سيرة ممهدة
الكتاب الأول
1 - مدينة
2 - العصر
3 - أسرة الكواكبي
4 - النشأة
5 - ثقافة الكواكبي
6 - أسلوب الكواكبي
7 - المؤلف
8 - الجامعة الإسلامية والخلافة العثمانية
9 - أم القرى
10 - طبائع الاستبداد
11 - شخصية مكونة
12 - في مصر
الكتاب الثاني
13 - برنامج إصلاح
14 - الدين
15 - الدولة
16 - النظام السياسي
17 - النظام الاقتصادي
18 - التربية القومية
19 - التربية المدرسية
20 - الأخلاق
21 - وسيلة التنفيذ
خاتمة المطاف
سيرة ممهدة
الكتاب الأول
1 - مدينة
2 - العصر
3 - أسرة الكواكبي
4 - النشأة
5 - ثقافة الكواكبي
6 - أسلوب الكواكبي
7 - المؤلف
8 - الجامعة الإسلامية والخلافة العثمانية
9 - أم القرى
10 - طبائع الاستبداد
11 - شخصية مكونة
12 - في مصر
الكتاب الثاني
13 - برنامج إصلاح
14 - الدين
15 - الدولة
16 - النظام السياسي
17 - النظام الاقتصادي
18 - التربية القومية
19 - التربية المدرسية
20 - الأخلاق
21 - وسيلة التنفيذ
خاتمة المطاف
عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
تأليف
عباس محمود العقاد
سيرة ممهدة
بدأت بحثي في سيرة الكواكبي فرأيت أن أعود إلى تاريخ «حلب»؛ لأعرف الكواكبي من المدينة التي نمته وأنشأته، وأعرف من تواريخها وأحوالها أين تقع المزية التي كان لها الفضل في نشأته وتفكيره والاتجاه به إلى وجهة حياته.
ويعلم قراء العربية أن مدينة حلب إحدى المدن «المخدومة» من الناحية التاريخية بين مدن الشرق العربي القريب، ونعني «بالمخدومة» معناه في اصطلاح العرف الحديث؛ ومعناها في هذا الاصطلاح أنها مدينة لقيت من يخدمون تاريخها من أبنائها والنازلين بها من العرب وغير العرب، فكتبوا عن حوادثها وعهودها ومعالمها وأعلامها وطبيعة إقليمها وخيرات أرضها ما لم يتفق نظيره لغير القليل من مدن العالم القديم، فلم يفتهم من تسجيلاتها شيء توافر لمدينة غيرها، وما فاتها في هذا الباب فهو الذي فات المؤرخين الأقدمين أن ينظروا إليه على عادتهم في تسجيلاتهم ومحفوظاتهم عن كل مدينة وكل زمن، لا حيلة فيه للمؤرخ الحديث غير إتمام الرواية والخبر بالتفسير والتقدير.
إلا أنني رجعت إلى تاريخها في هذه المرة لأعرف «الكواكبي» غاية المعرفة التي تستطاع من العلم بموطنه وماضيه، فلم أفرغ من مرجع واحد حتى تمثلت لي المزية التي بحثت عنها، وبدا لي أنها كافية وحدها ولو لم تشفعها مزية أخرى!
حلب مدينة حل وترحال غير منقطعة عن العالم، ولم تنفصل قط عن حوادثه وأطواره، كأنها المرقب الذي تنعكس فيه الأرصاد فلا تخفى عليه خافية، ولا ينعزل بينها عن دانية ولا نائية.
ولم أرني أخوض بعيدا من الضفة في هذا البحر الزاخر بالأخبار والأنساب؛ لأعلم من أمر أسرتي وبلدتي أن أسوان لم تنفصل في عصر الكواكبي خاصة عن حلب، على ما بين البلدتين من بعد المسافة بحساب الفراسخ والأميال.
إن أجدادي - لوالدتي - سلالة كردية تفرعت أصولها زمنا بين ديار بكر وأورفة ومرعش، ورأيت آخر من لقيته منهم يلبس العمامة الخضراء كما يلبس الطربوش العثماني والقلنسوة الكردية، ولم يزل بيت أخوالي في البلدة يعرف ببيت الشريف، ويسجل في مكاتب البرق بهذا العنوان.
وكنت أسأل كبراء السن منهم مازحا: من أين لكم هذا الشرف وأنتم سلالة أكراد؟ فكانوا يذكرون لي قصة طويلة عن اتصالهم بالمصاهرة بمن جاورهم من آل البيت في مدن الإيالة، ويذكرون جيدا كل صلة لهذه المدن بعواصم الإيالات مع ارتباك العلاقة يومئذ بين الديار الكردية وعواصم الإيالات العثمانية، تارة إلى حلب وتارة إلى العراق.
وأقرأ في الكتب الأوروبية على الخصوص أحاديث شتى عن «الرءوس الخضر» في حلب، أولئك الذين يلبسون العمامة الخضراء ممن ينتسبون إلى آل البيت من جانب الآباء أو جانب الأمهات، ومن هؤلاء أكراد أمهاتهم عربيات.
وتنتسب إلى هذه الطائفة من لابسي العمامة الخضراء أسرة أسوانية أخرى، مضى على وفود كبيرها من موطنه أكثر من مائة سنة، وأذكره في أخريات أيامه بعمامته الخضراء وموكبه من أتباع الطرق الصوفية التي تتشعب فروعها في البلاد العربية والتركية، وهو مع اشتغاله بالتصوف تاجر ناجح ورأس أسرة ناجحة ينتمي إليها اليوم الطبيب والمحامي والموظف والتاجر ومالك العقار.
وقد وفد العسكريون والمدنيون من أصحاب هذه العمائم إلى الصعيد بعد ثورات دامية في ولاية حلب على ولاتهم الترك الذين أجلاهم جيش إبراهيم باشا عن الولاية بعد قليل، فلما أعيدت هذه الولاية إلى الدولة التركية تعذر مقامهم فيها؛ فعادوا مع الجيوش المصرية، وأقام بعضهم في الصعيد وبعضهم في السودان.
ولعل «عبد الرحمن الكواكبي» الذي ولد بعد هذه الحوادث بسنوات قلائل، كان يتحدث في صباه بحديث واحد عن نقابة الأشراف التي ادعاها غير أهلها في القسطنطينية، وعن حكام الترك الذين انتزعوا مناصب أبناء الوطن في الديار الكردية؛ وهو الحديث الذي ردده هؤلاء المهاجرون الحريصون على شارتهم وشارة أهليهم في بلادهم، وظلوا يرددونه على وتيرته حتى سمعناه منهم مرات!
ولو أن إنسانا يختار لنفسه رسالته ومولده لما اختار عبد الرحمن مولدا أصلح للرسالة التي نهض بها من مدينة حلب: مدينة تتصل بالحوادث وتتصل الحوادث بها، هذا الاتصال. •••
إنني علمت من تجربتي في قراءة التراجم وكتابتها أن النوابغ من أصحاب الرسالات فئتان: فئة تظهر في أوانها؛ لأن أسباب نجاحها تمهدت، وتم لها النجاح قبل فوات ذلك الأوان.
وفئة أخرى تظهر؛ لأن الحاجة إليها قد بلغت غايتها، وهي التي تظهر لتحقق تلك الحاجة التي تبحث عن صاحبها، وله منها معين يذلل صعابها ويهدي إلى طريقها.
والكواكبي نموذج عزيز المثال لأولئك النوابغ أصحاب الرسالات الذين اتفقت لهم أسباب زمانهم ومكانهم وأسباب نشأتهم ودعوتهم، تكاد سيرته أن تغري بالكتابة فيها؛ لأنها «تطبيق» محكم لتراجم هذه الفئة من نوابغ الدعاة.
تهيأت له البيئة وتهيأ له الزمن، وتهيأت له الرسالة، فلا حاجة بكاتب السيرة إلى غير الإشارة القريبة والدلالة العابرة، وهناك فانظر ... ها هو ذا صاحب الدعوة قائما حيث ترى من حيث نظرت إليه.
ولو لم تكن للسيرة من موجباتها غير هذا الإغراء لكان ذلك حسبها من وجوب عند كاتبها وقارئها، ولكنها سيرة يوجبها الفن للفن، ويوجبها التاريخ للتاريخ، ويوجبها علينا أنها حق لصاحبها، وقدوة صالحة لمن يقتدي به في دعوته الباقية ...
وإن لها لبقية متجددة بين أبناء اللسان العربي في كل جيل.
عباس محمود العقاد
الكتاب الأول
الفصل الأول
مدينة
(1) مدينة عربية عريقة
ولد عبد الرحمن الكواكبي ونشأ في مدينة عربية عريقة، هي حلب الشهباء.
وقد عرفت المدينة باسمها هذا - مع بعض التصحيف - منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ فورد اسمها في أخبار رمسيس الأكبر، وورد بين أخبار حمورابي في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وورد في أخبار شلمنصر «858-824» ... وورد خلال هذه القرون في كثير من الحفريات والآثار التي تتصل بتواريخ الحيثيين والعمالقة من الشمال إلى الجنوب.
ولا يعرف على التحقيق مبدأ بنائها وإطلاق هذا الاسم عليها، ولكنها - كيفما كانت التواريخ المروية - أقدم ولا شك من كل عهد وردت أخباره في تلك الروايات؛ لأن قيام مدينة في موقعها ضرورة أحق بالتصديق من أسانيد المؤرخين وأساطير الرواة؛ لأنها في مكان توافر فيه كل شرط من شروط المدينة العامرة؛ من خصب التربة وسعة المكان واتصال الطريق بين موقع العمران وقوافل التجارة ومسالك الفاتحين أو معاقل المتحصنين المدافعين، ولا غنى عن مدينة في مكانها للانتفاع بموارد الزرع والبيع والشراء، وتنظيم الإدارة الحكومية في جوارها، وتبادل المعاملات فيما حولها، وتأمين المواصلات بينها على تعدد الحكومات أو وحدتها.
فالمدينة التي ينبغي أن تقوم في هذا المكان حقيقة تاريخية غنية عن سجلات التاريخ، وقد يخطئ بعض المؤرخين في بيان السنة أو الفترة التي بنيت فيها؛ لأنه يخلط بين بنائها الأخير بالنسبة إليه وبنائها الأول قبل ذلك بقرون؛ إذ كانت موقعا معرضا فيما مضى للزلازل، معرضا للغارات والمنازعات، يبني ويهدم آونة بعد أخرى، ولكنه يسرع إلى العمار ولا يطول عليه الإهمال، وقد فطن بعض المؤرخين إلى ذلك فيما نقله ابن شداد حيث يقول: «... وهذا يدل على أن سلوقوس بنى حلب مرة ثانية، وكانت خربت بعد بناء بلوكرش، فجدد بناءها سلوقوس، فإن بين المدتين ما يزيد على ألف ومائتي سنة.»
1
ومما يدعو إلى اللبس في تصحيح أقوال المؤرخين عنها أنها سميت بأسماء أخرى أو ذكرت باسم «قنسرين» على سبيل التغليب والمجاورة للتعميم بدل التخصيص، ومن أسمائها عند اليونان اسم «برية» الذي أطلقوه عليها كعادتهم في إطلاق أسماء بلادهم على المدن التي يدخلونها.
ولكن اسم «حلب» أقدم من هذه الأسماء جميعا، وأقرب إلى طبيعة المكان وإلى اللون الذي سميت من أجله ب «الشهباء»، وهو لون أرضها ولون الحوار الذي تطلى به مبانيها.
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان:
حلب مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء، وهي قصبة جند قنسرين في أيامنا هذه، والحلب في اللغة، مصدر قولك: حلبت أحلب حلبا ... قال الزجاجي: سميت حلب لأن إبراهيم - عليه السلام - كان يحلب فيها غنمه في الجمعات ويتصدق به، فيقول الفقراء: حلب حلب، فسمي به.
