فقال الناصر: «كأنك دبرت الوسيلة لقتلي أيضا ولم تنجح، فكيف خطر لك أن تفعل ذلك ونحن لم نقصر في إكرامك؟ وما الذي كنت تتوقعه من اقتراف تلك الجريمة؟ إنها لم تكن لتغنيك بالمال ولا لترفع منزلتك، بل قد تكون سببا في الحط من شأنك حتى عند نفسك يوم يثوب إليك رشدك، وترى أنك قتلت الأبرياء وأسأت إلى من أحسن إليك.» •••
فاعتدل سعيد في موقفه ووجه خطابه إلى الناصر باهتمام وجرأة وقال: «يعلم أمير المؤمنين أنه لم يقل لي شيئا لا أعلمه، وقد اعترف لي بسداد الرأي والحكمة والتعقل، ولكنه يسألني عما حملني على مخالفة الصواب وتعريض نفسي لذلك الخطر. لم يحملني على ذلك يا أمير المؤمنين طمع في مال؛ فإن الأموال كثيرة عندي، ولا الحياة فإني لا أرى السعادة بها. لقد ارتكبت كثيرا من الرذائل، ارتكبت الخيانة والغدر والكذب وأنا أعلم جيدا أنها رذائل، وأن مثلي يجب أن ينزه نفسه عنها. لم أرتكبها طمعا في المال أو الجاه كما قلت ولكن ...» ولما وصل إلى هنا، تغيرت سحنته وتشاغل ببلع ريقه والجميع سكوت، وقد أمسكوا أنفاسهم تشوقا لسماع ما يعتذر به سعيد عن نفسه، فلما سكت جعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض.
أما سعيد فرفع كمه ومسح به دمعة انحدرت على خده، واستدرك فقال: «لا يظن أمير المؤمنين أني أبكي جزعا من الموت؛ إني لا أرى السعادة في الحياة، كما أني لا أراها في الجاه ولا المال.»
الفصل الثامن والسبعون
الجسارة
فاستغرب الخليفة تعبيره وتشوق لتتمة حديثه فقال: «أنا أعلم أنك لا تخاف الموت لأن أعمالك الماضية تدل على ذلك، ولكني سألتك عن سبب إقدامك على الخيانة، وأنت أعقل من أن تأتيها عن جهل، ونحو أمير المؤمنين أيضا! ألم تخش بأسه؟»
فأجابه سعيد: «إن الرذيلة التي لا يجوز ارتكابها مع أمير المؤمنين لا يجوز ارتكابها مع سائر الناس، وأستأذن الإمام الناصر بكلمة أقولها وأنا في آخر يوم من حياتي: إن المنصب الذي يشغله أمير المؤمنين إنما ساقته إليه المقادير وهو غير مخير، ولو وجد فيه سواه لبلغ إلى مثله. لا تغضب يا سيدي، لو لم تولد من بيت الخلافة وينصرك الناس على قتل الناس لم تبلغ هذا المقام، فأنت وصلت إليه على جسر من الجماجم فوق بحر من الدم، وأي فخر في ذلك؟! فلما رفعوا مقامك وبايعوك وجعلوك خليفة بنيت القصور وأكثرت من الجواري والخصيان، وأمرت الناس أن يعظموك، وقد فعلوا وهم يحسبون أن لك فضلا عليهم، والفضل لهم في صيانة دولتك والدفاع عن حياتك. ثم أنت تنكر على أحدهم جزءا صغيرا مما تحوزه لنفسك، ولا ذنب لك في ذلك؛ فإنها القاعدة التي جرى عليها الناس من قبل، ولكنها ليست هي أسباب السعادة.»
فامتعض الناصر من تلك الجسارة، لكنه تجلد وصبر عليه حلما وسعة وقال: «ربما كنت مصيبا، لكنك لم تجبنا عما حملك على تعريض نفسك، فضلا عن ارتكاب الخيانة وغيرها من الرذائل، وأنت الحكيم العاقل؟»
قال سعيد: «لست أول حكيم عاقل ارتكب الرذائل في سبيل مطلبه.»
قال الناصر: «نعم، ولكننا لم نفهم الغرض الذي حملك على ذلك.»
Unknown page