المتهمين وعلى الحاضرين في الجلسة قبل النطق بحكم الإدانة، وكانت له لازمة اشتهرت عنه بين زوار المحاكم قبل تلاوة الحكم، وزعم بعضهم يومئذ أنها كانت خاصة بالأحكام المشددة، وتروى فيما نظن أنها من لوازم التأمل ومراجعة الفكر عند كثير من المعممين أو المطربشين، وهي زحزحة العمامة أو الطربوش إلى الأمام بحركة لدنية تنم على الاستغراق في التفكير، وكانت تلازم القاضي محمد عبده ثم ظلت ملازمة له بعد الانتقال من وظائف القضاء، كما سمعت من أصحابه وعشرائه، ولا نظنها كانت خاصة بالأحكام المشددة دون غيرها، إلا أن يكون تشديد الحكم مستدعيا للأناة والتأمل قبل النطق به مراجعة للفكر وإبراء للذمة، ولا نخالها - على أية حال - إلا علامة من علامات التفكير وإعادة النظر فيما يلقيه من النصائح ويمليه من الأحكام.
وقد نظر فيما يتعلمه لوظيفته، فعلم أنه بحاجة إلى التوسع في مبادئ القانون الجنائي الذي تعمل به المحاكم؛ لأن القانون المدني يجري على أحكام الشريعة في مسائل المواريث وحقوق المال والمعاملة، وعلم أن المراجع العربية لهذه القوانين لا تعطيه كفايته من الإحاطة الواجبة بتلك المبادئ في أصولها المأثورة عند فلاسفة التشريع الغربيين، فشرع في تعلم اللغة الفرنسية وثابر على تعلمها بعد انتقاله من وظائف القصاء، ولم يسبق له درس هذه اللغة في غير كتب الهجاء التي ألم بها وهو في الرابعة والأربعين من عمره، ثم شغلته عنها شواغل الثورة العرابية، فلما عاد إلى تعلمها لم يقنع بما وعاه منها للقراءة والفهم، ولم تقعده صعوبة الكلام بلفظها الصحيح عن متابعة الدرس في القاهرة وفي رحلاته إلى البلاد الأوروبية، فحرص على حضور دروس العطلة الصيفية بجامعة جنيف أثناء رحلته إلى سويسرا، وكان يعنى على الخصوص باستماع محاضرات العلماء في الآداب الأوروبية وفلسفة التاريخ، ولم يزل يقرأ ويستمع حتى جاوز في اللغة مرتبة الفهم والمطالعة إلى مرتبة الإفهام والكتابة.
قال الدكتور عثمان أمين في كتابه عن الأستاذ الإمام من سلسلة أعلام الإسلام: «لقد أجمع أصحاب الأستاذ الإمام وخاصته على أنه أتقن اللغة الفرنساوية تحدثا وقراءة وفهما، على الرغم من قرب عهده بتعلمها، وهذا ما شهد به أخيرا الأستاذ لطفي السيد (باشا) حين ذكر أن الشيخ محمد عبده هو الذي كان يجلو لإخوانه المصريين ما غمض من عبارات الفيلسوف الفرنساوي «تين» في كتابه المشهور عن الذهن، ونحن نعلم من جهة أخرى أن الأستاذ الإمام قد أملى في مرض موته فصلا بالفرنساوية نشره المسيو دي جرفيل في كتابه عن مصر الحديثة بعنوان «وصية سياسية للمرحوم المفتي الشيخ محمد عبده»، كما نعلم أن الشيخ قد ترجم عن الفرنساوية كتاب التربية للفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر ترجمة تدل على تمكنه من تلك اللغة ...» •••
وتأبى ملكة التعليم إذا تمكنت من صاحبها أن تتوارى، ولها مندوحة للبروز في حركة من حركات ذهنه أو شواغل حياته؛ فقد كان القاضي التلميذ يتلقى دروسه الأولى في اللغة الفرنسية وكأنه يعلم أستاذه كيف يعلمه تلك الدروس، وكيف يختار له أوجزها وأنفعها لمثله، وهداه إلهام البديهة إلى منهج في تعليم اللغات للكبار على الخصوص لم يكن معلوما في ذلك الحين، ولم ينتشر قط في البلاد الغربية أو الشرقية قبل وفاته، ونعني به منهج التعليم الذي أطلقوا عليه بعد ذلك اسم المنهج الكلي، أو منهج الابتداء بالكلام المجمل والانتهاء إلى التفاصيل المتفرعة عليه، ويؤثر المعلمون على هذا المنهج أن يبدأ قارئ اللغة بقراءة الجملة، ثم يتعلم تفسيرها بفهم مفرداتها على حدة، ثم يلم بقواعدها الضرورية، أو بآجروميتها ونحوها وصرفها وبلاغتها، من توضيح موقع الكلمة بالنسبة إلى الكلمات الأخرى وإلى التراكيب التي تحتويها.
جاءه المعلم وفي يده كتاب من كتب الآجرومية الأولية، فقال للمعلم: لا وقت عندي للابتداء من البداية، فلنبدأ من حيث ننتهي، وتناول قصة من قصص إسكندر دوماس ليقرأ عبارتها ويستمع تصحيح المعلم لنطقه وتفسيره لمعانيها ... قال: أما ما عدا ذلك فهو عملي، والنحو يأتي في أثناء العمل، وعلى هذا المنهج أتم الكتاب وأتبعه بكتابين آخرين، وتعود بعد الدرس أن يطالع ما قرأه على المعلم منفردا بصوت مرتفع، ليسمع نطقه ويتذكر مواضع خطئه وتصحيح معلمه، واختبر في نفسه نجاح هذا المنهج، فأوصى به من كان يعرفهم من طلاب اللغة الفرنسية، ومنه استفاد الشاعر حافظ إبراهيم فوائد حسنة في هذا الباب، كما سمعت منه وهو يحدثنا عن محاولته الاولى لترجمة كتاب «البؤساء». •••
ومثل هذا التمكن في ملكة التعليم خليق أن يزيدنا بصرا بطبيعة هذه الملكة، حيثما برزت لنا في أعمال ذوي الاستعداد الفطري لتعليم الناس أفرادا كانوا أو جماعات، فضلا عن نفعها لنا في التبصير بترجمة الأستاذ الإمام، أو بما سميناه محور حياته وأردنا به ذلك المرجع النفساني الذي نرجع إليه لنهتدي به إلى بواعث نفسه ومقاصد سعيه واجتهاده، ويبدو من بروز هذه الملكة وإلحاحها على خواطر المستعدين لها وبوادر نفوسهم وأذهانهم أنها عبقرية خاصة من تلك العبقريات الروحية، التي تخلق في الإنسان ومعها حافز لا يستريح من حوافز الغيرة على إنجاز عملها والحماسة لتحقيق مقاصدها، وشأنها في ذلك شأن كل عبقرية موهوبة تطبع على أداء رسالتها في عالم العقيدة والإيمان، أو في عالم الفن والجمال، فلا يهدأ صاحب هذه العبقرية أو يبلغ رسالته، ولو صدت الأسماع عنه أو حالت الحوائل القاسرة بينه وبين من يستمع إليه، ومن كان مطبوعا على عبقرية التعليم فليس قصاراه من الإفضاء بعلمه أن ينقل طائفة من المعلومات المحفوظة من رأسه إلى رءوس غيره؛ تلك رسالة لا نفخة فيها من الروح، ولا مدد لها من السليقة، وهي أشبه بنقل الصفحات من نسخة إلى نسخة تمر بالسمع أو تمر بالفكر على الأكثر، ولا تسري منه إلى سرائر النفس ولا تتخطاه إلى بواعث الحياة، وهو عمل كعمل المأجور المسخر لإرادة غيره، ولا إرادة له ولا غيرة عنده ولا إخلاص في تفهيم ما يلقيه في آذان مستمعيه، وسواء عنده عملوا بما يعلمون، أو لم يكن لهم عمل قط بعد فراغه من إلقاء تلك المعلومات وتقاضيه الأجر الذي سخروه له، كأنه مجبر عليه.
وعلى غير هذا من النقيض إلى النقيض يعمل صاحب العبقرية المطبوعة على التعليم، فإنه يعلم ليدفع المتعلمين إلى عمل ويستنيرهم إلى غاية، ويبث في نفوسهم من الحماسة مثل ما انطوى عليه في أعماق ضميره من الحماسة لعمله وغايته، ولا مطمع له في أجر يناله منهم أو من سواهم، بل هو يعطي الأجر ويجزله لو استطاع، وليس بالسائغ في طبعه أن يتحمل العلل لإعفاء نفسه من عناء عمله إذا توانى المتعلمون على يديه ولم يستجيبوا لدعوته بمثل حميته وإخلاصه؛ لأنه يحسب استجابتهم غاية له تعنيه قبل أن تعنيهم، وإن كان فيها غاية النفع لأولئك المتعلمين عليه.
وأكثر ما يكون هذا الباعث الوجداني في نفوس المعلمين المطبوعين خصلة من خصال النخوة الإنسانية في كل ما تمثلت فيه من غوث الضعيف، والرثاء للذليل، وكراهية الجهل المذل للمبتلين به من ضحايا الغفلة والغباء وصرعى الظلم والخديعة، ولا يثير هذه النخوة شيء كما تثيرها عزة الظالم الخادع واستكانة الجاهل الغافل، ولكنها نخوة ترتفع مع ارتفاع الهمم وتقوى مع قوة الطباع، فلا تقنع بمحاربة الجهل في واحد وآحاد وهي قادرة على محاربته في جماعات وأقوام، ولا تقصر الغوث على الدرس وهي قادرة على غوث للضعيف المفتقر إليه كيفما كان.
وأعمق ما تكون النخوة إذا كانت سجية موروثة تنتقل من الأجداد إلى الآباء والأبناء، كما رأيناها في أسرة أستاذنا الإمام منذ عرفت لهم أعمال ورويت عنهم أخبار.
فهم في قريتهم الصغيرة كرام يجودون بما عندهم، ويأبون الضيم لأنفسهم ولمن يلوذ بهم من جيرتهم، وقد كان أكبر ذنوبهم عند الأقوياء أنهم يأوون إليهم طرداءهم المطلوبين، ويشدون أزرهم بمعونة رجالهم وبقوة السلاح إذا وجدوا السلاح الذي ينفعهم في مقاومتهم، ومن لم يستطع منهم أن يقاوم القوة بالقوة لم يصبر على الضيم في بلده، وآثر أن ينجو منه بكرامته وإن ضيع بعده كل تراثه من آبائه، غير هذا التراث المضنون به على الضياع.
قيل إن العبقري يستنزف من أسرته صفوة اللباب من خلائقها الحيوية أو ملكاتها الذهنية، وقيل إنه من أجل ذلك قلما ينجب الذرية من العباقرة أمثاله، وإن ذريته لا تزال عرضة لنقص العمر أو نقص التكوين، وكل ما قيل من هذا القبيل هو تشبيه على المجاز لا يخلو من المبالغة التي تعرض لكل تشبيه، ولكنه كذلك لا يخلو من الصحة التي تؤيدها مشاهدات الواقع. ومن هذه المشاهدات أن طابع الأسرة المأثور عنها كثيرا ما يتجلى في عبقريتها مكبرا مهيمنا منبعثا على جادته في غير هوادة، وأنه في انبعاثه عصي على الكبح والتوقف دون قبلته التي ينساق إليها، وكأنما هو غريزة من الغرائز النوعية يخلق للفرد إرادة نوع كامل، يوشك ألا يملك معه إرادته الفردية في سبيل بقاء النوع وارتقائه.
وأحرى الخصال أن تورث في أسرة صاحب الترجمة هي تلك النخوة الإنسانية في كل ما تمثلت فيه - كما أسلفنا - من غوث الضعيف والرثاء للذليل وكراهة الجهل المذل للمبتلين به من ضحايا الغفلة والغباء؛ ورثها نخوة إنسان وأصبحت فيه نخوة معلم مطبوع على التعليم، لأنه لم يملك سلاحا للنخوة أقوى من تعليم المغلوبين المستضعفين، ولكنه لم يكن بالبداهة معطل النخوة فيما يملكه من أسبابها غير هذا السلاح الذي كان أنفذ سلاح في يديه؛ لأن أعماله في إغاثة الملهوفين وإنصاف المظلومين كادت أن تكون وحدها وظيفة حياة عامرة بالمآثر حافلة بالحسنات، وسيأتي من بيان هذه المآثر والحسنات ما يتسع له موضعه من هذا الكتاب، ولكننا نوجزه إذا قلنا إنه لم تسمع في حياته دعوة إلى الغوث والإحسان تنفيسا عن المكروبين في فواجع هذا البلد أو إعانة للمعوزين من ضعفائه، إلا كان هو صاحب الدعوة، أو كان في مقدمة الملبين لها والعاملين على نجاحها ودوام أثرها.
وكاتب هذه السطور قد سمع بمحمد عبده نصير المظلوم قبل أن يسمع بمحمد عبده المصلح العظيم.
سمعت في بلدتي بأقصى الصعيد، وفي باكورة صباي، بمأثرة من مآثر هذا القلب الكبير، لم تكن إلا مثلا واحدا من مئات المآثر التي سمعنا بها بعد ذلك حيث نزلنا من أقاليم هذا البلد، ولا يزال الكثير منه معروفا مرويا في إقليمه، وإن لم يصل نبأه إلى غير أهله.
شغلت بلدتي - أسوان - قضية كبيرة تقلبت بين محاكم الصعيد والعاصمة أكثر من عشر سنوات، وأوشك الخصم القوي فيها أن يظفر بالحكم الأخير وأن يجرد خصمه الضعيف من حقه، مستعرا عليه بقوة المال والجاه وسعة الحول والحيلة، وقد شاعت الإشاعات التي تحققت بعد ذلك عن الرشوة المبذولة بألوف الجنيهات، ثمنا لذلك الحكم الأخير الذي ينقضي به الأمر ولا يقبل المراجعة والاستئناف.
وقبل صدور الحكم بأيام، يلتقي الخصم الضعيف بنائب بلدته في مجلس الشورى، فيستمع منه لإشاعة الرشوة ويرجحها له بما علمه من توكيد أنصار الخصم القوي ومن قسم مغلظ أقسمه أمامه أقربهم إليه: ليصدرن الحكم كما أملاه صاحبهم علي - فلان باشا - وليسمعن نبأه بعد أيام!
وكان نائب البلدة في مجلس الشورى يعرف الأستاذ الإمام من زمالته له في المجلس، فاصطحب المسكين إلى عين شمس، وترك صاحب القضية يبسطها للأستاذ الإمام بسذاجته التي تنم على الصدق الأليم والحسرة البالغة، فلم يكد هذا الرجل المثقل بشواغل وطنه الكبار يستمع إلى كلمة المظلمة والرشوة، حتى اعتذر لضيوفه جميعا وأفرغ من وقته زهاء ساعتين للإصغاء إلى قصة هذه القضية منذ نشأت قبل عشرة أعوام، وترك الرجل يقول ويعيد كما يشاء على ديدن المظلوم الملهوف في سذاجته وابتهاله واضطراب نفسه بين خوفه وأمله، فلم يتعجله ولم يقتضب عليه لجاجة شرحه وتكراره، ولم يدعه تلك الليلة إلا على وعد بأن يلقاه عند باب وزارة العدل، في موعد افتتاح الدواوين.
وفي اليوم التالي لم يذهب المفتي إلى دار الإفتاء، بل توجه توا إلى دار وزارة العدل، وكلف الرئيس المسئول أن يبعث في طلب «ملف القضية» من المحكمة، فقضى اليوم يراجع أوراق الملف مراجعة القاضي الخبير بأصالة الأسانيد، وأساليب المراوغة، وعلامات الغرض والتمحل في التأجيل والتعجيل، وأيقن بصدق الدعوى وخطر الحكم المنتظر فيها، فصنع ما لا ترتقي الشبهة إلى ذمته وعلمه، وصدر الحكم الأخير بالحق الذي يعرفه أهل البلدة جميعا، فظل أبناؤها يتحدثون بهذه القضية كما يتحدث المؤمنون بكرامة القديسين، وكان يوم وفاته - رحمه الله - مأتما في البلدة تبادل فيه الناس العزاء في المساجد، ونودي بنعيه على المآذن، وتقرب فيه المحسنون بالذبائح والصدقات على جوانب الطرقات.
كتب قاسم أمين عن مروءة الأستاذ الإمام بأسلوب القاضي الذي تعود أن يزن كلامه كما يزن أحكامه، فقال في رثائه يوم الأربعين:
بلغت فيه طيبة النفس إلى درجة تكاد تكون غير محدودة، كان يجذبه الخير كما يجذب المغناطيس الحديد، فيندفع إليه ويسعى إلى كل نفع للغير عام أو خاص. كان ملجأ الفقراء واليتامى والمظلومين، والمرفوتين والمصابين بأي مصيبة كانت، وأهل الأزهر الذين هم أكثر الناس احتياجا إلى المساعدة؛ لأنهم في وسط المدينة الحاضرة المتأخرون العاجزون عن الدفاع عن أنفسهم في ميدان حياتنا الجديدة، يبذل إليهم ماله ويسعى لهم عند ولاة الأمور بهمة لا تعرف الملل، كأنما كان يسعى لأعز إنسان لديه؛ يسعى مرة ومرتين وثلاثا إلى أن يقضي حاجتهم، وهم جميعهم في نظره مستحقون، سواء كانوا كذلك في الحقيقة أم لا، بل كان يسعى إلى صاحب الحاجة وهو يعلم أنه أساء إليه وقدح فيه وتحالف مع خصومه في ترويج عبارات القذف والنميمة التي لم تنقطع عنه مدة حياته، ولا يصل الإنسان إلى هذا الخلق العظيم إلا إذا ربى نفسه على أن تتغلب على الغرائز القبيحة الملازمة للطبيعة البشرية، وصار حاكما عليها يحاسبها على كل عمل أو نزعة أو فكرة أو خاطر مما يرد عليها. كان الأستاذ يرى أن الشر لا فائدة له مطلقا، وأن التسامح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء ويفيد في إصلاح فاعله ...
وفي هذا التأبين يقول قاسم:
من يرى أن الحياة لهو، وزين له أن يعيش ليأكل ويشرب ويسافر وينتقد أفكار الباحثين وعمل العاملين، أولئك لا يعلمون أن إمام مصر كان محركا بقوة فوق الاعتيادية، وأن عقله كان ملآنا بالفكر إلى حد أنه كان لا يسعه كله، إلى حد أنه كان يفيض منه بالرغم، وأن قلبه كان ملتهبا بحب وطنه فلا يستريح إلا وهو مشغول به وبسعادته وبمستقبله، وأنه كان مثل جميع نوابغ الرجال لا يبالي بالألم الذي يأتيه بسبب أمنيته التي كان يعزها، بل كان يجد الألم فيها لذيذا كما يلتذ العاشق بما يقاسيه من العذاب في هذا القبيل، ثم رأيته في الغد منغمسا فيه أكثر مما كان؛ ذلك لأنه كان بعكس ما يراه عموم المصريين في أنفسهم، عنده أمل لا يزعزعه شيء في إصلاح أمته ...
يقول قاسم هذا، وربما كان هو - رحمه الله - أحد أصدقائه المشفقين الذين كانوا يكفكفونه أحيانا عن إرهاق نفسه بالجهد والمجاهدة، كلما شعروا بحاجته إلى الراحة والدعة وأوجسوا خيفة على صحته، بل على حياته، من عنت خصومه ومصاعب الإصلاح في بيئته، مع فساد الزمن وغلبة الجهل والهوى على نفوس الغافلين المتهاونين، فضلا عن المغرضين المتعمدين للإحباط والإيذاء، وهم في ذلك الزمن وفي تلك البيئة كثيرون.
وسمعت من زعيمين عاصراه وعاشراه كلاما كالذي قاله قاسم في تأبينه، وذكر فيه وعده بالكف عن الجهد فيما يحاول من السعي العقيم والكفاح المقعد المقيم، ثم عودته بعد قليل إلى مثل ما كان فيه، بل أشد مما كان فيه ... وأحد الزعيمين كانت له عليه جرأة الصديق الند وهو الزعيم سعد زغلول، والآخر كان منه بمثابة الأخ الصغير في بعض أعمال الإصلاح وأعمال الخير والإحسان، وكان أولهما يصرف صرفا عن بعض محاولاته التي كانت ديدنه الشاغل له في أخريات عمله بوظيفة الإفتاء، فقال له من حوار مطول لا نثبته هنا بتفصيلاته: «أخشى أن يفسدك هؤلاء القوم قبل أن تصلحهم ...» وكان الآخر - محمد محمود رحمه الله - يعيد عليه قوله مشيرا إلى الخديو عباس الثاني: «إن هذا «القولي» يريد أن يقتلك، فلا تمكنه من بغيته.» ويريد بالقولي نسبة الخديو عباس إلى «قولة» موطن جده محمد علي الكبير.
وموضع النظر في كلام قاسم وصاحبيه أن الإصلاح لم يكن في حياة هذا المصلح الغيور عملا من أعمال الإرادة، يدبره لنفسه كتدبير المرء لما ينفعه ويريحه أو يعفيه من التعب والمشقة، ولكنه كان باعثا نفسانيا مستحكما في ذلك القلب الكبير، يغلبه على إرادته ويخلق له إرادة نوع كامل في بنية إنسان واحد، وإن يكن من أعظم بني الإنسان ... وذلك ما عناه قاسم بشغف العاشق بما يؤلمه ويضنيه، وعنيناه بالعبقرية المطبوعة التي تلخصها كلمة «النخوة»، وتدل سيرته وسيرة أهله على أنها خليقة موروثة فيه، وأنها أقوى بواعثه إلى رسالة حياته، وهي رسالة التعليم.
ولنا أن نقول: إن النخوة الإنسانية في نطاقها الواسع هي محور هذه الحياة في نواحيها الكثيرة، وإن رسالة التعليم عنده إنما كانت في صميمها رسالة خلقية قبل أن تتجه إلى وجهتها الفكرية، فلم يكن يعنيه أن يعلم لينقل إلى الناس «معلومات» يجهلونها وكفى، ولكنه كان يعلم ليحفز الناس إلى عمل يتوانون عنه، ويحملهم على خلق يحبب إليهم ذلك العمل ويساعدهم عليه.
ولعلنا لم نخطئ إذ بدأنا السير كلها بهذا التمهيد عن هذه العبقرية من ناحيتيها الخلقية والفكرية، فإنها بمثابة الأساس الذي تقوم عليه حوادث الترجمة منذ بدأ الأستاذ الإمام حياته العاملة في نحو العشرين، إلى أن فارق الحياة في نحو السادسة والخمسين، فأيما حادث تردد فيه رأي المؤرخ وحكم الناقد، فإنما تقوم أصالته في هذه الحياة بمقدار ثبوته على ذلك الأساس.
الفصل السابع
مع جمال الدين
كان لقاء السيد جمال الدين الأفغاني أهم حادث في تربية الفتى الناشئ محمد عبده؛ لأنه رده إلى سجيته وأقامه على جادة العلم والعمل التي استقام عليها بعد ذلك طول حياته، واستقل بها حسب استعداده وفطرته حتى استقل بها آخر الأمر عن طريق أستاذه، بعد أن فرقتهما الحوادث اضطرارا، ووجب أن يعمل كل منهما على جادته ومنهاجه.
كان الفتى الناشئ (محمد عبده) قبل لقاء جمال الدين أشبه شيء بالطائر المغمى عليه قبل امتحان المدربين له في ضوء النهار، للتثبت من سلوك مطاره إلى غايته القصوى.
ويقال إن هذا الطائر لا يزال بعد خروجه من الظلام يتلمس طريقه ارتفاعا وانحدارا، ويستقبل الوجهة ثم ينحرف عنها حتى ينطلق من حيرته على ثقة، فيعتدل إلى الغاية التي ينويها، فلا حيرة بعد ذلك ولا إحجام عن تلك الغاية إلى أقصاها.
وكذلك كان محمد عبده بين الحيرة والإحجام قبل التقائه بجمال الدين؛ صدمته الحياة العامة كما يصدم بها كل شاب يخرج من معيشته في الأسرة على المودة والعطف إلى معيشة الكفاح بين الناس على سنتها من الرياء والأثرة وتنازع البقاء، وكان يشكو هذا الحال إلى شيخه القروي من أخوال أبيه كما قال في ترجمته: «فذكرت له اشمئزازي من الناس وزهادتي في معاشرتهم وثقلهم على نفسي إذا لقيتهم، وبعدهم عن الحق ونفرتهم منه إذا عرض عليهم، فقال لي: هذا من أقوى الدواعي إلى ما حثثتك عليه، فلو كانوا جميعا هداة مهديين لما كانوا في حاجة إليك. ثم أخذ يستصحبني في مجالس العامة ويفتح الكلام في الشئون المختلفة ويوجه إلي الخطاب لأتكلم، فيتكلم الحاضرون فأجيبهم، وأنطلق في القول على وجل في الأمر، وما زال بي حتى وجد عندي شيئا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم، وفي شوال من تلك السنة ودعني وبكى بكاء شديدا ومات في السنة التالية.»
وفي هذه السنة - سنة 1871 - وفد السيد جمال الدين إلى القاهرة قادما من الآستانة، فوجد الفتى الناشئ حيث تركه شيخه القروي بين طريق العزلة وطريق العمل مع الناس، ولكنه حين مضى في هذا الطريق يخطو خطواته الأولى، فقد شيخه الصوفي ولم يجد لعقله هاديا يعمل أمامه ويتجه ببصره المتطلع إلى غاية مداه؛ لأنه كان يدرس علوم العقل على أساتذة يحسنون شرح النظريات، ويبسطون القول في الشكوك والموانع، ثم لا ينتهون منها إلى قبلة يستقيم عليها السالك على قدر جهده في طريقه المرسوم.
وكان جمال الدين قد مر بمثل هذا الدور في مثل سنه؛ كان قد زهد في صحبة الناس فاعتزلهم، وخرج من طريق العزلة إلى طريق العمل، وكان يفهم أن الفناء في الله اعتزال للعالم، فعاد يفهم أن الفناء في الله إنما هو فناء في خلقه، أو كما كان يقول لتلاميذه، في رواية الشيخ عبد القادر المغربي: «أنا لا أفهم معنى لقولهم الفناء في الله ... وإنما الفناء يكون في خلق الله؛ تعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم.»
وقد كتب عنه تلميذه المسيحي أديب إسحاق، وهو في هذا الدور بين العزلة والعمل فقال: «إنه تبحر في المنقول والمعقول، وغلبت عليه مذاهب قدماء الحكماء، فداخله من ذلك بداءة بدء شيء من التصوف، فانقطع حينا بمنزله يطلب الخلوة لكشف الطريقة وإدراك الحقيقة، حتى صار له في القوم كثير من الأتباع والمريدين، كل ذلك وهو دون العشرين.»
ولم يكن لجمال الدين أستاذ يجتذبه من حياة الخلوة والعزلة إلى حياة العمل والجهاد، ولكن الحوادث كانت لها صيحة في مسمعه أقوى من صيحة الإمام المرشد، فاقتحم معركة الحياة لينصر فريقا على فريق من أولياء الأمر في وطنه، وانتصر جمال الدين للأمير محمد أعظم خان : «فشهد الحروب وحضر الوقائع، فازداد جرأة واستخفافا بالموت، وأقام في ذلك تسعة أعوام لا يرى الراحة ولا يستقر بمكان، دارت الدائرة على محمد أعظم خان فانصرف الأولياء عنه إلا جمال الدين ...»
حضر التلميذ على أستاذه دروسا نافعة في كتب المنطق والحكمة والتصوف وأصول الدين، ولكن الدروس الروحية التي كانت تسري من أحاديث هذا المصلح العظيم كانت أعظم وقعا وأعمق أثرا من دروس الأوراق والأسفار، ولم تكن شروحه للأسفار التي كان يقرؤها على تلاميذه معاني «فكرية» تستخرج من ألفاظها «القاموسية» على عادة الشراح الذين يقفون بالعبارات عند ألفاظها ومعانيها، ولكنه - كما سمعنا من مريديه الذين عرفناهم - كان يشرح العبارة ليستخرج منها قوة حية تسري إلى النفس فتحركها إلى العمل، وكأنما الكلمات المشروحة على لسانه تلك المفاتيح الصغيرة التي تدار فتنبعث منها قوى من الكهرباء لا يستقر عليها قرار.
وخير الأساتذة، على ما نعلم، هو الأستاذ الذي ينبه في التلميذ ملكات ذهنه وضميره، ويستجيش في قرارة طبعه غاية وسعه من الاجتهاد والهمة على حسب فطرته واستعداده، فليس بخير الأساتذة من يجعل تلاميذه نسخا منه تحكيه ولا تزيد من عندها شيئا غير الاقتداء به والعمل على غراره، فهذه هي تربية التقليد والمحاكاة تصلح للذين خلقوا للاتباع، ولا تصلح للذين خلقوا على نصيب من قدرة الاستقلال والاجتهاد.
وهكذا كانت تربية جمال الدين لمحمد عبده وهو يخطو خطواته الأولى على طريق العمل والإصلاح؛ إنه يخلق فيه ملكة كانت ممدودة فيه، ولكنه رده إلى طبيعته العملية وعزز فيه تلك الثقة التي لا غنى عنها لمن يتولى عظائم الأمور، وينهض إلى الغاية العصية والمطلب البعيد.
ولم تكن الطبيعة العملية طارئا جديدا على سليقة الفتى الذي شب عن الطوق وهو يركب الخيل، ويحمل السلاح، ويتمرس برياضة الفروسية.
ولم تكن الثقة بالنفس طارئا جديدا على سليقة الطالب الناشئ الذي استقل برأيه في الحكم على تعليم زمنه بالعقم والجمود، ومن حوله ألوف المتعلمين والعلماء يتهمون أنفسهم ولا تهجس في قلوبهم هاجسة من الشك في صلاح ذلك التعليم ووجوب الصبر على مصاعبه وألغازه.
وقد لمح الأستاذ البصير ملامح تلك الثقة المكينة في نفس ذلك الطالب الصغير، وكان يعجب لتلك الثقة المطبوعة التي لا تكلف فيها، فيسأله مغتبطا راضيا: قل لي بالله، أي أبناء الملوك أنت؟
ولكن تربية جمال الدين وزنت تلك الثقة بمقدار رسالتها الكبرى التي تهيأت لها بنزعاتها وآمالها، واقتدرت عليها بطموحها واستعدادها، لم تتهيبها ولم تنكص عنها حين علمت مداها، وعلمت أنه المدى الذي لا سبيل إلى الوفاء فيه قبل بلوغه، وهو نهضة العالم الإسلامي بين مشارق الأرض ومغاربها، نهضة العالم الإسلامي في وجه الدول العظمى، بل في وجه ملوكه وأمرائه المتألبين عليه، بل في وجه أبنائه الكارهين للإصلاح كراهة الطفل المريض لمذاق الدواء.
وكانت خطة جمال الدين للإصلاح أن يبدأ بتأسيس دولة واحدة على الأقل صالحة لقيادة العالم الإسلامي كله في معترك السياسة الدولية، وفي تنفيذ برامج النهضة والهداية العملية.
وكانت هذه الخطة تتمة معقولة للفاتحة التي افتتح بها جمال الدين حياته وهو في نحو العشرين؛ لأنه افتتحها بالجهاد في سبيل إمارة يقيمها للأمير الذي آمن بصلاحه وحسن الرجاء في ولايته، فإذا خطر له أنه قادر على أعباء هذه الخطة حيث كان - في وطنه أو غير وطنه - فهو خاطر ليس بالغريب على الرجل الذي بدأ بتلك الفاتحة في مطلع شبابه.
ولكن الفتى الفلاح لم يستهول الغاية التي طمح إليها ربيب بيت الوزارة، كيفما كانت الخطة التي تنتهي إليها.
ونرجع هنا إلى سليقة التصوف عند الرجلين، لنعرف منها سر هذا الإقدام في أمور تلك الممالك والعروش، فإن التصوف في لبابه كفء - بل أكبر من كفء - لمواجهة سلطان المالكين وأرباب التيجان المتحكمين.
هما طرفان من ملك ونسك
ينيلان الفتى الشرف الرفيعا
فإن لم تملك الدنيا جميعا
كما تهواه فاتركها جميعا
وألزم خلائق الصوفي المطبوع أنه يستخف بعظمة الدنيا، وأنه تهون عليه رهبتها ورغبتها فلا يهابها ولا يتهالك عليها، وأزهد من الصوفي الذي لا يملك الدنيا ذلك الصوفي الذي لا تملكه الدنيا ولا يدخله الوجل ممن يملكونها .
وقد ثبت هذا الخلق من هذين الرجلين ثبات السليقة المتأصلة فيهما، فلم يكن من عمل عادة متبوعة ولا من عمل تربية مكسوبة، وكان جمال الدين يعبث بحبات سبحته في حضرة السلطان عبد الحميد، وينبهه رئيس الديوان إلى قواعد التشريفة، فيجيبه ساخرا: «مه يا هذا ... إن السلطان يلعب بحياة ثلاثين مليونا من بني آدم، أفلا يلعب جمال الدين بثلاثين حبة من حبات الكهرمان.»
وكان الخديو عباس الثاني يشكو من مسلك محمد عبده في حضرته ويقول: إنه يدخل علي كأنه فرعون! ... ويستمع محمد عبده إلى هذه الشكوى فلا يزيد على أن يقول: وأينا فرعون؟
وقد نزل جمال الدين بمصر وهي على حال كتلك الحال التي أخرجته من عزلته لينصر أحد الأميرين على أخيه؛ إذ كان الغيورون على البلد يخشون العواقب عليه إذا طال فيه حكم إسماعيل، ويفكرون في خلعه بإغراء الدول أو إغراء السلطان، وإسناد العرش إلى خليفته محمد توفيق، ولم يلبث جمال الدين أن تقدم الدعاة إلى هذا الانقلاب، فجمع الأنصار من مريديه والمعجبين به لمخاطبة وكلاء الدول باسم الأمة، وصارحهم بذلك، فاتخذوا من موافقته على خلع إسماعيل حجة عند حكوماتهم على موافقة الحزب المستنير في مصر لهذه السياسة التي كانت تتردد فيها بين الوعد والتنفيذ.
أما محمد عبده فقد كان عمله في هذه الحركة أوفق لسنه وأقرب إلى مزاجه الرياضي في شبابه؛ كان على عزيمة صادقة أن يزيل إسماعيل بيده، إن لم ينزل عن العرش باختياره أو يصدر الأمر من السلطان بعزله.
وكانت خديعة الخديو توفيق - مع ضعفه عن إنجاز وعوده - أول خيبة مني بها جمال الدين في خطته مع الأمراء والملوك، فإنه ظل يتودد إلى جمال الدين وأنصاره بعد ارتقائه العرش ويؤكد له كلما لقيه أنه يعتمد عليه، وأنه «كل أمله في مصر» لتحقيق برامج الإصلاح، ولكنه ضعف عن مقاومة الدول، وبلغ من مطاوعته لهم أنه كان يطلعهم على مطالب زعماء البلد منهم قبل النظر فيها ... ومن كلام أخصائه الإنجليز - وبينهم المؤرخ المشهور ألفريد بتلر - أنه كان يحتفل بمجاملتهم بين كبار موظفيه، فيقضي الساعات يتكلم معهم باللغة الإنجليزية التي لا يعرفها أولئك الموظفون، ويذكر الأسماء بالحروف الهجائية في سياق أحاديثه ليخفي موضوع الكلام عن سامعيه الذين يعرفون أصحاب تلك الأسماء، ويفضي في هذه الأحاديث بأخبار من المعلومات الخاصة والأوراق المحفوظة تتعلق بالأسرة وعظماء البلاد.
وإذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه كما يقول أبو الطيب، فلا جرم يساوره الشك من جانب جمال الدين ويتوقع منه أن يأتمر به كما ائتمر بأبيه، ويغتنم الفرصة من حذر وكلاء الدول من دعوة جمال الدين إلى إعلان الحقوق الوطنية ورفع الرقابة الأجنبية، فيتفق على إقصائه والإعراض عن حزبه، ويمالئه على ذلك رجال الحاشية الخديوية على سنة الحواشي في كل بلاط يكره النصحاء ويحب الاستئثار بمسمع الأمير وهواه، وينتهي الأمر بنفيه والتشهير به - تسويغا لتلك الفعلة - في منشور بذيء لم يصب جمال الدين بمسبة، ولكنه ارتد على توفيق وحاشيته بالمسبة التي لا تمحى، وغير عليهم قلوب المخلصين من طلاب الإصلاح، فداخلهم الشك الشديد في إمكان الإصلاح على عهده بغير الثورة عليه.
وهذا بعض ما جاء في ذلك المنشور البذيء: «إنه لما كان الأمن والأمان والراحة والاطمئنان يتوقف عليها تمام العمران في جميع الممالك والبلدان، ومن أنجح الأبواب وأصلح الأسباب التي بها نجاح الممالك، وسلوكها في أقوم المسالك، قطع دابر المفسدين الساعين فيما يضر بالدنيا والدين، ويكون ذريعة للطائشين المتظاهرين بين الناس، بمظهر الحرية بدون أساس.»
ويتلو هذا كلام عن جماعة جمال الدين السرية يقولون فيه إنها جماعة «رئيسها شخص يدعى جمال الدين الأفغاني، مطرود من بلاده ثم من الآستانة العلية، لما ارتكبه من أمثال هذه المفسدة في ديارنا المصرية، وهذا من أكبر ما يغير الأفكار، ويجب أن يعامل مرتكبه بالتشديد والإنكار، فالتزمت هذه الحكومة الحازمة أن تتخذ الطرق اللازمة، وتستعمل السداد في قطع عرق هذا الفساد، فأبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية بأمر ديوان الداخلية، ووجهته من طريق السويس إلى الأقطار الحجازية».
ولم يذع خبر هذا المنشور إلا بعد سفر جمال الدين على غير علم من أكثر أصحابه ومريديه، وإنما علموا به بعد إعلانه في الوقائع المصرية (عدد الحادي والثلاثين من شهر أغسطس سنة 1879).
وكان السيد جمال الدين قد مكث بمصر في هذه الزيارة الثانية نحو ثماني سنوات، غرس فيها بذور نهضة مثمرة لم يشهد من ثمراتها الجنية ثمرة أنضج وأبقى من عزيمة تلميذه وخليفته «محمد عبده»، ففارق هذه الديار وهو يقول لمن يسألونه عن وصيته عليها: «حسبكم محمد عبده، حسبكم محمد عبده من وصي أمين.» وطفق يذكره في رحلاته بعد ذلك، فيكتفي من الدلالة عليه بوصف الأخ الصديق، فيعلم المستمعون إليه من يعنيه.
ولم يتصل السيد بأحد من أصدقائه وأصحابه بمصر إلى ما بعد انتهاء الثورة العرابية، ومنهم خادمه الأمين العارف أبو تراب الذي كان يلازم السيد في حله وترحاله ملازمة ظله؛ لأن السيد قضى تلك الفترة في رقابة الحكومة الهندية تارة، وفي التنقل على غير قرار تارة أخرى، فلما رفعت عنه الرقابة شخص إلى أوروبا في شهر سبتمبر سنة 1882، وكتب من بورت سعيد إلى الشيخ محمد عبده خطابا يشكر له فيه رعايته لخادمه ويحمده «على البر والمعروف»، ويطلب إليه إبلاغ سلامه وشكره لتلميذيه إبراهيم اللقاني وسعد زغلول، ويذكر له عنوانه بالعاصمة الإنجليزية في إدارة جريدة الشرق والغرب، أو عند الشاعر المستشرق مستر «بلنت» صديق العرابيين.
وكان الشيخ محمد عبده يومئذ قد نفي إلى بيروت، فبادر بالجواب على السيد وكتب إليه كتابا نستغربه، كما استغربه تلميذ الإمام السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار؛ لأنه لهج فيه بالتعظيم والتقديس لهجا لم نعهده في أسلوبه منذ صباه إلى ختام حياته، وغلا في اتضاعه والارتفاع بأستاذه غلوا يخالف المعهود من عرفانه لأعظم الناس قدرا عليه، وفيه كما قال السيد رشيد «من الإغراق والغلو في السيد ما يستغرب صدوره عنه، وإن كان من قبيل الشعريات، ويصف نفسه بالتبع لأستاذه من الدعوى التي لم تعهد منه البتة».
إلا أن الأسلوب هنا هو الأسلوب الذي لم يتكرر في خطاب أو مقال للأستاذ الإمام؛ لأنه أسلوب الساعة التي لم تتكرر في حياته، وليست هي مما يتكرر في حياة أحد؛ إذ كان كل ما يستوحيه في تلك الساعة شعورا مشبوبا يتوقد بحماسة الشباب وحماسة الثقة التي بقيت له في منفاه، بعد ضياع الثقة بأقرب الأقربين وأولى الأخصاء بالصدق والوفاء، ويذكيها من وجدانه الحي ذلك الشوق المتجدد إلى أستاذه بعد انقطاع العهد وجلاء الغمة، في أعقاب الثورة عن ذلك المصير الذي له ما بعده، وقد يكون ما بعده جهادا آخر يرجى له من الفلاح ما لم يكتب للأستاذ ولا لتلميذه في جهادهما الأول. فإن تكن في الأسلوب غرابة تلحظ في سائر الأحوال، فقد كان الأغرب أن يجري به القلم في تلك الحال مجرى المتكرر المألوف.
ومن عبارات الخطاب التي لم تتكرر ولم تؤلف في سواه، قوله عن نفسه وأستاذه: «... كنت أظن أن قدرتي غير محدودة، ومكنتي لا مبتوتة ولا مقدورة، فإذا أنا من الأيام كل يوم في شأن جديد؛ تناولت القلم لأقدم إليك من روحي ما أنت به أعلم، فلم أجد من نفسي سوى الأفكل والقلب الأشل، واليد المرتعشة والفرائص المرتعدة، والفكر الذاهب والعقل الغائب، كأنك يا مولاي منحتني نوع القدرة للدلالة على قوة سلطانك، فاستثنيت منه ما يتعلق بالخطاب معك والتقدم إلى مقامك الجليل.»
وفي هذا الخطاب تحدث التلميذ إلى أستاذه عن مصير الجماعة التي تركها بمصر واستخلفه عليها في غيابه، وأفاض في بيان ما يعنيه من أمر أصحابه ومريديه، ولم يتحدث عن أمر نفسه؛ لأنه اكتفى فيه بما كتبه زميله إبراهيم اللقاني إلى السيد كما علم منه. قال: «إني يا مولاي لا أحدثك عن شيء مما أصابنا بعد فراقك، فقد تكفل ببيانه أخي العزيز إبراهيم أفندي اللقاني سوى ما تركه في كتابه من انقلاب بعض القلوب من خاصتك، وتحول أحوالهم بعد نزول ما نزل بك، فقد تغلب أعوان الشر وأنصار السوء بقوة جاههم وشدة بأسهم، وأرغموا العقول على اعتقاد بالمحال، وألجئوها إلى التصديق بما لا يقال، حتى إنهم غيروا قلب دولتلو رياض باشا عليك وعلى تلامذتك الصادقين أياما معدودة، ركن فيها للعمل بالشدة والأخذ ببادرة الحدة، ولكن لم يلبث أن وصلنا إليه وجلوت الأمر عليك، وكشفت له ما أغمض من الحقيقة حتى زال ما لبس المبطلون ... وهكذا ضممت إلى كل من كان ينتسب إليك صادقا في الانتساب أو كاذبا، حتى إني لم أتأخر عن مساعدة أولئك الأشقياء الأدنياء ... وأمثالهم من اللئام، تحسينا للظن وإيثارا لجانب العفو، فأصلحت لهم القلوب، وفسحت لهم من الصدور، وفتحت لهم أبواب التقدم إلى المنافع الغزيرة، لكنهم لم يرعوا ودا ولم يحفظوا عهدا، ولا حاجة الآن إلى إيضاح ما يصدر عنهم خيانة ولؤما، وألفت لحبك ممن حرم التشرف بلقائك قبيلا ليس بالقليل، يجلون قدرك ويعرفون لك فضلك، وكنا وإخواننا كما شرح لك إبراهيم أفندي اللقاني ... ولسيرنا في تلك الحوادث نبأ طويل إذا أردت يا مولاي أن أقدم إليك به تاريخا ربما يكون مفيدا، فإنا رهين الإشارة، ونحن الآن في مدينة بيروت نقضي بها مدى ثلاث سنوات، لا لذنب جنيناه ولا جرم اقترفناه ... فها نحن سالكون في سنتك وعلى سنتك، ولا نزال إلى انقضاء الآجال، ولولا أطفال لنا رضع، ونساء لنا طوع، أبينا لهم الذل، وأنفنا لهم الضيم، فأتينا بهم هنا إلى حيث أقمنا، لكنت أول من تلقاك في مدينة باريس، لأسعد بالإقامة في خدمتك ... ولا أتكدر مما أشرت إليه في كتابك إلى أبي تراب، حيث طعنت في ثقتك بالناس أجمعين، وبالغت حتى سحبت الطعن إلي وإلى إبراهيم أفندي ... أما اختلال ثقتك بالدواهي والبلايا فقد صادف محلا لمن نقضوا عهدك وحالفوا عدوك، فاستبقوه للوجود وأنت موجود ...»
ولا نزيد في الاقتباس من هذا الخطاب على ما أوردناه من هذه الفقرات الضرورية لجلاء الموقف كله، وجلاء الموقف خاصة بين هذين الرجلين في أعقاب الثورة العرابية، فجملة ما يقال في هذا الموقف أنه موقف فتنة عمياء تلتبس خفاياها على المقيم بين ظهرانيها، فضلا عن المغترب البعيد عن ظواهرها وبواطنها، محجوبا بحجاب الرقابة الكثيف عن المباح والمحظور من أخبارها، ولولا ذلك لما التبست الحقائق على قلب ذلك المصلح العظيم، فأوشك أن ييأس من الناس كافة ، على غير المعود من شيمته وشيم الدعاة المصلحين أجمعين.
ونحن لا نعرف الآن بيانا وافيا عن أسماء أولئك الأصحاب والأنصار الذين تركهم جمال الدين بعده في الديار المصرية، فإنه كان - أثناء مقامه بها - قد برئ من طائفة منهم دخلوا معه في المحفل الماسوني الذي انضوى إليه السيد على أمل في مناصرة الشرقيين والأوربيين على دعوته العامة، تصديقا لما شاع عن مزاعم الماسون أنهم ينتصرون للحرية الإنسانية، ولا ينقادون لدولهم وحكوماتهم في سياستها الشرقية، فلما تبين بطلان هذه المزاعم نفض يديه من المحافل عامة وممن بقي على الولاء لها في ذلك المحفل وفي غيره، ولم يزل يحتفظ بأسماء زملائه الباقين على ولائه، وهم الذين سماهم ولاة الأمر بجماعته السرية في منشور نفيه، ونحسبه لم يكتم أسماءهم إلا حماية لهم من كيد وكلاء الدول وجواسيس الحكومة، وتمكينا لهم من العمل مع إخوانهم بمأمن من أعين الرقابة وحبائل الإغراء والدسيسة، فقد بقيت مع هؤلاء الأولياء المخلصين بقية لم تعلن أسماؤهم لذلك السبب، ولكنهم على الأرجح هم الفئة التي تألف منها فرع جماعة «العروة الوثقى» بالديار المصرية، وهي الجماعة التي أصدرت صحيفتها في باريس بعد انتقال الشيخ محمد عبده إليها.
فإن الشيخ قد عول على اللحاق بأستاذه في باريس بعد أن أقام بمدينة بيروت عاما أو أكثر من عام، ولحق بأستاذه لإصدار صحيفة سياسية تشن الحملة على الاستعمار، وتعمل لإثارة الشعوب المغلوبة عليه، وكانت مجازفة من الشيخ لم يكترث لعواقبها الوبيلة عليه وعلى ذويه، ومنها فراق أطفاله الصغار، وإطالة أجل النفي عن بلاده من ثلاث سنوات كادت تنقضي إلى غير نهاية موقوتة، مع المعيشة بغوائل الفاقة والمكيدة في ديار الغربة التي تجمعها عصبية المنفعة على كل من يكافح الاستعمار، ولو في بلاد غير بلاده.
ويتلخص برنامج العروة الوثقى في مبدأ عام ينطوي على مبادئ كثيرة، وهو حرب الاستعمار بكل وسيلة مستطاعة، ومن تلك الوسائل تحريض المحكومين على حكوماتهم الأجنبية، وإزالة أسباب الخلاف بين الدول الإسلامية لسد الثغرات التي يتسلل منها المستعمر بين تلك الدول لتأليب بعضها على بعض، وتسخيرها جميعا كما حدث غير مرة في طريق الهند على علم من جمال الدين بدخائل هذه السياسة التقليدية، ومنها ضم الصفوف الوطنية حيث يعيش المسلمون مع غير المسلمين، وهو مبدأ تأسست عليه دعوة جمال الدين قبل نفيه، ومن أجله أنشأ المحفل الماسوني الذي نشأ بمصر للاشتراك بين أتباع الديانات جميعا في قضية الحرية، ولم يزل لسان حاله في الصحافة قبل النفي وبعده أديبا مسيحيا كاثوليكي المذهب هو أديب إسحاق، الذي ثبت على هذا المبدأ إلى يوم وفاته.
وقد كانت صحيفة «العروة الوثقى» إحدى وسائل الجماعة، ولم تكن هي وسيلتها الوحيدة ولا وسيلتها الكبرى؛ لأن الحكيمين لم ينقطعا أثناء مقامهما بباريس عن الاتصال سرا وجهرا بأنحاء العالم الإسلامي، ولا بمراجع السياسة الفعالة في عواصمها المشهورة، ومن ذلك أن الجماعة أوفدت الشيخ محمد عبده إلى لندن لإثارة المسألة بحذافيرها أثناء قيام المهدي بثورته في السودان، وكان زبانية الاستعمار - كعادتهم - يخيفون المصريين من مقاصد المهدي، ويشيعون عن «مخابراتهم السرية» أنه ينوي غزو وادي النيل كله، وأن الحكومة المصرية لا تقوى على صده بغير المعونة البريطانية، فلما سأل الشيخ محمد عبده في حديث جرى بينه وبين مندوب صحيفة البال مال غازيت عن هذا الخطر المزعوم، قال: «لا خطر على مصر من حركة المهدي، إنما الخطر على مصر من وجودكم أنتم فيها، وإنكم إذا غادرتم مصر فالمهدي لن يرغب في الهجوم عليها، ولن يكون في هجومه أدنى خطر، وهو الآن محبوب من الشعب؛ لأنهم يرون فيه المخلص لهم من الاعتداء الأوروبي، وسينضمون إليه عند قدومه.»
وقد نجحت دعاية الشيخ في العاصمة الإنجليزية ورجحت هناك جانب الحزب الذي كان يدعو إلى إخلاء السودان، وتقرر هذا الإخلاء، بل أعدت المعاهدة التي يتفق عليها الطرفان لتسوية هذه القضية، وأوشكت أن تبرم وتوضع موضع التنفيذ لولا ورود الأنباء بموت المهدي واستعداد خلفائه للهجوم على الحدود المصرية.
ولقد جرى هذا الحديث في خريف سنة 1884، ولم يبق من المدة الموقوتة لنفيه غير شهور ، ولكنه سئل عن الخديو توفيق في مطلع الحديث، فلم يبال أن ينحي عليه وأن يصرح برأي الوطنيين فيه، وقال في غير مواربة: «إن توفيق باشا أساء إلينا أبلغ إساءة؛ لأنه مهد لدخولكم بلادنا، ورجل مثله انضم إلى أعدائنا في قتالنا لا نشعر إزاءه بأقل احترام، لكنه إذا ندم على ما فرط منه وعمل على الخلاص منكم، فربما غفرنا له سيئاته ... إننا لا نريد خونة وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية.»
وتبدو من هذا التصريح القاطع نية البقاء حيث كان خارج القطر لمواصلة الجهاد مع أستاذه؛ لأنه قطع بيده كل أمل له عند صاحب السلطة الشرعية وهو الخديو، وأصحاب السلطة الفعلية وهم المحتلون. •••
على أن الحكيمين قد بقيا معا في القارة الأوروبية زمنا يسيرا، يعملان بين باريس ولندن في مراقبة المسائل الشرقية عند نظرها في دوائر العاصمتين أو الكتابة عنها في الصحف السياسية، وكانا قد اضطرا إلى تعطيل صحيفة العروة الوثقى ولما ينقض على صدورها أكثر من ثمانية شهور خلال سنة (1301 هجرية و1884 ميلادية)، ظهر في أثنائها ثمانية عشر عددا، ثم احتجبت على كره من الأستاذين؛ لأنها صودرت في جميع البلاد الإسلامية، واتفقت على مصادرتها حكومات الدول الأجنبية وحكومات الملوك والأمراء الشرقيين؛ لأنها كانت تحارب الحكم الأجنبي بجميع مساوئه، كما كانت تحارب استبداد الحاكم الوطني وفساد أعوانه ورجاله، وكانت تبدئ القول وتعيد في الإنحاء على رؤساء الأمم المستعبدة من أبنائها؛ لأن استبعاد هذه الأمم إنما يكون بقوة رؤسائها، وربما كان من أسباب تعطيل الصحيفة أنها كانت تتخذ في البلاد التي تصل إليها دليلا على أعضاء الجمعية الذين يتلقون أعدادها ويتولون توزيعها، فحيثما وصلت الأعداد مجموعة إلى جهة من الجهات، فهناك الشبهة فيمن تصل إليه، ومن وراء الشبهة مصادرة الدولة ومتابعة التضييق والإرهاق، حيث لا عاصم من القانون ولا حماية من سلطان الرأي العام المكبوت، إن لم يكن محجوبا عن الأخبار العامة بالكتمان والسكوت.
ولبث جمال الدين قليلا يحاول في عواصم الغرب محاولاته السياسة على خطته المعهودة بغير كبير جدوى، ثم بدا له أن يجرب هذه المحاولات من غير هذه الناحية، فأجمع الرحلة إلى عاصمة القياصرة وهو ينوي أن يستخدم مقامه فيها لأغراض ثلاثة: أولها رفع المظالم عن الرعايا المسلمين وتمكينهم من حريتهم الدينية على قدر المستطاع، والغرض الثاني أن يكف من عداوة الدولة الروسية التقليدية لدولة الخلافة، ويرجو ألا يقع منها عدوان جديد في أثناء مقامه بعاصمته، والغرض الثالث هو الانتفاع بالمنافسة القديمة بين الروس والإنجليز في تحريك المسائل الشرقية بجملتها، ولا سيما مسائل الأمم التي على طريق الهند من مصر إلى فارس إلى بلاده الأفغانية.
أما الشيخ محمد عبده، فقد عاد إلى بيروت وهو يزداد إيمانا بعقم المحاولات السياسية، وضعف الأمل في الملوك والأمراء، ووجوب التعويل بعد هذه المحاولات العقيمة على الأمم دون غيرها، وحصر الأمل كله في إعداد هذه الأمم للنهضة والمقاومة بعدة العلم الصحيح والتربية الاجتماعية الصالحة، وقد أبرأ ذمته وأعطى سياسة أستاذه كل حقها من الرعاية والإخلاص، ولكنه اتخذ من الأرزاء التي ابتلي بها أستاذه على أيدي الأمراء والملوك حجة جديدة على ضعف الأمل فيهم، ووجوب التحول بالجهود إلى أممهم، فقد شهر به خديو مصر ونفاه، وعذبه شاه إيران وأهانه وطرده من بلاده على شر حال، وخيب راجوات الهند رجاءه وأعرضوا عنه مجاملة للسادة المستعمرين، واعتقله السلطان العثماني في قفص من الذهب كما قال بعض المعجبين به من المستشرقين، ولم يبق أمامهما أحد غير هؤلاء ينوطان به الرجاء ويشدان إليه الرحال، فمن صيانة الجهد عن الضياع أن يتوقف هذا الجهد من هذا الجانب وينصرف إلى ما هو أصلح وأجدى.
وظل الشيخ محمد عبده على هذا الرأي يزداد إيمانا به يوما بعد يوم، ويضيف إليه من تجاربه مع الأمراء والرؤساء كل يوم ما يعززه تعزيزا لا سبيل فيه إلى الشك عنده، وقد كان يقول لتلاميذه الفقهاء والأدباء من أمثال العالم الديني السيد رشيد رضا، والشاعر الوطني حافظ إبراهيم: إن السياسة ضيعت علينا أضعاف ما أفادتنا، و«إن السيد جمال الدين كان صاحب اقتدار عجيب لو صرفه ووجهه للتعليم والتربية لأفاد الإسلام أكبر فائدة، وقد عرضت عليه حين كنا في باريس أن نترك السياسة ونذهب إلى مكان بعيد عن مراقبة الحكومات، ونعلم ونربي من نختار من التلاميذ على مشربنا، فلا تمضي عشر سنين إلا ويكون عندنا عدد من التلاميذ الذين يتبعونا في ترك أوطانهم، والسير في الأرض لنشر الإصلاح المطلوب، فينتشر أحسن الانتشار، فقال: إنما أنت مثبط». •••
وأراد التلميذ الوفي بعد عودته إلى القاهرة واستقرار أستاذه بالآستانة أن يعاود الكرة، ويتلطف في الإشارة إلى السيد بما تقضي به الحيطة في مقره المضطرب بين دسائس الحاشية المتربصين، ومكائد الحساد المنافسين، وغدرات الوزراء والسلاطين ... فجاءه الرد عنيفا غاية العنف من السيد يقول فيه: إنك «تكتب لي ولا تمضي، وتعقد الألغاز ... من أعدائي؟ وما الكلاب كثرت أو قلت؟ ... فكن فيلسوفا يرى العالم ألعوبة، ولا تكن صبيا هلوعا».
ثم يقول عن رسالة أخرى: «إن الرسالة ما وصلت، ولا بينت لنا موضعها وجلا منك، قوى الله قلبك.»
وقد أمسك الشيخ محمد عبده بعد ذلك عن الكتابة إلى السيد في الآستانة؛ لأن الرسائل لا تصل أحيانا، وما يصل منها في القليل من الأحايين تراقبه الشرطة وترفع خبره إلى المراجع العليا، ولا حيلة في صراحة القول مع ضررها المحقق بالمرسل إليه دون المرسل، ولا حيلة كذلك في التورية؛ لأن السيد على عادته من الجرأة البالغة يحسبها هلعا صبيانيا، ويؤنب الكاتب عليها ذلك التأنيب الحكيم.
ونرى من وفاء البحث أن يتمم هذا الفصل بالنظر في موضع التساؤل من هذه الفترة في علاقة الأستاذين الحكيمين على رأي بعض المؤرخين المعاصرين، كالأستاذ عبد الرحمن الرافعي فيما تناول به سيرة الأستاذ الإمام من تاريخ الثورة العرابية ... فقد كتب إلينا أديب علم أننا نكتب سيرة الأستاذ الإمام، فاستحلفنا ألا ننسى هذه المسألة في موضعها من السيرة وقال: «ومما أرجوه أن تناقشوا ما جاء في كتاب الثورة العرابية، تأليف الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بالصفحتين 542 و543، وهو:
ونقطة الضعف في شخصيته - أي شخصية الأستاذ الإمام - هي تخلفه عن الكفاح السياسي، واختلافه في هذه الناحية مع أستاذه جمال الدين الأفغاني، وقد بدأ انقطاعه عنه منذ عودته إلى مصر سنة 1889، فترك أستاذه يعاني متاعب الكفاح السياسي وآلامه ومرارته، وكان من قبل عضده وساعده الأيمن، وإنك لتلمح تراخي الصلات بينهما حتى الصلات الشخصية منذ أن عاد إلى مصر حتى وفاة السيد جمال الدين. من قراءة منتخبات الأستاذ الإمام، فإنك لا تجد فيها رسالة واحدة كتبها إلى السيد في محنته ومنفاه، بل إن جمال الدين توفي سنة 1897، فلا تجد للأستاذ الإمام كلمة في رثاء أستاذه الروحي والفلسفي وزميل جهاده في العروة الوثقى، وهذه الناحية هي أثر من آثار الاحتلال في أخلاق الأمة ونفسيتها.
ولا حاجة إلى القول - بعد البيان المتقدم - بأن هذا النقد أثر من آثار الإسراع في المؤاخذة لغير سبب يوجبها ولا حجة تسندها، فما كان في الأمر من شيء يوصف بالضعف على معنى من معانيه؛ لأن الضعف إنما يكون حذرا من ضياع منفعة أو خوفا من وقوع ضرر، ولم يكن في الكتابة إلى السيد محذور على الكاتب يتقيه، وإنما المحذور كله على السيد أن يصيبه من القوم ما هو في غنى عن احتماله، ويأبى هو أن يسميه خطرا يتوقاه. ولا نظن المؤرخ الفاضل كان يريد من الأستاذ الإمام أن يتلقى بعد كل مراسلة تقريعا كذلك التقريع يرمى فيه بالوجل والهلع، وينهى فيه عن تصوير الخطر ولو بالتلميح إليه. وقد كان جمال الدين - رضوان الله عليه في دار خلوده - يأبى أن يحسب نفسه سجينا مرغما على البقاء حيث كان بضيافة السلطان، فإنه بقي هناك بعد أن سدت في وجهه مسالك البلاد، وسد هو أمام نفسه ما كان مفتوحا بين يديه، ولو أنه شاء الترحل عن الآستانة لما تعذر عليه ذلك، بل حدث مرة أنه هم بالترحل منها وانتقل إلى مكان تحميه السيطرة الأجنبية، ثم لم يلبث أن غادره وعاد إلى داره، تلبية لرجاء السلطان وأنفة له أن يذل أمام أعدائه في عاصمة ملكه.
ويستطيع المؤرخ الفاضل أن يعلم - لو شاء - أن الأستاذ الإمام قد أفاض في ترجمة السيد جمال الدين في تصديره لترجمة الرد على الدهريين، ولكن الأستاذ الإمام شغل عن كتابة سيرته هو - أي سيرة محمد عبده بقلمه - مع الحاجة إليها لدفع مفتريات الخصوم عليه، وما أكثر تلك المفتريات عليه في حياته وبعد مماته! وإن في بعض ما كتبه منها لتنويها - أشرف التنويه - بفضل جمال الدين عليه، ولا يطلب من تلميذ بلغ أوجه من المكانة في العالم أن يعترف لأستاذ له اعترافا أكرم وأرفع من قول محمد عبده عن جمال الدين: إن ميراثه منه أقدس من ميراثه الأبوي؛ لأنه ميراث في الروح بصفوة الرسل والقديسين. •••
وبعد هذا الاستطراد العارض في موضعه، نعود فنقول إنه لم يقاطع جمال الدين يوم كانت صحبته له تنفيه نفي الأبد عن أهله ووطنه، وقد عاد إلى بيروت وهو في حكم المنفي من مصر مدى الحياة، ولكنه خرج منها بأعجوبة من أعاجيب السياسة تصدق عندنا تجارب الشيخ الحكيم للفضل السياسي الذي يحسن فيه صاحبه وهو ينوي أن يسيء؛ فقد توسط له في العودة إلى مصر اثنان هما: الغازي أحمد متار باشا وكيل السلطان بالقاهرة، والأميرة نازلي فاضل وريثة البيت المنافس لبيت إسماعيل من فرع الأسرة الخديوية، ومركزه الآستانة.
ذلك فضل باطنه الذي لا خفاء به أن الرجل أقصي من بيروت بطلب خفي من السلطان العثماني، ليأمن عاقبة دعوته إلى الإصلاح والحرية في إحدى عواصم الدولة العثمانية والبلاد العربية، ولولا ذلك ما جاءت الوساطة - من كلا طرفيها - من هذا الطريق.
الفصل الثامن
مع الثورة العرابية
كان الشيخ محمد عبده ثائرا ولكنه لم يكن عرابيا؛ لأنه كان على خلاف مع الزعيم أحمد عرابي في برنامجه العملي، ولم يجمع العزم على تأييد العرابيين إلا لتوحيد الصفوف في وجه الاحتلال الأجنبي، بعد التجاء الخديو توفيق إلى الدولة البريطانية.
كان يؤيد الثورة في أمرين: «أولهما» تنبيه للرأي العام وجمع كلمته للمطالبة برفع المظالم وإصلاح الحكم، وإسناد المناصب الكبرى ووظائف الحكومة عامة إلى الوطنيين، و«ثانيهما» - وهو أحوج إلى الوقت والأناة - هو التعويل على إنهاض الأمة وإقامة نهضتها على أسس التربية والتعليم، وإعدادها للحكم النيابي المستقل برغبتها الصادقة وقدرتها على صيانته من عبث الولاة والمتسلطين؛ لأنه - كما تقدم - كان سيئ الظن بالنظم التي تأتي من جانب الملوك والأمراء بعد تجربة هذه النظم في سائر البلاد الشرقية، ولا فرق عنده بين المجالس النيابية وبين دواوين الحكومة إذا لم تكن للأمة قدرة على حماية مجالسها.
غير أنه كان يخالف زعماء الثورة في اتباع الخطة التي تؤدي إلى الشطط، وتفتح الباب للتدخل العسكري من جانب الدول الأجنبية.
وكان يؤيد الخديو في سعيه إلى الاستقلال عن رقابة الدولتين - إنجلترا وفرنسا - ولكنه كان ينكر عليه نفاقه في اتباع هذه السياسة، واستخدامها لتعزيز سلطته والرجوع بسياسة القصر إلى مثل ما كانت عليه في عهد أبيه إسماعيل وعهود أسلافه من قبله.
وكان يؤيد وزارة رياض باشا في برنامج الإصلاح، ولا سيما رفع السخرة وتحريم الجلد «أو الكرباج»، والتشديد في محاسبة المديرين على سوء المعاملة، ويؤيد أكبر التأييد في توسيع نطاق التعليم، وتشجيع العاملين على نشر الثقافة من علماء هذا البلد أو العلماء الوافدين إليه من الأقطار الشرقية.
ولكنه كان يأخذ عليه أن شهوة الحكم غلبته على مشيئته، فلم يعتزل الوزارة حين وجب اعتزالها.
وكان يؤيد الشكوى العامة ويشترك فيها بقلمه ولسانه، ولكنه كان يعيب على بعض الشاكين أنهم يمزجون بين الشكوى العامة وبين شكاواهم الصغيرة من قبيل فوات الوظائف والعلاوات ورفض المطالب والشفاعات، وقد كان بعض هؤلاء ينقم على الوزارة خير أعمالها وأجدره بالمؤازرة والثناء، وهو رفع السخرة وتحريم الكرباج؛ لأن مصالحهم في زراعة أرضهم والانتفاع بموارد الري في جوارهم كانت تقوم على تسخير الفلاحين وتخويفهم بالضرب وسوء المعاملة بموافقة المديرين وأعوانهم، وقد جلبت الوزارة عليها سخط العلية من أصحاب الأموال بتقرير الضريبة التي تحصل للإنفاق على تحسين الصحة العامة، وتدبير وسائل العلاج على الأصول الطبية، ولم تكن أمثال هذه الشكاوى بالقليلة بين أصوات الشكوى التي ترتفع باسم الإصلاح، ومن ورائها أشباه هذه الأغراض واللبانات.
ولهذه الشوائب التي امتزجت بالحركات العامة في ذلك الحين، كما تمتزج بها في كل زمن، لم يتيسر لذلك العقل الناقد أن يختار له حزبا بين الأحزاب يؤيده كل التأييد ويخذل ما عداه كل الخذلان، ولم يكن متحيزا في ثورته إلى فريق دون فريق، إلا حين بدرت بوادر الاحتلال الأجنبي بمشايعة الخديو وحاشيته، ووجب أن تتفق الأمة فريقا واحدا على مقاومته؛ فأقدم على مواجهة الخطر الأكبر، ولم يحجم لحظة من مناصرة ذلك الفريق.
أما الوجهة التي استقبلها بكل قلبه، ومنحها كل وقته، ووقف جهوده كلها على العمل لها وإقناع غيره بفضلها، فتلك هي الوجهة التي خلق لها بالفطرة ورجحتها عنده التجربة بعد التجربة، وهي إيقاظ حمية الرأي العام للمطالبة برفع المظالم وإصلاح أداة الحكم، وإنهاض الأمة على أساس قويم من التربية الاجتماعية ونشر التعليم.
وكان قبل استفحال الخطب يلقى زعماء الثورة وأصحاب الرأي فيها ليقنعهم بفضل هذه الخطة، ويحذرهم من عواقب الشطط بالدعوة الوطنية إلى ما وراء الغاية المأمونة، وصرح لهم في بعض هذه الأحاديث بما يخشاه من سوء العاقبة، كما قال في بيت طلبة عصمت باشا قائد الإسكندرية: «إن هذا الشغب قد يجر إلى البلاد احتلالا أجنبيا يستدعي تسجيل اللعنة بسببه إلى يوم القيامة.»
وانصرفوا في ذلك اليوم والزعيم أحمد عرابي يقول مبتسما: «أبذل جهدي في ألا أكون مورد هذه اللعنة.»
وقد بسط الأستاذ الإمام آراء الزعماء وآراءه يومئذ في تأريخه للثورة العرابية، وسمعنا كثيرا من تفصيلاتها على ألسنة شهودها الثقات، ويوافقه تمام الموافقة ما سمعه صديقنا الأستاذ المازني ونقله عن والده، حيث قال من كتابه عن قصة حياته: ... ثم قامت الحركة العرابية وسارت بأسرع مما كان ينتظر، وكان غرضها تحرير المصريين والتخلص من عناصر الترك والشراكسة المتحكمين المستولين على المناصب في الإدارة والجيش، ومضت إلى غايتها في جو من الدسائس الأجنبية والأطماع الدولية، فخشي الشيخ محمد عبده العاقبة، وكان بعيد النظر سديد الرأي، فتوقع إذ لج العرابيون فيما هم فيه، ولم يتحرزوا أو يتوخوا الاعتدال أن ينتهي الأمر باحتلال الإنجليز لمصر، فكان لهذا يقاوم العرابيين مقاومة شديدة، وينعي عليهم قصر نظرهم وقلة تبصرهم، ويبسط فيهم لسانه حتى ضجوا وهددوه بالقتل إذا ظل يعترض طريقهم ويناوئهم، وأراد بعض العرابيين من أصدقاء الإمام أن يصلح ما بينه وبينهم، وأنا أعرف هذه القصة؛ لأن الذي حاول إصلاح ذات البين أقربائي؛ لأن بيت جدي كان هو مكان الاجتماع.