قال ياقوت:
وهذا فيه نظر؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - وأهل الشام في أيامه لم يكونوا عربا، إنما العربية في ولد ابنه إسماعيل - عليه السلام - وقحطان. على أن لإبراهيم في قلعة حلب مقامين يزاران إلى الآن، فإن كان لهذه اللفظة أصل في العبرانية أو السريانية لجاز ذلك؛ لأن كثيرا من كلامهم يشبه كلام العرب لا يفارقه إلا بعجمة يسيرة كقولهم: «كهنم» في جهنم ...
إلى أن قال:
وذكر آخرون في سبب عمارة حلب أن العماليق لما استولوا على البلاد الشامية وتقاسموها بينهم استوطن ملوكهم مدينة عمان ومدينة أريحا الفور، ودعاهم الناس الجبارين، وكانت قنسرين مدينة عامرة، ولم يكن يومئذ اسمها قنسرين وإنما كان اسمها صوبا ...
وقد أصاب ياقوت في ملاحظته الأولى؛ فإن لغة إبراهيم - عليه السلام - لم تكن عربية، ولم تكن العربية كما تكلمها أهلها بعد ذلك معروفة في عصره، ولكنه أصاب كذلك في ملاحظته الثانية؛ إذ خطر له التشابه بين ألفاظ اللغات واللهجات التي شاع استعمالها في بطحاء حلب قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، فإن الآرامية - عربية ذلك العصر - قريبة بجميع لهجاتها إلى العربية الحديثة، وتفيد كلمة «حلبا» فيها معنى البياض، ومنه لون اللبن الحليب؛ بل يرجح الكثيرون أن اسم «صوبا» الذي ذكر ياقوت أنه كان يطلق على قنسرين؛ إنما يعني «الصهبة» التي تقرب من الشهبة في لفظها ومعناها، وكانت حلب توصف بالشهباء وتشتهر بالصفة أحيانا، فيكتفي بها من يذكرونها دون تسميتها، وورد اسم مدينة صوبا غير مرة في أسفار العهد القديم، فرجح أناس من مفسريه أنها حلب، ورجح الآخرون أنها قنسرين، ولا يبعد إطلاق الاسم أحيانا على المكانين.
على أن الأمر الثابت من وقائع التاريخ أن الآراميين سكنوا هذه البقاع قبل عهد إبراهيم عليه السلام، وأن المدينة وما جاورها كانت عربية بالمعنى الذي نبحث فيه عن أصل العربية القديم ولا نقف فيه عند تاريخها الأخير، وقد ثبت أن أسلاف الآراميين غلبوا على هذه البقاع في عهد الملك سراجون قبل الميلاد بأكثر من عشرين قرنا، ولم تكن هنالك لغة أخرى يفيد فيها الحلب معنى البياض غير الأصول العربية الأولى. (2) ومدينة عامرة
والمدينة بموقعها وقدم عهدها مدينة حل وترحال، يقيم فيها من يقيم، ويتردد عليها من يتصرفون في شئون معاشهم من أبنائها وغير أبنائها، تعددت فيها أسباب المعاش من زراعة وصناعة وتجارة فلم تنحصر في مورد واحد من هذه الموارد، وكتب رسل
Russell - وهو ممن أقاموا فيها حقبة من القرن الثامن عشر - مجلدا ضخما عن تاريخها الطبيعي، فأحصى فيها ما يندر أن يجتمع في مدينة واحدة من محاصيل الغلات والفاكهة والخضر والأبازير والرياحين، ومن أنواع الدواب والماشية والطير والسمك، ومن خامات الصناعة للملابس والأبنية ومرافق المعيشة، فصح فيها ما يوجزه الكاتب العربي حين يجمل الوصف عن أمثالها فيقول: إنها مدينة خيرات.
وتكلم عنها ملطبرون صاحب الجغرافية العالمية التي ترجمها رفاعة الطهطاوي قبيل عصر الكواكبي، فقال بأسلوبه الذي ننقله بحرفه: «ولنبحث الآن عن أشهر الأماكن مبتدئين بالقسم الذي بجوار الفرات، وهو إيالة حلب، فنقول: إن المدينة المسماة بهذا الاسم هي كما في كتاب البوزنطيا «برة» القديمة، وهي أعظم جميع المدن العثمانية في آسيا، سواء بتأدب أهلها أو بعظمها وكثرة أموالها وغناها، وظن بعضهم أن أهلها لا يزيدون عن مائة وخمسين ألف نفس، ومبانيها من الحجر النحت، كما أن طرقها السلطانية مبلطة به أيضا، ومنظرها عجيب لما فيها من أشجار السرو المظلمة الأوراق المباينة بالكلية لمنارتها البيضاء، فما أحسن اختلاط كل من الجنسين بصاحبه! وبها فابريقات القطن والحرير على حالة زاهية، وإليها تأتي القوافل العظيمة من بغداد والبصرة فتحمل إليها بضائع بلاد العجم والهند، وبالجملة مدينة حلب الشهباء ما يسميه المتأخر «تدمر» ورياضها مزروعة بالعنب والزيتون كثيرة الحنطة ...»
وملطبرون يفهم بالتقدير الذي سماه ظنا أن سكانها لا يزيدون على مائة وخمسين ألف نسمة، ولكن الرحالين والخبراء من الأوروبيين الذين أقاموا بها بين القرن السابع عشر والثامن عشر يبلغون بتعدادها نحو أربعمائة ألف نسمة، ويقول دارفيو
D’Arvieux
الذي كان قنصلا لفرنسا في المدينة بين سنة 1672 وسنة 1686: إن الطاعون أهلك من أهلها نحو مائة ألف، ولم يشعر طراق الأسواق فيها بنقص سكانها، وكان بعض المؤرخين لها يعولون في تقدير سكانها على إحصاء الموتى في الكنائس المسيحية، أو على مقادير الأطعمة اليومية التي تستنفد فيها، لاضطرارهم إلى الظن مع قلة الإحصاءات الرسمية، فراوحوا في حسابهم بين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف في عامة التقديرات إلى نهاية القرن الثامن عشر، ثم تبين من الإحصاءات الأخيرة أنهم لم يخطئوا التقدير. (3) ومدينة اجتماعية
وهي مدينة يقوم عمرانها على «مجتمع ناضح» على خلاف المدن العامرة التي يقوم عمرانها على كثرة السكان، بغير اختلاف يذكر في كيانها الاجتماعي أو تركيب الطوائف التي تتألف منها المجتمعات السياسية.
فالسكان فيها كثيرون، ولكنهم أصحاب مرافق وأعمال لا تستأثر بها صناعة واحدة، ولا تنفرد الصناعة الواحدة بينهم بنمط واحد على وتيرة واحدة، سواء اشتغلوا بالتجارة التي يعمل فيها التاجر المحلي وتاجر القوافل وتاجر التصدير والتوريد، أو اشتغلوا بالزراعة التي يعمل فيها زارع الحقل وزارع البستان وزارع الخضر والأعشاب، أو اشتغلوا بالحرف اليدوية التي يعمل فيها النساجون والنجارون والحدادون والمختصون بفنون البناء وتعمير البيوت.
وفيما عدا هذا التركيب الاقتصادي يتنوع المجتمع في المدينة بائتلاف المذاهب والأجناس من أقدم الأزمنة قبل الإسلام وبعد الإسلام، وقلما يعرف مذهب من مذاهب الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو مذاهب الديانات الآسيوية لا تقوم له بيعة في حلب أو مزار مشهود مقدس عند أتباعه، وهي تتسع لأصحاب هذه المذاهب من العرب والترك والكرد والأرمن والأوروبيين، يتفاهمون أحيانا بلغة واحدة مشتركة، أو يتفاهمون بجميع هذه اللغات كلما تيسر لأحدهم فهم لغة أخرى غير لغته التي ولد عليها.
ولم تزل المدينة منذ القدم عرضة للمنازعات الدولية بين الفرس والإغريق، أو بين العرب والروم، أو بين المسلمين والصليبيين، أو بين أصحاب العقائد في الديانة الواحدة واللسان الواحد، وهي حالة لا تتكرر طويلا إلا تركت لها أثرين لا محيص منهما ولا مفر من التوفيق بينهما، فمن أثرها أن تزيد شعور الإنسان بعقيدته وحرصه على شعائره ومعالم دينه، ومن أثرها في الوقت نفسه أن تروضه على حسن المعاملة بينه وبين أهل جواره من المخالفين له في شعوره أو تفكيره، وهي رياضة عالية تعتدل فتبدو على أحسنها في السماحة الدينية ورحابة الصدر ودماثة الخلق وكياسة العشرة والمجاملة، وقد يجنح بها الغلو إلى مثال من الخلط بين العقائد والشعائر لا يعهد في بيئة لم تتعرض لتلك التجارب التاريخية، فقد روى دارفيو - المتقدم ذكره - أنه وجد في عين طاب «عينتاب» طائفة تسمى ال «كيزوكيز»؛ أي النصف والنصف، يصلون في المساجد ويحفظون القرآن ويعلقون المصاحف الصغار في أعناق أطفالهم، ويوجبون تعميد هؤلاء الأطفال وتقريب القرابين في المعابد المسيحية والذهاب إلى كرسي الاعتراف وإقامة الصلوات في عيد الميلاد وعيد القيامة. •••
ومن نتائج الائتلاف في المجتمع أن تتأصل في العادات خصال التعاون الاجتماعي، فتصبح المدينة العامرة معمرة قادرة على التعمير، ويكسب أبناؤها قدرة على تجديد عمرانها بعد الكوارث التي تنتابها كما تنتاب أمثالها من المدن على أيدي الفاتحين أو بفعل الزلازل والأوبئة التي كانت تنتشر في الشرق والغرب، فلا تسلم منها مدينة كثيرة الوراد والطراق يخرجون منها ويئوبون إليها بغير رقابة صحية على القواعد العلمية، وقد تمكنت حلب من تجديد عمرانها واستئناف علاقاتها ومعاملاتها مرات في مدى التاريخ المعروف منذ ثلاثة آلاف سنة، واستطاعت ذلك أربع مرات منذ القرون الوسطى إلى اليوم، ويشير ياقوت الحموي إلى خصلة التعمير والتأثيل في أهلها فيقول: «ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال، فقل ما ترى من نشئها من لم يتقبل أخلاق آبائه في مثل ذلك؛ فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة، ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان.» (4) ومدينة سياسية
والمدينة الاجتماعية على هذه الصفة مدينة سياسية باختيارها وبما تنساق إليه من ضرورات تدبيرها وإصلاحها، فلا يسع إنسانا يقيم فيها أن يغفل عن السياسة التي تديرها ولا عن أحوالها التي تستقيم عليها شئونها المشتبكة أو يعتريها الخلل من جانبها، وربما حالت السيطرة المستبدة دون إطلاق الألسنة والأقلام في أحاديث هذه السياسة، ولكن المجالس التي تدور فيها الأحاديث بين أهلها لا تلبث أن تخلق لها منادح من القول المباح في باب النقد الاجتماعي، ولو قصرته على نقد الأحوال العامة وآداب العرف الشائعة، ولم تزد فيه على الحنين إلى الأيام التي كانت تخلو من عيوب هذه الأيام، أو على الثناء والذكرى لمن كانوا يسوسون الأمور سياسة لا يدركها الملام.
