Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genres
الفصل العشرون
الأخلاق
يكتب الكواكبي في جميع مباحثه بقلم الباحث المحلل الذي يزن آراءه بميزان المنطق العملي والتجربة العلمية، وينحو هذا النحو في كتابته عن الأخلاق وفي كتابته عن السياسة الحاضرة أو التاريخ الغابر، ولكنه يصل إلى بعض الصفات في سياق كلامه على الأخلاق ، فيخيل إليك أنه يود لو يدع القلم جانبا ليأخذ بيده ريشة النغم ويترنم وهو يتكلم، وأولى هذه الصفات صفة الإرادة وصفة الحرية، وسائر الصفات التي تلغي الاستبداد أو يلغيها الاستبداد.
يقول في باب الأخلاق من طبائع الاستبداد: «ما هي الإرادة؟ هي أم الأخلاق، هي ما قيل فيه تعظيما لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة. هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة، فالأسير إذن دون الحيوان؛ لأنه يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه.»
ثم يقول في وصف الأسير مسلوب الإرادة: «لا نظام في حياته فلا نظام في أخلاقه، قد يصبح غنيا فيضحى شجاعا كريما، وقد يمسي فقيرا فيبيت جبانا خسيسا، وكذا كل شئونه تشبه الفوضى لا ترتيب فيها، فهو يتبعها بلا وجهة. أليس الأسير قد يبغي فيزجر أو لا يزجر، ويبغى عليه فينصر أو لا ينصر، ويحسن فيكافأ أو يرهق، ويسيء كثيرا فيعفى وقليلا فيشنق، ويجوع يوما فيضوي ويخصب يوما فيتخم، ويريد أشياء فيمنع ويأبى شيئا فيرغم ...؟»
ومما قاله عن الحرية في أم القرى: «إن البلية فقدنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؟ هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه!»
ثم قال: «إن الحرية أعز شيء على الإنسان بعد حياته ... بفقدانها تفقد الآمال وتبطل الأعمال وتموت النفوس وتتعطل الشرائع وتختل القوانين.»
وقد عرفنا من كل ما كتبه هذا المفكر العامل أنه منطقي مع نفسه في مذاهب تفكيره ... ولكن ما كتبه عن الإرادة والحرية بصفة خاصة أدل على هذه السليقة فيه، أو أعمق دلالة عليها من مسائل كثيرة طرقها ولا يستغرب فيها أن تتناسق وتطرد على وتيرة واحدة لظهور العلاقة بينها، وإنما اختصاص الإرادة والحرية بالتمجيد والتقديس آية من الآيات الصادقة على أصالة التفكير والشعور فيما يكتب عن هذه الأمور، أو هو آية على نفس مطبوعة بتفكيرها وإحساسها على إدراك مساوئ الاستبداد والفطنة لمواطن ضرره ومواطن طبه وعلاجه ، فلا الشجاعة ولا الكرم ولا العفة ولا المروءة تصور الخلق المطلوب في مناضلة الاستبداد كما تصوره الإرادة والحرية، ولا شيء ينفع في ذلك النضال مع فقدان الإرادة والحرية، ولا بد أن تقترنا معا لتمام الأهبة في ثورة الأمة على المستبد؛ لأن الإرادة بغير حرية تبع لصاحب السيادة؛ ولأن الحرية بغير إرادة تفقد الباعث على الحركة، فلا تدري لها وجهة تذهب إليها. ولعل العبد يعتزم ويريد ويصمد على عزمه وإرادته في خدمة سيده، فلا جدوى لغير هذا السيد في ملكة الإرادة التي يتصف بها عبيده ومطيعوه.
والاستبداد - كما لا يخفى - يتلخص في تغليب إرادة واحدة لا تسمح بإرادة أخرى تعمل إلى جانبها على خلاف هواها، فليس من الطبيعي أن يبقى لمن خضعوا له طويلا عمل يريدونه لأنفسهم ويتدبرونه فيما بينهم، فلا تعنيهم إرادة غير إرادة الحاكم المسلط عليهم، ولا يشغلهم شاغل في حياتهم غير الخوف من غضبه والسعي إلى رضاه، وشر من عملهم له راغمين خوفا منه، أن يعملوا له راضين جهلا بحقيقته وانقيادا لخداعه وخداع أذنابه ومؤيديه. •••
والواقع أن مؤلف طبائع الاستبداد قد حصر مشكلة الأخلاق جميعا في وضع واحد: خلاصته أنها «حرب إرادات بين الحاكم المطلق والرعايا المحكومين، فاستطاع - من ثم - أن يحسم المشكلة حسما سريعا بقسمة الأخلاق إلى قسمين متعارضين: قسم لمصلحة الحاكم المستبد، وقسم لمصلحة الرعايا المحكومين.
Unknown page