وتكلم العرابيون، وتكلم دعاة التوفيق، ثم تكلم الشيخ محمد عبده، فأصر على رأيه أن العرابيين باندفاعهم سيجرون على البلاد الاحتلال الأجنبي، فأخفقت المساعي للصلح والتوفيق.
وكان أبي من رجال الأزهر وزملاء الشيخ محمد عبده في الدراسة وتلاميذ السيد جمال الدين، وإن كان لم ينبغ كما نبغوا، فسأل الشيخ محمد عبده: أكنت تلج هذه اللجاجة في عنادك مع العرابيين لو كان السيد جمال الدين في مصر؟ فكان جواب الشيخ محمد عبده هذه الكلمة المترعة: يا محمد! ... لو كان السيد جمال الدين هنا لما قامت الحركة العرابية ولا احتاج أحد إليها؛ لأن السيد كان يغني بشخصه عن كل ذلك. وتمثل ببيت من رثاء المتنبي:
كان من نفسه الكبيرة في
جيش وإن خيل أنه إنسان
ولما استفحلت الحركة العرابية وضرب الأسطول الإنجليزي الإسكندرية، انضم الشيخ محمد عبده إلى العرابيين، ووضع يده في أيديهم؛ لأن الواقعة قد وقعت وكان ما خاف أن يكون، فلم يسعه إلا أن يكون مع قومه - ولو كانوا مخطئين - على الغريب، وكان يتمثل ببيتي الحماسة:
بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وهل أنا إلا من «غزية» إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
والواقع أن السيد جمال الدين كان كما وصفه تلميذه الأكبر الشيخ محمد: «من نفسه الكبيرة في جيش.» وهو الذي يرجع إليه الفضل الأول في قيام الحركة الدستورية في تركيا ومصر وإيران، وهو الذي أثار نفوس الهنود المسلمين على الاستعمار الإنجليزي، وقد خشيه سلطان تركيا وشاه إيران وخديو مصر والإمبراطورية البريطانية.
ويشتمل تاريخ الأستاذ الإمام في الثورة العرابية على أمثلة شتى من أمثلة العظمة بالرأي الأصيل والنظر البعيد والغيرة الصادقة والخلق النبيل، ولكنه لم يشتمل على موقف من المواقف التي يضرب بها المثل في سير العظماء على تقديسهم للواجب أنبل من موقفه الأخير منها، وهي تواجه خطر الاحتلال الأجنبي وتتسابق إلى المأزق الوبيل الذي يفض عنها الأنصار ويبعد عنها ذوي المآرب والمخاوف، وإنه لأحصف عقلا وأبعد نظرا من أن تخفى عليه العاقبة، ولو على سبيل الترجيح، إذا حال الأمل الطيب دون العلم بها في ذلك المأزق علم اليقين.
وأي عاقبة؟ عاقبة الوقوع في قبضة الاحتلال الأجنبي نفسه، وأخطر منه وقوع أعداء الاحتلال في قبضة الخديو المنتصر المنتقم، ومعه رؤساء جميع الوزارات الذين عاداهم العرابيون، وفي طليعتهم أحمد رياض أقربهم إلى الأستاذ الإمام وأستاذه جمال الدين.
وأنبل من ذلك أنه ثبت على رأيه في محاربة الاحتلال الأجنبي وخيانة توفيق لوطنه، في مذكرته التي كتبها أثناء محاكمته وقال فيها: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنيا صرفا بعد أن آزره رجال جميع الأجناس والأديان، فكان يتألب المسلمون والأقباط والإسرائيليون لنجدته بحماس غريب، وبكل ما أوتوه من حول وقوة؛ لاعتقادهم أنها حرب بين المصريين والإنكليز».
ثم قال عن مؤامرة الخديو لحرق القاهرة إنه «شاع في القاهرة أن الخديو سيسعى بواسطة بعض أتباعه ليحدث شغبا في نفس القاهرة، إلى حد أن الوزارة احتاطت لمنع الفتنة، وبالغت في ذلك طول مدة قيامها بالأمر، واستدعى الخديو إبراهيم بك توفيق مدير البحيرة وطلب إليه أن يجمع مشايخ قبائل البدو ويحضرهم إليه، ففعل وبالغ الخديو في حسن استقبالهم وأكثر لهم من المواعيد، ثم أوعز إلى المدير أن يأمرهم بحشد ثلاثة آلاف بدوي وإحضارهم إلى القاهرة بطريق الجيزة ليحدثوا فتنة في البلد لعدم وجود النظام بينهم، ولكنه تعذر على المشايخ حشد العدد المطلوب من البدو، فحذف هؤلاء من العسكر، ولما فشل مسعاه هذا أرسل تلغرافا رمزيا إلى محافظ الإسكندرية هذا نصه: قد ضمن عرابي أمر الأمين العام، ونشر ذلك في الصحف وجعل نفسه مسئولا لدى القناصل، وإذا نجح في ضمانه هذا وثقت به الدول وصغر شأننا، أما الآن وأساطيل الدول في ميناء الإسكندرية وعقول الناس متهيجة ، فوقوع الخلاف بين الأوروبيين وغيرهم أمر محتمل، فاختر لنفسك إما خدمة عرابي في ضمانه أو خدمتنا».
إلى أن قال: «وفي يوم هذا الحادث توجهت إلى السراي، فرأيت موظفيها في جذل عظيم مما حدث، وكانوا يبالغون في رواية الأخبار ويضحكون من عهد عرابي بالمحافظة على الأمن العام، ومن المعلوم أن موظفي السراي لا يقولون إلا ما يسر الخديو، فإذا كانت الأخبار سارة تكلموا وضحكوا وإلا تظاهروا بالحزن والكآبة جهدهم.»
وهكذا جمع الشيخ السجين في تقرير واحد بين اتهام السلطتين، ولم يخطر له أن يداري إحداهما ليأمن شرها ويحتمي بها من الأخرى، كما فعل كثير من الذين قدموا إلى المحكمة العسكرية، وهم يعلمون أنها خاضعة للسلطة الإنجليزية، وأن أحكامها تعرض على القصر الخديوي ومجلس النظار لإقرارها.
وقد تلقى هذا التقرير محامي العرابيين برودلي صاحب التاريخ المستفيض عن محاكمات الثورة، وكان الشيخ محمد عبده يعرض عنه؛ لأنه لم يقبل في بادئ الأمر أن يدافع عنه محام إنجليزي، مع علمه بنظام المحاكم الخاصة وصعوبة الدفاع وفاقا لهذا على غير المختصين من الإنجليز، ثم علم أن شاعر الأحرار (بلنت) صديق القضية الإيرلندية والقضية المصرية هو صاحب الرأي في اختياره، فقبل أن يفاتحه بأوجه دفاعه، وقال المحامي في ذلك إن الشيخ محمد عبده «لم يتخلص من تأثير الصدمة الناشئة عن توقيفه إلا في أواخر أيامه في السجن، وحينئذ أخذ يعاملنا بتلك الثقة التي سعينا لاستحقاقها».
وإن هذه الصدمة - كما سماها برودلي - لهي خير مثال لذلك التفاهم العسير بين عقول الشرقيين والغربيين في الدوافع النفسية التي تخامرهم إبان الفتن الاجتماعية، ولعلها سبب من أسباب ارتياب الشيخ محمد عبده في نية محاميه أو قدرته؛ فإن الشيخ قد سئل كما سئل غيره - وكان عمله في الثورة غير عملهم، وداعيه إلى المشاركة فيها غير دواعيهم - فنفى بطبيعة الحال أكاذيب الشهود الملفقين وتهم الأذناب المسخرين من قبل القصر والحاشية، ولم يعترف من التهم بغير الواقع الذي وقع منه رأيا وعملا، وكله - كما رأينا - أخطر من أن يعد الاعتراف به نكوصا عن التبعة وتنصلا من الجريرة، فخيل إلى برودلي أن موقف الشيخ السجين - بين ما نفاه عن نفسه وأنكره من شهادة غيره - إنما كان ضعفا تبتلى به النفوس الشرقية في أمثال هذه الشدائد، وليس أسهل عند هؤلاء الغربيين من مداراة سوء الفهم عندهم بالخلاف المزعوم بين طبائع الشرقيين وطبائع الغربيين.
على أن هذا المحامي نفسه لم يستطع أن يحجب عن عقله عظمة الرجل في غير ما توهمه من أثر «الصدمة» ... وأشاد بمواهبه الخارقة في غير موضع من كتابه، فقال: «إنه ربما كان أعظم الناس موهبة بين الرجال الوطنيين المصريين ... ولا شك أنه ساعد من قبل كثيرا على جعل الرأي العام عاملا حقيقيا في الترقي المصري، ولم يكن متهوسا في الدين، بل هو من المسلمين القائلين بالتوسيع الشديد، وكانت أفكاره السياسية تنطبق على الرأي الجمهوري الحر ... ووطنيته التي لا شائبة للأنانية فيها هي التي حالت دون استياء رفقائه المتحمسين من خطته الدينية علانية، حتى إن عرابي باشا صديقه قال عنه مرة: إن رأي الشيخ عبده أصلح للقبعة منه للعمامة.»
ثم كتب بعد توديعه: «في مساء اليوم الأول من شهر يونيو سنة 1881 ودعت في الظلام محمد عبده الذي ذهب أخيرا منفيا عن القطر المصري مدة ثلاث سنوات ... وإذا جاز لمصر أن تسير منفردة أو يكون لها بداءة خير يوما من الأيام، فإنها لا يسهل عليها الاستغناء عن مثل الشيخ محمد عبده العالم المحرر ...»
ولو أن المحامي كاتب هذه النبوءة أتيح له أن يمد بصره وراء السنوات الثلاث، لعلم أن البلاد لم تستغن حقا عن الشيخ محمد عبده، وعلم قبل ذلك أن أمانة الصدق التي عهدها في «موكله» هي التي حملته على أن ينفي ما نفى ويثبت ما أثبت، ولم يحمله على ذلك خوف للعقاب؛ فإنه لم ينقطع عن حملته على الاحتلال وعلى الخديو صنيعته في قلب العاصمة البريطانية، وهو يعلم أنه - بذلك - يطيل منفاه أبدا، وقد طال منفاه فعلا، فعاد إلى مصر بعد انقضاء موعد النفي بخمس سنوات.
ولسنا في هذا الفصل بصدد البحث عن ظروف الثورة العرابية وتبعات زعمائها ودعاتها وجرائم خصومها وأشياعها المندسين عليها، ولكننا نستغني عن ذلك في هذا المقام بوزن هذه الثورة بميزان الثورات عامة، ونعود إلى طبائع الثورات جميعا في الشرق والغرب، فنرى أن الثورة العرابية لم تكن بدعا بينهما؛ لأنه ما من ثورة حدثت قط إلا اشترك فيها الأنصار والخصوم على اختلاف الأفكار، واختلاف الأمزجة، واختلاف النيات، واختلاف المظاهر والألوان، ولا يختلط هؤلاء في هذا الطوفان المريج إلا اختلطت الأعمال والتبعات وأفلت الزمام من الأيدي، واختفى الزمام حينا عن الأبصار والبصائر، فلا يدرى من هو القابض عليه ومن هو المتخلي عنه، ولا يعرف أين كان مبدؤه ومنتهاه بين أيدي الأنصار وأيدي الخصوم.
ومن طبائع الثورات أن يخطئ الإنسان خطأ لا حيلة له فيه، وأن يكون خصمه هو المسئول عن خطئه ... ومن طبائعها أن تكون الثورة كالمطية الجموح تسوق من يركبها ولا يسوقها إلى غير مجراها، بل من طبائعها أن تتقسم الصواب والخطأ، فلا يكون الصواب كله يوما في جانب، ولا يكون الخطأ كله في جانب، وهكذا كانت الثورة العرابية بعد اندفاعها، إن لم تكن كذلك عند بداءتها وقبل استفحالها. وربما كان من خطأ الشيخ محمد عبده - بمذهبه السوي في الإصلاح - أنه كان المهندس الذي حاول أن يسوس مجرى السيل كما يسوس مجرى النيل ... ولكن الفارق بينه وبين الأكثرين من مخالفيه أن خطأه لم ينجم عنه ضرر، وأنه أدرك الأضرار التي تنجم عن أخطائهم وهم غافلون عنها، وأنه لم تكن له يد فيها؛ ولكنه اضطلع معهم بجميع تبعاتها ولم يتركهم وحدهم، حين جد الجد لاحتمال جريرتها.
الفصل التاسع
القضية القومية
انتظم محمد عبده في سلك الحزب الوطني منذ نشأة هذا الحزب قبيل عزل الخديو إسماعيل.
وقد تؤدي تسمية تلك الهيئة السياسية بالحزب إلى لبس كثير في أذهان المعاصرين الذين ألفوا نشوء الأحزاب على وضعها الحديث.
فإن الحزب الوطني الذي انتسب إليه معظم المشتركين في الثورة العرابية لم يكن حزبا يقابل أحزابا أخرى من أبناء البلاد تتعارض في المبادئ والبرامج على النحو الذي نعهده اليوم في الأحزاب السياسية، ولكنه كان في حقيقته هيئة واحدة شاملة للحركة الوطنية في جملتها، وإنما سمي بالحزب ليقابل جماعة الشراكسة والترك والألبانيين والأرمن الذين كانوا يتبعون الدولة العثمانية، وينفردون بولاية الحكم في الوظائف الكبيرة وأكثر الوظائف الصغيرة.
فالحزب الوطني على هذا الاعتبار كان هو حزب المصريين الفلاحين أو حزب الأمة المصرية، ومن أجل هذا كان شعاره «مصر للمصريين» جامعا لمبادئه المتعددة في كلمتين اثنتين، أو هو في الواقع كان مبدأ واحدا يجري تطبيقه على مختلف المسائل التي كانت تدخل في نطاق القضية القومية بجميع جوانبها.
كان رفع المظالم عن أبناء البلاد ومحاربة الفساد والإسراف في دواوين الحكومة، هو مبدأ المبادئ في سياسة الحزب الوطني منذ تأليفه قبل نهاية حكم الخديو إسماعيل، وينطوي في هذا المبدأ أن يصير حكم البلاد إلى أيدي أبنائها الذين أصابهم الظلم من حكم «العثمانيين» غير المصريين، وينطوي في هذا المبدأ أيضا منع التدخل الأجنبي الذي جرت إليه سياسة البذخ والإسراف وسياسة الديون في عهد إسماعيل على الخصوص، وينطوي فيه تنظيم إدارة الحكم والتوفيق بين مقاصد الحكام ومقاصد الرعية.
وكان محمد عبده فلاحا بمولده وتربيته، ينتمي إلى قرية نشأت في ظل عهد الإقطاع، وكان مصابه ومصاب أهله من ظلم الطبقة الحاكمة أشد وقعا في نفوسهم من مصاب إخوانهم أبناء القرية؛ لأنهم كانوا بمنزلتهم الاجتماعية هدفا لأنظار الحاكم المتسلط، وحائلا في كثير من الأحيان بينه وبين أغراضه من عامة الرعية، فكان مصابهم بالظلم مضاعفا؛ لأنه مصاب في الرزق ومصاب في الكرامة، وكانت ثورته على «الراعي» الجائر ثورة من يشعر في قرارة نفسه بأنه أهل للمنازعة مع ذلك الراعي الجائر، وليس قصاراه أنه أهل للخضوع أو يسخط في صمت واستسلام، واستفادت هذه الثورة من التعليم والرياضة الروحية أنها أصبحت عقيدة من عقائد الضمير، ولم ترتهن بحدود القرية أو الطبقة، ولا بحدود المصلحة الاجتماعية أو السياسية.
وكانت حماسة النخوة سليقة في الرجل كما أسلفنا، وهي شيء غير اندفاع التطرف الذي يساور بعض ذوي الآراء، وإن التبس أمرهما أحيانا على من يحكم عليهما بالمظاهر والأشكال.
فإن تطرف الاندفاع قد يأتي من الخفة والعجلة، ولكن حماسة النخوة تأتي على الأكثر من شعور عميق وعقيدة متأصلة، وربما كانت حماسة النخوة عونا لصاحبها على الصبر الطويل، ولكن خفة التطرف قد يستثيرها الغرض العاجل أو تموت.
كذلك ينبغي أن نفرق بين الاندفاع والإقدام؛ لأنهما قد يتلاقيان أحيانا، وقد يكون الافتراق بينهما أكثر من اللقاء، فربما اندفع المندفع إلى الفرار كما اندفع إلى الإقدام، ولكن المقدم في غير اندفاع هو في الحقيقة ثابت حيث كان، وإن خيل إلى أناس أنه مدفوع إلى غير ما أراد.
وتاريخ محمد عبده في خدمة القضية القومية هو تاريخ الإقدام إلى أقصى حدوده، ولكنه لم يكن قط تاريخ الاندفاع مع الخفة والعجلة؛ لأن نظرته إلى الغرض القريب لم تعجله قط عن النظر الطويل إلى الغرض البعيد، وهو الغرض الدائم وراء جميع الأغراض.
وقد أقدم يوما على الترصد للخديو إسماعيل عند قصر النيل للقضاء عليه - أولى من الانتظار به إلى أزمة بينه وبين الدولة تزيله عن عرشه - ولو أنه أخطأه في هذه المرة وسنحت الفرصة للتفاهم مع ولي عهده على تعديل سياسة أبيه بعد عزله، لزال إسماعيل عن العرش مقتولا في أغلب الظن، ولم يزل معزولا كما أراد جمال الدين وحزبه في الساعة الأخيرة، وقد كان التآمر على العزل خطرا لا يقل عن خطر الإقدام على القتل، وليس لاندفاع التطرف مذهب وراء مذهب الإقدام على هذين الخطرين.
ولما نشبت الثورة العرابية كان حذره من السيطرة الأجنبية أشد من حذر العرابيين وحذر الخديو توفيق؛ لأنه لم يخالف العرابيين في أدوار الثورة الأولى إلا خشية الاحتلال الأجنبي الذي يجر على جالبه لعنة الأبد كما قال، ولم يؤيد الثورة كل التأييد في مرحلتها الأخيرة إلا لأن الخديو توفيق جنح إلى الدولة المحتلة وحارب جنوده بجنودها.
وفي كل أولئك كان محمد عبده أشد إقداما على الخطر من الجميع؛ كان أشد منهم إقداما في معارضة الثورة حين عارضها، وأشد إقداما في تأييدها حين أيدها، وكان أبعد منهم نظرا وأصدق منهم غيرة في كلتا الحالتين.
ولما وقع المحظور ودخل الإنجليز مصر محتلين، وبارحها محمد عبده منفيا عن وطنه، كان هذا المنفي أسبق أبناء الوطن إلى عاصمة الدولة الإنجليزية، ليعلن الحرب على الاحتلال في عقر داره، وقال لهم في صحافتهم: «إننا نرى أن انتصاركم للحرية إنما هو انتصار لما فيه مصلحتكم، وإن عطفكم علينا كعطف الذئب على الحمل، ولقد قضيتم على عناصر الخير فينا لكي تكون لكم من ذلك حجة للبقاء في بلادنا.»
وبلغ في الصراحة معهم ما لم يبلغه قائل من بعده، حيث يقول لصحيفة البال مال:
لم لا تغادرون بلادنا في الحال؟ لقد علمنا الإنجليز شيئا واحدا هو التضامن في مطالبتكم بالجلاء ... شكونا من الأتراك؛ لأنهم أجانب عن وطننا وأردنا لبلادنا إصلاحا وتقدما كتقدم الأوروبيين في طريق الحرية، لكننا الآن نعلم أن هنالك ما هو شر من استبداد الحكام، وشر من ظلم الأتراك، وليس في مصر من بلغ به الظلم حدا يرجو معه مساعدتكم. إن لنا إليكم رجاء واحدا، وهو أن تغادروا بلادنا حالا إلى غير رجعة.
ولما سأله محرر الصحيفة عن الخديو توفيق، كانت مشايعتهم هي الجريمة الكبرى التي نعاها عليه في وجوههم؛ إذ قال: «إن توفيقا أساء إلينا أبلغ السوء؛ لأنه مهد لدخولكم بلادنا، وانضم أيام الحرب إلى أعدائنا ... ولا يمكننا أن نشعر إزاءه بأقل احترام.»
قال هذا وهو لا يبالي أن يظل منفيا عن بلاده أبدا؛ لأنه لن يعود على غير رضا الخديو صاحب السلطة الشرعية، ورضا المحتلين أصحاب السلطة الفعلية، وقد بقي فعلا غير مأذون له بالعودة بعد انقضاء الموعد المحدود لنفيه، وهو ثلاث سنوات.
وانقضت فترة من هذه السنين في الحملة السياسية على الاحتلال بين لندن وباريس، وكان محمد عبده في صحبة جمال الدين قد اختار هذه المدينة مركزا لنشاطهما السياسي؛ لأنها عاصمة الدولة الفرنسية التي كانت تنافس الدولة البريطانية وتساومها على مشاكل القضية المصرية، فكان من أملهما أثناء الحملة على الاحتلال البريطاني أن تثار القضية كلها في ميدان السياسة الدولية لمطالبة الإنجليز بالجلاء عن مصر، وأن يكون مثار الحملة من باريس بعد مضي السنوات الأولى على دخول الجنود الإنجليزية إلى قلاع القاهرة والإسكندرية، وبعد صدور الوعود الأولى من وزراء لندن باقتراب موعد الجلاء، ثم انقضت السنوات في التجارب التي ابتلي بها الحكيمان من معاملة الساسة الغربيين والساسة الشرقيين، وكان أثرها جميعا شعورا عميقا بخيبة الأمل وضياع الجهد في هذا السبيل. فأما ساسة الغرب فقد كانت قضايا الأمم عندهم صفقات للمساومة وتبادل الغنائم، والاتفاق على توزيع المستعمرات الجديدة بعد المستعمرات التي يثيرون قضاياها ... وأما ساسة الشرق فقد كانت مخاوفهم من تحرر شعوبهم كمخاوف الأجنبي من تحرير مستعمراته المغلوبة، وكان الأجنبي يستعين بهم على توطيد حكمه بين التهديد بالخلع والترغيب في فضلات السلطة من يديه، فخلفت خيبة الأمل فيهم جميعا مرارتها التي تعصف بالأمل، لولا قوة اليقين وانصراف العزيمة إلى العمل في غير هذه السبيل. وقد ندرك قسوة أذاها في نفس الأستاذ الإمام من كلماته عن السياسة وسوء أثرها في نهضات التقدم، بعد أكثر من عشر سنوات قضاها في تجارب شتى لما أصابه منها، فقال في كتابه عن الإسلام والنصرانية: «إن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو العلم أو الدين، فأنا معك من الشاهدين، أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ... ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس!»
لقد كان للعزيمة الصادقة عملها أمام هذه الخيبة القاسية.
وكانت هي العزيمة التي لا يشغلها الغرض القريب عن الغرض البعيد، ولا ييئسها الأمل الضائع أن تصمد للأمل الذي لا يضيع.
ونفس أخرى كانت هذه الخيبة خليقة أن تضربها بضربة الوهن والقنوط، فتهجر السياسة وتهجر القضية معها.
ولكنها كانت عزيمة تصدق نفسها إذا كذبتها السياسة الخادعة، فاستحالت بكل ما فيها من قوة إصرار على ترك السياسة والإقبال على العمل في الطريق الذي لا عوج فيه، إلى الغاية التي لا ريب فيها، وقضت على السياسة عندها بهذا الإصرار قبل أن تقضي السياسة عليها.
لا تعويل بعد اليوم على السياسة ولا على الساسة ، وإنما التعويل كله على الأمم، ولا معول لأمم في جهادها أنفع لها وأصدق في المضي بها إلى غايتها من العلم الحي والتربية القويمة.
ولقد كان يقول للمقربين إليه من مريديه: لو كان في هذه الأمة مائة رجل لما استطاع الإنجليز أن يحكموها، ولما أدركوا منها أربا في حكمهم إياها، وإنما الرجل عنده صاحب الفكر البصير والخلق المكين، صاحب الكفاءة الذي إن وجد في الأمة قادها لا محالة، ولم يتمكن أجنبي ذو سطوة أو ثروة أن ينازعه على قيادها. •••
بهذه العزيمة عاد من منفاه وهو ينيف على الأربعين، ولا بديل له من استكانة اليأس إلا أن يقبل بكل ما أوتي من الثبات والأمل على العمل الذي آمن بأنه رسالته الباقية في الحياة، ووثق من جدوى الاعتماد عليه طول الزمن؛ إذ لا جدوى للاعتماد على السياسة والساسة غير خداع السراب.
ولو أننا ألقينا على لسانه كلاما يقوله في هداية التعليم كالذي قاله في ضلال السياسة، لخلناه قائما قاعدا يقول: «بارك الله في العلم والتعليم، وفي علم وتعلم، وفي عالم وعليم ومعلوم، وفي كل حرف من حروف العين واللام والميم!»
تقرب من الخديو فلم يكن تقربه إليه ليخدم سياسته؛ ولكنه أراد أن يقود الخديو إلى إحياء النهضة العلمية في أقدم الجامعات الشرقية، وأن يجري على يديه تطهير الدواوين حيث يتصل الديوان بأعمال الخير والإحسان، أو يتصل بتربية البيت وصيانة الأسرة وحسن الوصاية على الأزواج والأبناء.
وبعد بضع عشرة سنة لمع في أفق السياسة آخر بروقها الخلابة في فضاء القضية القومية، وعرضت الدولة الفرنسية سرابها الأخير على الذين استنجدوا بها لإنقاذ مصر من مهاوي الاستعمار، ثم أسفرت مساعي الخفاء عن العلن المكشوف، فإذا هو اتفاق بين الدولتين - بريطانيا وفرنسا - على تبادل التصرف المطلق في مصر ومراكش، تفعل كل منهما ما تشاء بالبلد الذي استولت عليه، وتتفقان معا ذلك الاتفاق الذي سموه بالودي لإقناع الدولة الأخرى بمثل هذا التفاهم على صفقات الاستعمار.
واطمأنت بريطانيا العظمى إلى مكانها بوادي النيل، وبدا لها أنها إذا نزلت للمصريين عن سلطانها على الحكومة لم يتأولوا ذلك بالاضطرار إليه خوفا من إثارة قضية مصر في محيط السياسة الدولية، ولكنهم يتقبلون منه ما يرضيهم باختيارهم ويرضي الدولة المحتلة باختيارها؛ فأرسلت صديق العرابيين القديم - سكوين بلنت - يسأل مفتي الديار رأيه في أسس الدستور التي يقام عليها بناء الحكومة ونظام الإدارة، فكانت خلاصة جوابه على ما يفهم من بين سطور الصحف التي حرفت هذا الجواب: أن يكون الدستور مقيدا لسلطة الاحتلال وسلطة الخديو، وأن يكون إعلانه ضمانا من السلطتين باحترامه ومنع المساس بحقوقه، وأن يكون للرئيس المصري حق جدي في ديوانه، فلا يكون عمله فيه عالة على الرؤساء الإنجليز، وأن يكون نظام التعليم إجبارا في جميع أنحاء البلاد، وأن تكون للمجلس النيابي حقوق الإشراف على السلطة التنفيذية أو سلطة الوزارة، فإذا اختلف مجلس النواب ومجلس الوزراء عرض الخلاف على هيئة مشتركة من النواب وقضاة محكمة الاستئناف، وتلتزم الوزارة بحكم هذه الهيئة، فلا يكون لولي الأمر من سلطان على الحكم، إلا ما يتقبله الوزراء ويحتملون تبعته في حدود الدستور والقانون.
كان هذا قبيل وفاة المفتي بسنة واحدة (سنة 1904)، وكان للاحتلال أجل في علم الغيب لم ينته قبل نيف وخمسين سنة، ولم يكن له في علم الإنسان أجل محدود، ولكنه لم يكن أمل الغد القريب بعد بضع سنوات على كل حال، ولو أنه كان - من التفاؤل الطامح - أمل سنوات عشر أو عشرين لما كان في الوسع أن تدار الحكومة خلال هذه المدة بالدعوة إلى الإضراب وترك الحكم كله بين أيدي المحتلين، ولو بدأت الدعوة إلى الإضراب في تلك السنة لما نفذت ولا تم الاتفاق عليها قبل انقضاء تلك السنين، فليس تقدير وقوع الجلاء فعلا في تلك السنة إلا تسجيلا بعبارة أخرى لانفراد المحتلين بالولاية على الدولة بمعزل عن أبناء البلاد في جميع الدواوين.
وقد كان المفتي موظفا يتولى عمله في خدمة بلاده مع مئات من خيرة أبناء الوطن في مناصب الوزارة والقضاء والتعليم والبناء والتعمير، فإذا كان العاملون في السياسة قادرين على تبليغ أمانتهم بالكتابة في الصحف والخطابة على المنابر، فأمانة الموظف الذي يخدم بلاده لا تؤدى في غير الديوان، ولا يزال لقاء المستشار والمفتش والعميد عملا من أعماله المتكررة إن لم تكن من أعماله اليومية، وبخاصة مستشار وزارة التشريع، ولا تؤدى وظيفة واحدة بغير الرجوع إلى هاتين الوزارتين.
ولا موجب هنا للموازنة بين من يعدون الأمم للاستقلال بالدعوة السياسية ومن يعدونها للاستقلال بالتربية والتعليم، فإن الأمم تستطيع على الدوام أن تعتمد على كلتا الخطتين، وأن ترشح لكل منهما من هو أصلح لها وأقدر عليها وأرغب فيها، وليس ثمة من ضرورة توجب عليها أن تختار هذه وحدها أو تلك وحدها، منفصلتين غير مجتمعتين.
وإنما المسألة هي مسألة هذا المصلح القدير على الإصلاح، أي الخطتين يختار، وأيتهما ترجى منه منفعتها، ويؤمن فيها على وقته وجهده من الضياع والفوات.
إن هذا المصلح الذي تمت له عدة الإصلاح وقيادة الأمة في طريق التقدم والحرية قد جرب السياسة فلم تثمر له ثمرة يرضاها.
إنه آمن بأن عمل السنين في السياسة والاعتماد على الساسة قد يضيع ولا يبقى من أثره ما ينفع، بل قد يبقى من أثره ما يضر ولا تمحو ضيره الأيام والسنون، ولكن عمل السنين في تربية الأمة وتعليمها لن يضيع ولن يذهب سدى، ولن يندم عليه العامل ولا الأمة التي يعمل لها، قصرت بها الطريق أو طالت إلى غايتها من التقدم والحرية.
إنه ابتلي من السياسة والساسة بتلك الخيبة التي بغضتها إليه وأورثته تلك المرارة «النفسية»، التي جعلت كل عمل فيها غصة لا تطاق وأذى لا يحتمل، ونفرته منها ذلك النفور الذي يصد العزيمة عنها ويدحض الرجاء فيها، وليس من طبيعة الغيرة الصادقة أن تمضي إلى وجهة تصد عنها أو تخدع النفس من السعي الذي لا رجاء فيه، فليس له ولا لأحد أن يصرفه عن العمل الذي يرجو جدواه، ليكرهه على العمل الذي لا يجدي عنده، وإن أجدى كثيرا أو قليلا عند غيره.
وأيا كان رأي التاريخ في جدوى الخطتين على قضية مصر، فلا خلاف في رجحان كفته على كفة خصومه بميزان الصدق والإخلاص والمروءة الجديرة بأمثاله من دعاة الإصلاح؛ لأنه آمن بخطته ولم يعطل على أحد خطة يؤثرها ويطمئن إلى عقباها، ولكن خصومه قد سوغوا أسوأ ظنونه في السياسة يوم صدوه عن طريقه ونصروا عليه أعداءه وأعداء رسالته الباقية، وكان أسوأ ما صنعوه أن يحسبوا عليه حماية القانون لمنصبه إخلالا بالوطنية، وهم يحمدون لولي الأمر أن يطأطئ رأسه لراية الاحتلال كي يغنم من المحتلين إغضاءهم عن عبثه بوظائف الحكومة، وهو لا يرمي بذلك العبث إلى شيء غير محاربة العلم واتهام الدين بما هو بريء منه؛ إذ يجعله حائلا بين المسلم وبين علوم الحضارة في القرن العشرين.
الفصل العاشر
في الأزهر
وقفنا بتاريخ الأزهر الحديث عند أوائل النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وهو يومئذ حومة صراع خفي بين طلاب الإصلاح المجددين وبين شيعة الجمود والتقليد من المحافظين على القديم؛ إذا تولاه شيخ عصري، أو شيخ فتى بالقياس إلى شيوخه المعمرين، سعى سعيه البطيء إلى تنظيم الإدارة وترتيب أوقات العمل ومواعيد الامتحانات وشروطها دون مساس بجوهر التعليم من موضوعات الدروس وكتب التدريس وأشخاص المدرسين، وإذا أحس ولاة الأمر بادرة السخط على هذا النصيب المقتصد من الإصلاح البطيء، أعادوا إليه شيخا من المشهورين بالتعصب للقديم، وأعادوا الأزهر في الحقيقة إلى ذلك الشيخ ليتولى عنهم ستر نياتهم نحو الإصلاح، ويدفع عنهم بجموده وتقليده شبهات العدوان على حرمات هذا المعهد العتيق، بل شبهات العدوان على حرمات الدين؛ إذ كان كل تغيير في المألوف بينهم لا يقل عن سبة الخروج من الدين.
وكانت الحكومة - كما تقدم - تخشى أن تتعرض لهذه الشبهات في زمن تكاثرت فيه الشبهات عليها من سياستها الأجنبية، وأوشكت هذه السياسة أن تجعلها رهينة بالسلطان الأجنبي في أمور القضاء والتشريع، وفي أمور «الامتيازات الأجنبية» على التعميم، فلم تكن لها بقية من السمعة الحسنة في هذا الباب تجازف بتعريضها للثورة عليها من رجال الدين، في أكبر معاهد الإسلام، فاتبعت مع الأزهر خطة الانتظار، وآثرت أن تتلقى طلب الإصلاح من أهله فتلبيه، وظلت على هذه الخطة لا تجرؤ على تبديلها إلى ما بعد الاحتلال البريطاني واستيلاء المحتلين علانية على دواوين الحكم بدعوى الإصلاح والتنظيم.
عندئذ تحول الموقف كله من جانب السلطة الشرعية أو سلطة الخديو بمعزل عن وزرائه وموظفيه، فإن استئثار المحتلين بدعوى الإصلاح والتنظيم في دواوين الحكومة جميعا لم يدع له مكانا يعمل فيه منطلق اليدين غير الجامع الأزهر وديوان الأوقاف والمحاكم الشرعية، وهي الجهات الدينية التي أمسك المحتلون عن التعرض لها، إلا فيما يتعلق منها بميزانية الدولة كوظائف القضاة الشرعيين وموظفي المحاكم الشرعية، فأصبح من هم الخديو أن يدفع عنه تهمة العجز عن الإصلاح والتنظيم فيما بين يديه من الدواوين والمعاهد، فإن هذا العجز حجة عليه وعلى الحكم الوطني برمته في أيدي السلطة الأجنبية، وبرهان محسوس يرتكن إليه المحتلون - أمام العالم - كلما التمسوا ذلك البرهان المحسوس للحجر عليه وعلى أداة الحكم التي ترتبط بها «المصالح الأجنبية» ودعوى الامتيازات.