قال رسل في تاريخه الطبيعي لمدينة حلب - وهو يسمي المسلمين بالترك على عادة الأوروبيين في زمنه: «إنهم على احتجازهم في مسائل السياسة لا يقال عنهم إنهم سكوت صامتون، فإنهم يفيضون الحديث عن مسائل الديانة والآداب ومساوئ البذخ والترف، وشيوع الرشوة في الدواوين، وربما تحفظوا في الكلام على أخطاء الحكومة الحاضرة، ولكنهم ينحون على الأخطاء الماضية بغير هوادة، وسواء كان مجرى الحديث على هذه المسائل أو على أشباهها من المسائل الخلافية تراهم يحتدون في مساجلاتهم، ولا يطول الحوار بينهم دون أن يتطرق إليه الغضب حتى يفصل فيه صاحب الدار برأيه، إن كان من ذوي الصدارة، فيميل الأكثرون إلى الرأي الذي أبداه ...»
وإذا قيل هذا عن أواخر القرن الثامن عشر فالحالة السياسية في غير هذه الحقبة المظلمة لا تحتاج إلى بيان. (5) ومدينة متصلة
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن المدينة التي لها هذه العمارة وهذه العلاقات الاجتماعية على ملتقى الطرق المعبورة في القارات الثلاث لن تنقطع عن العالم في عهد من عهودها، ولن ينقطع العالم عنها.
إلا أن العلامات المحسوسة أوضح من الأحوال المفهومة في الدلالة على تمكن هذه الصلة وشدة الحاجة إليها، فمن هذه العلامات أن نقل الأخبار بالمشاعل والمصابيح كان معروفا في حلب قبل ستة وثلاثين قرنا كما يرى من ألواح «ماري» الأثرية التي كشفت بجوارها، أما في العصور الأخيرة فلم تخل حلب قط من الوسائل السريعة للانتقال أو نقل الأخبار، وحيثما وجدت وسيلة أسرع من سواها في قطر من الأقطار النائية لم تلبث أن تصل إلى حلب بعد قليل، وأن يفتن الحلبيون في استخدامها وتحسينها لزيادة السرعة فيها، فاشتهرت بالجمال السريعة التي نعرفها في وادي النيل باسم الهجين، واجتهد أصحاب القوافل بها في توليدها بين العربية والتركمانية؛ لتوريثها أحسن الصفات من فصائلها الممتازة، وانتظم فيها بريد الحمام الزاجل، وهو أسرع بريد عرفه الناس على المسافات البعيدة قبل استخدام البرق والبخار، ولكنهم في الخطوط التي تمتد من حلب وإليها، يحتاطون لعوائق الطريق فيغمسون أقدام الحمام في الخل ليشعر بالرطوبة في الجو، فلا يستدرجه الشعور بالعطش إلى الماء فينقطع عن السفر أو يسقط بين أيدي المترصدين له في الطريق. (6) ومدينة حساسة
وهذه العوامل المتأصلة جميعا قد بقيت إلى العصر الذي نشأ فيه الكواكبي وعاش فيه بين منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ بل كانت كلها على حالة من النشاط والتحفز توصف «بالحساسية» المفرطة التي تضاعف انتباه المنتبهين إليها على غير المعتاد في سائر العصور.
كانت مدينة حلب قبل مولده بسنوات جزءا من العالم العربي الذي كان يجمع الشام وفلسطين وطرفا من العراق والجزيرة العربية في نطاق واحد، وظلت كذلك بضع سنوات حتى أعيدت إلى الدولة العثمانية في سنة 1840 بعد تدخل الدول الأوروبية في حروب إبراهيم باشا والسلطان عبد المجيد.
وكانت فتنة الأرمن ومحنة لبنان وغارات الحدود بين العرب والترك في العراق شغلا شاغلا لأبناء حلب على الخصوص؛ لأنها المدينة التي يصيبها كل عطل ويرتد إليها كل اضطراب.
وكانت مسائل الامتيازات الأجنبية تثار كل يوم في أوروبة وفي الشرق العثماني، مع ما يتبعها من مسائل التشريع والإدارة التي تفرق بين الطوائف والأجناس في كل بقعة من بقاع الدولة التركية.
وكانت هذه الدولة تتقدم خطوة وتنكص على أعقابها خطوتين في طريق الحكم النيابي والإدارة العصرية واستبدال النظم الحديثة بالتقاليد البالية التي جمدت عليها منذ قرون.
وكانت قناة السويس تفتح، ومراكز الشركات تتحول من حلب شيئا فشيئا إلى القارة الأوروبية أو إلى شواطئ الهند وإيران وموانئ البحرين الأحمر والأبيض على طول الطريق.
كان كل عامل من عوامل الحياة الاجتماعية في حلب يتحرك ويتنبه ويبلغ به الانتباه حد الحساسية؛ بل حد الإفراط في الحساسية حين نشأ الكواكبي في هذه الحقبة المتوفزة، ووكل إليه القدر أن يكون لها لسان حال، فاستجاب لها في بيئته من حيث يستجيب أمثاله من الرجال.
الفصل الثاني
العصر
كيف نشأ الكواكبي في هذا العصر؟
كيف لم ينشأ الكواكبي في هذا العصر؟
سؤالان لا يتردد المؤرخ بينهما، بعد ما تقدم، أيهما أحق بالتوجيه وأيهما أدعى إلى الاستغراب؟ فإن حوادث العصر وحوادث السيرة الكواكبية تشيران كلتاهما إلى الأخرى متقابلتين كما يتقابل العدلان المتلازمان.
ولد الكواكبي حول منتصف القرن التاسع عشر، وتوفى بعد ختامه بسنتين، فحياته على وجه التقريب هي النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ملتقاه بطلائع القرن العشرين، وهذه حقبة من حقب التاريخ الحديث يلوح عليها كأنها نشطت من عقال، فكل شيء فيها ينفر من الجمود والركود، ويتحفز للحركة والوثوب إلى التغيير.
كان هذا النصف الأخير من القرن التاسع عشر، في القارة الأوروبية، امتدادا لعصر الكشوف العلمية والنزعة الفكرية إلى التمرد على القديم، وكان حقبة عامرة بأسباب القلق والاندفاع إلى المجهول حيثما وجد الطريق، تمخضت عن أخطر مذاهب الفكر والأخلاق وأدعاها إلى الثورة والانقلاب، ولا نطيل في شرح المذاهب الخاصة بتلك الحقبة أو التي تعد من ولائدها ونتائجها، فإننا نطوي الكف على خمسة منها، فلا نستكثر بعدها أن يحدث في بقية القرن التاسع عشر كل ما حدث فيها من عظائم الأمور وعوامل الحركة والانقلاب.
في بقية القرن التاسع عشر شاع مذهب داروين عن التطور وتنازع البقاء، ومذهب كارل ماركس عن رأس المال، ومذهب نيتشه عن «السوبرمان» أو الإنسان الأعلى، ومذهب المدرسة الطبيعية عن حرية الفن والأدب، ومذهب الديمقراطية عن الحكومة الشعبية، وكل مذهب منها لا يستقر حيث ظهر على حال من أحوال الجمود والرضى عن التسليم والاستسلام.
ووصلت فتوح العلم إلى السوق والطريق؛ بل وصلت إلى الجهلاء الأميين أهول وأضخم من صورتها التي وصلت بها إلى العلماء الدارسين.
سمعوا الجراموفون «الحاكي» فقالوا: إن الإنسان ينطق الجماد.
وسمعوا عن البرق بأسلاكه وغير أسلاكه فجدد لهم خبر المردة المسخرين في نقل الأسرار بين السماء والأرض، وبين المشرقين والمغربين.
وسمعوا صوت الهاتف بعد أن شهدوا الصورة التي يرسمها لهم شعاع الشمس فكادوا يلحقونها بالخوارق والمعجزات.
وكبرت في أيامهم مخترعات الأمس، فأصبحت المطبعة والباخرة والبندقية أشباحا تطاول المردة، بعد أن كانت في الحقبة الغابرة ألاعيب أطفال أو أطفالا تتعثر بين المهود والحجور.
كذلك كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ميدان الفكر والصناعة.
أما ميدان العمل والحياة العامة فمجمل ما يقال فيه: إنه يتلخص في كلمتين تترددان بلسان المقال أو لسان الحال في كل أمة غالبة أو مغلوبة، ومتقدمة أو متأخرة، وحرة ناهضة أو متأهبة للحرية والنهضة، وهما: الحرية وحق الأمة.
ففي البلاد الإنجليزية كان سلطان الملوك يتقيد ويتبعه سلطان السادة النبلاء إلى القيد، ولم تهدأ فيها صيحة المطالبة بالمشاركة في الحكومة بين أصحاب الأموال وجماعات العمال، فكان العقد الثاني بعد منتصف القرن فاتحة العهد الذي برز فيه الأحرار وتمهدت فيه السبيل لطوائف العمال.
وفي البلاد الفرنسية قضت حرب السبعين على الإمبراطورية، وتحولت بالحكم إلى النظام الجمهوري على أساس المبادئ التي أعلنتها الثورة وتجاوبت بها أصداء العالم، وهي مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
وفي البلاد الألمانية ظفرت القومية المشتتة بالوحدة التي كانت تنشدها، واجتمعت الولايات التي كانت موطن المغيرين من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، فأصبحت قوة القارة التي يخشاها المغيرون!
وفي البلاد الإيطالية تجمعت تلك المتفرقات من قضايا العصر كله، ومنها قضية الاستقلال، وقضية الوحدة، وقضية السلطة الدينية، وقضية الحكومة الشعبية، فكانت - وهي تضطرب بجميع هذه القضايا - كأنها الحلقة الوسطى بين الغرب والشرق، وبين القارة الغالبة والقارات التي تشكو الغلبة عليها، فثارت إيطاليا قبل منتصف القرن تسترد الحرية من الدول الثلاث التي تنازعتها، وهي النمسا وفرنسا وإسبانيا.
وعند منتصف القرن ثارت على أمرائها الذين تنازعوها وفرقوا أرضها وأبناءها، وجمعت شملها في ظل رايتها الموحدة على رضاها، وفصلت الوطنية الإيطالية في قضية السلطة الدينية كما فصلت في قضية الملك والدولة، ثم فصلت في قضية الحكم فأقامتها على قواعد النيابة الشعبية، ولم ينقض القرن حتى دخلت في سباق الاستعمار؛ طامعة في أسلاب غيرها بعد أن كانت مطمعا للقادرين عليها من الغرباء عنها ومن أبنائها.
وقد توحدت إيطاليا بعد مجهودات كثيرة تفرقت مساعيها واتفقت قبلتها في النهاية، فكان الوطنيون المجاهدون يعملون جميعا على توحيدها والنهوض بها إلى مصاف الدول العظمى ويأنفون أن تكون بين جاراتها أقل منهم شأنا وأصغر منهن قدرا في مجال العلاقات الدولية، وهي أعرق منهن ماضيا وأقدم ثقافة، وموطن اللغات التي نبتت منه لغات اللاتين واقتبست منه سائر اللغات في أمم الحضارة ... إلا أنهم - مع هذا الاتفاق في الغاية - تفرقوا في الوسائل والمعايير السياسية، فأرادها فريق منهم «جمهورية حرة» تنال حريتها وتنشر مبادئ الحرية لغيرها، وعلى رأس هؤلاء المجاهدين حكيم إيطاليا ورائدها الأول يوسف ماتسيني، مؤسس «إيطاليا الفتاة» ثم مؤسس «أوروبة الفتاة»؛ إيمانا منه بأن الحرية في القارة الأوروبية شرط لا غنى عنه لدوام الحرية في بلاده.
وفريق آخرون يريدون بقاء الملكية على عرش واحد، أو يسمحون ببقائها إلى حين ريثما تتهيأ الفرصة لإقامة الجمهورية، وعلى رأس هؤلاء كافور الزعيم الوزير الذي كان يخالف الفريق الأول في سياسة الأحلاف الدولية، ويتبرع بإرسال الجيوش إلى القرم لمحاربة روسيا ومعاونة تركيا وإنجلترا وفرنسا، أملا في تأييد الدولتين الأخيرتين له في مساعيه الدولية، ويأسا من تأييد روسيا القيصيرية لقضية من قضايا الاستقلال والثورة على النظم الدولية العتيقة.
