Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genres
فمن مصلحة المستبد شيوع أخلاق الملق والنفاق والريبة والأثرة التي تشغل المحكوم بمنفعته القريبة دون كل منفعة عامة ينتفع بها هو أو ينتفع بها غيره بعد حين. «وأقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم - حتى الأخيار منهم - على ألفة الرياء والنفاق ... وأنه يعين الأشرار منهم على إجراء ما في نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح؛ لأن أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذي شر وعقبى ذكر الفاجر بما فيه؛ ولهذا شاعت بين الأسراء قواعد كثيرة باطلة كقولهم: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، وقولهم: «البلاء موكول بالمنطق»، وقد تغالى وعاظهم في سد أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه الأقوال من الحكم النبوية ...»
ومن آثار أخلاق الذلة والخضوع أنها تؤذي الأجسام فضلا عن العقول، وتشيع المرض في بنية الحي كما تشيع المرض في ضميره، وإن في ذلك شاهدا بينا «يقاس عليه نقص عقول الأسراء البؤساء بالنسبة إلى الأحرار السعداء، كما ظهر الحال أيضا ... من الفرق البين في قوة الأجسام وغزارة الدم واستحكام الصحة وجمال الهيئات».
ومن سوء أثر الاستبداد أنه «يضعف الثقة بالنفس»، ويفقد الناس ثقة بعضهم ببعض «فينتج من ذلك أن الأسرى محرومون طبعا من ثمرة الاشتراك في أعمال الحياة؛ يعيشون مساكين بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين، والعاقل الحكيم لا يلومهم بل يشفق عليهم ويلتمس لهم مخرجا، ويتبع أثر أحكم الحكماء القائل: «رب ارحم قومي؛ فإنهم لا يعلمون» ...»
ولا بقاء للاستبداد إذا تعود الناس الاشتراك في الرأي والتعاون على العمل، فعلى هذا الاشتراك يقوم نظام الرعايا الأحرار في الأمم التي سقط فيها حكم الاستبداد وخلفته حكومة الأمة للأمة؛ «فبه سر الاستمرار على الأعمال التي لا تفي بها أعمار الأفراد. نعم، الاشتراك هو السر كل السر في نجاح الأمم المتمدنة، به أكملوا ناموس حياتهم القومية، به ضبطوا نظام حكوماتهم، به قاموا بعظائم الأمور، به نالوا كل ما يغبطهم عليه أسرى الاستبداد الذين منهم العارفون بقدر الاشتراك ويتشوقون إليه، ولكن كل منهم يبطن الغبن لشركائه باتكاله عليهم عملا واستبداده عليهم رأيا، حتى صار من أمثالهم قولهم: «ما من متفقين إلا وأحدهم مغلوب» ...»
ويرى الكواكبي أن حكم الاستبداد قد استفحل بين المسلمين بعد إهمالهم حياة الجماعة والمشاورة بين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، وأن سبب الفتور الذي أصابهم - كما جاء بلسان خطيب من «خطباء» أم القرى - «هو فقد الاجتماعات والمفاوضات ... إذ نسوا حكمة تشريع الجماعة والجمعة وجمعية الحج، وترك خطباؤهم ووعاظهم - خوفا من أهل السياسة - التعرض لشئون العامة، كما أن علماءهم صاروا يسترون جبنهم بجعلهم التحدث في الأمور العمومية والخوض فيها من الفضول والاشتغال بما لا يعني، وأن إتيان ذلك في الجوامع من اللغو الذي لا يجوز، وربما اعتبروه من الغيبة والتجسس أو السعي بالفساد، فسرى ذلك إلى أفراد الأمة وصار كل فرد لا يهتم إلا بخويصة نفسه وحفظ حياته في يومه، كأنه خلق أمة وحده ...!» •••
ولما فرغ من قسمة الأخلاق بمقياسه الدائم إلى قطبين متقابلين: أخلاق الاستبداد وأخلاق الحرية، أو أخلاق لمصلحة الحاكم المطلق وأخلاق لمصلحة الرعايا، نظر في تقسيمها درجات على حسب المصلحة التي تعنى بها، وأنواعا على حسب نصيبها من الشرف والرفعة.
فالمصالح التي تحققها الأخلاق هي مصلحة الإنسان نحو نفسه، ومصلحته نحو عائلته، ومصلحته نحو قومه، ومصلحته نحو الإنسانية، وهذه هي الأخلاق العليا التي تسمى عند الناس بالناموس.
ثم هي أنواع: «الخصال الحسنة الطبيعية كالصدق والأمانة والهمة والمدافعة والرحمة ... والخصال الكمالية التي جاءت بها الشرائع الإلهية كتحسين الإيثار والعفو وتقبيح الزنا والطمع ... ويوجد في هذا النوع ما لا تدرك كل العقول حكمة تعميمه فيمتثله المنتسبون للدين احتراما وخوفا ... والنوع الثالث: الخصال الاعتيادية، وهي ما يكتسبه الإنسان بالوراثة أو التربية أو الألفة ... والتدقيق يفيد أن الأقسام الثلاثة تشتبك وتشترك ويؤثر بعضها في بعض فيصير مجموعها تحت تأثير الألفة المديدة ... ترسخ أو تتزلزل حسبما يصادفها من استمرار الألفة أو انقطاعها ... فالقاتل - مثلا - لا يستنكر شنيعته في المرة الثانية كما استقبحها من نفسه في الأولى، وهكذا يخف الجرم في وهمه حتى يصل إلى درجة التلذذ بالقتل كأنه حق طبيعي له، كما هي حالة الجبارين وغالب السياسيين الذين لا ترتج في قلوبهم عاطفة رحمة عند قتلهم أفرادا أو أمما لغاياتهم السياسية إهراقا بالسيف أو إزهاقا بالقلم.»
وهنا يئول الأمر إلى مساوئ الاستبداد في إفساد الأخلاق؛ لأن ألفة الأحوال العامة تتبعه وتنطبع انطباع العادة في ظله، «ويكفيه مفسدة لكل الخصال الحسنة الطبيعية والشرعية والاعتيادية تلبسه بالرياء اضطرارا حتى يألفه ويصير ملكة فيه فيفقد بسببه ثقة نفسه بنفسه.» •••
ولا يفوتنا - ونحن نختم القول في آراء الكواكبي - أننا أمام «برنامج عملي» يصدق عليه وصف «البرنامج»، قبل أن يصدق عليه وصف الفلسفة أو المذهب أو النظرية، فلم يكن يعنيه أن يدرس الأخلاق من وجهة الأصول العامة والمبادئ النظرية كما عناه أن يدرسها من زاوية النظر إلى الاستبداد وأثر الحكومة المستبدة التي يبدأ منها ويعود إليها في كل شرح من شروحه وكل سند من أسناده؛ ولهذا اخترنا اسم «البرنامج» لفلسفته العملية، واخترناه إنصافا لمنهجه في التفكير وتبرئة له من ضيق الحصر الذي يلازم الفكر المحدود فلا يخرج منه؛ لأنه لا يقدر على تجاوزه لأنه مشغول في بحوثه بالأمر الذي يعنيه.
Unknown page