ومع هذه الضرورة الملحة على ولي الأمر لم يجرؤ على «اقتحام العقبة» بغير تمهيد يعفيه من تهمة التهجم على حرمة المسجد وتقاليد الدين، فدبر مع المخلصين من طلاب الإصلاح «حيلة شرعية» للبدء بالإصلاح المطلوب، واتفقوا على استفتاء شيخ الجامع الزهر ومفتي الديار المصرية في مسألة العلوم التي يجوز تدريسها بالجامع، ولا تعتبر العناية بها في أماكن العبادة مخالفة للتقاليد الإسلامية، وكلفوا عالما تونسيا فاضلا - هو الأستاذ محمد بيرم أشهر علماء جامع الزيتونة في عصره - أن يتوجه بهذا الاستفتاء إلى الشيخ محمد الإنباني شيخ الجامع يومذاك (1305ه/1887م)، فكتب إليه بعد تمهيد وجيز: ... ما قولكم رضي الله عنكم، هل يجوز تعلم المسلمين للعلوم الرياضية مثل الهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبر عنها بالكيمياء وغيرها من سائر المعارف، لا سيما ما ينبغي عليه منها من زيادة القوة في الأمة بما تجاري به الأمم المعاصرين لها في كل ما يشمله الأمر بالاستعداد؟ بل هل يجب بعض تلك العلوم على طائفة من الأمة، بمعنى أن يكون واجبا وجوبا كفائيا على نحو التفصيل الذي ذكره فيها الإمام حجة الإسلام الغزالي في إحياء العلوم ، ونقله علماء الحنفية أيضا وأقروه، وإذا كان الحكم فيها كذلك، فهل تجوز قراءتها مثل ما تجوز قراءة العلوم الآلية - من نحو وغيره - الرائجة الآن بالجامع الأزهر وجامع الزيتونة والقرويين ... أفيدوا الجواب لا زلتم مقصدا لأولي الألباب.
وقد كان الأستاذ الإنباني يعلم مصدر الاستفتاء، فلم يهمله كما أشار عليه بعض أعوانه، وكتب في جوابه ما يلي: ... يجوز تعلم العلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجغرافية؛ لأنه لا تعرض فيها لشيء من الأمور الدينية، بل يجب منها ما تتوقف عليه مصلحة دينية أو دنيوية وجوبا كفائيا، كما يجب علم الطب لذلك - كما أفاده الغزالي في مواضع من الإحياء - وأن ما زاد عن الواجب من تلك العلوم مما يحصل به زيادة في القدر الواجب فتعلمه فضيلة، ولا يدخل في علم الهيئة الباحث عن أشكال الأفلاك والكواكب وسيرها علم التنجيم المسمى بعلم أحكام النجوم، وهو الباحث عن الاستدلال بالتشكيلات الفلكية على الحوادث السفلية، فإنه حرام كما قال الغزالي وعلل ذلك بما محصله أنه يخشى من ممارسته نسبة التأثير للكواكب والتعرض للإخبار بالمغيبات، مع كون الناظر قد يخطئ لخفاء بعض الشروط. وأما الطبيعيات، وهي الباحثة عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها كما في الإحياء في الباب الثاني من كتاب العلم، فإن كان ذلك البحث عن طريق أهل الشرع، فلا منع منها كما أفاده العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي في جزء الفتاوى الجامع للمسائل المنتثرة، بل لها حينئذ أهمية بحسب أهمية ثمرتها، كالوقوف على خواص المعدن والنبات المحصل للتمكن في علم الطب، وكمعرفة عمل الآلات النافعة في مصلحة العباد، وإن كان على طريقة الفلاسفة فالاشتغال بها حرام؛ لأنه يؤدي للوقوع في العقائد المخالفة للشرع كما أفاده العلامة المذكور. نعم، يظهر تجويزه لكامل القريحة الممارس للكتاب والسنة، للأمن عليه مما ذكرنا قياسا على المنطق المختلط بالفلسفة على ما هو المعتمد فيه من أقوال ثلاثة ثانيها الجواز مطلقا، ونسبه الملوي في شرح السلم للجمهور، وثالثها المنع مطلقا ونسبه صاحب السلم لابن الصلاح والنووي. قال الملوي: ووافقهما على ذلك كثير من العلماء، ولما كان الإمام النووي ممن يقول في المنطق بالمنع مطلقا مشى على نظير ذلك في الطبيعة، فعد في كتاب السير من الروضة من العلوم المحرمة علوم الطبيعيات بدون أن يفصل، لكن حيث يعتمد التفصيل هناك فلنعتمده هنا؛ إذ لا فرق في ذلك، فإن مظنة الضرر والنفع موجودة في كل منهما ...
إلى آخر الجواب مما يدل عليه أوله المتقدم.
وبعد أسبوعين من صدور هذه الفتوى من قبل شيخ الأزهر - الشافعي - صدرت الموافقة عليها من مفتي الديار المصرية، وهو حنفي المذهب، فقال: إن «ما أفاده حضرة الأستاذ شيخ الإسلام موافق لمذهبنا، وما استظهره من أن الخلاف الجاري في علم المنطق يجري في علم الطبيعة أيضا وجيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.» •••
ويستطيع الناظر في تضاعيف هذه الفتوى أن يلمح منها أنها تفتح الباب فيما أباحته للتفرقة بين طريقة وطريقة وغاية وغاية، ولا سيما في المنطق والطبيعيات، فلا يشق على المعارض في تدريس علم منها أن يؤجل تدريسه على الأقل إلى أن يثبت خلوص الكتاب المقرر من الشوائب الممنوعة، وابتعاد المدرس له عن مذهب الفلاسفة أو مذهب المنجمين، ولا يصعب على المعترض أن يحسب الإنباء عن مواعيد الكسوف والخسوف والقرانات الفلكية المحققة افتياتا على الغيب، لجواز الخطأ فيها على الناظر كما جاء في الفتوى.
وتلك كانت النية منذ صدرت الفتوى اضطرارا بهذا التحفظ والتقييد، فإن الشيخ قد أصدرها وهو ينوي تعطيل برنامج الإصلاح بأمثال هذه الحجج التي لا تعيي أحدا يريدها بعد السير في خطوات التنفيذ العملية. وقد عاد الشيخ محمد عبده من المنفى، واقترح على الشيخ الإنبابي هذا تدريس مقدمة ابن خلدون، فلم يجبه إلى مقترحه وقال: «إن العادة لم تجر بذلك ...» ثم سكت حين أراد الشيخ محمد عبده أن يبين له وجه المشابهة بين المقدمة وما يدرس من كتب المتأخرين على عهده، ولم يرد أن يدخل في الحديث. •••
لا جرم يكون صدور هذه الفتوى العقيمة هو كل ما تم من «مشروعات» هذا الإصلاح، فلم تزل حبرا على ورق إلى العهد الذي أنشئ فيه للأزهر مجلس خاص لوضع الفتوى في موضع التنفيذ، وكان الشيخ محمد عبده عضوا فيه، وقد عين للأزهر وكيل ذو كفاية وخلق، له «شخصية قوية» لا يسهل إهمالها، وهو الشيخ حسونة النواوي من أصدقاء الشيخ محمد عبده، وأركان المدرسة الجديدة من بين العلماء المجددين، وقد اتفقت الآراء على اختياره ليحول دون تعطيل «المشروعات» عند تطبيقها، إذا صدرت بها القوانين والمراسيم.
مضى بين اتصال الشيخ محمد عبده بالأزهر وصدور تلك الفتوى نيف وعشرون سنة، حضر فيها مراحل هذه الحركة من بداءتها الأولى وهو طالب ومدرس ومشرف على الإدارة والتدريس.
وصل إلى الأزهر طالبا حوالي سنة 1866 ميلادية، فاجتهد لنفسه في البحث عن أساتذته ودروسه، ثم أغناه حضور جمال الدين إلى مصر عن المعلمين فيما يحتاج إلى المعلم، وأغناه ذكاؤه وصبره عن الكتب المقروءة في حلقات التدريس؛ إذ كان يبحث عن الكتاب المفيد حيث أصابه، فيقرؤه لنفسه ويجني منه خير ما يجني من الفائدة في زمن وجيز، يريحه من حضور دروسه على المعلمين «التقليديين»، وكثيرا ما يكون من غير الكتب المقررة لدراسة الحلقات.
وقد مر بنا كيف كان الناشئ محمد عبده يبتلى بالنقيضين على مفترق الطريق في معاهد تعليمه منذ صباه، ولكن مفترق الطريق هذا كان في عهده الأول بالأزهر على أبعد ما تكون الشقة بين النقيضين، فقد كان من طرف الجمود يترامى إلى زاوية الجمود السحيقة في كهف الشيخ محمد عليش، وكان من طرف التجديد يترامى إلى غاية مرماه، حيث تتطامن العقبات والسدود، في ساحة جمال الدين، بل في ميدان جمال الدين.
وقد كان الشيخ محمد عليش رجلا صالحا عفيفا عن المطامع الدنيوية التي كانت تستهوي طلاب المظاهر من علماء عصره، وكان مخلصا صادق النية في كراهة البدع التي يخشى منها على الدين، ولكنه إخلاص قاده إلى التطرف الشديد، وأوشك أن يبغض إليه كل تفكير يستقل به طالب العلم، ولو كان من تفكير حكماء الإسلام.
وأبلغه ابنه يوما أن طالبا بالأزهر يحضر على جمال الدين ويقرأ كتب المعتزلة والمتكلمين، فحمل عكازه وذهب مع ابنه وأصحابه الشبان إلى حيث يجلس ذلك الطالب الجريء، ودارت بين العالم الكبير والطالب الناشئ مشادة، أحرى أن تسمى مشاجرة؛ لأنها انتهت إلى التماسك بالأيدي واعتصام العالم الكبير بعكازه، وألجأت الطالب الناشئ إلى اصطحاب عصاه كلما ذهب إلى حلقته؛ ردا لعادية الزملاء المستأنسين بحماية شيخهم، إن لم يكن ردا لعادية الشيخ الوقور.
وتقدم إلى امتحان شهادة العالمية، وهو بهذه السمعة في دوائر الجامدين ودوائر المجددين، فدخل أعضاء اللجنة وهم متعاهدون على إسقاطه كيفما كانت إجابته على أسئلتهم التي قدروا أن تكون معجزة لمثله، فلم يستطيعوا أن يحرموه بعد العنت والمكابرة، بل لم يستطيعوا أن يكتفوا بمنحه الدرجة الصغرى وهي شهادة اللجنة من الدرجة الثالثة، حتى أنقذه منهم بعض الإنقاذ رئيس اللجنة ورئيس الجامع في ذلك الحين الشيخ «المهدي العباسي»، أحد كبار العلماء المناصرين لحركة التجديد وإن لم يكن من المحبين لجمال الدين، وأقسم الرجل أنه لو عرف درجة فوق الأولى لما استكثرها عليه، وكادت اللجنة أن تنفض على غير اتفاق، لولا خشية العاقبة من مجابهة شيخ الجامع بالتحدي والإجحاف، فاقترح بعض الأعضاء التوسط بين الدرجتين، واتفقوا أخيرا على منحه الدرجة الثانية، ثم رفعت هذه الدرجة إلى الأولى بعد سنوات، وكانت سنه في نحو الثامنة والعشرين حين دخوله الامتحان (1887).
وبعد التدريس في الأزهر نحو سنتين عين أستاذا بدار العلوم (1879)، وفصل منها بعد أشهر معدودات لغير سبب مذكور في قرار فصله، ولكنه كان مفهوما بين المطلعين على سياسة القصر قبيل الثورة العرابية، فإنه كان قد عرف بالدعوة في دروسه إلى المبادئ الخطرة التي أشارت إليها الحكومة في قرار نفيها للسيد جمال الدين، وكان أكثر من ذلك تلميذ جمال الدين الأول، فكان خطر جمال الدين أهون عليهم من خطر هذا التلميذ، وهم يكلون إليه تعليم المعلمين!
أي مكان أسلم - أسلم للحكومة الخديوية - تضع فيه المدرس المعزول من وظيفة التدريس للمعلمين؟
إن السؤال عن المكان المأمون الذي يشغله هذا الفتى الريفي قد أصبح في تلك الآونة شغلا للدولة تعنى به، مع عنايتها بكل مكان تتوقع منه الخطر على وجودها، ولم يمض على هذا الفتى الريفي في الثلاثين من عمره سنتان، أو سنوات ثلاث، في الحياة العامة حتى أصبح في رأي الدولة واحدا من آحاد معدودين يحسب لهم حسابهم عند كل حركة من حركاتهم، بل كل نية تحسها الدولة من نياتهم!
نعم، إنه في حالته وبيئته و«مؤهلاته» التقليدية واحد من عدة آلاف لا يعرف لهم اسم ولا يحسب لهم حساب، ولكنه في نفسه، أو في هموم نفسه وآمالها، واحد لا ثاني له من غراره، وإن يكن في توقع الخطر منه واحدا من بضعة آحاد معدودين، خارج الوظائف والدواوين.
ولقد عزل من وظيفة التدريس بدار العلوم وهو عالم من علماء الأزهر، فإذا كان تعليمه هو الخطر المحذور، فهو عائد إلى التعليم في مدرسة أكبر باتساعها وأخطر بقدوتها من دار العلوم، وهي الجامعة الأزهرية ما لم تشغله عنها وظيفة يرضاها، وقد أخذ في ذلك الحين ينشر مقالاته في الصحف، ويجمع حوله طائفة من قراء أدبه والمعجبين بآرائه، فإذا خلي بينه وبين الصحافة فمن ذا يعلم العاقبة المنتظرة بعد قليل؟ وماذا يمنع أن تتيح له الظروف لسانا من ألسنة الصحافة السيارة، يستقل به ويملي منه دروسه التي حيل دون إملائها بين الجدران في دار العلوم؟
إن التحرير عمل يناسبه، فليكن إذن محررا في صحيفة الحكومة بين سمعها وبصرها، وليؤخذ عليه سبيل التدريس في الأزهر والكتابة في الصحافة السيارة، بعمل يعجبه في ظاهره ويحد من نشاطه المحذور في باطنه، وهو تحرير الوقائع المصرية، تحرير الصحيفة التي يدل اسمها عليها، وهو نشر الوقائع الرسمية.
لو قال قائل: إن هذا الإنسان خلقة مجبولة للتعليم، وإن رمق الحياة ورمق التعليم فيها شيء واحد. لما وصل إلى حدود الإغراق الذي تبيحه المبالغة للمبالغ في مثل هذا المقام.
فإنه عزل من مدرسة التعليم للمعلمين ليلحق بمكان يقال فيه بحق إنه آخر مكان ينتظر منه إلقاء الدروس، وإنه المكان الذي لا يقع في أن الدروس تلقى منه على الأمة وعلى الحكومة، وهما على أبواب ثورة قلما تجمعهما على وفاق.
ولكن صحيفة الوقائع الرسمية تحولت على يد هذا المحرر «الرسمي» إلى منبر لنشر الدعوة وإعلان الشكوى، وإسماع الحكومة ما تريد أن تسمعه وما لا تريد أن يسمع بحال، وقال الشيخ محمد عبده على صفحاتها كل ما كان قائله لو تكلم في حلقات الأزهر أو على منصة التدريس بدار العلوم.
ولا تتسع هذه المناسبة لأكثر من الإشارة إلى عناوين بعض المقالات التي نشرها للناس باسم الوقائع الرسمية، ومنها مقال في انتقاد التعليم بوزارة المعارف، ومقال عن التربية في المدارس والمكاتب الأميرية، ومقال في الحملة على الرشوة، ومقال في الإنحاء على البدع التي تصدر من نظارة الأوقاف، ومقال عن تأثير التعليم في العقيدة، ومقال عن الشورى، وآخر عن اختلاف القوانين باختلاف الأمم، وآخر عن الملكات والعادات، وآخر عن تعدد الزوجات، وآخر عن إسراف الفلاح وضرر الديون وغيرها قرابة أربعين مقالا، أو أربعين درسا، في أمثال الشئون القومية التي يتجه فيها الخطاب إلى الأمة والحكومة، وتلام فيها كلتاهما بمقدار حقها من الملام.
ولم يهمل شأن الأزهر وهو يتكلم عن إصلاح التعليم ويتصل برئيس الوزارة بحكم وظيفته في الصحيفة الرسمية، فكل ما عملته الوزارة الرياضية من أعمال الإصلاح وتنظيم الإدارة بالأزهر، فإنما على علم منه بمشورته وبفضل وساطته بين الحكومة وعلمائه، ولكن الثورة العرابية شغلت علماء الأزهر يومئذ عن مسائل التعليم والإدارة، وضمت الكثيرين منهم إلى جانب الثائرين في وجه الخديو بعد انضمامه إلى السلطة الأجنبية، وكان الشيخ محمد عبده أحد العلماء الذين كانوا يأخذون العهد والقسم من الثائرين على الإخلاص والأمانة، وجوزي على ذلك بالنفي إلى خارج الديار ثلاث سنوات امتدت إلى سبع سنوات، ولم ينقذه من حكم الموت إلا تلك الصلة القديمة التي سبقت له مع الوزارة الرياضية. •••
وعاد إلى الاتصال بالأزهر على إثر عودته من منفاه، ولكنه حيل بينه وبين الانقطاع للتدريس فيه بإسناد الوظائف المختلفة إليه، وكانت أول مشاركة له في وظائفه تعيينه عضوا بمجلس إدارته (سنة 1894)، ثم تعززت مكانته الرسمية بولايته منصب الإفتاء بعد ذلك بخمس سنوات، وكان وجود مثله عضوا بمجلس الإدارة كافيا لإخراج الفتوى القديمة - فتوى الشيخ الإنبابي - من حيز القول المهمل إلى حيز العمل الفعال، ولكن قيامه على منصب الإفتاء رجع بالفتوى إلى صاحبها، وأغنى العاملين على الإصلاح داخل الأزهر وخارجه عن مهمة التوفيق بين الوعد والإنجاز، وبين النية والتنفيذ. •••
وقد كان في وسع الشيخ محمد عبده وأعوانه الثقات أن ينجزوا في ثلاث سنوات، أو أربع سنوات، ما استغرق إنجازه منهم أكثر من عشر سنين، وهي المدة التي أشرف فيها الشيخ محمد عبده بشخصه على إدارة الأزهر، منذ تعيينه عضوا بمجلس الإدارة إلى استقالته من منصب الإفتاء، ولكنه آثر أن يتمهل اختيارا لتسويغ الانتقال من القديم إلى الجديد في نفوس أنصار القديم المتشبثين ببقائه بين الموافقة باللسان والمراوغة في التنفيذ، واضطر في كثير من الأحيان إلى التمهل اضطرارا لتراجع ولي الأمر - الخديو عباس الثاني وحاشيته - في وعودهم، وعدولهم عن العمل على التغيير الصريح إلى مراوغة كمراوغة الشيوخ الجامدين بين الموافقة اللسانية والتعويق في التنفيذ، ولكن دعاة الإصلاح تمكنوا - مع هذه التعويقات - من إقامة الأسس التي يصعب على المعارضين أن يهدموها بعد إقامتها، وكان عملهم مدى السنين العشر أعظم مما يتسع له هذا الأمد القصير بالقياس إلى القرون المتوالية التي تم تبديلها في خلالها، بعد الشروع فيه والعدول عنه واستمرار الدعوة إليه أعواما إثر أعوام.
ويطول بنا بيان التشريعات والإجراءات الإدارية التي تقضي المراسم الضرورية باستصدارها قبل كل خطوة تخطو في تغيير شيء من القديم واعتماد شيء من الجديد، ولكن المقارنة السريعة بين ما كان عليه الأزهر في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وما صار إليه في مطلع هذا القرن العشرين هي الأثر العملي المحسوس لجميع تلك التشريعات والإجراءات في حيز التقرير والتنفيذ.
كانت سيئات الإدارة لا تحصى، وكانت حسناتها القليلة تجري - إذا جرت - عفوا على غير نظام.
كان مشايخ الأزهر يوزعون المرتبات والجرايات على غير قاعدة مرعية، حسبما يتجمع عندهم من محاصيل الأوقاف المحبوسة على أتباع المذاهب أو على أبناء الأقاليم، فربما هبطت مكافأة العالم في الشهر إلى ما دون العشرين قرشا أو ارتفعت إلى بضعة جنيهات، ولا ضمان لعودتها في السنة التالية إذا تغير الشيوخ واختلف حساب الأوقاف، واختلف معه حساب توزيعها بين الشيوخ والمقدمين على الأروقة والأقسام.
وكان شأن كساوي التشريفة كشأن المرتبات والجرايات، يختص بها الشيخ الأكبر من يشاء من أبناء مذهبه أو إقليمه أو خاصة أشياعه ومريديه، ولا وجه لمراجعته أو الاحتجاج عليه عند هيئة مسموعة الكلمة في الجامع، أو عند ولاة الأمور من الولاة والوزراء.
ولا ينتظر في مثل هذه الحالة أن يجري عمل المدرسين والطلاب على وتيرة مطردة، أو تجري رقابة التدريس كله على مبدأ معروف، فمن شاء من الأساتذة أو التلاميذ حضر حلقات الدرس، ومن شاء منهم غاب عنها ولم يسأل عن حضوره أو غيابه، وليس للعمل أو للإجازة أو الامتحان موعد مقرر في سنة من السنين، فإذا قيد الطالب اسمه بين مستحقي الجراية أو السكن بأروقة الجامع، فقد يحسب من طلابه إلى أن يتجاوز الستين ولا تنقطع جرايته ما دام من المرضي عنهم بين شيعة صاحب الرواق.
وكانت العلوم الحديثة محرمة لا تدرس ولا يرضى عن طلابها في غير الحلقات الأزهرية، وكانت علوم السلف التي تنسب إلى الفلاسفة أو المعتزلة قرينة بتهمة الكفر والزندقة، ومن اشتغل بها معلما أو متعلما فسبيله أن يعتزل الجماعة خفية ... ولا سلامة له باعتزالهم جهرة على سنة الأقدمين ممن اشتهروا بالاعتزال.
وكانت تدبيرات الصحة مهملة، بل كادت أن تكون ممنوعة، لقلة اطمئنان العلماء الجامدين إلى المواد التي تستخدم للتعقيم والتطعيم، بل قلة اطمئنانهم إلى أقوال الأطباء في عدوى الجراثيم، ولولا أن النظافة أدب من آداب الإسلام لما تقبل القائمون على إدارة الجامع عملا من أعمال الوقاية في أزمنة الوباء، غير الأمر بإغلاق الجامع ووقف الشعائر والدروس في أروقته، وهو الأمر الذي يتحرج منه المسئولون ويحتالون له بمختلف الحيل كلما استطاعوا أن يتجنبوه بالإعلان الصريح.
وتبدل ذلك كله في سنوات قلائل، وأول ما تبدل منه أمر العناية بالتدبيرات الصحية، فأنشئت للجامع صيدلية خاصة، وعين له طبيب منقطع لعلاج طلابه والكشف عليهم بالمجان.
ولم يكن باليسير تنظيم أعمال التدريس بغير تنظيم أوقات العمل والمرتبات؛ إذ لم يكن للأزهر مورد محصور عند المراجع الرسمية، يصرف منه على المرتبات الكافية لمدرسيه المعتمدين، فسعى الشيخ محمد عبده عند الوزارة لتخصيص مبلغ من ميزانية الدولة تنفق منه على الدراسة في الأزهر، وكانت حجة الشيخ على المستشار المالي الإنجليزي - الذي كانت له الرقابة على الميزانية - أن الأزهر يخرج الموظفين لدواوين الحكومة من القضاة الشرعيين، فالإنفاق عليه واجب حكومي كالإنفاق على مدارس الحقوق والشرطة والمعلمين، وواصل الشيخ سعيه عند ديوان الأوقاف حتى أرصدت في ميزانيته مبالغ سنوية للجامعة الأزهرية، وكان من فتواه للديوان أن هذا المصرف جائز، بل مفروض على الديوان، في مقدمة مصارفه الخيرية، وأولها الصرف على تعليم الدين وإعداد الوعاظ والأئمة للمساجد التي تقام فيها الصلوات الجامعة، فتوافر للأزهر مدد من ميزانية الحكومة وميزانية الأوقاف يكفي لتنظيم التدريس ورفع المرتبات إلى مستواه اللائق بطبقة العلماء، وأقله في مبدأ الأمر لا يقل عن اثني عشر جنيها مشاهرة، عدا الإعانات المرصدة من بعض الأوقاف الخاصة، ومنها أوقاف السكن والجراية.
وتقرر تدريس العلوم الحديثة مع الترغيب فيها بالمكافأة الحسنة، والترشيح لوظائف القضاء والتعليم.
إن المصاعب التي وجب تذليلها لوضع هذا التغيير موضع التنفيذ أطول شرحا من وجوه الإصلاح بكل ما اقتضاه بحثها وترتيبها والمضي في تنفيذ قوانينها وإجراءاتها، ولكن القارئ الذي لم يشهد ذلك العهد قد يتمثلها أمامه كلما تذكر الموانع التي كانت تعترض هذا التغيير، وتذكر القوى الظاهرة والخفية التي كانت تدعم تلك الموانع، وما تستطيع أن تثيره من زوابع القلق والسخط في أنحاء العالم الإسلامي بما رحب، فضلا عن جوانب الأزهر وجوانب المدينة المصرية، والقرية المصرية، التي عرفنا علاقتها المتأصلة بذلك المسجد العتيق.
من تلك الموانع منافع الشيوخ الذين رفعت أيديهم عن موارد الأوقاف، وامتنع عليهم جاه التصرف بكساوي التشريف ومنازل العلماء في المجتمع وعند ولاة الأمور.
ومن تلك الموانع لبانات المقدمين على الأروقة وأهواؤهم التي انقضى زمانها بانقضاء زمان التحكم في الجرايات والمساكن والطلاب والعلماء.
ومنها جاه العلم الذي ضاع على زمرة «السلفيين» الجامدين، بعد أن حفظوه لأنفسهم دون «الدخلاء» عليهم من رجال العلوم الدينية والعلوم «الدنيوية» على السواء.
ومنها جيوش الطلاب والمتطلعين إلى الطلب ممن أحسوا وعورة الطريق بعد اقترابهم من نهايتها الميسرة لهم على «النظام» القديم، وقد يزيد عليهم في العدد طلاب «الجراية» والمسكن بغير أمل في نهاية قط على نظام قديم أو جديد.
ومنها قوة الجهل المطبق والظن السيئ في عقول الدهماء الذين سمعوا من «الأئمة» المصدقين أن القول بدوران الأرض كفر بواح، وأن معلم الجغرافية مسخر من أعداء الدين ليعلم أبناء المسلمين أنها كرة مستديرة دوارة في الفضاء، وأكفر منه من يعلمهم الطبيعيات ... لأن القول بالطبيعة إنكار لوجود الله وإثبات لوجود المخلوقات بطبيعتها دون وجود الخلاق.
ومنها - ولعله يجمعها بحذافيرها - سلطان ولي الأمر؛ إذ أدرك بعد حين أن الإصلاح قد فوت عليه سلطانه وفوت عليه الغنيمة التي يجنيها لنفسه ويغدق منها الأجور على خدامه وحواشيه. •••
ونقول إن مناوأة الأمير لحركة الإصلاح الأزهرية تجمع تلك الموانع والعراقيل بحذافيرها، اعتبارا بما عهدناه من أساليب الأمراء والملوك في اضطهاد المصلحين من رعاياهم كلما وقع الصدام بين أرباب التيجان ودعاة الإصلاح منذ أقدم العصور، فإن الملوك والأمراء الذين يضيقون ذرعا بدعوات الإصلاح قد جرت عادتهم قديما باستفزاز رعاياهم واستثارة الجهلاء والمغرضين على قادة الرأي فيهم، لمداراة سلطتهم وإخفاء مكيدتهم وتمويه سياستهم على الناس، كي يتقبلوها منهم كأنها استجابة لرجائهم وتلبية لمطالبهم وغيرة على عقائدهم وشعائرهم، فيحمدهم الناس على شرورهم وهم أحرى أن يضاعفوا لهم المقت بما أصابوا من أفهامهم وعقائدهم فوق مصابهم في المصالح والأرزاق. وقد كان الملوك والأمراء يخدعون شعوبهم هذه الخديعة وهم وحدهم في بلادهم منفردون بسلطة الحكم وجاه الولاية، فأما الخديو عباس الثاني فقد كانت معه سلطة أخرى في بلاده أقوى منه وأقدر على كبحه والحد من مآربه وأطماعه، فكانت حاجته إلى استثارة الجهلاء باسم الدين تزيد على حاجة أسلافه من أهل بيته، وحاجة الأسبقين من زملائه في أساليب الاضطهاد، وقد أسف غاية الإسفاف، وتبذل غاية التبذل، فلم يدع وسيلة يدرك بها مأربه لم يتوسل بها غير مبال بما يعقبها من الأثر على سمعته وسمعة وطنه، بل على سمعة دينه البريء مما يفتريه عليه وعلى أهله، ولم يتورع - وهو أمير البلاد - عن التحريض على إثارة الشغب بين طلاب الأزهر وخدمته وعماله، ولا عن تسخير الصحف التي تتجر بنهش الأعراض والمساومة على الفضائح والوشايات للافتراء على مخالفيه، وهم أعلم الناس بنزاهتهم عما يدعيه. وخلع نقاب الحياء فلم يتورع عن اتهام الإسلام والمسلمين بكراهة العلم الحديث وتصوير العلوم التي أدخلها المفتي إلى الأزهر في صورة الجناية على الدين، ولم يبال أن يعلنها حربا دينية بين الكفر والإسلام؛ إذ تأتى له بذلك أن يقصي الشيخ محمد عبده وكبار الموظفين من أعوانه عن إدارة الأزهر كما يقصيهم عن الإفتاء وديوان الأوقاف، بل تطوع بالوقوف تحت العلم البريطاني لاستعراض جيش الاحتلال، لعله يضمن بذلك أن يكف يد العميد البريطاني عن معارضته فيما يتعلق من تلك المسألة بالميزانية ونظام الدواوين! •••
ومن البديهي أن الخديو قد عول على الدسيسة الخفية في تدبير هذه الحملة الواسعة على المفتي وأعوانه بمجلس الإدارة ومجلس الأوقاف الأعلى، ولكن الدسيسة التي يتآمر عليها عشرات من المغرضين والجامدين والمأجورين لا تكتم عن الناس في أوانها، وإن جازت فيها المغالطة أو المكابرة بين أنصارها وخصومها، إلا أن التاريخ قد ينفض يديه من دسائس هذه الفترة جميعا ولا يحتفظ بشيء من أخبارها غير مراسيم الخديو وخطبه المنشورة التي ألقاها في قصره، ولا حاجة بالمؤرخ إلى بيان للدسيسة كلها أوضح من بيانها، فإنها ناطقة بدعواها الظاهرة عن مكيدتها الخفية، ودعواها الظاهرة أن تدريس العلوم الحديثة في الجامعة الأزهرية خطر على الإسلام، وأن المفتي وأعوانه قد أبعدوا من مناصبهم؛ لأنهم يصرون على تدريس تلك العلوم.
قال الخديو في الاحتفال بخلع الكسوة على الشيخ عبد الرحمن الشربيني شيخ الجامع الجديد:
إن الجامع الأزهر قد أسس وشيد على أن يكون مدرسة دينية إسلامية تنشر علوم الدين الحنيفي في مصر وجميع الأقطار الإسلامية ... وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدا في الأزهر الشريف والشغب بعيدا عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه هو مدرسة دينية قبل كل شيء.
وقد صدرت المراسيم بعد خروج الشيخ محمد عبده باختيار شيخين من الحزب القديم لأكبر المناصب الدينية، وهما منصب الإفتاء ومنصب مشيخة الأزهر، فعين الشيخ عبد القادر الرافعي مفتيا للديار، وعين الشيخ عبد الرحمن الشربيني شيخا للجامع الأزهر. فأما المفتي فقد توفي على إثر تعيينه، فلم يؤثر عنه عمل ولا قول في برنامج التعليم الذي يرتضيه رجال العهد الجديد، وأما شيخ الجامع الأزهر فقد صرح برأيه في حديث نشرته صحيفة الجوائب المصرية (13 مارس سنة 1905)، فقال عن رأيه في الغرض من إنشاء الأزهر:
إن غرض السلف من تأسيس الأزهر إقامة بيت لله يعبد فيه ويؤخذ فيه شرعه، ويؤخذ الدين كما تركه لنا الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم، وأما الخدمة التي قام بها الأزهر للدين ولا يزال يؤديها فهي حفظ الدين لا غير، وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر، فلا علاقة للأزهر به ولا ينبغي له.
ثم قال عن إصلاح التعليم:
إن الذي حدث من شأنه أن يهدم معالم التعليم الديني فيه، ويحول هذا المسجد العظيم إلى مدرسة فلسفة وآداب تحارب الدين وتطفئ نوره في هذا البلد وغيره من البلاد الإسلامية ... وإني أسمع منذ سنوات بشيء يسمونه حركة في الأزهر، ولكني لم أر لهذه الحركة وهذا الإصلاح من نتيجة تذكر سوى انتشار الفوضى في ربوعه.
ثم قرن بين حركة الإصلاح والسياسة فقال:
إني رأيت الكثيرين من إخواني خدمة العلم في منصب المشيخة، فوجدتهم أبعد الناس عن الاشتغال بالسياسة وأشدهم فرارا من مظاهر الدنيا الباطلة. •••
وهذا هو شرط «الأزهر» الصالح في عرف المشيخة التي اختارها ولي الأمر لتعتدل به من طريق الزيغ والشغب إلى طريق الإيمان والأمان!
معهد يستبد ولي الأمر بإدارته وتعليمه ليستخدم سمعته الدينية في تعزيز سلطانه وتوفير ثروته، ثم يكل المشيخة فيه إلى أناس يريدونه في القرن العشرين مدرسة كبرى لا تعرف شيئا عن علوم «الأعصر»، ولا تدري شيئا عن الدنيا والديوان؛ لأن كل شيء عن الدنيا والديوان إنما هو سياسة تترك لولي الأمر، ولا يحسن برجل الدين أن يعرض لها من قريب أو بعيد!