ويتوسط بين الفريقين فريق غاريبالدي الذي كان يستعين بالكتائب المتطوعة، كما كان يستعين بالجماعات السرية من قبيل جماعة الفحامين «الكربوناري»، ولا يرفض التعاون مع «إيطاليا الفتاة» كلما اتفقت الحملة على خصم واحد من خصومه وخصومها، ولكنه يتوجس من المحالفات الدولية ولا يؤمن بجدواها، ويكاد يقطع بتحريمها خوفا من مغارم المقايضة التي تجور على حقوق الدولة الناشئة كما تجور على أقاليمها ومواردها، ولا تعرف وسيلة من وسائل الأمم في جهادها لم يتوسل بها فريق من هؤلاء المجاهدين، ولم يتصل خبرها بطلاب الحرية في البلاد الشرقية؛ لانتشار الإيطاليين على شواطئ البحرين الأبيض والأحمر، وإقامتهم على طريق التجارة القديمة بين الهند والبندقية وجنوه، واشتراكهم من قبل الساسة والزعماء معا في حروب الدولة العثمانية.
ولا بد من الانتباه الدقيق إلى دخائل السياسة المزدوجة التي أملاها على الدولة الإيطالية وضعها الجديد بعد الاتفاق على توحيدها، فهي - من جهة - دولة أوروبية طامحة إلى مساواة الدول التي سبقتها في حلبة الفتح والسيادة، وهي من الجهة الأخرى أمة تشبه الأمم الشرقية في جهادها لدول القارة، وتتفق مع بعضها في مقاومة النفوذ العثماني وتشجيع الثورة عليه، ومن آثار هذه السياسة أن بيتها المالك كان على مودة «شخصية» ودولية تربط بينه وبين بيوت الحكم والرئاسة في أكثر الأقطار التي خضعت للسيادة العثمانية، فلما عزل الخديو إسماعيل جعل مقره الأول في البلاد الإيطالية، ولما هاجر الأمراء الإيطاليون من بلادهم في الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب العالمية الثانية، كان اختيارهم لمصر مقدما على اختيارهم للرحلة إلى قطر من الأقطار الأوروبية، وكان ملك إيطاليا يتوسط أحيانا في الأزمات المستحكمة بين أمم المغرب ودولتي فرنسا وإسبانيا، كأنه يرى أن هذه الأمم تطمئن إليه وتتقبل منه ما لم تتقبله من الحكومات الأوروبية، وقد تطوع الإيطاليون بعد احتلالهم «إرتريا» لبذل المعونة ونقل السلاح إلى سواحل جزيرة العرب؛ لمقاومة المنافسين لنفوذها من الأوروبيين وغير الأوروبيين، وكانت لهم جالية قوية في المدن السورية تعرب عن تأييدها للأحرار والثائرين توددا لهم أو نشرا للدعوة التي نقلتها من بلادها في إبان نهضة التوحيد والحرية. •••
هذه نبذة عاجلة عن حركات الغرب في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أوجزنا فيها القول عن أمم أربع من أممها التي سرت أخبارها وأخبار قضاياها إلى الشرق العربي وبلاد الدولة العثمانية، وهي على تفاوتها في كل ظاهرة من ظواهر السياسة والثقافة تشترك في خصلة لا تغيب عن واحدة منها في خبر من أخبارها، وهي المطالبة بالحقوق والحريات.
فإذا كانت قارة الاستعمار قد حصرت خطتها حيال الشرق في سياسة واحدة تريدها وتتعمدها لتقهره وتتغلب عليه، فهناك سياسة أخرى لم تردها ولم تتعمدها، تلقاها الشرق منها، فهب لمقاومتها وتيقظ لمطامعها ونزل معها في ميدانها الذي استفزته له باختيارها وبغير اختيارها. •••
وقد جاء رد الفعل المنتظر بعد برهة من السبات والذهول من أثر الصدمة التي كانت تنتقل وتشتد، كلما تنقلت بين أقطار الشرقين البعيد والقريب من اليابان في أقصى الشرق الآسيوي إلى مراكش في أقصى الشرق الأفريقي، وقد أصبحت هذه «شرقا» في حساب الاستعمار وإن كانت تناوح في الموقع الجغرافي جارتها أوروبة الغربية.
ونقصر الكلام هنا على الشرق العربي كما كان في أواسط القرن التاسع عشر إلى ما بعد مولده بقليل، ففي تلك الفترة كانت مصر قد ظفرت بحصة كبيرة من الحكومية الذاتية، وكانت لبنان قد خرجت بعد الفتن والأزمات بنصيبها المقرر من الامتيازات الداخلية، وكادت جزيرة العرب تتفرد بالدعوة الوهابية وتوشك أن تمتد منها إلى قلب العراق، وكانت العراق في صراعها مع حكم المماليك تتقدم في خطى سراع إلى الخلاص من ذلك الحكم المضطرب بين الكساد والوباء، وعلمت الدولة العثمانية أنها تحتاج لاستبقائه وإعادة الأمن فيه إلى نظام من الحكومة الدستورية غير نظام الولايات المهملة أو الولايات المسخرة لسادتها على غير إرادتها، فأرسلت إليه أكبر وزرائها في عصره «أحمد مدحت باشا» الملقب بأبي الدستور، فأقام فيها نظام الحكم على أساس الحرية والمصلحة العامة على خير ما يستطاع في تلك الآونة، وافتتح فيها عهد الحياة العصرية التي وصلت بينها وبين أمم الحضارة.
وكانت ولاية حلب - مع سائر الولايات السورية - قد اتصلت بمصر زهاء سبع سنوات، ثم ثارت على حكم إبراهيم بن محمد علي سنة 1840، فأعيدت إلى الدولة العثمانية على وعد بالإصلاح وتنظيم الإدارة على أساس جديد، وكان الشروع في الإصلاح وتنظيم الإدارة حقيقة واقعة منذ قيام السلطان محمود الثاني «بين سنتي 1808 و1839»؛ لاضطرار الدولة أولا إلى إصلاح جيشها واضطرارها بعد ذلك إلى تسوية المشكلات القائمة بين رعاياها المختلفين في الجنس والدين واللغة، فإن الهزائم المتوالية أقنعت أولياء الأمر في القسطنطينية بالحاجة الملحة إلى تنظيم جيش جديد، تستخدم فيه الأسلحة الحديثة وأساليب التعبئة في الدول الأوروبية، ثم تبين لهم أن تعديل أنظمة القضاء والتشريع وإدارة الدواوين ضرورة لا محيص عنها لسياسة رعاياهم ومدافعة الدول الأوروبية التي كانت تتعلل بفساد الحكم في الدول التركية للتدخل في شئونها بدعوى الإنسانية تارة ودعوى الامتيازات الأجنبية تارة أخرى، فتحدث الناس بوعود الإصلاح وأعماله ومشروعاته وحقوق الرعية وواجبات الرعاة قبل مولد الكواكبي، كأنهم يتحدثون بدين يلويه المدين بين السداد والمطال.
ولعلنا ندرك حقيقة الحال ونعلم أن وعود الإصلاح كانت ضرورة لازبة، ولم تكن إنعاما ولا إحسانا من أولياء الأمور، إذا نظرنا إلى بقاع العالم العربي فلم نجد فيه بقعة واحدة رضيت بما هي فيه، ولم ينهض أهلها للمطالبة بنوع من الإصلاح على نحو من الأنحاء، فتحرك السودان وتحركت الصحراء وتحركت قبائل المغرب في ثورتها؛ بل في ثوراتها التي تكررت ولا تزال تتكرر إلى اليوم، وصدق على العالم العربي بين أطرافه المترامية قول القائلين في الغرب: إنه مارد خرج من القمقم ولن يعود إليه.
وكان في الحق ماردا هائلا يتململ في الأسر ليخرج من قمقمه المظلم المحصور، ولكنه لم يكن ماردا معصوب العينين كما صوره أولئك الراصدون للقمقم، أو كما أرادوا أن يتصوروه؛ إذ كان للمارد زمامه في أيدي الهداة من القادة الملهمين ومن رواد الثقافة الأولين، وكان لهذه الهداية بين المسلمين وغير المسلمين طابع الشرق الخالد منذ الأزل، طابع العقيدة والإيمان. •••
في القارة الأوروبية حكم التاريخ حكمه بعد النزاع القائم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، فوهم العلماء في مطلع الثقافة الحديثة أن هذه الثقافة حرب بين العلم والدين، فلما انتقلت ثقافة الغرب إلى الشرق تلقاها المسيحي في المدارس من رجال دينه، وتلقاها المسلم مستجيبا لنداء «العودة إلى الدين» على كل لسان يسمع منه الوعظ ويقبل منه الإرشاد، فقد وقر في الأخلاد أن المسلمين هجروا دينهم فحاق بهم بلاء الذل والضياع، واتفق الجامدون منهم على القديم والمتطلعون إلى الجديد على هذا النداء، فلا خلاف بينهم إلا على الرجوع إلى الدين كيف يكون.
وربما قال الجامدون قبل المجددين : إن الأوروبيين عملوا بأدب الإسلام فأعدوا العدة ونظروا إلى حكمة الله في خلقه فتقدموا وتأخر المسلمون.
وتباعدت الشقة بين المحافظين أنصار النص والحرف، وبين المجددين أنصار المعنى والقياس فاختلفوا على الكثير، ولكنهم مع اختلافهم هذا لم يتفقوا على شيء كما اتفقوا على حرب الخرافة وعقائد الجهل والشعوذة الدخيلة على الدين، فحاربها المحافظون الحرفيون؛ لأنها بدع مستعارة من بقايا الوثنية، وحاربها المجددون لأنها سخافات وأباطيل ينقصها العلم الحديث، وتراجعت هذه السخافات والأباطيل إلى غيابة الجهل، لا تجترئ على التقدم إلى صفوف القيادة المسموعة بين أنصار القديم ولا بين أنصار الجديد.
كانت هذه الظاهرة النادرة إحدى حسنات التوفيق في صدر الدعوة إلى الإصلاح، وتلك ولا ريب إحدى العوامل القوية التي جعلت دعوة الإصلاح مهمة روحية ثقافية، وجعلت رجلا كالسيد جمال الدين الأفغاني داعيا مسموعا، حيثما حل في قطر من أقطار الشرق بين المسلمين العرب والفرس والهنود، وبين العرب المسلمين وغير المسلمين، وناهيك بإمام من الأفغان تصدر له صحيفة «مصر» ويحررها تلميذه «أديب إسحاق» وهو المسيحي الكاثوليكي من الأرمن العثمانيين.
تلك سمة العصر الذي قدمنا الكلام عنه بهذين السؤالين: كيف نشأ الكواكبي في هذا العصر؟ كيف لم ينشأ الكواكبي في هذا العصر؟ وقلنا إنهما سؤالان لا يتردد المؤرخ بينهما أيهما أحق بالتوجيه وأيهما أدعى إلى الاستغراب.
إن الكواكبي في أسرته ومنبته وزمنه - لوفاق الشرط الذي تتطلبه رسالته المنتظرة في هذا الشرق بين البلاد العربية - رجل مرشح للرئاسة الروحية، مضطهد في سربه وذماره، ينشأ في بلد عربي عريق يرتبط بعلاقات المشرق والمغرب وتلتقي لديه تيارات الحوادث العالمية، ويفتح عينيه على العالم وهو يصبح أو يمسي على قضية حق أو ثورة حرية، من وصفه فقد سماه، وكاد يصمد إليه ولا يتخطاه إلى سواه.
