Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genres
ومما لا خلاف فيه أن من أهم حكمة الحكومات أن تتخلق بأخلاق الرعية وتتحد معها في عوائدها ومشاربها».
بل هو يصرح بما هو أقوى من ذلك وأدل على رأيه في حكومة عصره التركية؛ إذ يقول: إن التطابق بين الراعي ورعيته من العرب هو الواقع الممكن الذي لا محيد للحاكم عنه، وليس قصارى الأمر فيه أنه سياسة حسنة أو نصيحة مستحبة، ويستشهد بذلك بالحكومات - غير العربية - التي حكمت العرب قبل الترك العثمانيين؛ إذ يذكر آل بويه والسلجوقيين والأيوبيين والغوريين والأمراء الجراكسة وآل محمد علي، ثم يقول: «فإنهم ما لبثوا أن استعربوا وتخلقوا بأخلاق العرب وامتزجوا بهم وصاروا جزءا منهم، وكذلك المغول التاتار صاروا فرسا وهنودا، فلم يشذ في هذا الباب غير المغول الأتراك؛ أي العثمانيين، فإنهم بالعكس يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم لهم، فلم يسعوا باستتراكهم كما أنهم لم يقبلوا أن يستعربوا، والمتأخرون منهم قبلوا أن يتفرنسوا أو يتألمنوا، ولا يعقل لذلك سبب غير شديد بغضهم يستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم.» •••
ولا حاجة بالكواكبي بعد هذا البيان عن ضرورة التطابق بين الراعي والرعية إلى كلمة صريحة أو غامضة لجلاء الوجهة التي ينبغي أن تنتهي إليها مساعي العرب في يقظتهم، فلا بد أن يفلحوا ... ولن يفلحوا وهم عرب يملكهم عجم ... وملوكهم القائمون بالأمر لا يستعربون ولا يروقهم أن «يستترك» رعاياهم، ومنهم من يؤثر أن يتفرنس ويتألمن ويتجه نحو الغرب ولا يحول وجهته إلى قبلة شرقية.
فالغاية الماثلة أمام المجاهدين في سبيل اليقظة العربية هي «الاستقلال» وإقامة الدولة التي يقيمها العرب ويرعاها العرب، والمطالبة في انتظار تحقيق هذه الغاية بخير ما يمكن من وجوه الإصلاح التي تزيل أسباب الخلل في إدارة السلطنة العثمانية، وأهمها - فيما يهم البلاد العربية - «التمسك بأصول الإدارة المركزية مع بعد الأطراف عن العاصمة وعدم وقوف رؤساء الإدارة في المركز على أحوال تلك الأطراف المتباعدة وخصائص سكانها».
ويلحق بهذا السبب سببان آخران يبدو للنظر لأول وهلة أنهما متناقضان لولا أنهما يرجعان إلى حالتين مختلفتين، وهما حالة الرعية الشرقية وحالة الرعية الأجنبية غير العربية ممن تشملهم قوانين الامتيازات أو القوانين المحلية المقصورة على بعض الأقاليم.
فالسبب الأول يرجع إلى «توحيد قوانين الإدارة والعقوبات مع اختلاف طبائع أطراف المملكة واختلاف الأهالي والأجناس والعادات» ... ولا يخفى ضرر هذا التوحيد من الوجهة الاجتماعية والإدارية، حيث تتبع «الإجراءات» الواحدة في المقاضاة وتدبير الدواوين بين أطراف دولة تمتد من وادي النهرين إلى البحر الأبيض، ومن البحر الأسود إلى خليج عدن، وتسري على أقوام بينهم من الاختلاف ما بين الأرمن والجركس والترك والعرب في الحاضرة والبادية.
والسبب الآخر يرجع - كما قال الكواكبي - إلى «تنويع القوانين الحقوقية وتشويش القضاء في الأحوال المتماثلة».
ففي ظاهر الأمر يبدو أن صاحب «أم القرى» يشكو في وقت واحد من توحيد الإجراءات والقوانين ومن تنويعها واختلافها، وهي شكوى متناقضة، ولكنه تناقض في الظاهر دون الحقيقة كما أسلفنا؛ لأن هذه الشكوى في مؤتمر أم القرى خاصة، إنما يثيرها التنويع الذي يقوم على التمييز بين جنس وجنس وطائفة دون طائفة؛ إذعانا للمعاهدات الأجنبية تارة أو مراعاة للمنازعات الطائفية واستبقاء لبواعث تلك المنازعات تارة أخرى. وقد كان هذا التمييز عرفا شائعا في نظم الدولة يعم تشريعات الإدارة والأحوال الشخصية، ويختلف بالإقليم الواحد بين فئة وفئة وبين عشيرة وعشيرة، ولا يقتصر على الأجانب ولا على الأقاليم التي نشبت فيها الثورات وتدخلت فيها الدول لتقرير نظام الولاية أو الإدارة فيها.
فالكواكبي كان يشكو في الحالتين من شيء واحد، وهو مخالفة الشريعة للمصلحة؛ إما بالتسوية حيث تفرق الأحوال، أو بالتفرقة حيث تلزم العدالة والمساواة.
وربما أضاف الكواكبي شكواه الفنية إلى هذه الشكوى الاجتماعية من تلفيق القوانين والإجراءات، فإنه - وهو الخبير بفقه التشريع - كان ينكر من دعاة التجديد من فقهاء الترك أنهم على تقديره لم يحسنوا المحافظة ولم يحسنوا الابتداع، وأن الدولة ترخصت في تبديل قواعد التشريع لغير ضرورة وتشددت في بعضها الآخر كذلك لغير ضرورة «وجاءها أكثر من هذا الخلل في الستين سنة الأخيرة؛ أي بعد أن اندفعت لتنظيم أمورها فعطلت أصولها القديمة ولم تحسن التقليد ولا الإبداع، ففشلت حالها ولا سيما في العشرين سنة الأخيرة التي ضاع فيها ثلثا المملكة وخرب الثلث الباقي وأشرف على الضياع؛ لفقد الرجال وصرف حضرة السلطان قوة سلطنته كلها في سبيل حفظ ذاته الشريفة وسبيل الإصرار على سياسة الانفراد».
Unknown page