ومن تمام العلم بهذه السياسة التي نعاها الشيخ الصالح على المفتي وأصحابه أن نذكر أنها سياسة في صميم العمل الأزهري؛ لأنها سياسة الحاكم الشرعية ومساجد العبادة والتدريس، وقد كانت في صميم السياسة التي أدخلها المفتي في برنامج الإصلاح بعد ولاية الإفتاء، وعلى أساسها تم الإصلاح اليسير الذي سمحت به الأحوال بعد ذلك بسنوات، ولكنه لم يسلم قط من دسائس الخديو وحلفائه في دور التعليم وفي دور التوظيف؛ فقد كان من أصعب الأمور تخريج قضاة يحكمون في المواريث، ويبرمون العقود والمواثيق، وينظرون في مشكلات الأسرة والوصاية على التركات وهم لا يعرفون شيئا عن الحساب والرياضة وعن نظم الإدارة وتقاليد الدواوين، وكان أصعب من ذلك حرمان طلاب الأزهر من وظائف المحاكم الشرعية قضائية وكتابية، وهم ألوف يتخرجون بلا عمل ولا يستعدون بتعليمهم الأول لوظائف التدريس في المدارس الأميرية أو الأهلية، وقد كان الخديو أشد المعارضين لإنشاء المدرسة الخاصة التي يتخرج منها القضاة الشرعيون، ولكنه كان لا يبالي أن يعلن الوعد بإنشائها على حدة يوم كانت المسألة عنده مسألة الحملة على تدريس العلوم العصرية في الأزهر، فقال في خطابه الذي تقدم ذكره عن تاريخ القضاة الشرعيين: «إنه ستنشأ له مدرسة مستقلة يقصدها كل من يحصل على شهادة العالمية في الأزهر ويريد التوظف في القضاء.»
وبهذا الوعد الذي أعلنه وهو ينوي المراوغة فيه خيل إليه أنه يسكت طلاب الأزهر وعلماءه عن تحريم العلوم، وعن تخريج القضاة والموظفين الشرعيين من مدرسة خاصة، غير الجامعة الأزهرية!
أما إصلاح المساجد فقد كان مشروعا من مشروعات الإصلاح الكثيرة التي عني بها ذلك الرجل المغضوب عليه؛ لأنه لا يترك موضعا للإصلاح بمكان يسند فيه إليه عمل، ولو كان من أعمال الاستشارة والمراجعة.
كان المفتي - بحكم وظيفته - عضوا في المجلس الأعلى لديوان الأوقاف، ومن عملها الإشراف على مساجد العبادة والتعليم في الأقاليم، فكان أول ما نظر فيه إنشاء إدارة مستقلة بالديوان تسمى إدارة المساجد، وتتخصص لتعيين الأئمة والمدرسين في مساجد المدن والقرى التي تتسع لإلقاء الدروس على مثال الدروس العصرية بالجامعة الأزهرية، ولزم من ذلك أن ترصد النفقات لتدبير الوسائل الصحية في المساجد وما يلحق بها من أماكن الوضوء، وأن يختار الأئمة من العلماء الأزهريين الذين يصلحون للخطابة والتعليم ونشر التربية العصرية عن طريق الوعظ والإرشاد، وأن ترفع مكافآت الأئمة والوعاظ من جنيه واحد أو جنيهين في الشهر إلى المرتب الذي يناسب طبقة العلماء والمدرسين، واشتمل التقرير المتقدم إلى المجلس الأعلى بديوان الوقاف على تفاصل لهذه اللائحة - لائحة المساجد - تبسط الغاية من هذا المشروع لولاة الأمور، وهي تزويد البلاد بقوة من قوى التربية الاجتماعية واليقظة الوطنية، تحقق للأمة مقصدا لا يقل في أثره الواسع عن أثر المدارس والجامعات.
ولو كتب لهذا المشروع أن ينفذ على الوجه الأمثل لخلق تلك العناية في مدى سنوات، ولكنه لم يكد ينتهي إلى علم الخديو قبل عرضه على المجلس الأعلى، حتى تحركت دواليب الدسيسة لإحباطه والتشهير به في كل مكان، ولم يكن من السهل أن يجترئ أحد على التشهير بمشروع كهذا المشروع لا يختلف في نفعه رأيان، ولكن الحجة التي لا يسندها الرأي قد تسندها حروف المواثيق المطوية في أضابير الديوان، وليس في تلك المواثيق نص على المباخر الصحية، ولا على دروس التربية الاجتماعية، وليس لكل مسجد وقف محبوس عليه يكفي لمرتب الإمام العالم وتكاليف الدراسة العامة، وقد يجوز للناظر على الأوقاف عامة أن يرصد تكاليفها جملة ولا يفرقها أجزاء ينفصل بعضها عن بعض بإداراته والإشراف عليه، ويجوز له أن يتمم النفقة على المسجد بالنفقة على سائر الخيرات التي لم يقيدها الواقفون بوجه من وجوه الإنفاق غير وجوه الإحسان، ولكن الناظر العام على الأوقاف يصنع ذلك إذا كان من همه أن يصنع الخير حيثما السبيل وجد إليه، ولكنه يقف عند كل حرف من حروف الحجج المطوية إذا كان من همه غير ذلك، أو كان من همه - على عكس ذلك - أن يغلق الباب دون كل مشروع من هذه المشروعات العامة تتحول إليه مصارف الأوقاف وتخرج بذلك من قبضة يديه. وقد كان القاضي الأكبر في القاهرة لذلك الحين يتولى منصبه بالإرادة السلطانية من دار الخلافة العثمانية، وكان ينقم على المفتي رأيه في استقلال مصر عن السيادة التركية، وينقم عليه فوق ذلك مكانته في البلاد الإسلامية، وهو في رأي نفسه أولى بتلك المكانة من مفتي القاهرة التابعة لمقر الخلافة في الآستانة، فلم يكن أيسر من حمله على الحكم بمخالفة المشروع لشروط النظارة واحتجاجه على تنفيذه بغير إذن من صاحب الولاية الشرعية، ولم تكن شئون المساجد مما يعرض على الوكالة البريطانية؛ لأنها من صميم المسائل الدينية التي تعهدت باجتناب المساس بها فيما أعلنته من سياستها العامة، ولكن ولي الأمر الشرعي أرسل اللائحة إلى دار الوكالة، ثم أبلغها احتجاج القاضي الأكبر عليها، وأراد مرة أخرى أن يأباه الدين ويخشى أن يعرضه لاستنكار دار الخلافة وتدخل الوكالة البريطانية! •••
أما الرجل المغضوب عليه؛ لأنه مصاب بداء الإصلاح ... فقد لاحقه ذلك الداء العضال إلى عقر داره بعين شمس، ففارق الجامعة الأزهرية وهو يفكر في خطته الأولى التي اقترحها على أستاذه السيد جمال الدين في مقتبل صباه، وراح يعد العدة لافتتاح مدرسته إلى جوار بيته لتخريج الدعاة ورسل الإصلاح ممن يتقبل دعوته ويؤمن بمقاصده، وتمت العدة لذلك، أو كادت، لو لم تدركه المنية قبل موسم العمل، فقضى نحبه صيف ذلك العام بعد اعتزاله إدارة الأزهر بثلاثة أشهر.
الفصل الحادي عشر
مع عباس الثاني
في سيرة محمد عبده شخصان مهمان كان لكل منهما أثر كبير يفرد بالكتابة عنه في تاريخ حياته العملية، هما: جمال الدين الأفغاني وقد تقدم الكلام على أثر التعاون بينهما في دعوة الإصلاح وحركة النهضة، وعباس حلمي الثاني خديو مصر بعد الاحتلال البريطاني، وسنقصر الكلام عليه في هذا الفصل ملتزمين فيه ما يستطاع من الإيجاز.
كان جمال الدين مثلا للقوة المؤيدة الموجبة، وكان عباس الثاني مثلا للقوة المعطلة السالبة؛ أولاهما قوة روحية مستمدة من عظمة الأستاذ وعظمة تلميذه في وقت واحد، وثانيتهما قوة مادية مستمدة من سلطان المنصب وظروف السياسة، يكاد الذكاء في صاحبها أن يكون لغوا لا يذكر فيما يعنينا من هذه السيرة؛ لأنه لا يقدم ولا يؤخر في مركز الحكم الذي يستعين به الحاكم على المقاومة والتعطيل، فكل حاكم في مركز عباس الثاني كان مستطيعا أن يصنع ما صنعه في خصومته للأستاذ الإمام. •••
جلس عباس حلمي على الأريكة الخديوية بعد أبيه «محمد توفيق» خديو الثورة العرابية، وبعد جده إسماعيل الذي عزلته دول الرقابة الثنائية - إنجلترا وفرنسا - بموافقة السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية على البلاد.
وكان دون الثامنة عشرة حين توفي أبوه، فوجب أن تفرض عليه الوصاية إلى أن يبلغ سن الولاية، وكان السلطان العثماني هو «صاحب الاختصاص» باختيار الوصي أو الأوصياء، ولكن المحتلين تدخلوا في الأمر، واحتالوا على اتقاء هذا الإشراف الفعلي على الدولة المصرية، فحسبوا السنين بالحساب الهجري رعاية لدين الأمير ودين الخليفة، وانحلت الأزمة على هذا النحو حلا يرضاه الأمير ويبغضه؛ لأنه يعفيه من الوصاية ويثبت له غلبة النفوذ البريطاني على شئون السياسة العليا في بلاده.
جلس على عرشه وهو مقسم النفس بين هذين الشعورين، ولكنهما في الواقع ينتهيان إلى شعور واحد بسطوة الاحتلال وافتياته على حقوقه وحقوق الدولة التي يتلقى أمر التعيين «فرماناتها الشاهانية».
وملكته حماسة السن بين الحذر والاندفاع، فغلبت في نفسه الفتية نزعة التحدي على نزعة الحذر، وواجه المحتلين بالمعارضة التي لم يألفوها من أبيه بعد اعترافه لهم بحماية عرشه، فأقبل عليه أنصار الحركة الوطنية من المتطرفين والمعتدلين، وحف به أبناء الجيل الجديد من أنداده في السن ومن الشبان الذين يكبرونه سنا، ولكنهم لم يشهدوا صدمة الاحتلال ولم يحتملوا خيبة الثورة العرابية.
وكان للأمير الشاب رأي صائب في الثورة العرابية، وفي مسلك أبيه معها ومع المحتلين.
كان بطبيعة الحال ينفر من الثوار ويسميهم بالعصاة كما يسميهم جميع أبناء بيته، ولكنه كان يتقبل العذر من بعضهم؛ لأنه كان لا يبرئ أباه من بعض الخطأ ومن بعض الضعف في علاج الثورة وعلاج الأزمات الأجنبية، وكثيرا ما سمع في بداءة حكمه وهو يسخر من أبيه تلك السخرية التي عابها عليه لورد كرومر في كتابه عنه، ويقول لمحدثيه: سامح الله الوالد الطيب، لو كنت في مكانه لما فعلت هذا ... أو لو كنت في مكانه لما سمحت لنفسي بذاك!
ورأيه هذا في أبيه هو الذي أنساه ممالأة الشيخ محمد عبده للثورة في دورها الأخير، ورغبته في الاطلاع على تاريخ لتلك الثورة يكتبه رجل يعرف أخطاء الثوار ويعرف أخطاء ولي الأمر، عسى أن يستفيد لنفسه من تجربة الحوادث التي عرضت أباه للثورة، وعرضته وعرضت الثوار معه لكارثة الاحتلال.
وفي إحدى المقابلات التي لم تكن قليلة بينه وبين الشيخ محمد عبده، شكا الأمير للشيخ ما يلقاه من عنت المحتلين وحجرهم عليه وعلى وزرائه، ووقوفهم دون ما يرجوه لبلده من الخير والقوة، فاغتنم الشيخ هذه الفرصة السانحة وذكره بما يستطيعه من أسباب الخير والقوة معا في المعاهد التي له الولاية عليها ولا ولاية عليها للمحتلين، وهي معاهد الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، فراقه حديث الشيخ وكلفه أن يعود إليه بشرح مستفيض لوجوه الإصلاح المطلوب، وانتقل برنامج الإصلاح فعلا من تلك الفتوى المهملة - فتوى الشيخ الإنباني - إلى العمل الحثيث على تنفيذ مطالب الإصلاح الأزهري في الإدارة والتعليم، ومضى العاملون في عملهم الناجح بضع سنوات، تغيرت فيها سياسة الخديو مع المحتلين، فلقي منه المصلحون شر ما يلقاه دعاة التقدم من دعاة النكسة والجمود.
وتبين بعد الوقعة الكبرى بين عباس الثاني والمحتلين أن النزاع كله فيما بينهم إنما كان نزاعا على نفوذ الحكم، ولم يكن نزاعا على حقوق الأمة ولا على مبادئ القضية الوطنية، وأن عباسا كتوفيق، وإسماعيل من قبله، ينازعون السيطرة الأجنبية باسم الأمة تارة واسم الحقوق الدستورية تارة أخرى، ولا يعنيهم في الواقع إلا أن يستبدلوا سيطرة في أيديهم بسيطرة في أيدي الدول الأجنبية، ومن طلب منهم الحكم النيابي وشجع الأحرار من رعيته على طلبه، فإنما يتخذ الحكم النيابة حجة على الدولة البريطانية عند شعوبها؛ لأنها تؤمن به في بلادها، ويلتمس من وراء ذلك أن يحكم من وراء النواب والوزراء ويستعيد لنفسه كل سلطانه المحدود، أو يستعيد القليل من الكثير في مسائل التولية والعزل، ومسائل الصرف والمنع على الخصوص.
وقد جرب طلاب الدستور أساليب إسماعيل وتوفيق في هذه المناورات، ثم جربوا أساليب عباس بعدهما فتكشف لهم عن ولع بالاستبداد في عباس لم يتكشف لهم مثله من أبيه وجده؛ لأنه لم يكد يظفر بقليل من السلطان على عهد سياسة الوفاق بعد عزل لورد كرومر، حتى انقلب على شيعته وشيعة الحركة الدستورية، فساقهم إلى السجن واحدا بعد واحد، ثم ألجأهم إلى المنفى باختيارهم فرارا من السجن والمصادرة.
ولاح له شبح العزل بعد الوقعة الكبرى بينه وبين المحتلين، فقنع بالقليل الميسور، واستعاض عن وفرة السلطان بوفرة المال يتهافت عليه حيثما وجد السبيل إليه، بل ظهر للأمة قصارى أمله من المحتلين بتسمية الحزب الذي ينتمي إليه ويرصد صحيفته للدفاع عنه في جميع أطواره وتقلباته ... فقد سماه «حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية»؛ إيذانا للمحتلين بالتسليم لهم بدعوى الإصلاح، والقناعة منهم بالمبادئ الدستورية دون الدستور الكامل على أساس سلطة الأمة، ولم تذكر في عنوان الحزب كلمة عن الاستقلال ولا عن الحرية الوطنية، كأنهما على الأقل مطلب مؤجل إلى ما بعد الفراغ من إصلاح الأداة الحكومية، الذي ارتهن به المحتلون موعد الجلاء ... فلا جلاء إذن وفي الأداة الحكومية خلل يأخذونه ويدعون على هواهم أنه لا يزال بحاجة إلى الإصلاح. •••
وقد أشرنا إلى الوقعة الكبرى التي كانت نقطة التحول في سياسة الخديو عباس الثاني مع المحتلين، فنذكر في هذا السياق أنها هي الحادثة التي اشتهرت بحادثة الحدود، واصطدم فيها الخديو بسردار الجيش المصري - الجنرال كتشنر المشهور - لأنه صرح للسردار بانتقاده لحركات الفرق العسكرية ، ووجه انتقاده - على الأكثر - إلى الفرق التي يقودها الضباط الإنجليز؛ فاستقال السردار وطلبت الوكالة البريطانية ترتضيه، واضطر الخديو إلى استرداد كلماته وتوجيه ثنائه إلى الفرق التي أعلن انتقادها عند عرض الجيش على الحدود، ففعل راغما وهو يعتقد أنه نجا من خطر العزل بقبول هذا الإرغام.
حدث هذا في أوائل سنة 1894، وقبل نهاية السنة كان الشيخ محمد عبده على اتصال بالخديو يزوره في قصر عابدين - مقر العمل الرسمي - تارة، ويدعى لزيارته أحيانا في قصري القبة والمنتزه حيث يقضي سائر أوقاته في أعماله غير الرسمية، وكان يصحبه في مبدأ هذا الاتصال محمد ماهر باشا الذي كان يدعى يومئذ ببطل حادثة الحدود؛ لأنه كان وكيلا لنظارة الحربية، وكان على نزاع دائم مع السردار حول اختصاص الوكيل والقائد العام في شئون الجيش وإدارة الاستعلامات السرية، وقد اصطحبه الخديو في رحلته إلى الحدود، وشاع بعد ذلك أن الجنرال كتشنر تعمد خلق الأزمة والتهويل فيها؛ لأنه غضب من اصطحاب الخديو لخصمه واعتبره انتصارا له عليه ... فبيت النية على خلق الأزمة التي تزج بالدولة البريطانية في الخلاف بينه وبين الوكيل، والتسليم له بالرأي النافذ في الجيش وفي ديوان الوزارة.
قال «أحمد شفيق باشا» في مذكراته وهو من رجال الحاشية الخديوية، وكان في صحبة الخديو أثناء هذه الرحلة: «ترجع حركة الإصلاح الحديثة في الأزهر إلى أواخر سنة 1894، وذلك أن الشيخ محمد عبده لما رأى من عباس جرأته وجهاده للأخذ بناصية الحكم والحد من تدخل الإنجليز، مال إليه وتقرب منه بواسطة محمد ماهر باشا، فاستقبله عباس بترحاب وعطف ومال إليه أيضا لما أنسه فيه من صدق الوطنية وأصالة الرأي، وتقابلا مرارا بصفة غير رسمية في عابدين والقبة والمنتزه، وتحدثا فيما يمكن عمله من خدمة الوطن وتحقيق أمانيه، فاقترح الشيخ عليه أن هناك ثلاث نواح لا تزال بعيدة عن تدخل الإنجليز، ولا يعارضون الخديو في العمل لإصلاحها؛ لأنها دينية محضة، وهي الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وأشار على سموه أن يبدأ بإصلاح الأزهر، واتفقا على أن يقدم الشيخ إلى سموه مذكرة بما يراه من وجوه الإصلاح.»
وكتب الشيخ محمد عبده المذكرة وانتهى البحث فيها إلى تأليف مجلس الإدارة من خمسة أعضاء، ثلاثة منهم هم أكبر علماء المذاهب في الأزهر، وهم: الشيخ سليم البشري المالكي، والشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، والشيخ يوسف الحنبلي، والعضوان الآخران هما الشيخ عبد الكريم سلمان، والشيخ محمد عبده من العلماء المعينين لوظائف الحكومة.
ولكن الشيخ عبد الرحمن الشربيني أنكر مبدأ الإصلاح من أساسه، فاستقال قبل شروع المجلس في عمله، ولم يقبل بعد ذلك عملا في إدارة الأزهر إلا بعد إجماع النية على إقصاء الشيخ محمد عبده عن مجلس الإدارة والعودة بالأزهر إلى منهجه القديم، فاختاره الخديو لمشيخة الأزهر - كما تقدم - على هذه النية.
تلك كانت قصة الملتقى التاريخي بين أعظم رجلين في مصر لذلك الحين؛ أعظم رجل في مصر بعرشه الموروث وولايته الشرعية وحقوقه الرسمية، وأعظم رجل في مصر برجاحة لبه ومتانة خلقه وعلو همته وصدق غيرته على حرية وطنه والنهوض بأمته.
أراد الأمير بتقريب الشيخ إليه أن يستعين به على تعويض السلطة التي انتزعها الإنجليز منه بسلطة في مجاله المأمون لا تمتد إليها يد الإنجليز، وأن يقيم الحجة عليهم في دعواهم التي يلهجون بها ويتذرعون بها لتسويغ رقابتهم على دواوين الحكومة وإطالة أمد الاحتلال، وهي دعوى الإصلاح، فإن الإدارة التي تنقل الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية من الفوضى إلى النظام لا تعجز عن إصلاح ديوان من دواوين الحكومة قديم عهد بالنظام «العصري»، مهما يعرض له من عوارض الاحتلال.
وأراد الشيخ بالتقرب إلى الأمير أن يسند ولي الأمر في محنته مع السلطة الأجنبية، وأن يستفيد من رغبته في العمل سندا للمصلحين وعونا له على رسالته المرجوة من قديم، وليس بين يديه - بعد عودته من منفاه - مجال أنفع من هذا المجال من طريق الإيمان الصادق والتعليم المفيد. •••
ولكن الخديو لم ينس حب السلطة الذي ساقه - في الحقيقة - إلى طريق الإصلاح في هذا المجال الواسع، ولم يلبث أن علم أن رجلا كالشيخ محمد عبده جدير أن يعينه في كل مهمة من مهام هذا العمل الكبير، إلا أن يكون عونا له على تسخير الأزهر ومحاكم الشرع ومرافق الأوقاف للسلطة التي تفعل ما تشاء؛ لأنها خلصت في هذا الجانب من قيود المحتلين.
واشتد طغيان هذه الآفة على نفس الأمير بعد اضطراره إلى مصانعة المحتلين؛ فإنه أراد له مجالا لا يلجأ فيه إلى مصانعة أحد من رعاياه المسخرين له من باب أولى، ولجت به هذه الآفة لجاجها المخيف حين زين له فقدان السلطة أن يتهافت على جمع المال من كل مورد مفتوح بين يديه، ووجد هذا المورد مفتوحا على مصراعيه في خزائن الأوقاف ووصايا التركات، وفي احتكار السيطرة على المحاكم الشرعية التي يتخرج قضاتها من بين يديه.
ولم تمض فترة التمهيد للإصلاح والتنظيم في مجال الدواوين الدينية حتى كان للخديو مسلك آخر مع الشيخ محمد عبده وأعوانه ومريديه، فهو يستبقيه للانتفاع بقدرته وشجاعته، بل للاحتماء بمكانته الدينية أحيانا في وجه السلطة الأجنبية، ولكنه يحاذر أن يسلمه زمام التصريف والتدبير في مركز من مراكز الأزهر المستقلة ... فتخطاه في التعيين لمشيخة الأزهر مرتين، وكان ترشيحه لمنصب الإفتاء في الواقع حيلة مستورة لإبعاده عن المشيخة، وهو أجدر بها وأقدر على الإصلاح فيها من كل من تولاها على عهد الخديو عباس، وهو أعرف برجحانه عليهم من سواه.
وسر آخر بعيد جدا من هذا المجال يرجع إليه هذا المسلك المتبدل من جانب الأمير، فإنه كان يطمح إلى الخلافة ويريد أن يستمد من سمعة الأزهر وعلمائه في العالم الإسلامي سندا دينيا يرجحه على أمراء المسلمين الذين ينفسونها على السلاطين العثمانيين، وكان يرجو من مصانعة المحتلين أحيانا أن يعاونوه بالسند السياسي، وأن يؤيدهم في المحيط الدولي بيت سفوا الإيطالي صديق الأسرة العلوية القديم، ومصلحته في ترشيح الخليفة المصري أن تدين له اليمن وشواطئ البحر الأحمر؛ لأنه صديق الخليفة المطاع، ولا يأبى المحتلون هذه المصلحة للدولة الإيطالية؛ لأنها دخلت معهم في المساومة على أملاك الدولة العثمانية، واتفقت معهم على نصيبها من المستعمرات: اليمن وأريتريا والصومال، فضلا عن مصلحة الدولة البريطانية بين مسلمي الهند وغيرهم في قيام الخلافة في بلد يهيمنون عليه، ولم يغفل عبد الحميد - باقعة آل عثمان - عن هذه المساعي الخفية، بل فطن لها واحتجز عنده جمال الدين الأفغاني لكيلا يعود إلى القاهرة ويؤيد هذه الحركة بنفوذه ونفوذ تلاميذه من المصريين والشرقيين، وحدث لما قام الخديو عباس بزيارة دار الخلافة للمرة الأولى أنه التقى هناك بجمال الدين، فاستدعى هذا إليه على الأثر وسأله: أتريد أن تجعلها عباسية؟ يريد أنه يتآمر مع الخديو على إسناد الخلافة إليه، فكان جواب السيد: إن الخلافة ليست خاتما في يدي أضعه في أصبع من أشاء. ولم يفقد عباس الأمل في الخلافة بتأييد جمال الدين أو غير جمال الدين، ولم يخف عليه أن «محمد عبده» هو زميل جمال الدين في سمعته العالمية بين المسلمين، ولكنه علم بعد ذلك موضع الخلاف بين جمال الدين ومحمد عبده في خطة السياسة، وأن هذه الجهود السياسية حول الخلافة وما شابهها لا تجري مع برنامج عمله، وليست مما يصرفه عن خطة الإصلاح من طريق التربية والتعليم متى وجد السبيل إليها، فيئس من موافقته على هذا المسعى، وكاد أن يحسبه عقبة يتخطاها قبل توطين النفس على نجاحه بموافقة سواه. •••
ولا نسهب في إحصاء حوادث الخلاف التي تتابعت بين الخديو والمفتي، واستحكم من أجلها الجفاء في النهاية بين هذين الرجلين اللذين خلقا للتعاون في هذا المجال الواسع لو كان للتعاون محل بين الاستبداد والعمل المستقيم، فإن من حوادث تلك السنين سفاسف وصغائر لا جدوى من تعدادها، ومنها دسائس ومكايد ليس أيسر من المواربة فيها، ولكننا نذكر منها ما يدل على طبيعتها التي يأباها كل إصلاح، ولا ينتظر من رجل ذي خلق وكرامة أن يغضي عنها أو يترخص بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الناس في قبولها.
فالخديو كان ينفق من أموال الأوقاف العامة على أوقاف أسرته وعلى مزارعه الخاصة، فكف يده عن ذلك فصل الحسابين ومراجعة المجلس للمصارف والموارد في «ميزانية الديوان» ... ولجأ إلى الحيلة - مع تشديد الرقابة على الميزانية - فاصطنع طريقة الاستبدال لحمل الديوان على إقامة المباني وتعمير الأرض البور ، وعرضها بعد ذلك للمبادلة بينها وبين مزارعه التي لا تساويها في القيمة ولا في الجودة، وكان أشهر هذه الصفقات صفقة أرض «مشتهر» وأرض ديوان الأوقاف التي أعدت للبيع في الجيزة بثمن أرض البناء، وفرق ما بينهما من الثمن لا يقل عن ثلاثين ألف جنيه، وظاهر الأمر أنها مبادلة بين مسيو اسمه زرفرداكي اليوناني الذي عرض على الديوان مزرعة مشتهرة باسمه وقسم المباني في الديوان، ولسوء حظ الخديو أن موظفا من كبار موظفيه في القصر كان مندوبا عن ولي الأمر بالمجلس الأعلى، فكان رأيه كرأي المفتي في هذه الصفقة وآراء الخبراء المختصين بتقدير المبادلات، وثبت من معاينتهم أن هناك نقصا في تقدير أحد البدلين، وزيادة في تقدير البدل الآخر تبلغ جملتها خمسين ألف جنيه، فغضب الخديو على موظفه الكبير وعزله من خدمته؛ لأنه لا يسأل عن سبب عزل الموظفين في ديوانه، ولكنه لم يستطع عزل المفتي لهذا السبب، ولا كان في حدود سلطته القانونية أن يعزله لغير سبب، فتحمل الأسباب للسخط عليه في غير مسائل الصفقات التي يتحاشى أن تثار للقيل والقال.
وكادت أوامره في الأزهر أن تكون إلغاء تاما لقوانينه التي وضعت لترفيه أحواله، وصيانة الكرامة الواجبة لعلمائه، ومنع العبث بدرجاته العلمية ومراتبه الدينية، فلم تكن كساوي التشريفة لعلمائه بأسعد حظا من الرتب والنياشين التي كانت تباع في الأسواق بأسعارها المحدودة لكل درجة من درجاتها، سوى أن الرتب والنياشين تباع بالمال وكساوي التشريفة تباع بالخدمات والسعايات في سوق الدعاية أو سوق المتاجرة باسم الدين. وإن لمن أغرب الخواطر التي خطر للخديو أن يسوم المجلس عليها أن يرسل إلى أحد الأعضاء من يقترح عليه الاستقالة، ويأمر رئيس المجلس أن يطلب كسوة التشريفة من الدرجة الأولى لإمام قصره تمهيدا لتعيينه خلفا للعضو المستقيل، وبهذا يتطوع المجلس لتحويل هيئته الموقرة إلى أداة تجري أهواء الخديو ولباناته مجرى القوانين، وتحوي تبعاتها أمام الناس على الرغم من أنوف المخالفين له من الأعضاء، ولا يبقى بعد ذلك أعضاء ينتظر منهم الخلاف غير محمد عبده وصاحبه عبد الكريم سلمان، فلما تأخر صدور الطلب من شيخ المجلس بالإنعام على إمام القصر بالكسوة المطلوبة، قال له مؤنبا في محفل التشريفات: ألم آمرك بتوجيه كسوة التشريفة إلى إمام معيتي بدلا من الشيخ الذي ينوي أن يستقيل؟ فتلعثم شيخ الجامع، وبادر الشيخ محمد عبده إلى الجواب قائلا: إن المجلس إنما يعمل بالقانون الذي أصدره سموه، فإذا بدا لسموه أن ينقضه ليجري الإنعام بالكساوي العلمية على حسب رغبات سموه الشخصية، فهو صاحب الشأن في إصدار القانون بالنظام الجديد.
وأكبر الظن عندنا أن تفويت المنافع لم يلهب من ضرام الغيظ في نفس الأمير ما ألهبه هذا الجواب الصريح من مفتي الديار. ومن مفتي الديار هذا؟ إنه عند العالم الإسلامي أكبر مقام ديني علمي في زمانه، ولكنه عند الأمير لا يعدو أن يكون فلاحا بين ألوف الألوف من أولئك العبيد الأرقاء، الذين خلقوا للسمع والطاعة عند كل أمر وكل سؤال.
وإذا صح أن يكون ضرام الغيظ عذرا للمتسلط المستبد المغلوب على استبداده، فهذا هو العذر الذي قد يفسر ذلك الإسفاف الذي هبط بالأمير إلى الدرك الأسفل في حقده على ذلك الفلاح الجريء واستباحة ما لا يستبيحه الكريم، ولا اللئيم العاقل، في الكيد له والسعي إلى إجلائه عن مقامه؛ مقامه في منصبه، ومقامه في أعين الناس بين مشارق الأرض ومغاربها، ولم يكن ليخفى عليه أنه كان أعظم مقام في بلاد الإسلام.
ولولا الحقد الذي يسلب المرء رشاده، لما سمح أمير في مركزه أن يخطب علانية ليجعل العمل على إنهاض المسلمين بالتعليم الصالح زيغا في العقيدة ومروقا من الدين، وليسند مشيخة الجامعة الإسلامية الكبرى إلى رجل يقول إن تعليم هذا العلم يمحو الدين ويزري بعلماء المسلمين.
ولولا هذا الحقد لما استباح لنفسه أن يحبط كل عمل لذلك المصلح الكبير، حتى العمل الذي جهد طول حياته لإبراء المسلمين من داء الخمول، وإنقاذهم من الأوهام التي تعوقهم عن اللحاق بجيرانهم في ركب الحضارة لسوء فهم الدين، واختلاق الموانع التي يزيفها الجامدون باسم الشرع المظلوم.
فقد كاد المسلمون الآسيويون أن ينعزلوا عن سكان أفريقيا الجنوبية، ويفقدوا وظائفهم وأشغالهم فيها لشيوع تلك الأوهام بينهم وكثرة المرجفين بالتحريم والتحليل بين أدعياء الدين فيهم، وقد تعاقبت على تلك البلاد هجرة المسلمين من الهنود والعرب واختلاطهم بأبنائها الأصلاء، فدخل في الإسلام طوعا ألوف من الأفريقيين السود؛ لما أنسوه من سماحة هذا الدين وسلامته من شوائب المحظورات التي تكثر في عباداتهم كما تكثر في عبادات بعض الأوروبيين والآسيويين، ثم حالت هذه الحال زمنا بعد ازدحام بالأوروبيين وخضوع أكثرها لحكوماتهم أو جماعات التبشير منهم، فتحرج المسلمون أنفسهم من مجاراة أولئك الغرباء الطارئين عليهم، وقعدت بهم وساوسهم الدينية عن كفاح الحياة معهم، تحرجا من مجاراة القوم في عاداتهم وأزيائهم، وخسر الإسلام زمنا ما كان يكسبه من سهولته وقلة قيوده في أحوال المعيشة قبل وفود الأوروبيين، فأعرض عنه أبناء البلاد الأصلاء، وهانت مخالفته على طلاب الرزق الذين تضطرهم مطالب العيش إلى مشاركة الأوروبيين وغير المسلمين الآسيويين في مرافق أعمالهم. من ذا الذي يقوى على زحام العيش في بيئة يخشى فيها أن يلبس القبعة، وأن يتناول الطعام من العلب المحفوظة، وأن يؤدي الصلاة في مسجد له إمام على غير مذهبه بين المذاهب الأربعة؟
هذه وأمثالها كانت عوائق المعيشة، بل عوائق التدين بالإسلام، في معترك الحياة بين المسلمين وجيرانهم من سكان أفريقيا الجنوبية والشرقية ... وفي هذه وأمثالها كانت أسئلة الاستفتاء تتوارد على مفتي الديار المصرية، فيجيب عنها وهو يعلم خطر الإجابة التي يجيب بها من يجهل ظروفها وعواقبها، وكانت إحدى هذه الفتاوى تلك الفتوى التي شغلت صحافة مصر، وصحافة العالم الإسلامي، عدة أشهر باسم فتوى الترنسفال، ونتيجتها في بضعة أسطر أن الشيخ المفتي أباح للمسلم أن يلبس القبعة، وأن يأكل من طعام أهل الكتاب كما ورد في القرآن الكريم، وأن يؤدي الصلاة وراء كل إمام يدين بالإسلام.
هذه هي الفتوى وهذه هي ظروفها وعواقبها التي نظر إليها مفتي مصر في إجابته عنها.
ولم يبح المفتي عادة واحدة كان يحرمها الخديو وحملة الأقلام الذين سخرهم في الحملة الشعواء على فتوى الترنسفال، فإنهم كانوا جميعا يلبسون القبعات، ويأكلون في المطاعم الأوروبية وفي بيوت الأجانب، ويغشون الولائم «الرسمية» وغير الرسمية داخل القطر المصري وخارجه، ومن شهد منهم صلوات الجمع فإنما كان يشهدها ومعه مئات من المسلمين من أتباع المذاهب الأربعة ... ولكن الفتوى عمل من أعمال المفتي يجب إحباطه والتشهير به وتنفير الناس منه مهما يكن في ذلك من الضرر بالإسلام والمسلمين، وقد يكون في ذلك إعراض الوطنيين السود عن الإسلام بعد إقبالهم عليه، وقد يكون فيه تعويق لجهاد المسلمين المهاجرين عن كفاح الحياة في أفريقيا الجنوبية مع سائر المهاجرين الذين تعفيهم عقائدهم من تلك القيود، وقد يكون فيه استخفاف المسلم بتكاليف دينه إذا ثقلت عليه في لبسه ومأكله وعبادته مع أبناء ملته ووطنه، وقد يكون فيه المساس بسمعة الدين بين أهل الحضارة، وتمثيله لهم في صورة العقبة المتحجرة التي تأبى على المسلم أن يجتمع على معيشة واحدة مع أبناء الحضارة الأوروبية ... وقد يكون فيه كل ذلك، بل كان فيه كل ذلك لو أفلح كيد المضللين كما أرادوه، لكن ماذا يعنيهم ذلك كله إذا اشتفت صدورهم من الرجل المغضوب عليه، وأفسدوا عليه عمله في خدمة الإسلام والمسلمين أو في خدمة ما يشاء من مقصد عام، ما داموا لا يجدون له مقاصد خاصة يفسدونها عليه؟
إلى هذا الحضيض أسفت جماعة الحملة على فتوى الترنسفال، ولا نظن أن نقل الكثير أو القليل من كلامهم الذي ملئوا به الصحف بضعة أشهر يزيد القارئ علما بمبلغ ذلك الإسفاف، فإن الاتجار باسم الدين هو عنوان عملهم الوضيع، وإنه لعنوان يغني عن أسوأ ما كتبوه تحته من كذب فاضح وهراء مرذول.