الفصل الثالث
أسرة الكواكبي
ينتسب الكواكبي من أبويه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد روى صاحب «إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء» نسب الأسرة نقلا عن كتاب «النفائح واللوائح من غرر المحاسن والمدائح» الذي ألفه السيد حسن بن أحمد بن أبي السعود الكواكبي، فجاء فيه أن السيد أحمد هو:
ابن أبي السعود بن أحمد بن محمد بن حسن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد بن أبي يحيى المعروف بالكواكبي قدس سره، ابن شيخ المشايخ والعارفين صدر الدين موسى الأردبيلي قدس سره، ابن الشيخ الرباني المسلك الصمداني صفي الدين إسحاق الأردبيلي ابن الشيخ الزاهد أمين الدين ابن الشيخ السالك جبريل ابن الشيخ المقتدي صالح ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر ابن الشيخ صلاح الدين رشيد ابن الشيخ المرشد الزاهد محمد الحافظ ابن الشيخ الصالح الناسك عوض الخواص ابن سلطان المشايخ فيروز شاه البخاري بن مهدي بن بدر الدين حسن بن أبي القاسم محمد بن ثابت بن حسين بن أحمد ابن الأمير داود بن علي ابن الإمام موسى الثاني ابن الإمام إبراهيم المرتضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين السبط الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال صاحب «إعلام النبلاء» بعد اسم صدر الدين موسى الأردبيلي: «الذي رأيته في عمود نسبهم المحفوظ في بيت الموقت بعد محمد أبي يحيى بن صدر الدين إبراهيم الأردبيلي المنتقل إلى حلب ابن سلطان خوجه علاء الدين علي بن صدر الدين موسى الصفوي - فيكون قد سقط هناك شخصان - ابن السلطان صفي الدين أمين الدين جبريل، وهناك قد جعلهما شخصين، وباقي النسب كما هنا، والله أعلم.»
وروى في هذا المصدر نسبه لوالدته المتصل ببني زهرة، فجاء فيه أن «والدة أبي السعود الشريفة عفيفة بنت بهاء الدين بن إبراهيم بن بهاء الدين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن شمس الدين الحسن بن علي بن أبي الحسن بن الحسين شمس الدين بن زهرة أبي المحاسن بن الحسن بن زهرة أبي المحاسن بن علي أبي المواهب بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام السبط الشهيد الحسين ...»
ويرى في عمود النسب لأبيه اسم صفي الدين الأردبيلي، ومن ذريته إسماعيل الصفوي الذي جلس على عرش فارس وأسس فيها الأسرة الصفوية، ومنها «علي سياه بوش» الذي رحل إلى بلاد الروم وتزوج سيدة من حلب ثم قفل إلى بلاده، وخلف بها أجداد الأسرة الكواكبية.
ومن أعرق علماء حلب من أسرة الكواكبي الشيخ «محمد بن حسن بن أحمد الكواكبي» الذي تولى منصب الإفتاء فيها، وكان مولده بها سنة ثماني عشرة وألف هجرية «1609م»، وتوفي بها سنة ست وتسعين وألف هجرية «1685م»، وله مؤلفات في علوم الفقه والأصول والكلام والمنطق، منها: شرح الفوائد السنية، ونظم الوقاية، ونظم المنار، وإرشاد الطالب، وشرح كتاب المواقف، وحاشية على تفسير البيضاوي، ورسالة في المنطق، وتعليقات على تفسير سورة الأنعام.
وأول من اشتهر من الأسرة باسم الكواكبي - فيما يقال - محمد أبو يحيى بن صدر الدين، قال صاحب كتاب «نهر الذهب» في كلامه عن جامع أبي يحيى الكواكبي:
يظهر أنه جامع قديم، وأنه اشتهر باسمه الحالي نسبة إلى محمد بن إبراهيم بن يحيى الكواكبي؛ لأنه وسعه وأقام فيه أذكاره، فلما مات دفن فيه، وبنى عليه «سيباي بن عبد الله الجركسي» قبة من ماله، وهو جامع فسيح له قبلة متوسطة تقام فيه الصلوات والجمعة، وله منارة فوق بابه، وفي غربيه قبة أبي يحيى المذكور، مكتوب في الجدار الكائن فوق رأس الضريح:
وليس عجيبا أن تيسر أمرنا
بحضرة هذا القطب حاوي المناقب
ولي تولاه الإله بلطفه
وولى فأولاه صنوف المواهب
وما مات حتى صار قطبا مقربا
ونال من الغفران أعلى المراتب
هدينا إلى هذا المقام بطيبه
كما يهتدي الحادي بنور الكواكب
وفي صحن المسجد في جهته الغربية عدة قبور لبني الكواكبي، وفي شرقيه حوض يجري إليه الماء من قناة حلب، ولهذا المسجد وقف قديم هو الآن ثلاثة حوانيت في سويقة علي، وله مخصصات من وقفي حسن أفندي ابن أحمد أفندي الكواكبي ووالده المذكور، ويوجد على يسرة الداخل للجامع حجرة لتعليم الأطفال، وفي جانبها صهريج سبيل يجري إليه الماء من قناة حلب، عمرته هبة الله بنت حسن أفندي المذكور، وهي أم حسن بك ابن مصطفى بك، وفي جانب المسجد من شرقيه مدرسة تعرف بمدرسة الكواكبي يصعد إليها بدريجات، وهي عامرة نيرة مشتملة على قبلة وحجرتين
1 ...»
ويقال إن السيد أبا يحيى عرف باسم الكواكبي؛ لأنه كان يعمل في الحدادة ويتقن صنع المسامير التي تسمى الكواكب لاستدارتها ولمعانها، فنسب إليها، ثم سلك مسلك المتصوفة فنبه فيها شأنه وتوافد عليه التلاميذ والمريدون ومنهم أمراء ورؤساء، كانوا يفدون إليه وهو في نسكه أو في ذكره، فلا يجسرون على التحدث إليه حتى يأذن لهم، لهيبته وورعه، وسميت طريقة آل الكواكبي بالطريقة الأردبيلية نسبة إلى أردبيل من أذربيجان، وهي البلدة التي ينتمي إليها صدر الدين وصفي الدين المتقدمان.
ومن أعلام الأسرة الذين ترجم لهم في كتاب «إعلام النبلاء» الشيخ «حسن أفندي ابن أحمد أفندي الكواكبي المتوفى سنة 1229 هجرية»، ترجمه العلامة عبد الرزاق البيطار الدمشقي في تاريخه «حلية البشر» فقال في وصفه: «هو كعبة الأدباء ونخبة العلماء، من اشتهر بالفضائل وشهد له السادة الأفاضل ... تولى منصب الإفتاء في مدينة حلب، وكان حسن الأخلاق كريم الطباع، وكان العلامة المرادي مفتى دمشق - لما كان في الحلب - يتردد عليه كثيرا، وامتدحه بعدة قصائد ... وترجمه الشيخ عبد الله العطائي في رسالته «الهمة القدسية» المدرجة بتمامها في ترجمته ... ومن آثاره كتاب سماه «النفائح واللوائح في غرر المحاسن والمدائح»، جمع فيه نظم والده وما مدح به من شعراء عصره وما مدح به أسلافه، وعقد لكل واحد من هؤلاء الشعراء ترجمة ...»
ومن هؤلاء الأعلام الشيخ أحمد الكواكبي الذي ولد سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، وتوفي سنة ثلاثمائة وألف، وجاء في ترجمته أنه «تلقى العلوم النقلية والعقلية على أشياخ عصره في الشهباء ... وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ بكري البلباني، وكان شديد الصحبة للشيخ أبي بكر الهلالي يمضي معظم أوقات فراغه معه في الزاوية الهلالية، وأقرأ في المدرسة الكواكبية والمدرسة الشرقية وفي الجامع الأموي منذ وجهت إليه وجهة التدريس فيه سنة ثلاث وثمانين ومائتين، واشتهر بعلم الفرائض وتحرير الصكوك، واشتغل بأمانة الفتوى، وعين عضوا في مجلسي إدارة الولاية، وكان ربعة أسمر اللون نحيف الجسم أسود العينين، وخطه شيب في أواخر عمره، وكان رقيق الحاشية ظريف المحاضرة لا يمل منه جليسه، حسن الخلق جدا، وربما أوقفه ذو سؤال زمنا غير يسير وهو يستمع له ولا ينصرف حتى يكون السائل هو المنصرف، وكان وقورا مهيبا قنوعا متصلبا في دينه وقافا عند الحق.
وكان يعرف اللغة التركية؛ إذ كان يندر من يعرفها بحلب خصوصا من العلماء، وحدث مرة أن انحلت نيابة القضاء في حلب وتأخر قدوم النائب، فأراد الوالي إذ ذاك ألا تتراكم الأشغال في المحكمة الشرعية، فكلف رئيس الكتاب أن يتولى القضاء وكالة، فقال له: لا يجوز توكيل الوالي ولا ينفذ قضاء من يوكله. فقال له: أنا وكيل الخليفة فلي أن أوكل! فأبى عليه القبول، فتكدر منه وأخرجه من عنده، ثم إنه أراد تنفيذ مقصده فكلف المترجم إلى الوكالة، فأجابه إلى ذلك فسر جدا وكتب له في الحال منشورا بتوكيله إياه في القضاء، فذهب إلى المحكمة الشرعية، وصار الناس يتطلعون إلى صنيعه: كيف يوفق بين أمر الوالي والحكم الشرعي؟ فكان يسمع للخصمين ويضبط مقالهما، ثم يشير عليهما بالصلح ويريهما أحسن وجه للاتفاق ولا يزال يعظهما بالموعظة الحسنة حتى يتصالحا، فيكتب بينهما صكا، وقد حصل المطلوب من القضاء، وإذا أبى عليه خصمان عن المصالحة قال لهما: أتحكمانني بينكما؟ فيحكمانه، فيكتب صكا بتحكيمهما ثم يحكم بينهما، ويؤخر تسليم صك الحكم إلى حضور النائب، ثم لما حضر النائب أمضى كل ما تم من قبل المترجم وختم صكوكه.
وقد اكتسب شهرة عظيمة بهذا الصنيع، فكان من بعد ذلك وقفا على الإصلاح بين الناس، وربما حضر مجلسا للإصلاح بين خصمين، فوجد الذي دعاه غير محق، فكان لا يألو جهدا في نصحه وإرجاعه إلى طريق الحق، وإنما كان موفقا في ذلك؛ لأنه إنما كان يقصد وجه الله تعالى، وكان متوليا على جامع جده أبي يحيى وخطيبا وإماما فيه».
2
والشيخ أحمد الكواكبي هذا هو والد المترجم ومعلمه ومربيه ومورثه جملة صفاته وسجاياه، كما يرى من تفصيل سيرته في مواضعها.
وقد نشأ المترجم في هذا الجيل من أجيال الأسرة وهي على عهدها بمنازل الشرف والعلم: أبوه أهل للقضاء في الخصومات بفضله وسمته، وأهل للتدريس في أكبر المعاهد بعلمه وصلاحه، وأحوه الأصغر «مسعود أفندي» يشترك في معاهد العلم عضوا بالمجمع العلمي في دمشق، ويشترك في معاهد الحكم عضوا بمحكمة التمييز، وفي مجالس السياسة عضوا بمجلس المبعوثين، ويقول عنه رئيس المجمع العلمي الأستاذ محمد كرد علي في الجزء الثاني من مذكراته بعد كلامه عن أخيه عبد الرحمن صاحب الترجمة: «وكان هذا يقول لي إن شقيقه مسعودا أعلم منه، وقد كتب لي الحظ الأوفى أن زاملته سنين في المجمع العلمي العربي، رأيته فيها ورصفائي مثال العلماء العاملين الذين ذكرت كتب الرجال تراجمهم العظيمة، وكانوا ممن اعتز بهم العلم وارتقى الفكر الإسلامي، حللت روح هذين الحبيبين الشقيقين والحبرين الكاملين فما سقطت فيهما على عيب من عيوب الآدميين جل الصانع! وسجلت أنهما تقدما جيلهما في كل معاني الفضل والنبل، وما أسفا إلى أن يعيشا كأكثر أبناء الفقهاء عيش التوكل والخنوع يأكلون ويشربون ويتناسلون ويجمعون من حطام الدنيا ما وصل إلى أيديهم، فالدم الطاهر ينم عن صاحبه كيفما تقلبت به الأحوال، ولا يحتاج إلى من يدل عليه ...»
ولسنا نحتاج إلى أكثر مما تقدم فيما رواه الرواة والمعاصرون عن أسرة الكواكبي للتعريف بأوائل نسبه ومنابت أخلاقه وشمائله، ففي صفحات الكتب وأقوال المحدثين أخبار متناثرة من قبيل ما أجملناه تعيده أحيانا في مختلف العبارات أو تزيد عليه ما ليس يزيد في مغزاه، ولكننا نجتزئ باليسير منها؛ لأنه أجزاء متناسقة يتمم بعضها بعضا، وينتظم منها تاريخ متصل الحلقات منذ عرف اسم الأسرة في موطنها إلى مولده وأيام حياته، وكلها - سواء منها الخبر المروي والخبر الذي تنبئنا عنه معالم المدينة وآثارها - ينتهي إلى نتيجة واحدة تكفي للتعريف بحاضره وماضيه الذي كان له الأثر الواضح في حياته وعمله، فمن هذه المعالم والأخبار نعلم أن «عبد الرحمن » قد وعى دنياه وهو يتلقى من ذكريات قومه قدوة النبل والمعرفة، وتمتد به الذكرى الغابرة إلى عهود الأسلاف الذين نهضوا بزعامة الدين وزعامة الدولة، وتحفزوا للعرش من صوامع العبادة ومساجد الدرس والهداية. وقد يتأنى المؤرخ حين يبحث عن الأسانيد القاطعة فيما يتحراه عامة المؤرخين ورواة الأخبار عن القديم، ولكنه لا حاجة به إلى الأناة فيما وعته ذاكرة الأحياء من أبناء الأسرة، وأثبتوا به إيمانهم بما كان لهم من سابقة، وما ينبغي لهم من حياة حاضرة، فلا خلاف على هذه الذكريات بين أبناء الأسرة وأبناء المدينة التي تأصل فيها الأبناء بعد الآباء والأجداد على مدى أجيالها المذكورة، ولا خلاف بين الرواة المعاصرين في عراقة الأسرة الكواكبية في مدينة حلب وإقليمها من حولها، وإنما يختلفون فيمن تسمى باسمها لأول مرة من أجداد عبد الرحمن لأبيه أو لأمه، ويقال إن أبا يحيى - أحد أجداده - كان يسمى «البيري» نسبة إلى «البيرة» على القرب من حلب، ويقول صديقه ومؤرخه الأستاذ كامل الغزي في مجلة الحديث الحلبية: «إنه عرف بالكواكبي لاتصال أحد أسلافه بآل الكواكبي من جهة النساء المعروفات بعراقة النسب.»
ولا يذكر - على أية حال - ذو نسب كواكبي بالمدينة غير آل عبد الرحمن في حياته وحياة أبيه وجده.
وقد حدث في حياة عبد الرحمن حادث ذو بال في تاريخ الأسرة وتاريخه؛ بل تاريخ دعوته وتفكيره، فانتقلت نقابة الأشراف من بيت الكواكبي إلى بيت «الصياد» شيخ الطريقة الرفاعية وشيخ مشايخ الطرق بعد ذلك في أنحاء الدولة التركية، ولكنها لم تنقل للشك في نسب الأسرة الكواكبية أو لثبوت نسب الأسرة الأخرى أسرة محمد بن حسن وادي المشهور بأبي الهدى الصيادي ... وإنما انتقلت لرضى الولاة عن زعيم هذه الأسرة ونفورهم من الأسرة الكواكبية، وهذا هو المثل القريب الذي لمس فيه عبد الرحمن عيوب الحكم في الدولة، وأدرك به مواطن الحاجة إلى الإصلاح، قبل أن يدركه بالبحث والاطلاع.
وأحسب أننا نحتاج قبل اختتام هذا الفصل إلى كلمة موجزة عن الأسرة الصفوية التي يجمعها عمود النسب بالأسرة الكواكبية، كما تجمعها الطريقة «الأردبيلية» منذ أيام مؤسسها صفي الدين المشهور، فإن الاتصال بين النسبين قد يفسر لنا الغابر بالحاضر، ويفسر لنا ميراث الشعور منذ القدم بين الأسرة والدولة العثمانية، أو دولة السلطان سليم على التخصيص.
فمن الثابت أن الشاه إسماعيل الصفوي قد نشأ - كما يقول مؤرخو الإفرنج - من «أسرة دراويش»، ينتسبون إلى بلدة أردبيل بأذربيجان ويرتفعون بعمود النسب إلى الإمام علي والسيدة الزهراء.
ومن الثابت أن الأسرة الصفوية من عهد مؤسسها كانت على دراية بتنظيم الجماعات السرية، وعلى أهبة لتجميع الجموع بالمحالفة والعصبية.
ومن الثابت أن النساك من زعماء الطريقة الأردبيلية كانوا يزورون دمشق وبيت المقدس، ويترددون على المدن في الطريق بين شمال فارس وبلاد الروم.
ويقول المؤرخ اللبناني المسيحي «شاهين مكاريوس» في كتابه الذي وضعه عن تاريخ إيران بإذن الشاه ناصر الدين: «إنها عائلة علماء أعلام وأئمة كرام وأصحاب تقوى يوقرهم الأنام.»
ثم يروي قصة قيام الدولة فيهم فيقول بعد الإشارة إلى الشيخ صفي الدين: «وكان لهذا الشيخ الفاضل أعوان يصدعون بأمره، وهو لا يأمر بغير الطيب والإحسان، وخلفه ابنه صدر الدين، وعقبه من الأولياء مشاهير مثل خواجه علي وجنيد وحيدر، ممن اشتهروا بالفضل والعلم والتقوى، وكان صدر الدين في أيام تيمور، وقد أخذ له مقرا في مدينة أردبيل من أعمال أذربيجان مثل أبيه، فزاره يوما هذا البطل العظيم، وسأله أن مر بما تريد أقضه في الحال. قال: أريد منك أن تطلق سبيل الأسرى الذين أتيت بهم من بلاد الأتراك. ففعل تيمور بإشارته، وحفظ الأتراك هذا الجميل لصدر الدين وعائلته، وكانوا بعدئذ هم السبب في توليتها الملك كما سيجيء. وليس في التاريخ ذكر أمر يدل على الإقرار بالجميل بعد مرور الأجيال مثل هذا الأمر، وأشهر ما يذكر عن خواجه على أنه حج إلى القدس الشريف ومات فيه وخلفه حفيده جنيد، فاجتمع لديه خلق كثير حتى خاف الأتراك شره، وحارب أحد رؤسائهم فاضطره إلى الفرار إلى ديار بكر حيث قابله حاكمها الأمير حسن بالإكرام وزوجه أخته، وقصد جنيد بعد ذلك بلاد شيروان فحاربه حاكمها وقتله، فخلفه السلطان حيدر، وكان أمير «أوزون» حسن حليفه فتقوى بنصرته على الأعداء، وصار بالتدريج حاكما على كل بلاد إيران في مدة السلطان أبي سعيد الذي مر ذكره، ومات فدفن في أردبيل، فخلفه ابنه السلطان علي، ولكن القلاقل كثرت في أيامه وظلت عائلة صفي الدين في خطر دائم، يوما تصعد إلى الأوج ويوما تنحط إلى الحضيض، حتى قام السلطان إسماعيل ابن السلطان علي، وملك البلاد، وهو في اعتبار المؤرخين أول ملوك الدولة الصفوية، ولا يعرف عن شاه إسماعيل في أيام صغره غير القليل، إلا أنه استلم قيادة الأعوان في الرابعة عشرة من عمره فحارب عدو عائلته حاكم شيروان وقتله، ثم هجم عليه الأتراك والتركمان من ناحية الأناضول ففرق شملهم وانتصر على كل أعدائه، فنودي به سلطانا على مملكة إيران وما يتبعها وهو في الخامسة عشرة من عمره.
وكان إسماعيل صوفيا مثل أفراد عائلته وليس له أعداء وأعوانه كثار، فرأى بعد الإمعان أن يدخل مذهب الشيعة الاثني عشر الجعفرية إلى إيران ويجعلها مذهب السلطنة، ففعل ذلك وفاز بمراده، ولم يلق معارضة تذكر؛ لأن الإيرانيين عدوا هذا الانفصال استقلالا لهم، وفضلوا مذهب القائلين بتكريم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن ذلك اليوم صارت بلاد إيران مقر الشيعة بين المسلمين، وعصت خراسان وبلخ وغيرها من الولايات أمر السلطان إسماعيل في بدء حكمه على عادتها، فحاربها كلها وانتصر عليها، وامتد نفوذ هذا السلطان امتدادا عظيما حتى رزق عدوا كبيرا لم يقدر عليه، هو السلطان سليم العثماني الشهير، قصد بلاد إيران بخيله ورجله البالغ عددها مائة وخمسين ألفا ومائتي مدفع، وذلك بغتة دون مخابرات دولية لدى الحكومات، وقام إسماعيل لمحاربته بكل ما لديه من القوة وهو يومئذ بهمدان يطلب الصيد والقنص، ودافع عن بلاده في جلدران بخمسة عشر ألف نفس بأذربيجان، فتقهقر أمامه وكسر شر كسرة مع أنه أظهر في الحرب بسالة غريبة، وكان الأتراك يحاربون بالمدافع والإيرانيون بالسلاح القديم، غير أن انتصار الأتراك لم يؤثر في إيران؛ لأنهم اضطروا إلى الرجوع في الشتاء لشدة البرد وقلة الزاد، ولكن إسماعيل ظل حزينا من بعد تلك الكسرة إلى آخر أيامه، ويروى أنه لم يضحك من بعد ذلك اليوم، ولم يترك لبس السواد أيضا، ولما مات السلطان سليم تقدم إسماعيل على بلاد الأتراك للأخذ بالثأر، فأخضع بلاد الجركس وهي يومئذ تابعة للأتراك، وعاد عنها فعرج على أردبيل ليزور قبور أجداده، فقضى نحبه هناك ودفن فيها مأسوفا عليه ...» •••
ترى هل نرى في تاريخ هذه الشعبة من أردبيل ما يأبى أن تلحق به تتمة تلائمه من تاريخ الشعبة الكواكبية؟ إن تاريخ الأسلاف ليسبق في الزمن كالمقدمة التي تنتظر البقية من أعمال الخلفاء والأبناء، وما أحرى عبد الرحمن أن يكون البقية المنظورة لمقدمة صدر الدين! وما أحرى الأسرتين أن يتسلل فيهما نبع واحد من النجدة والورع والهمة والصلابة والسماحة، تشابه فيمن عرفناه منهما حتى الآن على تنوع المواضع والميادين!
شيء واحد يستوقف المؤرخ من اختلاف الشعبة الصفوية والشعبة الكواكبية، ولكنه اختلاف متوقع ينفي كل ما فيه من الغرابة بانتظار وقوعه على الوجه الذي صار إليه.
فالشعبة الصفوية أخذت بمذهب الشيعة الإمامية حين قام منها الأئمة على عرش إيران، والشعبة الكواكبية تدين بمذهب أبي حنيفة من أئمة السنة؛ لأنه المذهب الذي غلب على المدينة حيث درجوا وتعلموا وأنجبوا الأبناء المتعلمين والأساتذة المعلمين، وربما كان من أتباع صدر الدين أحناف كثيرون كما يعلم من كثرة مريديه من الترك المنتقلين إلى إيران في أسر السلطان تيمور.