وأخس من هذا الكذب وهذا الهراء أن يسبوا عرض الرجل بالتهم التي يعلمون أنها باطل مختلق؛ لأنهم الذين اختلقوه وروجوه، فقد كان قراء الصحف المصورة لذلك العهد يجهلون الكثير عن صناعة التصوير الشمسي التي يعرفها اليوم عامة القراء، ويحسنها بعض هواة التصوير كما يحسنها الخبراء المختصون بتدبير المناظر للصحافة المصورة ... ومن أسرار تلك الصناعة التي كانت مجهولة يومئذ عند عامة القراء أن يلفق المصور رسما واحدا من ثلاثة رسوم أو أربعة متفرقات، فهذا التلفيق هو الذي توسلوا به إلى خداع العامة بصورة للمفتي في حلبة الرقص يخاصر فتاة إفرنجية وكلبها يعبث بأطراف جبته، ولو استطاعوا المبالغة في رص المحظورات جميعا في منظر واحد لتمموا هذا المنظر بكأس من الخمر وصحفة من لحم الخنزير، ولكنهم عجزوا عن جمعها، فاكتفوا من المحظورات بمحظور المفتي مع امرأة يغازلها ويراقصها ويصحبها كلبها في حلبة الرقص على غير المألوف في مراقص القوم، وخيل إليهم أنها ريبة لا تدفع، ودليل من أدلة الإثبات لا يدحض، ولكن الصورة أحيلت على التحقيق القضائي، فلم تثبت على امتحان الخبراء ولا على المعالجة بأدوات التحليل والتكبير، وأدين صاحب الصحيفة التي قبلت أن تنشرها لهم بين صحف الخلاعة التي سخروها لحملتهم، واسمها «حمارة منيتي» يغني عن المزيد في الدلالة عليها ... وإلى قصة هذه الصورة يشير اللقاني رحمه الله في بعض أبياته إذ يقول:
مكيدة لفقوها
بصورة مستعاره
دبروها وكانوا
بقبة الاستشاره
ولطخوا بعد هذا
بالطين وجه الحماره
ويعني بالقبة قصر الأمير المعروف؛ لأنهم دبروا فيه هذه التلفيقة وكاد سرها أن ينكشف بين أيدي القضاة والمحققين، لولا ضرورة التستر على مقام الأمير المهدد بهذه الفضيحة.
ودون هذا الحضيض من الابتذال في حق أمير يهدده الاحتلال في كرامة عرشه أن يذهب في مساومة المحتلين إلى حد الاعتراف باحتلال بلاده، واستعراض الجيش المحتل في ساحة قصره، والوقوف تحت العلم البريطاني يوم الاحتفال بعيد ملك الإنجليز؛ تزلفا منه إلى العميد البريطاني ليغضي عن تصرفه بالوظائف الحكومية التي تحده القوانين عن محاسبة موظفيها بغير إدانة يثبتها التحقيق، ومنها وظائف المندوبين الحكوميين بمجلس إدارة الأزهر، ووظيفة الإفتاء التي يصدر بها قرار التعيين والعزل من وزارة الحقانية.
وكانت مجلة المنار التي تنشر فتاوى المفتي هي الصحيفة الوحيدة التي انتقدت هذا المسلك المعيب، فكان الجواب عليها من سماسرة الحملة على فتوى الترنسفال سيلا من الشتائم والمغالطات، وتمجيدا لموقف الأمير تحت الراية البريطانية يوشك أن يحسبه فتحا له من فتوح الوطنية والاستقلال، وعلى هذا النحو كتب كاتبهم في صحيفة المؤيد يقول «أولا» عن مجلة المنار: «إن صاحبها يملؤها بالاختلاقات الشرعية.» ثم يقول:
لم يدر صاحب جريدة المنار - الذي إن خرج عن مدار بحثه ضل، وإن دخل في غيره ذل - أن الجناب العالي وقف تحت ذلك العلم بحضرة جلالة الملك إدوارد السابع ملك الإنكليز وإمبراطور الهند، ولم يكن جناب اللورد كرومر في ذلك الموقف إلا صورة من صورة الملك التي يمثله بها في هذا اليوم مائة قائد فوق كرة الأرض ... وينكر صاحب المنار استعراض الجناب العالي لعساكر جيش الاحتلال مشيرا إلى اكتفاء المغفور له الخديو السابق بالإشراف عليه من نوافذ القصر، كأنه لم يدر أن مولانا الخديو الحالي - حفظه الله - عسكري النشأة، يرتدي في الأعياد والمواسم الكسوة العسكرية، وهو عالم بدقائق الحركات الحربية بحيث لو أخذ بيده قيادة جيش جرار لكان من أمهر قادة عصره. وماذا يريد بقوله: وقف الجناب العالي تحت العلم الإنكليزي في أول يوم من شهر الصيام؟ وأي دخل للأيام والأيام إخوة والليالي أخوات، ولم يعلم بأن مائة مليون من المسلمين يحيون هذا العلم في ذلك اليوم يوم الاستعراض.
ولم تشذ عن خدمة الدسائس الخديوية في هذه الحرب الشائنة بينه وبين المفتي صحيفة واحدة من الصحف التي كانت تنعت نفسها بنعت الوطنية، بين متطرفة ومعتدلة أو محافظة على القديم وغالبة في المطالبة بالجديد ... وبلغ الكتاب أجله واستقال الشيخ محمد عبده من مجلس الإدارة، وجيء بأعداء العلوم الحديثة شيوخا للجامعة الإسلامية، ومدبرين لنظام الإدارة والتعليم فيها، فانتظم المتطرفون والمعتدلون صفا واحدا في الثناء على أعداء الإصلاح والشماتة بالمفتي المستقيل، وراح أشد هذه الصحف تطرفا يقول إنه تأخر في الاستقالة؛ لأنه كان من الواجب عليه أن يتخلى عن عمله منذ علم أن «ولي الأمر» متغير عليه.
وليس هؤلاء الصحفيون من الغباء بحيث يجهلون حكم الفضلاء عليهم وحكم التاريخ من بعدهم، إذا علم الناس أنهم في القرن العشرين يستنكرون التعليم الحديث باسم الدين، فنقلوا المسألة بحذافيرها من حرب بين الإصلاح واللصوصية إلى حرب بين المفتي والسلطة الشرعية، وحسبوا عجز الخديو عن فصل الموظف الكبير بغير محاكمة تأديبية دليلا على تأييد الاحتلال الأجنبي لذلك الموظف الكبير، ومثله في حماية القانون ونظام الدواوين لهم ألوف الموظفين.
أما المسألة بحذافيرها في وضعها الصحيح، فهي أن المفتي لم ينتفع بحقه في وظيفته لجر منفعة شخصية، أو ترويج سياسة بريطانية، أو التفريط في حق من الحقوق الوطنية، فإذا كان سماسرة القصر يريدون أن يقولوا إن إصلاحه للتعليم وتطهيره للدواوين ونهوضه بأبناء وطنه وأبناء دينه عمل يوافق الاحتلال ولا يوافق الوطنية، فذلك هو الخزي الأكبر لمن يفتريه؛ لأنه يدمغ الوطنية بميسم الهوان، ويدعي للاحتلال فضلا يسقط حجة الوطني عليه ولا يطمع في ادعائه بألسنة مأجوريه.
وإنما الخيانة للوطن ذلك الجرم المهين الذين أقدم عليه الخديو، ودافعوا عنه دفاع المستميت يوم وقف تحت العلم البريطاني ليحيي جيش الاحتلال، وأقبح منه في الإجرام أن يقترف هذه الجريمة في حق وطنه وحق عرشه، ليتوسل بها إلى حمل الإنجليز على الإغضاء عنه حين يتعرض لوظائف الحكومة التي يحميها القانون، وأقبح من كل هذا أن يكون هم الأمير من التعرض لتلك الوظائف خيانة الأمانة، وسلب المال الحرام، وتلويث موظفيه الكبار بلوثة الجبن والاختلاس، أما الموظف الذي يعمل في تلك الوظيفة ما يشرفه ويشرف أبناء وطنه ودينه، فلا جناح عليه أن يحسن ويسيء الأمير وتابعوه، وإنما يسيئون إلى أقدس المقدسات من حرمات الحق والفضيلة. •••
ولسنا في مقام الموازنة بين وطنية محمد عبده ووطنية عباس الثاني وسماسرة قصره، فإننا بهذه الموازنة نهبط بقدر الرجل العظيم الذي لا نعرف في زمانه قدرا أحق من قدره بالتشريف والإكبار، ولكننا نزيد هذا الشرف بيانا لمن يجهلونه بمثل من أمثلة كثيرة لمواقفه إلى جانب الخديو حين يعتدي عليه المحتلون، وحين ينظر الخديو حوله فلا يرى له سندا أقدر على حمايته من مكانة الشيخ في العالم الإسلامي، ومن شجاعته التي لا يعنيها إغضاب الإنجليز منه، وهو لا يأمن عضب الأمير عليه.
ونحن في هذا الكتاب الموجز لا نملك الإسهاب حيث يغنينا الإيجاز المفيد، وحسبنا - على قاعدتنا هذه - حادث واحد هو الذي استهدف فيه الخديو لأشنع إهانة تلحق بصاحب عرش من العروش في بلاده، وهو حادث ليون فهمي الذي أدى إلى صدور الأمر من الوكالة البريطانية بتفتيش قصر رأس التين، بحثا عن ليون فهمي هذا لاتهام الإنجليز إياه بقتله في قصره أو إخفائه هناك لتقييده ونقله على الرغم منه إلى الآستانة إجابة لطلب «المابين»، أو قصر السلطان عبد الحميد.
يومئذ لجأ الأمير إلى حمى الشيخ وصائب رأيه، فلباه ورجاه أولا أن يستوثق من خلو القصر ويخت المحروسة من ذلك الطريد العثماني إن كان حقا مقبوضا عليه، ثم أشار عليه بأن يكتب بلاغا إلى معتمدي جميع الدول المعترفين باستقلال مصر بأن السلطة المحتلة تعتدي على حرم قصره، وأن يبلغ المحتلين في الوقت نفسه أنه يفعل ذلك إذا هم اجترءوا على تنفيذ أمر التفتيش؛ فتراجع الإنجليز حذرا من إثارة هذه القضية الدولية بطلب من صاحب السلطة الشرعية، ويقينا بأن «المابين» العثماني يؤيد هذا الطلب الذي وجهه الأمير إلى الدول بسببه، ويقينا من الجهة الأخرى بتأييد الرأي المحترم من أبناء البلاد لأميرهم وعلى رأسهم مفتي الديار الذي يهابون اجتماع فتواه الدينية إلى جانب الوثائق القانونية، واعتقادا منهم أن الأمير لا يهددهم هذا التهديد وفي قصره ذلك الطريد الذي يبحثون عنه. •••
وفي ختام هذا الفصل ننشر بعض الفقرات من خطاب الخديو إلى موظفه الكبير أحمد شفيق باشا، حين علم أنه مشى في جنازة المفتي مع كبار المشيعين ... فبعد أن سمح أدب العرش لذلك الأمير المسكين أن يقول عن فخر وطنه بعد وفاته - لو كان يعقل: «إنها جنازة حارة والميت كلب.» مضى يقول:
يظهر - والله أعلم - أنكم أردتم بالسير وراء نعشه المجاملة بعد الموت، وهو على ما تعهدونه عدو الله، وعدو النبي، وعدو الدين، وعدو الأمير، وعدو العلماء، وعدو المسلمين، وعدو أهله، بل وعدو نفسه، فلم هذه المجاملة؟
إن هذا الانتقال من أخلاق الفلاح محمد عبده إلى أخلاق الأمير عباس الثاني مفاجأة شديدة الوقع على النفوس الآدمية التي ينتمي إليها الفلاحون كما ينتمي إليها الأمراء، ولكنه في ختام هذا الفصل أصدق من تسويد الصفحات بأشتات الوقائع والأخبار، وصنوف الدسائس والوشايات، للدلالة على كنه الخلاف بين الرجلين، وعلى طبيعة تلك العداوة المزرية وطبائع خدامها الذين باعوا ضمائرهم في سوق المنافع، أو فيما هو شر من سوق المنافع؛ سوق الحسد البغيض والغرور الباطل.
وقد ذهب محمد عبده وعباس الثاني إلى ذمة التاريخ، ولحقت بهما الأسرة الخديوية بقضها وقضيضها، ومعها منافعها التي تباع الضمائر من أجلها، ولكن باعة الضمائر هؤلاء هم أسلاف في النسب أو أسلاف في العمل لخلفائهم الذين عاشوا ويعيشون بعدهم إلى هذه الأيام، وحاجتهم إلى مداراة أنفسهم كحاجة أسلافهم في زمانهم، كلما أعيد القول في قضايا الإصلاح وقضايا الجهاد عادوا إلى الستار القديم يتوارون خلفه، وأعادوا معاذيرهم تهما للمخلصين وتبديلا لوقائع التاريخ وافتياتا على الوطن والدين، وسيماهم على وجوه صفحاتهم لا تخفى على الناظرين.
الفصل الثاني عشر
المحسن المعلم
إن الإحسان إلى ذوي الحاجات فضيلة من أشرف فضائل العظمة الإنسانية وأقربها إلى الصفات الإلهية؛ لأنها قوة في العظيم تعمل عملها في إعانة الضعيف ولا تعمل عملها في إذلاله وإرغامه، على ديدن العظمة التي قد توصف بأنها قوة فرد عظيم، ولكنها لا تنسب إلى الإنسانية ولا تسمو إلى مقاربة الصفات الإلهية.
وقد كان الإحسان إلى المعوزين والضعفاء أول صفة من صفات الأستاذ الإمام، يعرفها من يعاشرونه في معيشته، ولا تقتصر معرفتهم به على المعرفة بأعماله العامة، ولكننا - على حبنا للأستاذ الإمام من أجل هذه الفضيلة بعينها - نكاد نستصغرها في كتابة سيرته؛ لأن إطعام هذا الجائع وإغاثة هذا الملهوف، وتلبية الرجاء من ذلك الطالب، وإسداء المال الميسور إلى ذلك الفقير؛ كل أولئك خير وبر وكرم، ولكنه - في النهاية - بر من واحد إلى آحاد، لا يكاد يذكر إلى جانب ذلك الخير العميم الذي نرى من أعمال الرجل في جملتها أنه يغدقه على الدنيا بكل ما أوتي من قدرة وهمة ومضاء، وأنه يدأب نهاره وليله ولا يكاد يفرغ لنفسه ساعة من النهار والليل وهو يفكر في ذلك الخير، ويعمل لذلك الخير، ويسعد ويشقى في سبيل ذلك الخير، ولا يقنعه منه أن يختص به محتاجا إلى المعونة أو شاكيا من الظلم، إلا أن يكون خيرا للأمم، وخيرا للعاملين، وخيرا لتوفير السعادة الإنسانية التي لا يخطر بباله وهو يدأب لها أنه يستثني منها أحدا من بني آدم وحواء.
وخصلة أخرى يحسب الناظر إلى إحسان هذا الرجل أنها خليقة أن تغض من فضله في هذه الفضيلة العالية، وتلك هي صدورها منه كما تصدر الدوافع الضرورية التي تملك على الإنسان مشيئته ولا تكاد تبقي له مشيئة يملكها بها أو يقاومها فيها، فإن دوافع الإحسان في نفس هذا العظيم الكريم أشبه شيء بدافع الحنان في نفس الأب الرحيم، وأي فضل للأب الرحيم في عطفه على طفله الجائع أو طفله الباكي أو طفله السقيم؟
إن فضل هذه الفضيلة يستصغر في هذه المسيرة ليبلغ غاية الكبر الذي تبلغه سجية إنسانية، فقل إن شئت إنه لا فضل لمحمد عبده في إحسانه إلا كفضل الأب في الإحسان إلى البنين، ولكنك إذن تشهد بالفضل الذي لا فضل بعده للرجل الذي تملكه رحمته بجميع الناس كما تملك الأب رحمته ببنيه.
كان محمد عبده يحسن إلى صاحب الحاجة وهو في منفاه فقير لا مورد له غير مرتبه من عمله، وكان يحسن إلى أصحاب الحاجة وهم من ذرية أعدائه المفترين عليه، وكان يحسن إلى المنقطعين عن الكسب وهو مريض محتاج إلى ماله القليل لتدبير علاجه ومعيشته في مقامه وسفره، وكان يحسن إليهم وهو في مرض الموت، ويموت وفي ودائع سره صدقات للمستعينين به لم يكن يطلع عليها أحدا من أقرب المقربين إليه.
روى السيد رشيد رضا مما علمه من أخباره يوم كان منفيا ببيروت أن صاحبا له توفي والده وليس عنده ما ينفقه في تشييعه، فأعطاه كل ما في حوزته من مال، وهو مرتبه الذي قبضه يومئذ من المدرسة السلطانية، ولولا أن رجلا في مصر أحسن إليه مثل ذلك الإحسان قبل نفيه وفى له بدينه وحوله إليه على مصرف بيروت، لاضطر إلى القرض لينفق بقية الشهر على نفسه وأهله.
ولم تكن صحيفة الجوائب المصرية من الصحف التي تتطوع لنشر مآثر المفتي، وإن لم تكن كذلك من الصحف التي سخرت للحملة عليه، ولكن صاحبها خليل مطران كان يلقى علماء الأزهر كما يظهر من حديثه مع شيخه ومن الردود في صحيفته، وكان يعرف شواغلهم وشواغل الأستاذ الإمام، وهو الذي روى بعض مآثره في مقال تأبينه، فقال عن بره بأعدائه الثائرين عليه: «إن أنجال المشايخ في الأزهر كانوا يتناولون مرتبات آبائهم بالوراثة، فرأى الأستاذ في ذلك غبنا للعلماء؛ لأن هذه المرتبات إنما هي وقف عليهم، فأعاده الأستاذ إليهم وعوض أنجال المشايخ عنها بما كان يجمعه بسعيه في رأس كل شهر من أمواله وأموال محبيه، ولقد شوهد وهو ساع هذا السعي عقب اعتزاله الأزهر وقيام الشيوخ في وجهه محاربين.»
وقد كانت له معونة شهرية لطائفة من الأدباء يأوون إليه، ومنهم حافظ وإمام والكاظمي والشنقيطي العالم اللغوي المشهور، وهو الذي قال يرثي نفسه ويذكر معونة الإمام له في غربته المنقطعة دون القادرين على المعونة في عصره:
تذكرت من يبكي علي فلم أجد
سوى كتب تختان بعدي أو علمي
وغير الفتى المفتي محمد عبده
صديقي الصدوق الصادق الود والكلم
وكانت توصيته للمطابع ودور النشر من أقوى المشجعات على طبع الكتب القديمة والحديثة التي يعجز الأدباء عن الاستقلال بطبعها ونشرها، ويستفيدون من تأليفها أو الوقوف على تصحيحها؛ لأنه - أجزل الله مثوبته - كان يتولى توزيعها على معاهد العلم، ويرسلها باسمه إلى مريديه من سروات الأقاليم وكبار موظفيها، وقد تسلم من حافظ أكثر نسخ البؤساء بعد صدور الجزء الأول، ثم أسلم حافظا من ثمنها ما يكفيه سنوات - كما قال لنا حافظ - لولا أن رزق السنوات لا يجاوز في يدي حافظ مدى الشهور، وهو الذي قال من قصيدته التائية في رثائه:
لقد كنت أخشى عادي الموت قبله
فأصبحت أخشى أن تطول حياتي
وصحيفة الصاعقة - كما ينبئ عنها اسمها - ليست من الصحف التي تسخو بالثناء على أحد من الأحياء أو الموتى؛ إذ كانت مرصدة للهجاء الاجتماعي والنقد اللاذع صادقا أو غير صادق، وكان صاحبها يلقب بالحطيئة الناثر؛ لأنه كان كالحطيئة الشاعر يهجو نفسه وأقرب الناس إليه، ولكنه بكى فيه تلك المروءة السخية التي كان هو من العارفين بجدواها، فرثاه بمقال طويل افتتحه بهذا البيت:
اليوم نامت أعين بك لم تنم
وتسهدت أخرى فعز منامها
ثم قال: «أما مروءته فليس أقوى دلالة عليها من خروجه قبل أن تخرج الشمس من غمدها وجيبه ممتلئ برقاع امتلأ بحاجات الناس، فلا يرجع إلى داره إلا بعد أن يرجع الدهر عن معاكسة من وضعوا آمالهم فيه ... وكم نظر الله إليه في جوف الليل وهو يمد يده بالحسنات إلى الفقراء والمساكين، ويعول أنفسا ماتت بموته اليوم.»
ولقد عرفنا نحن أناسا نظروا إليه في جوف الليل يطرق عليهم الأبواب ويسلمهم ما قدر عليه من عاجل الصدقة، وهو يقول لهم إنه أمانة من جهات الخير يؤديها إليهم ولا يعرفهم بنفسه، وكنا نسكن على خط المطرية التي كان فيها مسكنه، فنسمع أخباره هذه من أصحاب البيوت الكريمة التي فقدت عائلها، فلم يعرفوا أنه هو ذلك الرسول الذي كان يطرق عليهم أبوابهم تحت جنح الظلام إلا بعد أن افتقدوه على أثر وفاته.
وقد عهد أهله إلى تلميذه الحميم السيد رشيد رضا أن يرتب أوراقه عند سفره إلى الإسكندرية، فوجد في محافظ الأوراق صررا من النقود مكتوبا على كل منها اسم من يراد إعطاؤه إياها. وسأله - وهو يعد العدة للسفر - عن الشاعر الكاظمي، فذكر له أنه مدين، فأسف لأنه لم يخبره بذلك قبل تصرف أخيه في نفقة السفر؛ لأن الكاظمي أحوج إليها.
ولو عرفت هذه الصدقات المستورة التي كان يبذلها أو يسعى فيها ويوصلها بيده وأيدي خاصته إلى مستحقيها، لظهر أنها شغل حياة كاملة تستغرق العمر ولا تدع فيه فراغا لعمل سواها، وعجب الناس كيف كان يدبر لها وقتها مع تلك الأعمال الجسام التي كان يضطلع بها ولا يقبل الإنابة عنه في أدائها، ومثل هذا الشغلان بالإحسان فضل نادر في حياة العظماء الذين كانوا يشغلون بمثل شواغله، ويلقون من المصاعب والعقبات بعض ما كان يلقاه من أعدائه وأعوانه في أداء رسالته، ولكنه على هذه الندرة لم يكن بالخاصة المميزة التي تنطبع بها هذه النفس بين أقرانها ونظرائها، وإنما يمتاز الرجل في إحسانه بتلك المزية التي انطبعت بها جميع صفاته وجهوده، وهي مزية المعلم المطبوع على التعليم.
وما كان التعليم في مثل هذه الفطرة إلا شيئا يعطيه من ذخيرة الفكر والروح.
فالشيخ محمد عبده كان رائد «الخدمة الاجتماعية» في وطنه قبل أن تعرف في هذا الوطن وفي غيره «مصالح الخدمة الاجتماعية»، التي سميت بعد ذلك بأسماء الوزارات والدواوين، ولم يكن يقنع بما يسديه من الخير بيده حتى يكون هذا الخير في مجاله الواسع عملا عاما للمجتمع يتعود القائمون عليه أن يوطدوا له قواعده، ويتعاونوا على تنظيمه، ويتكلفوا بضمان البقاء بعدهم لمن يخلفهم عليه.
فالإحسان المستور - يدا بيد - عمل يستطيعه المحسن بينه وبين نفسه، ويحمد منه أن يكتمه ولا يعلمه لغيره، ولكن الإحسان في النكبات العامة لا يأتي بغير التعميم والتنظيم، وضمان الأمانة أو ضمان الدوام في غير الإغاثة الموقوتة التي تنقضي بانقضاء دواعيها، وهذه هي مواطن الإحسان التي كان محمد عبده يبادرها في ساعته كلما ألم بالبلاد داع من دواعيها، ولا يظهر اسمه للناس إلا كان مجرد ذكره ضمانا للثقة والطمأنينة، وكان توجيه الدعوة باسمه ضمانا للموافقة والإجابة، ثم يكون إشرافه على التدبير والإدارة ضمانا لانتظام العمل ودوامه.
فمنذ عاد محمد عبده من منفاه لم يتخلف قط عن الغوث العاجل للمستغيث، في نكبة من النكبات التي تصيب هذه البلاد ويقعد عنها ولاة الأمر والقادرون على الإغاثة بالمال أو السلطان، وكانت سنته في كل عمل من أعمال الغوث أن يندب له الجماعة من أهل الكفاية والأمانة بين خاصة صحبه، وأن ينهض هو بعبء تنظيمه ونشر الدعوة باسمه، ولم يحدث قط أن نهض بهذا العبء في عمل من تلك الأعمال إلا كان نهوضه به أمانا من الفوضى والاختلال.
تركت حملة السودان في هذا البلد جيشا من الأيتام والأرامل والعاطلين وجرحى الحرب والمنكوبين لا عائل لهم ولا مورد لمعونتهم، وأمسكت الحكومة يدها عن كل معونة لهذا الجيش الزاخر؛ لأنها اعتذرت بنفاد المال في نفقات الحملة، وعجز الخزانة عن ترتيب المعاشات أو التعويضات بين مصارفها المحدودة، فبادر الشيخ محمد عبده - وكان يومئذ قاضيا بمحكمة الاستئناف - إلى تأليف هيئة خاصة لحصر ضحايا الحرب وتنظيم المعونة لهم مما يتبرع به المحسنون، وتسهم به خزانة الحكومة وخزانة الأوقاف وغيرها من جهات البر والمساعدة، وجعل قوام اللجنة من رجال القضاء وأهل الثقة من كبار الأغنياء، وحرص على إحاطة هذه الهيئة بالضمانات «الرسمية» لضبط مواردها ومصارفها على نظام الحساب المتبع في دواوين الحكومة، وقامت هذه الهيئة بأمانتها على وجهها الأمثل، ثم تبعتها الحكومة والجماعات الخيرية في طريقها، بعد تمهيدها بهذه الفاتحة التي لم يكن لأولئك المكنوبين - لولاها - من مسألة يلتفت إليها.
واحترقت بلدة ميت غمر في أوائل صيف سنة 1902، فبلغ عدد المنكوبين بالحريق أكثر من خمسة آلاف، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، ولا بين غنيهم وفقيرهم في الحاجة إلى المأوى والطعام. وقال الأستاذ الإمام في وصف الحادث من بيانه الذي نشره على الناس في الصحف: «ليس الحادث بذي الخطب اليسير، فالمصابون خمسة آلاف وبضع مئين، منهم الأطفال الذين فقدوا عائليهم، والتجار والصناع الذين هلكت آلاتهم ورءوس أموالهم، ويتعذر عليهم أن يبتدئوا الحياة مرة أخرى إلا بمعونة من إخوانهم، وإلا أصبحوا متشردين متلصصين أو سائلين ...»
وقد بذل الأستاذ الإمام من معونة الجمعية الخيرية الإسلامية - التي كان يرأسها يومئذ - كل ما تحتمله مواردها، وألف لتعمير البلدة وإغاثة أهلها جماعة كبيرة تمدها بالمال وتحث الناس على إمدادها به في عواصم البلاد وقراها، وطاف بنفسه على بيوت الأمراء والوجهاء وأصحاب الثروة يسألهم النجدة في حينها قبل فوات أوانها، واستخدام كل وسيلة من وسائل الحض والدعوة يقدر عليها، ومنها حث الشعراء على النظم في موضوع هذه النكبة، وفي طليعتهم شاعره حافظ إبراهيم الذي نظم فيها قصيدة قال في أولها:
سائلوا الليل عنها والنهارا
كيف باتت نساؤهم والعذارى
أين طوفان صاحب الفلك يروي
هذه النار فهي تشكو الأوارا
وقال منها يستنجد بالمنشاوي (باشا) في سجنه:
أيهذا السجين لا يمنع السجن
كريما من أن يقيل العثارا
مر بألف لهم وإن شئت زدها
وأجرهم كما أجرت النصارى
وهو يشير هنا إلى أحمد المنشاوي (باشا) عميد القرشية الذي سجن يومئذ في قضية لعبت فيها السياسة لعبها، وكان من مروءته أيام الثورة العرابية أنه آمن الأوربيين الخائفين في داره، وسبق في ترجمة الأستاذ الإمام كلام عن صلة أبيه بهذه الأسرة العريقة في القرشية، وسنرى فيما يلي أنه كان أحد المحسنين القلائل الذين كان الأستاذ الإمام يعتمد عليهم في إنجاز مشروعاته الاجتماعية، وقد جمع من أسرته ومن سائر الأسر الكريمة ألوف الجنيهات، وذهب بنفسه إلى ميت غمر ليشرف مع الهيئة المختارة على إنفاقها في تعمير القرية وتعويض أهلها.
ولقد كان أثر المحسن المعلم في المؤسسات الباقية أبرز وأثبت من أثره في هذه المساعدات التي تدعو إليها الحوادث الموقوتة، كحوادث الحرب، وحادث الحريق، وأشباه هذه الحوادث المرهونة بأوقاتها؛ فإن المؤسسات الخيرية التي نشأت برعايته وهدايته كانت أثبت الجمعيات المصرية وأنفعها وأقدرها على أداء مقاصدها من محاربة الجهل والفاقة؛ ولا تزال أكبر هذه الجمعيات في مصر جمعيتان تأسستا بمعاونته وهدايته، وعاشتا منذ تم تأسيسهما نحو ستين سنة تعملان وتتقدمان على هداه؛ إحداهما الجمعية الخيرية الإسلامية، والأخرى جمعية العروة الوثقى، وقد سميت باسم جمعيته التي اشترك في تأليفها وإدارتها على البعد في منفاه مع السيد جمال الدين، وقد أسهم في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية ثم تولى رئاستها، فزادت مواردها وأعمالها ضعفين في سنوات رئاسته الخمس (من 1317 إلى 1322 هجرية)؛ إذ كانت مدارسها أربعا فأصحبت سبعا، وكان عدد تلاميذها (311) تلميذا فأصبح (766)، وكانت تملك مائتين وثمانين فدانا فأصبح لها من الأرض خمسمائة وثلاثة وثلاثون فدانا، غير الموارد الأخرى التي ارتفعت في جملتها من 4430 جنيها إلى 10395 جنيها، وازدادت - تبعا لذلك - قدرتها على التعليم بالمجان وترتيب المعونة للمعوزين.
ولم يتسع عمر الأستاذ لإتمام المشروعات التي كان يفكر فيها ويهيئ الأذهان لإعداد أسبابها وضمان إقامتها ودوامها، وكان يرجو أن يتسنى له إتمامها في مدى قريب بعد الفراغ لها من بعض شواغله الأزهرية، ولكنه فارق الحياة في السنة التي اعتزل فيها مجلس الإدارة الأزهري بعد شهور من اعتزاله، ويمكن أن يقال - على هذا - إنه ما من عمل من أعمال الخدمة الاجتماعية تم بعد وفاته إلا كان من مشروعاته التي هيأ لها الأذهان ومهد لها الطريق وبدأ فعلا بالاستعداد لتنفيذها، ومنها الجامعة المصرية التي كان يعنى بها أن «تقوم على تعليم العلوم وفقا للمناهج الحديثة، وتسهم في تجديد الحضارة العربية القديمة»، وقال عنها فيما نشره الأستاذ روجرفيل من وصيته بعد وفاته: «إذا نظرنا إلى التعليم الذي تنشره الحكومة من حيث قيمته، فلا بد أن نلاحظ أنه لا يكاد يقدر إلا على تعليم رجل محترف بحرفة يكتسب بها عيشه، ومن المستحيل أن يستطيع هذا التعليم تكوين عالم أو كاتب أو فيلسوف، فضلا عن تكوين نابغة، وكل ما لدينا من المدارس التي تمثل التعليم العالي في مصر إنما هي مدارس الحقوق والطب والهندسة، وأما بقية الفروع التي يتكون منها العلم الإنساني، فقد ينال منها المصري صورا سطحية في المدارس الإعدادية، ويكاد يكون من المستحيل أن يتقن منها شيئا وهو في الغالب مكره على أن يجهلها جهلا دائما، وذلك شأن الفلسفة القديمة والحديثة والآداب العربية والأوربية والفنون الجميلة أيضا؛ كل ذلك مجهول لا يدرس في مدرسة مصرية ... فلا ترى في الطبقة المتعلمة الرجل الباحث، ولا المفكر، ولا الفيلسوف، ولا العالم، ولا ترى الرجل ذا العقل الواسع والنفس العالية والشعور الكريم، ذلك الذي يرى حياته كلها في مثل أعلى يطمع فيه ويسمو إليه.»