وقد كان اتباع الكواكبي للمذهب الحنفي لا يمنعه أن يدعو إلى وحدة المذاهب وإقامة الإمامة على غير قواعد الخلافة في الدولة العثمانية، فربما كان هذا التصرف بين الشعبتين على المنهج المنتظر من كليهما قرابة باطنية تمحو ما يتراءى للنظر من ظواهر الاختلاف.
الفصل الرابع
النشأة
الطفل أبو الرجل
صدق من قالها بما عناه من لفظها ومعناها، فإن الرجل الكبير يتولد من الطفل الصغير، فهو وليده وسليله على هذا التعبير.
وقد كان عبد الرحمن الصغير أبا مبكرا للرحالة المجاهد المفكر الحكيم صاحب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» ورائد النهضة العربية في طليعة الرواد.
من أقسى ما يصاب به الطفل في نشأته أن يفقد الأم ويغترب عن الأب وعن الجيرة التي فتح عليها عينيه من دنياه.
وقد أصيب الطفل عبد الرحمن بهذه المحن جميعا، فصلب لها عوده اللدن وهو دون العاشرة، ونما على معدن الجهاد في طبيعته قبل أوان الجهاد في عنفوان شبابه، فمن هذا الطفل الدارج من المهد نشأ ذلك الكهل الذي أقدم على مخاطر الهجرة والرحلة الطويلة على غير أمل في العودة إلى الوطن، وعلى غير أمان من الغيلة والضنك والمشقة، وهو رب أسرة وأبو أبناء وفرع أرومة تأصلت في منبتها - الذي قطع نفسه عنه - منذ مئات السنين.
تقول الأوراق الرسمية إن صاحب الترجمة ولد حوالي سنة 1848م «1265 هجرية»، ويقول ابنه الدكتور أسعد إنه ولد بعد ذلك بسنوات، وطلب تصحيح تاريخ المولد لدخول الانتخابات، وإنما كان مولده الثابت من سجلات الأسرة في سنة 1854م «1271 هجرية»، وتوفيت والدته سنة «1276 هجرية» وهو في نحو السادسة من عمره، أو هو قد ناهز العاشرة إذا أخذنا بالرواية الرسمية.
والمرجح أنه كان أصغر من سنه في الأوراق الرسمية عند وفاة والدته، فإن أباه قد أودعه حضانة خالته السيدة صفية بأنطاكية، فأقام بها إلى سنة 1382 هجرية، ثم عاد إلى حلب لدخول المدرسة الكواكبية، ولو كان قد بلغ العاشرة عند وفاة أمه لاستغنى عن الحضانة في هذه السن وصلح لدخول المدرسة الكواكبية بغير تأجيل. ولو صح تاريخ الأوراق الرسمية لكان في نحو السابعة عشرة حين عاد من أنطاكية لدخول المدرسة، وهي سن متأخرة لمن يبتدئ الدراسة في مثل أسرته.
وقد تعلم الكواكبي في مكتب أنطاكية ومدرسة حلب كل ما يتلقاه التلميذ فيهما من العلوم المدرسية، وتعلم اللغتين التركية والفارسية ومبادئ الرياضيات على الأساتذة الخصوصيين من أصدقاء أبيه، وتلقى من أبيه صفوة العلوم الدينية والأدبية التي كان يتقنها، وهو كما تقدم من معلمي الجامع الأموي وأصحاب المناصب الشرعية.
قال صاحب المنار: «إن الفقيد درس قوانين الدولة درسا دقيقا، وكان محيطا بها يكاد يكون حافظا لها، وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم الحقوق والشرائع؛ ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين، ولا أعلم أنه برز في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران، ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فن بفهم وعقل، بحيث إذا أراد الاشتغال عملا أو تأليفا أو تعليما يتسنى له أن ينفع نفعا لا ينتظر من الذين صرفوا فيه أعمارهم ... على أن الفقيد لم يتعلم شيئا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل والفلسفة في مدرسة، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه منها من المؤلفات والجرائد التركية والعربية.»
ولا يخفى أن طالب العلوم السلفية لا يحتاج في عصر الكواكبي أو في العصر الحاضر إلى غير اللغة العربية للتوسع فيها غاية ما ينشده من توسع المتخصصين أو المستطلعين. أما المعارف العصرية فقد يستهين الناشئ العصري بما كان يتيسر منها للقارئ الذي يجهل اللغات الأوروبية قبل مائة سنة، ولكنه في الحقيقة محصول وافر لا يستهان به في زمانه؛ إذ كان في وسع العارف بالعربية أو التركية أن يطالع مئات من الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية في العلوم والآداب، وأن يطالع معها المجلات والصحف التي تكتب في هذه العلوم والآداب أو تنقلها عن ثقاتها وأعلامها، وقد تحدث الزهاوي عن نفسه فقال إنه لم يتزود من المعرفة العصرية بزاد غير مطالعاته في المجلات العربية والتركية وبعض الكتب المترجمة التي وصلت إلى يديه في بغداد، وبهذا الزاد - ولا زيادة عليه - أصبح في مقدمة الباحثين المعدودين إلى أوائل القرن العشرين، فضلا عن مكانته الشعرية وعمله في مجالس النواب.
ولا نخال أن الكواكبي فاته مرجع هام يعنيه أن يطلع عليه في موضوعات بحثه وتفكيره؛ بل لا نخال أنه ضيع فرصة يستفيد منها علما أو خبرا نافعا من زوار حلب الذين يجتمعون بمثله في مركزه ووجاهته بين قومه، وكانت حلب لا تزال في عهد نشأته مثابة الزائرين والمقيمين من فضلاء الشرق والغرب، وبينهم وكلاء الشركات التي كانت تتأسس في المدينة على طريق التجارة الهندية الشرقية قبل افتتاح قناة السويس، وبينهم فئة من الإيطاليين في إبان ثورتهم القومية، وفئة من الفرنسيين في إبان ثورتهم الدستورية، وكثير منهم مثقفون ينتمون إلى حزب من الأحزاب الثورية في بلادهم، وينقلون معهم آراء فلاسفتهم وزعمائهم وأبناء طوائفهم وجماعاتهم، ومن هؤلاء ولا شك عرف الكواكبي ما عرف عن «ألفييري» صاحب كتاب الاستبداد الذي أشار إليه في كتابه، ولا يبعد أن يكون قد انتظم معه في محفل من محافل «الكربوناري» التي ألفها ثوار إيطاليا لمنافسة الماسون الإنجليز أو الفرنسيين، وجعلوا يرحبون فيها بفضلاء الأمم الأخرى لنشر مبادئهم وتأييد دعوتهم إلى الحرية، وهي قريبة يومئذ من دعوة الثائر العربي إلى الوحدة القومية والاستقلال عن السيادة التركية.
والظاهر من سيرة الكواكبي ومن كتابته معا أنه أصاب من الثقافة القديمة والحديثة ما يرشحه لأعماله في المدينة ولرسالته في العالم العربي والعالم الإسلامي على عمومه، فلم يوكل إليه عمل من أعمال الحكومة أو المطالب الاجتماعية إلا أثبت فيها كفاية الإدارة الحسنة والنشاط المنجز والتصرف المبتكر الذي يخرج به على الأثر من جمود الوتيرة المشهور في عرف الغربيين بالروتين، ويمضي به إلى نتيجته المقصودة التي عطلها التقليد وطول الإهمال.
عمل وهو يناهز الثانية والعشرين في صحيفة «فرات» العربية التركية، التي أنشأها المؤرخ التركي الكبير أحمد جودت باشا قبل عمل الكواكبي فيها بنحو عشر سنوات، ثم أنشأ في حلب أول صحيفة عربية باسم «الشهباء» مع زميله هاشم العطار، ثم أنشأ صحيفة «الاعتدال» بعد تعطيل الشهباء لصراحتها في نقد الإدارة وتلميحها إلى وساوس السلطان عبد الحميد، فأصابها ما أصاب الشهباء بعد قليل.
ويئس الكواكبي من أداء رسالة الإصلاح بالكتابة المحجور عليها في الصحافة المهددة بالتعطيل، فقبل العمل في وظائف الحكومة، وتولى في هذه الوظائف ضروبا منوعة من أعمال الإدارة والقضاء والتعليم، ومنها وظائف لها اتصال بالتجارة؛ كإدارة حصر الدخان ولجنة البيع والفراع التي تستبدل أرض الحكومة، ورئاسة غرفة التجارة، وغيرها من الوظائف التي ندع إحصاءها ونكتفي في هذا المقام بدلالتها جميعا على كفاية الرجل لكل عمل تولاه، وعلى تلك القدرة الملهمة التي أعانته على إحياء كل وظيفة عهدت إليه من موات الوتيرة أو «الروتين»، ونجاحه في تنظيفها وتطهيرها بعد نفض الغبار عنها، واستصلاحها للإنتاج والتعمير.
فمن مبتكراته في المجلس البلدي أنه جعل للسابلة طرقا غير طريق الإبل والدواب، وأقام في ضواحي المدينة سلاسل من الحديد للفصل بين معالم الطرق وتيسير السير للمشاة.
ومنها أنه زاد أجور العمال سدا لذرائع الرشوة والاختلاس، وأنه رتب أوقات العمل وموضوعاته وخصص الأماكن لكل منها منعا للزحام والانتظار، وأنه تتبع المهربين للدخان وأجرى عليهم الرواتب والوظائف التي تغنيهم عن التهريب، وأنه ضبط أعمال الغرفة التجارية بالإحصاءات، ونظمها على مثال الغرف التجارية في عواصم الحضارة.
ومن مشروعاته إعداد العدة لإنارة المدينة وضواحيها بالكهرباء، وبناء مرفأ للسويدية وجلب الماء إلى حلب من نهر الساجور، وتجفيف المستنقعات التي كانت فيما مضى منبعا للأوبئة والحميات الدورية.
وقد أقام في حلب معظم أيامه لم يفارقها قبل سفره منها إلى القاهرة غير مرات قليلة في رحلات قصيرة، إحداها أبعد فيها الرحلة إلى الآستانة، حيث علم أبو الهدى بمقدمه فنقله إلى داره وحاول اجتذابه إلى حظيرته، واستبقاه تحت نظره، فماطله الكواكبي بالوعد حتى تمكن من العودة إلى بلده بغير اختياره.
وفي خلال هذه الأعمال والوظائف جرت عليه نزاهته - وصراحته - عداوة أعداء العمل النزيه والقول الصريح، فابتلي في ماله ورزقه، وتمحل الولاة المعاذير الواهية لمصادرة أرضه وإتلاف مرافقه، وأقاموه بمرصد للتهم والوشايات، كلما نشبت فتنة أو وقعت جريمة لصقت به الفرية العاجلة، وصنعت الجاسوسية صنيعها في تلفيق الأسانيد وتلقين الشهود وتدبير المحاكمات، وينقضي الوقت في شغل شاغل من هذه التهم ومن جهوده وجهود أنصاره في دفع شرها ورد كيدها، ومنها ما يبلغ به الخطر مبلغ الاتهام بالخيانة وعقوبة الإعدام ...
يلقى حجر على القنصل الإيطالي فيتهم الكواكبي؛ لأن القنصل أصيب في جوار داره، ويطلق الرصاص على الوالي فيتهم الكواكبي؛ لأن الكواكبي اشتكاه وأنحى عليه، ويشتجر جماعة من أبناء الجاليات فيتهم الكواكبي؛ لأنه حسن العلاقة محبوب بين أبناء هذه الجاليات.