وقد مرض الأستاذ الإمام مرض الوفاة، فلم يشغله المرض عن إعداد العدة لهذا المشروع الكبير، وزار صديقه أحمد المنشاوي باشا واستزاره غير مرة للبحث في وسائل بناء الجامعة وضمان الموارد التي ينفق منها عليها، وخاطب وزارة المالية في بيع عشرة آلاف فدان من ملك الحكومة يشتريها المحسن السري، ويسجل وقفها على بناء الجامعة ومصاريفها مع ما يربط عليها من الوقوف والأرصدة المالية، ولم يتوان ذلك المحسن الوفي في إنجاز هذا العمل بعد وفاة الأستاذ الإمام برا بذكراه وتحقيقا لأمله. «وفي يوم السبت عاشر شوال سنة 1322ه/1905م كتب المنشاوي باشا إلى مجلس النظار كتابا يطلب فيه أن تبيعه الحكومة عشرة آلاف فدان معينة، ليجعلها وقفا على مدرسة كلية يريد إنشاءها في ضواحي القاهرة، ويوقع عقد الوقفية في الوقت الذي وقعت فيه المالية عقد البيع ... حتى إذا ما انتهت الوسائل قضى الرجل نحبه في الأسبوع الذي عين فيه موعد العقد ...» •••
ويشاء الله أن يبرئ هذه النفس الزكية من كل ملامة يتجنى بها المتجني عليها، فيما اختاره لنفسه من إيثار خطة التعليم والإحسان في خدمة قومه على خطط خصومه المشغولين بسياسة الصحف والأحزاب، فما كانت لتعوزه - رحمه الله - زيادة لمستزيد في بغض المكائد السياسية والإيمان بفسادها وإفسادها لكل ما تمتد إليه من «اختصاصها» كما يقولون وغير اختصاصها، ولكنه كان يخطو في عمله خطوة بعد خطوة، وكأنه بحاجة إلى التذكير الجديد بلؤم تلك السياسة خوفا عليه من نسيانه ... وفي كل خطوة من تلك الخطوات كانت تبرز له الأدلة من هنا وهناك على استقامة خطاه واعوجاج الخطى من جانب خصومه؛ هنا نفع لا ريب فيه من خطة التعليم والإحسان، وهناك ضرر لا ريب فيه من سماسرة السياسة يلاحقه في أشرف أعماله وأكرم آماله، فما من مشروع من المشروعات التي ذكرناها فيما تقدم سلم من الوشاية الخفية أو المكابرة الصحفية. ولا نذكر المكائد التي رصدت له في مساعيه لطلب الكتب النادرة التي كان يعهد بطبعها إلى جماعة إحياء الكتب العربية، ولا المكائد التي رصدت له في جمع التبرعات لمنكوبي حرب السودان، ولكننا ندل على خسة هذه المكائد بالإشارة إلى أغربها وأبعدها عن التصديق، وهي وشاية الوشاة عند الوكالة البريطانية بالجمعية الخيرية الإسلامية لاتهامها بأنها تجمع الأموال لإعانة مهدي السودان وتزويده بالذخيرة والسلاح ، واجترائهم في ذلك على تلفيق الأختام المزورة والبصمات المزيفة التي أقنعت دار الوكالة وأثارت شبهاتها، فأمرت بتفتيش مكاتب الجمعية ومراقبة مراكزها، ولولا تصدي الأستاذ الإمام لاحتمال التبعة في كل ما يثبت على الجمعية من هذه الوشايات واجتهاده لكشف دخائل التزوير في تلك الوثائق المزيفة، لقضي على الجمعية في مهدها وقضي على حسناتها وصدقاتها.
الفصل الثالث عشر
المصلح الفيلسوف
من دأب الإيمان الديني في الطبائع القوية أن يقارب بين الروح المثالي والفكر العملي على غير المألوف في أكثر المفكرين العمليين من غير المتدينين، أو غير المؤمنين إيمان اليقين.
فإن القيم الأخلاقية العليا والأريحية المثالية خيال يحلم المصلحون المثاليون بتحقيقه في المستقبل، إن صح أنه قابل للتحقيق في وقت من الأوقات، ولكنه واقع مقرر في كل وقت عند المصلح المؤمن؛ لأنه مقترن بوجود الإله الكامل السرمدي في كل لمحة من لمحات الزمن، حاضر بحضوره في كل مكان، غير ميئوس من إدراكه بإرادة الله وإرادة خلقه، مع صدق النية واستقامة الطريق على هداه.
وبهذا الإيمان يتلاقى في طبيعة المؤمن القوية هذان الخلقان اللذان يفترقان بين مثالي يخطئ العمل، وواقعي يرتاب في إمكان المثل العليا وسداد الأريحية الأخلاقية، فهما خلقان متفقان تمام الاتفاق في ضمير المصلح المؤمن بوجود الكمال المطلق في كل وقت وكل جهة، وهو وجود الله.
ونحسب أن هذا الاتفاق بين الخلقين هو أصح تفسير لتلك السجية البينة في طوية مصلحنا العظيم؛ أمل لا حد له في الخير، وفهم للواقع العملي لا يضل طريقه بين الشعاب المتفرقة في مسالك الإصلاح.
ولقد تصوف مصلحنا العظيم زمنا في صباه، ولا نخاله ابتعد من طريق المتصوفة إلى ختام حياته.
وقد درس حكمة الفلاسفة النظريين، كما درس فلسفة المعتزلة وعلماء الكلام ومذاهب الفقهاء من أسرى النصوص ومن أصحاب التأويل.
ولم يكن قط من «أهل الظاهر» الذين يأخذون بالحرف ويدينون بالتقليد.
ولكنه كذلك لم يكن قط من «أهل الباطن» الذين يفهمون «الباطنية» على أنها رفض للظاهر وانقطاع عن الواقع، ونبذ الحياة وانصراف عن شواغل المعيشة التي يشتغل بها الأحياء في دنياهم، أو يحسبون الباطنية ضربا من «الدروشة » والمسكنة المختارة على مذهب المجاذيب من أبناء الطريق.
إنما كان رفضه للظاهر رفضا للقشور وألوان الطلاء، وكان بحثه عن الباطن بحثا عن حقيقة المعنى الصحيح من وراء اللفظ السقيم.
إنما كان رفضه للظاهر المموه بحثا عن الواقع الذي خلص من التمويه، فهو واقعي عملي في صميم الواقع الذي يصلح للعمل النافع، وهو يقترب من وسائل العمل كلما ابتعد من ظاهر الطلاء والتمويه فيما يتداوله الناس من الأباطيل، وغيره على غير هذه السجية يبتعدون من حياة العمل الواقعة كلما أمعنوا في البحث عن باطنهم المحجوب أو عن خيالهم البعيد.
فهو مصلح فيلسوف بكل ما شئنا من معاني الإصلاح والفلسفة.
هو مصلح يتصل إصلاحه بالتفكير كما يتصل بالعمل، وهو فيلسوف حين تكون الفلسفة حكمة يروض بها الحكيم نفسه على المسلك الذي ينبغي له كما يراه، والغاية التي يسعى إليها كما هداه الفكر إليها، وهو فيلسوف حين تكون الفلسفة بحثا عن سر الوجود، ورأيا في كليات الحقائق يحيط بأجزائها ويستعان به على تفسير تلك الأجزاء.
وقد كان يفهم الفلسفة على هذا المعنى في مستهل حياته العلمية حين كان المفكرون يفسرونها على وجوه مختلفة لا تطابق معناها، وكان يوما بمجلس علي مبارك باشا وزير المعارف، وفي المجلس من فضلاء المفكرين الدكتور يعقوب صروف محرر المقتطف، وكان بعض الصحف قد سمى كاتبا من كتاب العصر بالفيلسوف على غير حق في رأي الدكتور صروف، فقال الدكتور: إن الناس قد ابتذلوا هذه الكلمة حتى صاروا يطلقونها على غير أهلها، وتساءل الحاضرون من يكون الفيلسوف إذن على المعنى الصحيح؟ فقال الدكتور في رواية الأستاذ رشيد رضا: هو الذي يتقن جميع العلوم ... قال الشيخ محمد عبده: إذن لا يوجد على الأرض فيلسوف. وعاد الدكتور يقول ما معناه: إنه لا بد من أن يتقن علما من العلوم ويلم بسائرها. فقال الشيخ محمد عبده: إن الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون من المدارس العالية، وقبلها الثانوية، على إلمام بالعلوم ويتقنون بعضها ، فما أكثر الفلاسفة بين الأطباء والمهندسين والطلاب بهذا المعنى! ثم قال: إن الفيلسوف كما يفهمه هو الذي له رأي ومذهب في العقليات والاجتماعيات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه.
وبهذا المعنى الصحيح من معاني الفلسفة يتضح للأستاذ الإمام مذهب فلسفي مستقل في موضوع الفلسفة العامة، وهو البحث عن الوجود أو البحث عما وراء الطبيعة على اصطلاح أكثر المحدثين، وتتضح له مع هذه الفلسفة العامة فلسفة خاصة في سائرها الاجتماعيات والعقليات، ومنها فلسفة الأدب والفن، وفلسفة اللغة والبيان على الإجمال.
أما فلسفته فيما وراء الطبيعة، فهي فلسفة متصوف اطلع على آراء الفلاسفة التي دار عليها البحث بين المتكلمين والمعتزلة وفلاسفة المسلمين، ثم اطلع على أقوال فلاسفة الغرب في العصور المتأخرة اطلاعا يمكنه من الجمع بينها وبين ما يشبهها من أقوال المتقدمين، وقلما استحدث فيما بعد الطبيعة شيء من جانب المعاصرين لم يسبقهم إليه الأوائل في أمهات المسائل، وإن أضاف إليه المعاصرون ما أضافوا من مصطلحات العلم الحديث.
واستقلال الشيخ محمد عبده بالفكر والنظر، ثم استقلاله بالعمل في الإصلاح، يفردانه بمذهب بين مدارس الفلسفة الإسلامية، فلا يتيسر ضمه إلى طائفة منها يسمى باسمها وينفصل بذلك عن سائرها.
فهو مع الفلاسفة والمعتزلة في تحكيم العقل والقياس على المنطق والعلوم الكونية، ولكنه يخالف رأي الفلاسفة في معنى الوجود ومعنى العلوم بالنسبة إلى الحقيقة الإلهية، ويخالف رأي المعتزلة في مجادلاتهم العقيمة حول مسألة الصفات وما تفرع عليها من الكلام عن خلق القرآن.
وهو مع المتصوفة في رياضتهم النفسية والفكرية، ولكنه يرى أن إلهام المتصوف «ذوق وجداني» لا يجوز له أن يدين به غيره، «ولا ينكر أن لهم أذواقا خاصة وعلما وجدانيا ... ولكنه خاص بمن يحصل له لا يصلح أن ينقله لغيره بالعبارة ... فإن هذا الذوق يحصل للإنسان في حالة غير طبيعية، وكونه خروجا عن الحالة الطبيعية لا يجوز أن يخاطب به المتقيد بالنواميس الطبيعية.»
وشبيه بهذا رأي الطب - على قول ابن سينا - في علاج من كانوا يعرضون عليه من المصابين بمس الجن أو الأرواح الخفية، فإنه كان يعالج الأعراض الجسدية بما يناسبها من الأدوية الجسدية، ولا شأن له في علاج الآثار الطبيعية بما كان لها من المؤثرات غير الطبيعية، أيا كان منشؤها.
وقد يحيط بالفلسفة الإلهية في مذهب الأستاذ الإمام من يقرأ تعليقاته على العقائد العضدية، ومناقشته في حاشيته للإمام عضد الدين الإيجي والإمام جلال الدين الدواني، في شتى المسائل التي تقوم عليها اليوم فلسفة ما وراء الطبيعة عند الفلاسفة المعاصرين، مضافا إليها مسألة الصفات التي لم يطرقها هؤلاء المعاصرون.
وأيسر من هذه الحاشية - لمن يقرأ كتب الفلسفة السلفية - رسالته القيمة في التوحيد، وتفسيراته للآيات القرآنية من دروسه في الجامع الأزهر، وفيها بيان جلي لكل مسألة من تلك المسائل التي يقل فيها الجلاء ويكثر فيها الغموض في كتب الأقدمين.
فإذا أردنا أن نجعل لفلسفة الإمام حدا فاصلا بينه وبين مخالفيه من جماعة المعتزلة والمتكلمين والفلاسفة الأقدمين ... فالحد الفاصل هنا هو القدرة على حسم الجدل العقيم بالرجوع إلى حكم العقل السليم، أو هو القدر العلمية على حل المشكلات العقلية، ولا سيما المشكلات التي لا داعي للإشكال فيها غير الوقوف عند اللجاجة اللفظية والعجز عن تقرير معناها، أو غير التهالك على الزبد وترك ما ينفع الناس.
وأقرب الآراء إلى الأستاذ الإمام آراء حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رضوان الله عليه، فهو قريب منه في كل ما ابتعد به الفهم بينه وبين الفلاسفة أو المعتزلة أو المتكلمين، وليس بينه وبين حجة الإسلام من خلاف يذكر إلا كان - على الأكثر - من قبيل الاختلاف في الدرجة دون الجوهر؛ فإن الأستاذ الإمام لا يشتد على الفلاسفة اشتداد حجة الإسلام، ولا يقول بالتكفير حيث يتأتى المخرج المقبول، ولو ببعض الصعوبة في التأويل.
إن «الإله» عند أرسطو هو المحرك الأول ... ولا تأتي الحركة منه لأنه أبدي لا أول له ولا آخر، ولكنها تأتي من الهيولى التي هي المادة في دور القابلية، وإنما تخرج من القابلية إلى الكون بحركتها نحو الكائن الأول شوقا إلى الكمال، وهي في كل حركة تتخذ لها صورة معينة تجعلها شيئا وتجعلها أقرب إلى الكمال، بمقدار خلوها من الهيولى وازدياد نصيبها من الصورة المحض التي لا مادة فيها.
أما «الإله» في العقيدة الإسلامية كما يبسطها الأستاذ الإمام في كتبه المتقدمة فهو «الوجود الكامل المطلق»، وكل ما عداه من المخلوقات فهو ناقص محدود.
وكمال الله لا ينفي إرادة الخلق على قول أرسطو في الإرادة، ولا يقتضي قدم المخلوقات الناقصة المحدودة متفرقة أو متجمعة فيما نسميه العالم أو الكون، ولا يمنع العقل أن يكون هذا العالم حادثا وأن يكون الله أحدثه من العدم بقدرته؛ لأن القدرة هي إمكان القادر ما لا يمكن غيره، ومعنى قدرة الخالق المطلق أنه يمكنه ما ليس بالممكن بغير قدرته المطلقة، فلا وجه هنا للاستحالة مع الوجود المطلق الذي ليست له حدود.
وصفات الله التي يقتضيها الكمال واجبة وجوب وجوده على أكمل صفة، فإذا جاء الشرع بصفات غير مستلزمة عقلا، فلا يجوز للفيلسوف أن يرفض صفة من الصفات لا يمنع العقل نسبتها إلى الكمال المطلق، ولا معنى للجدل العقيم في استكناه هذه الصفات؛ لأن العقل الإنساني لا ينفذ إلى كنه شيء من الأشياء، فضلا عن كنه الوجود الأوحد الذي ليس له مثيل يقاس عليه.
وللأستاذ الإمام في ذلك رأي كرأي الفيلسوف الألماني عمانويل كان في استحالة العلم بالشيء في ذاته
Nomena
ووقوف العلم الإنساني عند الظواهر
مع التعبير عن هذا الفارق باصطلاح الأقدمين، وهو الفرق بين الكنه والعوارض؛ إذ يقول من رسالة التوحيد عن غاية كمال العقل الإنساني إنما هي: «الوصول إلى معرفة عوارض بعض الكائنات التي تقع تحت الإدراك الإنساني حسا كان أو وجدانا أو تعقلا، ثم التوصل بذلك إلى معرفة مناشئها وتحصيل كليات لأنواعها والإحاطة ببعض القواعد لعروض ما يعرض لها، وأما الوصول إلى كنه حقيقة ما فمما لا تبلغه قوته؛ لأن اكتناه المركبات إنما هو باكتناه ما تركبت منه، وذلك ينتهي إلى البسيط الصرف، وهو لا سبيل إلى اكتناهه بالضرورة، وغاية ما يمكن عرفانه منه هو عوارضه وآثاره.»
وليس قصور الإنسان عن استكناه الأشياء في ذواتها بحائل بينه وبين الاستعانة بعقله على المعرفة الدينية، فإنه بهذا العقل يستعين على كل معرفة تعنيه وتنفعه في مصالحه الدنيوية، وعلم العقل الإنساني بقصوره يلهمه تفويض الإيمان بمسائل الغيب، ومسائل الشرع التي لا يتطلبها العقل على صورة من الصور غير صورتها في الدين، كشعائر الفروض وأعداد الركعات في صلوات العبادة ومقادير الزكاة وما إليها، فإن العقل يتقبلها لأنها ضرورية على صورة من الصور، وليس له أن يرفضها على صورة دون صورة.
وبهذه القوة العاقلة في الإنسان يدرك ما يجب في حق الله وما ليس بالممتنع في حقه، كما يدرك ما ينبغي للخلق كله في جملته، وقصارى القول فيه أن الواجب في حق الله هو الواجب في حق الوجود الكامل المطلق، وأن نهاية القول في العالم كله أنه وجود مخلوق أو وجود محدود.
وتنجلي طبيعة المصلح العامل في هذه الفلسفة الإلهية التي اطمأن إليها من بين آراء الفلاسفة وعقائد المعتزلة وعلماء الكلام، فلم يكن يعنيه منها أنها فلسفة تحل جميع المشكلات وتفسر جميع الغوامض وتفصل في جميع القضايا المعلقة بين المفكرين الإلهيين، وإنما كان يعنيه منها أنها تبطل الحيرة من الناحية العملية، فلا تشغل العقل بما لا داعية للحيرة فيه؛ لأنه على أي الآراء من ناحية الواقع سواء، وما لم يكن البت فيه جوهريا للعلم يحق العالم المخلوق، فالقيل والقال فيه لجاجة لا تجمل بالعقل وليس لها ضرورة في عقائد الضمير.
فالوجود المطلق لا يحده الزمان؛ لأنه يخلق الزمان، ولا موجب إذن للحيرة في قدم العالم أو حدوثه؛ لأن الله قادر على أن يخلقه مع الزمان، ولا داعية لحيرة العقل في أمر حدوثه وقدمه على هذا الاعتبار.
والذين يقولون إن البعث بالأرواح حتم، يوجبون استحالة العبث بالأجسام في غير استحالة معقول؛ لأن قدرة الله لا يمتنع عليها تبديل الجسد في إبان الحياة، ولا داعية للحيرة في مقادير المادة التي تتألف منها الأجساد الحيوانية جميعا؛ لأن الإله الذي خلق المادة ابتداء يخلقها كرة أخرى بما يشاء لها من المقادير.
ومسألة القدر - على أي معنى من معانيه - لا تلغي إرادة الإنسان كما ينبغي أن تكون إرادة المخلوق المحدود، ولا تبطل الجزاء كما ينبغي لتلك الإرادة، والعلم السابق بالتكليف والعقاب لا يقتضي بطلان الإرادة النفسية؛ لأن الإنسان قد يريد عامدا ما يعلم أنه معاقب عليه، وإذ كان علم الله بعمل الإنسان حقيقة، فحقيقة مثلها أنه جعل له إرادة على قدر وسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها على أية حال.
وإذا بقي من هذه الخلافيات شيء لا تبطل فيه الحيرة، فهو الشيء الذي يقضي العقل بالتفويض فيه إلى الله؛ لأن فهمه والتسليم فيه للغيب سواء.
ويخيل إلى قارئ الفلسفة حين يراجع أقواله في العقائد العضدية ورسالة التوحيد أنه فرغ من هذه الأقوال جميعا وهو يقول لنفسه: إن المفيد هو أن نعمل ما لا بد من عمله، فدعونا من إضاعة الوقت والعقل في تحصيل الحاصل، دعونا من الخلاف فيما يتساوى فيه طرفا الخلاف، فإن ترك الحيرة أولى من الحيرة التي لا تنتهي إلى طائل.
وإن مسلكه هذا مع الفلاسفة والمفكرين لقريب جدا من مسلكه مع الساسة والأمراء: الإصلاح بدونهم خير من انتظار الإصلاح معهم على غير جدوى. •••
والواضح من تعليقات الأستاذ الإمام على العقائد العضدية أنه تتبع مذاهب الفرق في أمهات مراجعها، وأحاط باللباب الجوهري من أقوال الفلاسفة الإسلاميين، ولم يفته منها غير المصادر التي ظلت مطوية في مكتبات الغرب وتخصص فيها البحث بآراء الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، التي كان فيها على خلاف مع سائر الفلاسفة المشرقيين، وقد كان هذا سبب النزاع على الفلسفة الرشدية بين الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، فإن كلا الباحثين كانت تعوزه مراجع الآخر. «ولعل هذه المساجلة - كما قلنا في رسالتنا عن ابن رشد - تهدينا إلى أسباب اتساع الخلف وانفراج مسافته بين المتناقشين في هذه المسائل وأشباهها، فإن اتساع الخلف بينهم إنما يأتي على الأغلب الأعم من اختلاف المراجع التي يعتمدون عليها، وهذا الذي حدث في مناقشة الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون، فلم يكن أحدهما يعتمد على مراجع الآخر في مسألة من مسائل الفلسفة الرشدية أو الفلسفة الإسلامية على التعميم ... قال الأستاذ الإمام: وأما العقل فليس كما تقول الجامعة، فإن العقل الأول جوهر مجرد عن المادة، وهو قول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمى عندهم بالفلك الأطلسي، ونفس ذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية. وعقل آخر هو العقل الثاني، وعن هذا العقل الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم بالعقل الفعال أو العقل الفياض، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية، وإليه يرجع ما يحدث في عالمها.»
وهذا كله صحيح بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام في المشرق على الجملة، ولكن ابن رشد كان يعتمد على شرح أرسطو مباشرة ويفسره برأيه لا بآراء الفلاسفة المشرقيين، ويقول من كتاب «تهافت التهافت» في مسألة تعدد العقول: «ولسنا نجد لأرسطو ولا لمن شهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نسب إليهم، إلا لفرفريوس الصوري صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذاقهم.»
أما الأستاذ فرح أنطون، فكان جل اعتماده على تخريجات رينان، ولم يتوسع في الاطلاع على كتاب التهافت وغيره توسع استقصاء، وقد صرح بذلك حيث قال: «لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن الإفرنج أنفسهم، فأخذنا كتابا للمستر مولر عنوانه: فلسفة ابن رشد ومبادئه، وكتابا آخر عنوانه: ابن رشد وفلسفته، وهو للفيلسوف رينان المشهور.»
فقد كانت المصادر إذن مختلفة، وكان أكثرها مرويا عن صاحبه مأخوذا من خلاصة كلامه، ولو توحدت المصادر مع حسن النية لما تباعدت بين المتناظرين في هذه المسألة، ولا في غيرها، شقة الخلاف. •••
فمصادر الأستاذ الإمام في مسائل الفلسفة الإسلامية كانت شاملة لمراجعها الوافية من كتب الفلاسفة والمعتزلة والمتصوفة والمتكلمين، ولكننا لا نعلم عن مصادره التي اعتمد عليها لدراسة الفلسفة الغربية شيئا على التفصيل، وكل ما نعلمه أنه كان يطلع عليها في بعض كتبها بعد تعلمه اللغة الفرنسية، وأن أقواله عن العقائد الإلهية تدل على علم بآراء الفلاسفة المتأخرين من الأوروبيين، وأغلب الظن عندنا أنه توافق في التفكير الذي تشابهت فيه الموضوعات الفلسفية قديما وحديثا، وهي - فيما عرضت له - من مسائل الخلاف لم تطرق موضوعا لم تسبق إليه في موضوعات الفلاسفة الإسلاميين.
ولعل من هذا التوافق قوله الذي ارتاح إليه سبنسر حين سأله عن العقيدة الإسلامية في الإله، فإنه ذكر له عقيدة أهل السنة وعقيدة المتصوفة القائلين بوحدة الوجود، ثم ذكر له أن بعض المتصوفة الإسلاميين يعتقدون أن الله وجود محض، وليس بشخص، فبدا على الفيلسوف الإنجليزي أنه ارتاح إلى هذه العقيدة، ويبدو اليوم أنها العقيدة التي يرتاح إليها كبار المفكرين الغربيين، ومنهم أينشتين صاحب الفلسفة النسبية.
وكذلك يجوز لنا أن نفهم أن الأستاذ الإمام نقل عقيدة المتصوفة القائلين بهذا وهو يفرق بين دلالة الشخص
ودلالة الذات في عقيدة التوحيد الإسلامية؛ لأن الشخص باللغات الأوروبية يوحي بالشبه والحد والمثال، من أصل الكلمة اللاتينية التي أخذت من قناع الوجه المستعار في التمثيل، وليس في كلمة «الذات» ما يوحي بهذا على الحقيقة أو على المجاز، وإنما توحي بأن الذات تحتوي الصفات وتملك ما ينسب إليها من لوازم الكمال. •••
ولا نجد في كتابات الشيخ محمد عبده أنه أراد أن ينشئ له مذهبا خاصا في المسائل الإلهية كالمذاهب التي تسمى بالنظم في اصطلاح الفلسفة الحديثة، ولكننا نجد آراءه كاملة في كل مسألة من هذه المسائل مبسوطة في تعليقاته على أقوال الفلاسفة أو المعتزلة أو المتكلمين أو المتصوفة، يوافق بها كل طائفة من هذه الطوائف أو يخالفها، مستقلا عنها جميعا بمنهجه الذي امتاز بطابعه الخاص في الفهم والتحقيق، وهو طابع الفكرة العقلية العملية، أو طابع الفكرة الصالحة للتعليم والإفادة بالتربية والهداية.
فهو مع الفلاسفة الإلهيين في مسألة الوجود الإلهي أو الوجود المطلق، ولكنه لا يقف بإدراكه للقدرة الإلهية عند استحالة الخلق من العدم؛ لأن الوجود المطلق في عقيدته وتفكيره، لا يستحيل عليه أن يفيض نعمة الوجود على خلقه، فليس الخلق من العدم بالمستحيل، بل المستحيل هو العدم نفسه مع وجود الخالق المريد الفعال لما يريد، ولا تكفير عنده لمن قال بقدم العالم وهو يؤمن بأن الله هو الفاعل لما أراده من خلقه؛ إذ كانت إرادة الله قديمة لا ندري كنه عملها السرمدي خارج الزمان، وكان الواجب في مسألة وجود العالم أن نؤمن بأن له موجدا كما شاء، فلا يكفر من قال إن الله أوجد العالم في القدم وإن يكن مخطئنا في التفكير. قال في تعليقاته على العقائد العضدية: «واعلم أني وإن كنت قد برهنت على حدوث العالم، وحققت الحق فيه، على حسب ما أدى إليه فكري، ووقفني عليه نظري، فلا أقول بأن القائلين بالقدم قد كفروا بمذهبهم هذا وأنكروا به ضروبا من الدين القويم، وإنما أقول إنهم قد أخطئوا في نظرهم ولم يسددوا مقدمات أفكارهم.»
ثم قال: «ومن المعلوم أن من سلك طريق الاجتهاد لم يعول على التقليد في الاعتقاد، ولم تجب عصمته فهو معرض للخطأ، ولكن خطأه عند الله واقع موقع القبول، حيث كانت غايته من سيره، ومقصده من تمحيص نظره أن يصل إلى الحق ويدرك مستقر اليقين.»
وهو مع المعتزلة في تحكيم العقل والاستهداء به إلى هدي الدين، ولكنه لا يرى رأيهم في الاستغناء بالعقل وحده؛ لأنه يفرق بين مطابقة الدين للعقل وبين الاكتفاء بالعقل في المسائل النظرية والشرعية؛ إذ لا بد من تسليم العقل بنصيب الشرع من الهداية، ما دام العقل يعلم أنه لا ينفذ إلى كنه الأشياء، وأن العقول الإنسانية موكولة إلى حكمة الغيب حيث وقف بها مدى التفكير.
وهو مع المتكلمين في استخدام القضايا المنطقية، ولكنه يأخذ على غلاتهم أن استخدام المنطق يذهب بهم إلى السفسطة أحيانا، ويدفع بهم إلى خلق المشكلات بينهم وبين الفلاسفة أو المعتزلة في غير داع إلى الإشكال.
وهو مع المتصوفة، أو على الأصح مع الحكماء المتصوفين ولا سيما الأخلاقيين؛ لأن التصوف عنده رياضة عقلية، ولكنه يرى لهذه الرياضة جانبا غير الجانب الحسي من الحياة الدنيوية يسميه «ذوقا»، ويحمد من صاحبه أن يروض عليه ضميره ووجدانه ولا يدين به أحدا من المقيدين بالحياة الطبيعية أو الحياة الحسية؛ لأن الأمر في هذه الحياة لما يستقيم عليه صلاح الجماعة، ولا محل فيه للذوق الخاص الذي لا تراض عليه طبيعة العموم.
وجماع القول في مذهب الأستاذ الإمام أنه كان مذهب «المصلح الإسلامي المفكر» الذي أعطى التفكير النظري كل حقه، ولكنه أخذ منه حق العمل على الإصلاح الرشيد المستنير، واستخلص منه العقيدة الإسلامية خالصة من عقبات الجمود والخرافة، التي تصدها عن التقدم وتقعد بها عن مسايرة الزمن والتأهب للحياة بأهبة العقل البصير والضمير الحر، والكفاية الخلقية والمادية لمناهضة القوة المستطيلة عليها بسلاح العلم والمال؛ تلك القوة التي أنزلت المسلمين في العصر الحديث منزلة المغلوبين المستعبدين، ومن حقهم لو عرفوا دينهم حق معرفته أن يترفعوا بأنفسهم عن مهانة الخنوع والاستعباد.
وقد كان له في مذهبه هذا تلاميذ مؤمنون بالفكر والعقيدة في أرجاء العالم الإسلامي من أقصاه في المشرق إلى أقصاه في المغرب، وكان أكثر هؤلاء التلاميذ من قادة الفكر المتدينين يقومون بواجبهم المضاعف في كل بلد إسلامي كما قام به الأستاذ الإمام في وطنه، فيكافحون الجمود من جهة ويكافحون التفرنج الذميم من الجهة الأخرى، ويتعرضون في وقت واحد لعداوة المتألبين عليهم من أنصار الاستعمار والاستبداد وأنصار الجهل المظلم والتعليم الفاسد، وفئات النفعيين الذين يندسون بين جميع الصفوف، حيث المنفعة على كل حساب، ولو كان حساب الوطن والدين.
على أن تلاميذ «الفيلسوف» محمد عبده كانوا فئة معدودة تحسب بالآحاد في كل أمة من أمم العالم الإسلامي، وكان عليهم أن يعيدوا دعوته بألسنتهم وأقلامهم مرة أخرى حتى تبلغ إلى الأسماع والعقول، وإنما انتشرت دعوته إلى الإصلاح أوسع انتشارها بين قراء تفسيره للقرآن، وفتاواه لطلاب الفتيا الكثيرين، ومقالاته وفصوله التي كانت تنشر بتوقيعه أو بغير توقيعه ولا تخفى نسبتها إليه لنشرها في مجلة «المنار». وقد أنشأ مسلمو إندونيسية مجلة على مثالها سموها «المنير» تبلغ هذه الدعوة لمن لا يقرءون العربية من أبناء الأمة الملاوية، وتتبع مسلمو الهند دروسه كما توجهوا إليه بالاستفتاء في كل مشكلة من مشكلاتهم الاجتماعية التي تصطدم عندهم بالعقيدة الدينية ... ولما تسامع المسلمون في الهند بانقطاع الأستاذ الإمام عن إدارة الأزهر وشاع بينهم أنه سيهجر التدريس، وقع منهم النبأ موقع الهول الذي لا يحتمل، وكتب النواب محسن عميد كلية عليكرة ينعي رسالة الإصلاح في العالم الإسلامي، وينحي على الخديو وشيعته من الجامدين أشد الإنحاء، ويقول إنهم «لو كانوا يتوقعون من المستر دنلوب بعد قنوطهم وإياسهم من الجامع الأزهر أن يؤسس لهم كليات وجوامع في أرض مصر يكون فيها نشر التعاليم العالية ... لكان في ذلك بعض التعزية عما قد فاتهم من ذلك في الجامع الأزهر، ولكن الذي ظهر لنا أنهم لا يتوقعون ذلك من هذه الجهة أيضا ... وعسى أن ينكشف لديهم أن أعضاء الدولة الذين بأيديهم زمام دولة مصر وملاك أمرها وسلطانها لا يرضون بأن يتاح لهم من التعاليم ما تستنير به قلوبهم، وتستضيء به أدمغتهم، ويطلعون به على حقوقهم الملية والسياسية».
وقالت صحيفة الرياض بعد نشر الخبر ومعه خطاب الخديو: «عجبنا وعجب كل مسلم في الهند من حكم سموه الذي قضى به في جمع حافل من العلماء، وشدد النكير على حزب المصلحين وجماعة المخلصين ... فالآن يصدق على من يخرج من الأزهر: ليس له في الدنيا نصيب، وما له في العلوم الإسلامية من خلاق.»
وكان للنبأ في البلاد العربية صدى كصداه هذا في البلاد الإسلامية غير العربية، وصححت ثورة الخواطر تقدير المصلحين أنفسهم لمدى انتشار الدعوة بين جمهرة المسلمين، ومدى النكسة التي أصيبت بها حركة التجديد من جراء تلك الحملة المطبقة عليها من بين صفوف الجامدين وسماسرة الكذب والتشهير، فوضح لهم بعد الغاشية الأولى أن دعوة الحرية الفكرية أقوى من أن تصدها عن طريقها مكيدة مفتعلة تقوم على التدبير المشترك بين الجمود والباطل؛ لأن الجمود إدبار إلى الماضي لا محل له في المستقبل، والباطل غشاء دخيل لا بد أن ينكشف عن معدنه الأصيل.
وفي مصر كانت مبادئ المصلح الحكيم تسري سريانها العميق إلى العقول الفتية وعقول الكبار من ذوي النيات السليمة، وكانت تستقر على أسسها في الوقت الذي خيل فيه إلى المستمعين لضجيج السعاية أن الأمة قد أعرضت عنه بأسماعها وقلوبها، وأن حملات التشهير قد نالت من سمعته منالا يصرف الناس عن الاكتراث له والمبالاة بعلمه وعمله، وأملى للمتوهمين في وهمهم هذا أن الدعوات الفكرية لا تبرزها الحشود الجامعة كما تبرزها دعوات الحوادث السياسية، فإذا سرت إلى العقول متفرقة لم تظهر في الأمة مجتمعة إلا بما يكون لها من النتائج العامة في الزمن الطويل، ولكن المصيبة بفقد المفتي بعد اعتزاله إدارة الأزهر هيأت في هذه الدعوة الفكرية حشودها الجامعة، التي لن تتهيأ قبل ذلك لدعوة من الدعوات السياسية في الأمور التي تشغل أذهان الجماهير، ولم يكن للمفتي الفقيد حزب ذو أداة منتظمة تسخر أعوانه لجمع الجموع وتسيير المواكب، بل كان صاحب السلطة الرسمية يعاديه ويغضب على مشيعيه، وكانت صفة الفقيد الدينية لا تدع مكانا للسلطة الفعلية في تشييعه والاحتفال بجنازته، وكان الوقت صيفا قائظا والغائبون عن المدن من معتادي الاصطياف خارج القطر وفي قرى الريف أكثر من الحاضرين، فغلبت الصبغة القومية على كل صبغة رسمية أو تقليدية في تشييع رفات المفتي إلى مقره الأخير من الإسكندرية إلى القاهرة، بل غلبت هذه الصبغة على الصبغة التقليدية التي تعودناها بمصر في تشييع الجنازات؛ إذ كان المفتي في حياته ينكر هذه المظاهر التقليدية ويعلن النهي عنها، فكانت موجة الحزن التي غشيت ألوف المشيعين على طول الطريق دفعة من أعماق القلوب والضمائر عرفت بها الأمة مبلغ شعورها بعظمة الفقيد الراحل وعظم الخسارة بفقده، وجاوز الزحام كل ما قدرته الشرطة واتخذت له حيطتها في المدينتين منذ الصباح الباكر قبل خروج النعش من داره، فتعطلت حركة الأسواق وأغلقت الدكاكين أبوابها للمشاركة في موكب الجنازة، واكتظت الأرصفة بالواقفين والسائرين، ولم يبق أحد في العاصمتين من ذوي الفكر والمنزلة لم يشترك في ذلك الموكب الحافل الذي عمت التعزية فيه وجلت أن تخص عشيرة الفقيد أو ذويه، ولم يدهش أحد من هذه البادرة القومية بطبيعة الحال، كما دهش لها النزلاء الأوربيون الذين كانوا يتسمعون أخبار المعارك حول الإصلاح الديني من بعيد، ويحكمون عليها بمقدار ما ينتهي إليهم من لغط الصحافة وأقاويل المرجفين، فقالت صحيفة الفاردي ألكسندري: «إن توارد الجماهير لتشييع الجنازة يخمد أنفاس القائلين بأن المفتي لم يكن محبوبا في الأمة المصرية.» وقالت صحيفة ليجيبت: «إنه مشهد مهيب من أجل المشاهد وأشدها تأثيرا في النفوس، كان يشتد زحامه بجماهير الناس المصطفين على جوانب الطريق التي مر بها، حتى لقد توقفت حركة التجارة فيها، وكان الناس في سكون وإجلال خلال مرور الجنازة، يخيل إلى الرائي أن جميع سكان القاهرة الوطنيين قد حضروا ليؤدوا آخر فريضة من الإجلال والإعظام لذلك الشيخ الجليل، وبينهم عدد عظيم من الأوروبيين.»
وقد تمخضت هذه البادرة القومية عن معناها العملي الدائم، ولا يمكن أن يكون لها غير معنى واحد هو الذي شوهد في واقع الحياة القومية بعد ذلك، وبرزت حقيقته في كل مهمة تتطلب الرجال العاملين من المفكرين المؤمنين بفريضة الإصلاح ورسالة التقدم، فقد شوهد تلاميذ المصلح الكبير على رأس كل حركة جادة من حركات النهضة الوطنية أو الفكرية، وتلفتت الأمة بعد وفاته تبحث عن القادة العاملين، فلم تجد بين المتقدمين للقيادة من هو أقدر على قيادتها وتسديد خطاها وتقرير مطالبها من زمرة الفقيد وخيرة أشياعه وتلاميذه ومريديه، لا فرق في ذلك بين شئون الدنيا وشئون الدين، وحسب القارئ ما يمكن حصره في الشئون الدينية التي تتصل بالجامع الأزهر ومعاهد التعليم على منهجه، فلم يكن أظهر بين مشايخه وأقطابه من الشيخ محمد شاكر، والشيخ مصطفى المراغي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ إبراهيم حمروش، والشيخ محمود شلتوت، وكلهم من مريديه المؤمنين برسالته، وغيرهم كثيرون مثلهم وإن لم يحضروا كلهم على يديه. أما في شئون النهضة الوطنية على اختلافها، فلا حاجة إلى التخصيص باسم واحد من أسمائها أو فرع واحد من فروعها، فكلها بلا استثناء تقترن باسم - أو أكثر من اسم - بين شيعة الأستاذ الإمام، وقد كانت ثورة مصر الكبرى على الحملة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى - بزعامة سعد زغلول - مثالا للأمانة الخلقية والنفسية التي أودعها الأستاذ الإمام في نفوس شيعته وخاصة صحبه، وأهلتهم في نطاقها الواسع لتلك المهمة الجامعة، كما أهلتهم لما دونها من المهام المتفرقة في كل نطاق محدود. •••
وأكبر ما استفاده العقل السليم المستنير من فكرة الأستاذ الإمام في الإصلاح والحرية الإنسانية أنه أعاد إليه الثقة بعقيدته في هذا العصر الحديث، ورفع من طريقه إلى العمل عقبات الجمود والخرافة والتقليد؛ لأنه زوده على قواعد دينه بفلسفة الحياة التي يقابل بها فلسفات الغرب المتسلطة عليه من جهة السطوة أو من جهة الإيمان بالعقائد والآراء، ولهذا كانت ردوده على فلاسفة الغرب ومفكريه أهم وأجدى على المسلم العصري من ردود المدافعين عن الإسلام على جماعات المبشرين المحترفين؛ إذ كانت شبهات المبشرين المحترفين لا تعدو أن تدور حول الشقائق اللفظية التي تمس الأديان الأخرى أشد من مساسها بالإسلام في العصر الحاضر أو العصور الماضية، ولكن شبهات المفكرين على غرار الفيلسوف أرنست رينان والوزير جبرايل هانوتو كانت بحاجة إلى الفكر العصري المؤمن بالدين لمواجهة الأفكار العصرية التي لعلها لا تؤمن بالإسلام ولا بغير الإسلام، ولكنها تخامر فكرة المسلم كما تخامر ضميره بالأسئلة المعلقة في انتظار الجواب من ذي ثقة باعتقاده، وذي ثقة بتفكيره، وذي طوية لا ترتقي إليها الظنون، وكان الأستاذ الإمام مليئا بكل ما يتطلبه العقل المسلم المستنير في عصره من آيات الثقة وحجج الإقناع.
كانت ردوده على رينان وهانوتو ردود من يعلم ما قد علموه عن تواريخ الحضارات وخصائص الشعوب وطبائع الأجناس والسلالات، ويزيد عليهم بالإيمان الثابت والأريحية الإنسانية والهمة التي ترفعه إلى مقام الرسالة الروحية؛ إذ لا رسالة لأمثال رينان وهانوتو في عالم العقيدة ولا في عالم الإصلاح. وقد كان - قدس الله روحه - أعلى طبقة من مناظريه في مضمار المناظرة بين المعسكرين المقاتلين، فكان رينان وهانوتو يقابلان بين الإسلام والمسيحية ليقابلا بين المسلمين والمسيحيين الأوروبيين خاصة، ويقابلا بعد ذلك بين دعوى الغالب ودعوى المغلوب، ولم ينزل الأستاذ الإمام إلى مضمارهم إلا ليدفع عن عقيدة الإسلام دون أن يقدح في عقيدة المسيحية، بل كان دفاعه عن الإسلام في وجه الأوروبيين المصطبغين بالصبغة المسيحية وهم أبعد ما يكونون عن المسيحية السمحة كما يعرفها الأستاذ الإمام ... ولم يخرج من ردوده بتنزيه الإسلام وتشويه المسيحية ... بل خرج منها جميعا بتنزيه الديانتين وإثبات الحقيقة التي يدين بها من يدين بكتاب الإسلام، وهي أن المسيحية ديانة محبوبة لا عداوة بين من يدين بها على أصولها ومن يدين بالإسلام على أصوله، ولا يحرم على المسلم يوما أن يصاحب أهل الكتاب على سنة أهل الكتاب.
وقد ألهم فضلاء المسيحيين ذلك من وحي فكره ووحي اعتقاده ووحي كلامه في تفسير القرآن، وشرحه للدين في كل موطن أقام به أو رحل إليه، فكان أدباء المسيحيين يتسابقون إلى دروسه بمساجد بيروت أيام منفاه، وكان القس الإنجليزي إسحاق تايلور يرى أن شرح المسيحية كما يبسطه الأستاذ الإمام يوشك أن يعينه على إقناع الأوروبيين بالتوحيد بين الديانتين على الجادة الوسطى التي يلتقي لديها المؤمن بالأناجيل والمؤمن بالقرآن. وعبر العلامة يعقوب صروف تعبيره الصادق عن شعور فضلاء المسيحيين يوم قال ساعة دفن الأستاذ الإمام لمن حوله من تلاميذه: «إني أسمعكم تقولون: فقيد الإسلام والمسلمين ولا تزيدون، إنه فقيد الفكر والعلم حيث كان ... إنه فقيدنا أجمعين.»
الفلسفة الاجتماعية
ومن البديهي أن الفيلسوف المصلح لا يقصر تفكيره على العقليات والإلهيات، أو على فلسفة ما وراء الطبيعة كما تسمى عند المعاصرين؛ إذ لا بد من فلسفة اجتماعية يتبعها في إصلاح المجتمع على مبادئه التي يتوخاها ويتخذها هاديا له إلى فضائل المجتمعات المثالية ومواطن عيوبها التي يجتهد اجتهاده في تبديلها أو إزالتها، وهذا هو الواقع في منهج محمد عبده المصلح الفيلسوف؛ فإن فلسفته الاجتماعية مفصلة واضحة من كل ما كتبه في مطولاته ومختصراته بلا استثناء كتابته عن العقليات والإلهيات، ولكننا نستطيع أن نسمي فلسفته الاجتماعية في لبابها فلسفة أخلاقية لا تفرق بحال بين مشاكل الاجتماع ومشاكل الأخلاق، وليس للاجتماع عنده مشكلة قائمة إذا توفرت العزائم على علاج آفات الخلق في الفرد والجماعة، وليست عنايته بالناحية الخلقية سهوا عن أثر الشئون المادية أو شئون النظام في آداب المعاملات وآداب النفوس على الإجمال؛ لأنه كان يؤمن بأثر الفاقة والثروة معا على ضمائر الناس من الرجال والنساء، وكان يقول دائما: إن العفة ثوب تمزقه الفاقة، وإن الثروة بغير عمل مفسدة. وعناصر الكيان الاجتماعي عنده - كما عددها في رده على هانوتو - سبعة، هي: العلم، والأدب، والتجارة، والصناعة، والعدل، والدين، والسلاح، فليس قيام الكيان الاجتماعي على الأخلاق في رأيه سهوا عن عمل التجارة والصناعة، ولا عن عمل النظام العادل في سياسة الناس، ولكنه كان يعتبر أن الجهل فقر أشد على الناس من فقر المال، وهو القائل في إحدى خطب الجمعية الخيرية: «إن بلادنا ليست بلاد الجوع القتال، ولا بلاد البرد القارس المميت، ولا بلاد الشقاء التي لا ينال الإنسان فيها قوت يومه إلا بالعذاب الأليم، بل نحن في بلاد رزقها الله سعة من العيش، ومنحها خصوبة وغنى يسهلان على كل عائش فيها قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكنها ويا للأسف منيت مع ذلك بأشد ضروب الفقر، فقر العقول والتربية.»
وقد قال قبل ذلك في خطاب المدرسة السلطانية ببيروت: «... إننا لو نظرنا إلى ثروة بلادنا لا نجدها قاصرة على حاجتنا، ولكن القاصر عن الحاجات هو إدراكنا لاحتياجنا، فقد نرى الغني يبذل أموالا جمة في زخارف زينة لا مقام لها في نظر العاقل، ولا يرى في بذله هذا مغرما، ثم إذا دعي إلى مساعدة وطنه وملته ودولته يستكثر القليل ويعطي وهو كاره.»
فإذا تحرى النظام العادل توفير أسباب المعيشة الحسنة، فالرخاء - وهو غاية ما يبلغه هذا النظام - لا يكفي لإقامة كيان المجتمع، ولا لحفظ بقائه من عوامل فنائه، ولا من أخطار أعدائه، ولن يقام للمجتمع كيان بغير المعرفة العلمية والتربية الأخلاقية، ولن يقر له هذا الكيان إذا حرم منهما أحد جنسيه وإحدى طبقاته.
ومن أخطر أسباب الضعف التي أصابت المسلمين كما قال في رده على هانوتو: «إن النساء قد ضرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن بستار لا يدرى متى يرفع.» وقد قال في إحدى خطب الجمعية الخيرية الإسلامية: «نحن نتمنى تربية بناتنا، فإن الله تعالى يقول:
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تشرك الرجل والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية ... وترك البنات يفترسهن الجهل وتستهويهن الغباوة من الجرم العظيم.»
وكان أشد ما ينعاه على من يحسبون أنفسهم من العارفين، قولهم: لا شأن لنا بالعامة. «فلا يمكن الإنسان أن يعمل بمصلحة العامة ما لم يحس برابطة بينه وبينهم.»
والعلم في رأي الأستاذ الإمام سبب من أسباب الثروة والقوة، وسبب من أسباب المعرفة الذهنية التي تبصر العقل بأدوات النجاح في أعمال المعيشة، ولكن التربية الأخلاقية شيء آخر غير المعرفة الذهنية، ولا سيما المعرفة التي تتأدى آخر الأمر إلى الإيمان بالمادة دون غيرها، وهو ما يسمونه بالفلسفة المادية، وقد لمس الأستاذ الإمام آثار هذه الفلسفة المادية في حضارة الغرب، فأشفق من عواقبها على بني الإنسان وزادته اعتقادا بضرورة الدين لصلاح النفوس البشرية وهداية الأمم في حياتها الاجتماعية، وأكدت له هذه الضرورة مناقشته للفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر (سنة 1903)؛ إذ قال له الفيلسوف الإنجليزي: إن الإنجليز يرجعون القهقرى، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة. فسأله الأستاذ الإمام: وفيم هذه القهقرى؟ قال سبنسر: إنهم «يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وسببه تقدم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق قومنا وهكذا سائر شعوب أوروبا.» ثم قال: إنه لا أمل له في صد هذا التيار؛ «لأنه لا بد أن يأخذ مده إلى غاية حده في أوروبا. إن الحق عند أهل أوروبا الآن للقوة».
وفارق الأستاذ الإمام دار الفيلسوف وهو يدير في خاطره كلمة الحق للقوة، ويصف أثرها في نفسه، ويحس أنها ما كانت لتحدث لديه هذا الأثر لو جاءت من ثرثارة يهرف بما لا يعرف، ثم يدون هذه الخاطرة في مذكراته:
هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرا مما يفيد في راحة الإنسان ... أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها عليه، حتى يعرفها ويعود إليها هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كانت من الحديد اللامع المضيء، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني؟ ... حار الفيلسوف في أوروبا وأظهر عجزه مع قوة العلم، فأين الدواء؟ الرجوع إلى الدين، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان، لكنهم يعودون فيجهلونها.
الفلسفة الأدبية
وربما كانت آراء محمد عبده - المفتي الأكبر - في الفنون الجميلة أقرب إلى تعريفنا بسعة الأفق التي امتاز بها هذا العقل الراجح من سائر آرائه في المسائل العقلية والاجتماعية، فإنه كان يكتب قبل ستين سنة ليحبب الفنون الجميلة إلى الناس في الوقت الذي كان الرأي الشائع فيه عن النحت والتصوير أنهما حرام مستنكر ... وكان المتعلمون العصريون أنفسهم يحتقرون هذه الفنون ولا ينظرون إليها نظرة جدية، أو يحسبونها حتى من الكمالات المحتملة، فضلا عن اللوازم المطلوبة، وقد خلا الشرق العربي من مدرسة واحدة لهذه الفنون، وقلت العناية بها في الصحف السيارة، ولم يظهر - بعد - لها أثر على اللوحة البيضاء يعود الناس أن يحتفلوا برؤيتها، فكان أكثر ما ينتظر من رجل الدين المتحرر أن يدفع عنها وزر التحريم، ويجعلها من المباحات السائغة لمن يزاولها، ولكن محمد عبده - المفتي - كان يكتب يومئذ لينوه بها ويفسر معنى الإقبال عليها بين الغربيين - لمن يجهله منا - بأنها عندهم كالشعر عندنا، وأنها لغة نفسية تفرق في تعبيراتها بين أدق المعاني الشعرية التي لا تظهر التفرقة بينها من أسمائها وأوصافها، وفي ذلك يقول من فصل كتبه في سنة 1903:
إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر وضبطه في دواوينه، والمبالغة في تحريره، خصوصا شعر الجاهلية، وما عني الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى ... إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، يصورون الإنسان أو الحيوان، في حال الفرح والرضى، والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض ، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة، فتجد الفرق ظاهرا باهرا، يصورونه مثلا في حالة الجزع والفزع، والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان في المعنى ولم أجمعهما هنا طمعا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع، وما الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك ... وأما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت، فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك كما يتلذذ بالنظر فيها حسك، إذا دعتك نفسك إلى تحقيق الاستعارة المصرحة في قولك: رأيت أسدا، تريد رجلا شجاعا، فانظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الكبير، تجد الأسد رجلا أو الرجل أسدا، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها ...
ويعرض بعد ذلك حكم الشريعة في تلك الفنون فيقول: «ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية، إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية؛ هل هذا حرام أو جائز؟ أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة، قد محي من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالا إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة، فإذا أوردت عليه حديث: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون.» أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: «إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في العهد لسببين: الأول اللهو، والثاني التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضع نزاع، وأما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر ... ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصورة على كل حال مظنة العبادة، فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضا مظنة الكذب، فهل يجب ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب؟ ... وبالجملة يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من وجهة العقيدة ولا من وجهة العمل، على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا أنفسهم منها، وإلا فما بالهم لا يتساءون عن زيارة قبور الأولياء أو ما سماهم بعضهم من الأولياء وهم ممن لا تعرف لهم سيرة، ولم يطلع لهم أحد على سريرة؟ ... وهم يخشونها كخشية الله أو أشد، ويطلبون منها ما يخشون ألا يجيبهم الله فيه، ويظنون أنهم أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه وتعالى ... لا شك أنهم لا يمكنهم الجمع بين هذه العقائد وعقيدة التوحيد، ولكن يمكنهم الجمع بين التوحيد ورسم صور الإنسان والحيوان، لتحقيق المعاني العلمية وتمثيل الصور الذهنية ...»
والمفتي هنا يشير إلى «المفتي» بصيغة الضمير للغائب، ولا يجزم بفتواه جزم التوكيد؛ لأنه كان يكتب تلك الرسائل من أوروبا ويوقعها بتوقيعه المستعار كما تعود في كتابة رسائل الرحلات.
هذا رأيه في الفنون الجميلة التي لم يشتغل بها ولم يشتغل بها فنان خبير بها في عصره، فلا عجب أن يكون رأيه في فنه الجميل الذي كان هو إمام المشتغلين به - وهو فن البلاغة - رأي الرائد الذي يذوق أسراره في أشكاله ومعانيه تذوقا سبق به النقاد من خلفائه، ولا يزال منه من يقتفي آثاره ولا يدرك مداه.
كان محمد عبده الناقد البليغ يوقن أن اللغة مادة البلاغة وجمال التعبير، وكان من شواغله الكثيرة شاغل واحد لم تشغله عنه مهمة من مهام أعماله المتعددة التي تنوء بالعمل منها كواهل المنقطعين له والمتوفرين عليه، وذلك الشاغل الواحد هو إحياء اللغة مادة وعلما ودراسة وكتابة، فكان يعين جماعة إحياء الكتب العربية بعلمه ووقته وماله ونفوذه، وكان ينشر نماذج البلاغة السلفية ويشرحها بقلمه، أو ينوه بها في دروسه وتفسيراته من قبيل نهج البلاغة، ومقامات البديع، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة. ومن أهم المراجع اللغوية التي بذل الجهد في استحضارها وتشجيع الواقفين على طبعها كتاب المخصص لابن سيده، وهو نوع من المعجمات المبوبة على حسب المعاني والأغراض، أنفع من أكثر المعجمات التي لا عناية لها بغير جمع المفردات.
ومذهب محمد عبده الناقد في تحصيل مادة اللغة أنها تحصيل ملكة وليست بتحصيل قواعد ومصطلحات؛ لأن دقائق الفصاحة والبلاغة وبراعة التعبير تحيي الفهم، وترك الاشتغال بها «موت للحياة العقلية» ... وكان يقول: إن الكلام البليغ سهل على الفطرة، ولكنه «صعب على كل عقل تعلم البناني على السعد»، ولا قدرة للأديب على القصد في التعبير بغير توفير مادته من اللغة، ولا خير في المبالغة؛ «فإنما يأتي بالمبالغة من كان مجازفا في رأيه، والعقل السليم لا يتعدى الصدق» ... ورأيه في الشعر البليغ مع جودة اللغة أنه لا يكون شعرا إلا إذا كانت ألفاظه آخذة بجزء من روح الشاعر، وإلا فهو نظم لا بلاغة فيه. وقد كانت توجيهاته لتلاميذه من الشعراء فاتحة اشتغال شعراء عصره بالتعبير عن الحياة الإنسانية - عامة وخاصة - ولولاه لما ظهر كثير من القصائد في الموضوعات العامة، ومنها قصائد كثيرة لحافظ إبراهيم، وعبد المحسن الكاظمي، ومحمد إمام العبد، وربما أملى على الشاعر ما يقوله حضا لبعض المحسنين بأسمائهم على معونة المنكوبين، كما فعل من قصيدة «حريق ميت غمر» التي نظمها حافظ إبراهيم. •••
ويصدق على الشيخ محمد عبده الأديب أنه استعاد أطوار الأدب في كتابته من نهاية عصر التقليد إلى الطور الأوسط من عصر التجديد الحديث؛ ففي كتاباته الأولى كان يلتزم السجع على عادة المتأخرين، مع اجتناب اللغو الذي كانوا يخلطونه بمقالاتهم ولا يتحرون فيه معنى مفهوما يقصدون إليه، ثم تخلص من قيود السجع وترسل في أسلوبه، مع تحري الفصاحة في الكلمة وتصحيح الخطأ المشهور من أخطاء النحو والصرف التي كانت تتخلل الكتابة في عصره ولا تزال تتخللها في كتابة المتحرزين من هذه الأخطاء، لغلبتها الطويلة منذ أزمنة بعيدة على المفردات والتراكيب، وقد سلم أسلوب الأستاذ الإمام منها إلا القليل الذي لا يصعب رده إلى القاعدة ببعض التجوز والتأويل، ولو من قبيل تجويز الخطأ المشهور. وقد نظم الشعر في الحوادث التاريخية وفي بعض المناسبات الخاصة، وعده من النظم الذي يراد للتدوين أو التذكير، ولا يرتضيه شعرا على مذهبه في فن الشعر بين ألوان الفن الجميل.
ولم يتسع له الوقت لتأليف الكتب في علومه التي كان يشارك فيها مشاركة وافية كعلوم الدين والفلسفة والبلاغة، ولكنه فسر القرآن الكريم إلى سورة النساء، وفسر السور التي كان يحفظها التلاميذ من الجزأين الأولين، وشرح الفلسفة الإسلامية في تعليقه على العقائد العضدية، والمنطق في شرحه للبصائر النسفية، وكتب رسالة التوحيد تبسيطا لهذه الفلسفة، واجتمع من مقالاته في الرد على هانوتو كتيب صغير، واجتمع من مقالاته عن الإسلام والنصرانية كتاب أكبر منه وأوسع في بابه، وله في الأدب شرح نهج البلاغة ومقامات البديع، وله في التصوف رسالة الواردات التي كتبها في صباه، ورسالة أخرى في علم الاجتماع ألفها يوم عمل في التدريس بدار العلوم، ولكنها ضاعت ولم يبق من فصولها - أو على الأصح من معانيها - غير ما أودعه بعض البحوث في الوقائع المصرية والأهرام وصحيفة العروة الوثقى ومجلة المنار، وتقديمه لترجمة رسالة الرد على الدهريين.
ولا يحسب هذا المحصول قليلا من مجهود التأليف في حياة رجل جم المشاغل والأعباء توفي وهو يناهز الثامنة والخمسين، ولكن عظمة هذا العقل الكبير وسعة الآفاق التي كان يجول فيها بتفكيره وجهوده تصغر هذا المحصول بالقياس إلى المحصول الذي كان مستطاعا له مع اليسر وقلة الكلفة لو أنه انقطع للتأليف، فليست هذه المؤلفات، على وفاء الفلسفي منها في بابه، إلا كالشعاع القوي الذي ينبثق عن الشمس، فيدل على ما احتجب منها، ولكنه يعطي الناظرين كل ما تعطيه الشموس من ضور النهار، تتلقاه النوافذ وتحول دونه الجدران. •••
ولا نحسب أننا نحيط بذلك الأفق الواسع من شتى نواحيه إذا ختمنا الكلام على المصلح الفيلسوف دون أن نذكر حظه من فنون الرياضة البدنية، إلى جانب حظه الكبير من رياضات العقل والروح، فقد كان هذا المجاهد الباسل في ميادين الإصلاح فارسا سباقا في ميادين الفروسية والرياضة البدنية، وكان فتيان إقليمه يرحلون إليه لمباراته واكتساب الشهرة بسبقه أو اقتران أسمائهم باسمه، وظل إلى آخر أيامه يركب الجواد أحيانا من بيته بعين شمس إلى القاهرة، أو من القاهرة إلى بيته ... وكان يمتطيه كثيرا في ذهابه إلى الجامع الأزهر، ويقول لمن يراجعه من أنصار التقليد: إن الفروسية كانت من سمت النبوة، وإن العالم الذي يتوكأ على السند إلى اليمين والشمال إنما يدرج - كما قال في تقريعه اللاذع - على سمت «ستي هانم»، وليس هو بسمت علم ولا عمل. وقد شهدناه في أسوان يحضر على صهوة جواد إلى ميدان الرياضة، ليشهد مباراة كرة القدم بين مدرستها وإحدى المدارس القريبة منها، فأعجبنا منه رجل الدين المهيب، يزيده وقارا ولا يخل بوقاره أن يقدس رياضة الأبدان بقداسة الدين؛ وفهمنا بهذه الزيارة الصامتة درسا عن الإسلام في عصر الحركة التي لا تهدأ، والحياة التي لا تقبل الجمود والوناء، إنه دين النفس القوية في الجسد القوي، لا إمام له أحق بالاتباع من هذا الإمام.
الفصل الرابع عشر
شخصية ولا شخصية
لوحظ في كتابة التراجم والسير أن البحث عن أحوال الشخصيات المشهورة يغري القارئ - والكاتب معا - بالبحث عن أحوالها «الشخصية»، ويشوق المستطلع إلى جوانبها الخاصة التي تقابل جوانبها العالية، أو جوانبها التي اشتهرت فيها أعمالها العامة.
ونلاحظ قديما وحديثا - قبل كتابة هذه الصفحات التي نختمها بهذا الفصل - أن سيرة محمد عبده كانت إحدى السير التي يقع فيها الاستثناء القليل من هذه القاعدة، فإننا نزداد اكتفاء بأخباره العامة - عن أخباره الخاصة - كلما توسعنا في معرفتنا به ومعرفتنا ببواعث أعماله، كأننا نحس بعد التوسع في المعرفة بشخصيته أنها «شخصية» ولا شخصية، أو أن أعماله الخاصة هي أعماله العامة بغير حاجز من السر أو العلانية يفصل بينهما، فكل ما فيها من بواعث «الأنانية» والأثرة فهو فيها جنبا لجنب إلى بواعث الإنسانية والإيثار.
يشوقنا كلما فهمنا عملا من أعماله أن نراه ونتأمل صورته المشهودة، كأنما نسائل أنفسنا: أي طلعة تكون لهذا الإنسان الذي غاب يجمع نفسه وعقله في الشعور الإنساني، حتى كاد أن يخفى بشخصه عن عالم الملامح والقسمات، لولا أنه شخص عظيم لا يجوز عليه الخفاء.
نتطلع إلى رؤيته لنرى كيف تتمثل فيه هذه «الإنسانية» الصافية مطبوعة أمام النظر بطابع إنسان واحد، ولكننا لا نبحث كثيرا بعد ذلك عما يعنيه؛ لأننا علمنا أن شئونه الخاصة لا تنعزل عن شئونه العامة، وأن قرابته في داره وجواره هي إحدى قراباته العامة، قرابته الإنسانية، وليست قرابة أخرى لها حال غير هذه الحال، ووجود غير هذا الوجود، وحجاب يتغير جانبه من هنا عن جانبه من هناك.
رأيت الشيخ محمد عبده مرات معدودة، ورأيته مرات لا تحصى في صوره الشمسية التي لا تلتبس إحداها ملامح صورة أخرى، فكانت النظرة الأولى كالنظرة الأخيرة إلى تلك الملامح فيما تنم عليه وتشير إليه.
قوة وطيبة متفقتان لا يبين لك أنهما تنازعتا يوما أو تتنازعان، فهو قوي لا ينازع طيبته نية من نياتها، وهو طيب لا ينازع قوته دافعا من دوافعها، وهو أقرب الناس سمة بما يرتسم في أخلادنا من سمات النبوة، وهي في طلعتها الإنسانية بشر مثلنا، وإن لم نكن نحن بشرا مثلها فيما تتلقاه من وحي الله.
قال عنه تلميذه وصديقه وأقرب الناس إليه في عامة أمره وخاصته، صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا تغمدهما الله برضوانه: «إنه سليم الفطرة، قدسي الروح، كبير النفس، وصادف تربية صوفية نقية زهدته في الشهوات والجاه الدنيوي وأعدته لوراثة هداية النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافيا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار.»
وافتتح ترجمته بعد وفاته بنحو عشرين سنة بقوله عنه: «إن هذا الرجل أكمل من عرفت من البشر دينا وأدبا ونفسا وعقلا وخلقا وعملا وصدقا وإخلاصا، وإن من مناقبه ما ليس له فيه ند ولا ضريب، وإنه لهو السري الأحوذي العبقري.»
وقال قبل ذلك: «إنني وايم الحق لم أطلع له على عمل إلا الحقيق بلقب المثل الأعلى من ورثة الأنبياء.»
وقال قبل ذلك: «إنني وايم الحق لم أطلع له على عمل ينافي العفة والنزاهة، ولا الورع والشرف، ولا هفوة تدل على كامن حقد أو حسد، فهو أكمل من عرفت من البشر، ومن اطلع على دخائل كثير من المشهوروين بالعلم والتقوى، أو الحكمة والفلسفة أو تاريخهم الصحيح، رأى كثيرا من العجر والبجر، فما قولكم في زعماء السياسة وعشاق الرئاسة.»
وهذا السمت الذي وصفه صاحب المنار بعد الخبرة الطويلة هو السمت الذي كان يبده الناظر إليه من الغرباء عند النظرة الأولى، كما وصفه هارولد سبنسر كاتب حزب الأحرار الإنجليزي في صحيفتهم الديلي كرونكل بعد وفاته بأسابيع؛ إذ يقول عن لقائه له بدار صديقه عدو الاستعمار ويلفرد سكاوين بلنت:
هنا أمسك مستر بلنت عن الكلام والتفت فجأة لسماعه وقع حوافر فرس، فقال: ها هو الرجل ... فالتفت مثله، فإذا أنا بصورة إنسان يقول الناظر إليها إنها برزت من كتب الأنبياء الأقدمين، شيخ حسن البزة جهير يمتطي فرسا عربيا كميتا جميلا، يقبل نحونا على مهل.
كانت له طلعة وسيمة مهيبة، تتوقد فيها عينان نفاذتان، على قامة معتدلة لا إلى البدانة ولا إلى النحول، أبيض اللون إلى سمرة، شائع الشيب في رأسه ولحيته قبل أوان المشيب، وبنيته على ما وصف به شبابه بنية رجل سليم الجسد مكين البنيان، تعرض في عنفوانه لتسمم سرى إلى الدم من دمل لم يعقم، فنجا منه بمعجزة الجسد المكين والدم القوي والعزيمة الصادقة، وظلت عقابيله تعاوده فيما كان يعتريه من آلام المفاصل حينا بعد حين، ولم تكن وفاته دون الستين بمرض من أمراض الهرم العاجل، ولكنه توفي من أثر سرطان في الكبد لم يتحقق منه الأطباء قبل استفحال الداء .
هذه هي شخصية محمد عبده لمن تشوقه الشهرة المسموعة إلى الرؤية المشهودة، فإذا تطلع إلى الخبر الخاص من سيرته، فالذي يعلمه بعد البحث الطويل قليل، ولكن القليل فيه والكثير يستويان في التعريف بما يعنينا من تلك العظمة وما يعنيها: شخصية ولا شخصية، وإنسان له «أنانية» تخصه من بين جميع الناس، ولكنها كأنانية النوع الإنساني كله تحيزت بمكانها في فرد إنسان.
توفي عن زوجته اللبنانية السيدة رضا حمادة من آل بيت حمادة، ولم يعقب من الأبناء الذكور غير ولد واحد توفي في طفولته، وأعقب أربع بنات كانت إحداهن دون سن الزواج عند وفاته، وتزوج أخواتها بثلاثة إخوة، هم الأستاذ محمد يوسف المحامي، وشقيقاه الأستاذان عبد اللطيف وعثمان.
وكان له عند وفاته ثلاثة إخوة من أبيه، أصغرهم «حمودة بك» الذي رباه من طفولته وتولى عنه شئونه الخاصة التي لم يفرغ لها طول حياته، وهو الذي اشترى باسمه أرض الدائرة السنية التي كانت تباع بالتقسيط، واشترى باسمه خمسة وثلاثين فدانا من صحراء عين شمس كان الفدان منها يباع بعشرة جنيهات، ثم بيع بعد ذلك بخمسة وأربعين بعد البدء بتعمير الصحراء. أما مسكن الشيخ محمد عبده بصحراء عين شمس فهو فدان من الأرض الخلاء تركه له المستشرق ويلفرد سكاوين بلنت يوم أمر بالسفر من الديار المصرية، وبنى عليه مسكنا متواضعا هو الذي اشترته وزارة الشئون الاجتماعية لتخليد ذكراه، ومن ثمنه سدد الورثة ما بقي من أقساط الثمن على الأرض التي اشتراها أخوه في حياته، وقد كانت الأسرة تملك نحو أربعين فدانا من أرض البحيرة المثمرة، فلم يجتمع في يديه من ميراثه ومن مرتباته وأثمان مؤلفاته غير ذلك المقدار اليسير من المال، الذي يكفي لشراء الفدادين من أرض في الصحراء أو أرض تباع بالتقسيط. •••
وهذا المصلح المحسن الذي لم يفارقه شعور الحاجة قط ليغني ذوي الحاجات، لم يخامره الشعور بالحاجة يوما ليطلب الغنى بما تملكه الأيدي ويحفظ في صكوك المواريث.
الفصل الخامس عشر
سنوات في تاريخ الأستاذ الإمام
سنة
1849
ولد بقرية محلة نصر
1859
بدأ تعلم القراءة بمنزل والده
1862
تلقى أول دروس التجويد بالمسجد الأحمدي
1864
تلقى أول دروسه العملية بالمسجد
1865
عاد إلى قريته وتزوج
1865
أعاده والده إلى المسجد
1865
حضر أول الدروس بالجامع الأزهر
1869
لقي السيد جمال الدين
1873
أخذ في الكتابة المنشورة
1875
ألف حاشيته على شرح الدواني
1877
نال شهادة العالمية
1878
عين مدرسا بدار العلوم
1880
عين محررا للوقائع المصرية
1882
نفي من مصر لاشتراكه في الثورة العرابية
1884
سافر من بيروت إلى باريس لإنشاء مجلة العروة الوثقى مع السيد جمال الدين
1885
عاد إلى بيروت واشتغل بالتدريس، وترجم رسالة الرد على الدهريين وشرح مقامات البديع ونهج البلاغة
1889
عاد إلى مصر، وعين قاضيا بالمحاكم الأهلية
1891
عين قاضيا بمحكمة الاستئناف
1895
عين عضوا بمجلس إدارة الأزهر
1897
ألف رسالة التوحيد وشرح البصائر النصيرية
1899
عين مفتيا للديار المصرية، ثم عضوا بمجلس الشورى
1900
انتخب رئيسا للجمعية الخيرية الإسلامية
1902
ألف كتاب الإسلام والنصرانية
1903
نشر الرد على هانوتو
1905
اعتزل مجلس إدارة الأزهر
1905
توفي بالإسكندرية
Unknown page