ومن نبل هذا الرجل الكريم أن الوالي الذي اتهمه بتدبير الجريمة لاغتياله - جميل باشا - وقع في خصومة عنيفة بينه وبين القنصل الإنجليزي في المدينة، فلجأ القنصل إلى نفوذ دولته في العاصمة، وبادرت العاصمة إلى التحقيق على غير عادتها، فقدم مندوب الوزارة المحقق إلى حلب، وهو يعلم بنزاهة الكواكبي وصدقه، ويعلم أنه مطلع على الحقيقة من شهادته وتوجيهاته، فأبت مروءة الرجل أن يؤيد وكيلا لدولة أجنبية تغنم التأييد في البلدة من وراء فوزه في هذه الخصومة وانتصاره على أكبر ولاتها، وشرح الموقف لمندوب التحقيق من هذه الوجهة، فسلم الوالي من عاقبة هذه الأزمة، ولم يسلم الكواكبي من أذاه.
وأخطر ما اتهموه به أن يتواطأ مع دولة أجنبية لتسليم البلاد إليها، وهي جريمة عقوبتها الموت إذا ثبتت، وتثبت بالشبهة القوية عند ساسة العصر إذا تعذرت الأسانيد القاطعة، وأوشكت قرائن التزييف والتهديد أن تطبق على المتهم البريء، لولا أنه نجح في نقل المحاكمة من قضاء حلب إلى قضاء بيروت، فكان ابتعاد المحاكمة عن مقر التزييف والتهديد سبيلا إلى جلاء الشبهة وثبوت البراءة، بعد أن ضاع الرجل فيها أو كاد.
إن سيرة هذا البريء المظلوم مادة دراسة للمظالم والأباطيل، وإن أعداءه في بلده أعوان همته وعزمه، فلولاهم لجاز أن يسكن إلى مقام يستطاع ويحتمل، ولكنهم أحسنوا غير عامدين ولا مشكورين فجاوزوا به حد الاحتمال.
الفصل الخامس
ثقافة الكواكبي
كان الكواكبي «ابن عصره».
وجهد الإنسان من الثقافة أن يعيش في عصره لا يتخلف عن شأوه في علمه ولا في عمله، فليس للثقافة من حسنة ألزم لها من هذه الحسنة في مجال المعيشة ولا في مجال الدعوة إلى التجديد والإصلاح.
فالرجعي الجامد يعيش في الأيام الماضية.
والطوبي الحالم يعيش في الأيام المقبلة.
ولكن الرجل المثقف يؤدي للثقافة كل حقها إذا استفاد من معارف زمنه ولم يتقيد ببقايا الزمن السابق وعقابيله، فعمل كما ينبغي أن يعمل كل من تحرر من قيود التقليد التي يرتبط بها المقلد وهو لا يفقه معناها. والذين أصابوا من ثقافة القرن التاسع عشر كما أصاب الكواكبي كثيرون يعدون بالمئات، ولكن الذين لهم من ثقافتهم فضل كفضله آحاد يعدون على أصابع اليدين.
إن فضل المثقفين في عصر الكواكبي أنهم تعلموا كما فرضت عليهم البيئة أن يتعلموا، وسيقوا إلى العلم مع الزمن كله، غير مخيرين.
أما فضل الكواكبي في ثقافته فهو أكبر من فضل واحد.
إنه فضل المثقف الذي تلقى ثقافته من ثمرة اجتهاده ومشيئته.
وإنه فضل المثقف الذي بلغ بوسيلته ما لم يبلغه أنداده بأضعاف تلك الوسيلة.
وإنه فضل المثقف الذي انتقع بثقافته ونفع بها قومه، وجعلها عملا منتجا، ولم يتركها كما تلقاها أفكارا وكلمات.
تلقى الكواكبي في المكاتب والمدارس ما يتلقاه الأطفال الصغار، فكل ما يتعلمه الفتى الناشئ أو الرجل الناضج هو كل ما تلقاه في بيته واستفاده من مطالعاته.
وتعلم من اللغات - غير العربية - لغتين شرقيتين هما التركية والفارسية، وكلتاهما تأخذ الثقافة العصرية منقولة من اللغات الأوروبية، متفرقة بين أشتات من الكتب والصحائف، فبلغ بهذه الوسيلة في مطلبه الذي عناه شأوا لم يسبقه فيه رواد الثقافة من مناهلها في لغاتها، وبين أيدي الأساتذة والمعلمين من أهلها.
وعرف ما عرفه بهذه الوسيلة، فعمل به كل ما في الوسع أن يعمل في زمنه، وأبقى أساسه من بعده صالحا للبناء عليه.
وذلك فضل النبوغ وفضل الزعامة، لا يستوعبه أن يقال إنه عمل رجل من المثقفين، حتى يقال: بل رجل من المثقفين النابغين العاملين.
ولا يطلب من المثقف العامل أن يحيط بمعارف عصره ويتقصى كل جديد من بدائع جيله، فليس ذلك بميسور ولا هو بلازم للمثقف العامل، وإنما يغنيه أن يعرف ما يعنيه في عمله، وأن يعمله على النحو الذي جددته معارف الزمن ولم يكن ميسورا لمن يتركون القديم على قدمه.
وكان الكواكبي يعمل في إصلاح المجتمع الإسلامي وإصلاح الحكومة المستبدة، فلم يدع بابا من أبواب المعرفة التي تعينه على قصده لم يأخذ منه ما يكفيه ويغنيه، ولم يزهد في أصل من أصول هذه المعرفة إلا ما كان من قبيل الفضول في تحقيق غاياته القريبة وجهوده المرجوة.
فليس من زاد هذه الدعوة أن يملأ ذهنه أو يملأ صحائفه بالمطولات أو الموسوعات في شروح التواريخ وتفاصيل المذاهب الاجتماعية ودساتير الحكومات والدول بين قديم منها وحديث.
وليس من زادها أن يسبح في عالم من فتاوى الفقهاء وفروض المفسرين وعشاق التأويل والتخريج.
بل يكفيه من الزاد - ويربي على الكلمة - أن يعلم من أحكام دينه ما يميز به الصحيح وغير الصحيح ويهتدي به إلى القويم من الرأي والاعتقاد وغير القويم، ويكفيه أن يعلم من أحوال عصره علاقات الدول والأوطان، ومجمل الوقائع الثابتة من دعوات الحرية والإصلاح، وذلك هو الزاد الذي يعلم المطلعون على كتابيه أنه كان موفورا لديه.
فمن صفحات «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» نعلم أنه كان على اطلاع حسن في مسائل الدين، وكان على دراية محققة بتواريخ الأمم الإسلامية، وكان من الملمين أولا فأولا بالفتوح العلمية في العصر الحديث، يفهم منها ما لم يكن يفهمه غير القليلين في أوروبة نفسها يومئذ من آراء الرواد السابقين فيها، فكان ملما بمذهب النشوء والارتقاء، ملما بآراء العلماء في أطوار المادة وحركات الأفلاك وتكوين الكرة الأرضية والمنظومة الشمسية، وكان في شئون الاجتماع والسياسة يلم بأخبار الثورة الفرنسية وأخبار الزعماء والعاملين على استقلال الشعوب وتوحيد الأقوام، ويتتبع قواعد الحكم ومواضع التفرقة بينها، وينظر في الأخلاق والعادات التي تقترن بالفوارق بين أمة منها وأمة، وبين حكومة منها وحكومة، ويخص الشئون العملية بعنايته الأولى غير معرض عن جوانبها الأدبية، فلا يخفى عليه اسم الشاعر الذي أبدع الأناشيد أو الخطيب الذي أثار النخوة، ولكنه يقنع من ذلك بالحظ الذي سلك عنده «شيلر» في سلك حسان والكميت، فلا نظنه كلف نفسه الاطلاع على أناشيد المرشدين وخطب الخطباء؛ بل لا نظنه كان يعتز بها في لغة من اللغات التي يحسنها لو أنه سأل عنها، ولكنه لم يعلم بالأسماء إلا لعلمه بالدعوات التي أبرزتها في صفحات رواتها ومؤرخيها. •••
ولا اختلاف في مذهب الثقافة الدينية، على اعتقاد الكواكبي، بين التجديد والمحافظة على تراث السلف الصالح في صدر الإسلام ؛ لأن نهضة المسلمين إنما تقوم على تطهير الديانة الإسلامية من نفايات الخرافة، وحواشي البدع التي لصقت بها في عصور الجمود والتقليد، فالمحافظة في اعتقاده مرادفة للتجديد على أقوم سبله، واعتبار الكواكبي من صميم المحافظين في الدين لا يخرجه من زمرة المجددين المتشددين في طلب الإصلاح؛ بل هو على قدر غلوه في المحافظة على تراث السلف يغلو في دعوة الأجيال المقبلة إلى التحرر والتجديد.
وقد كان يشتد في المحافظة أحيانا فيتحرج من تغيير العادات في غير حرج، كما نرى في انتقاده الذي أنحى به على السلطان محمود لأنه «اقتبس عن الإفرنج كسوتهم وألزم رجال دولته وحاشيته بلبسها حتى عمت أو كادت، ولم يشأ الأتراك أن يغيروا منها الأكمام رعاية للدين؛ لأنها مانعة من الوضوء أو معسرة له».
وإن هذا الانتقاد لإفراط في المحافظة يلحقه بزمرة المحافظين الغلاة في حرصهم على سمت السلف وزيه الذي لا مساس له بجوهر العقيدة، وقد رأينا من معاصريه أنه ربما نزع إليه إفراطا منه في السخط على سلاطين الدولة وأساليبهم في التقريب بين الشرق والغرب والقديم والحديث، ولكنه - كما نرى من محافظته على زيه في وطنه وبعد الهجرة منه إلى الهند والديار المصرية - لم يكن يعمل غير ما يقول، ولم يكن ينقد بكلامه ما يترخص فيه بمسلكه، فإنه بقي على سنة أسلافه قبل عهد السلطان محمود، فلم يبدل زيه إلا ليلبس العباءة والعقال.
وربما جنح في أواخر أيامه إلى آراء بعض المتصوفة في تفسير الكائنات الغيبية بالمعاني النفسية والرموز الروحية، وأبعد ما ذهب إليه من ذلك قوله في فصل التربية من طبائع الاستبداد: «إن يشأ الكمال يبلغ فيه إلى ما فوق مرتبة الملائكة، إن كان هناك ملائكة غير خواطر الخير، وإن شاء تلبس بالرذائل حتى يكون أحط من الشياطين، إن كان هناك شياطين غير وساوس النفس بالشر ...»
ورد هذا في الطبعة التي ظهرت بعد وفاته، ولم يرد في طبعة من الطبعات التي أصدرها في حياته، ولعله مر بهذا الخاطر بعد اطلاعه على التفسيرات الحديثة على أطراف من كلام الصوفية المتأخرين، ولا نخاله قد غفل في مطالعاته الدينية عن تفسير كتفسير السيد محمد الآلوسي المتوفى سنة 1270 هجرية، فإنه يشير إلى أمثال هذه الخواطر كما فعل بعد تفسير الآية عن زلل آدم وحواء إذ أكلا من الشجرة فقال: «وبينما هما يتفرجان في الجنة، إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة، فدنت حواء منه، وتبعها آدم، فوسوس لهما من وراء الجدار ... ومشهور حكاية الحية ... يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب، وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة. وقيل إن توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إزلال من شاء الله تعالى وإضلاله، ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي، ولا جزم عند كثير في دخول الشيطان في القلب، بل لا يعقلونه؛ ولهذا قالوا: إن خبر «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وكأني بك تختار هذا القول، وقال أبو منصور: ليس لنا البحث عن كيفية ذلك، ولا نقطع القول بلا دليل ...»
وقد تقدم من كان يقول - كالجبائي وأبي بكر الرازي: إن أثر الشيطان في دم الإنسان كأثر النفس فيه، فليس للشيطان وجود جسدي في داخل البنية الإنسانية، وليس له من سلطان عليه غير ما يتغلب به على هواه.
فإن الكواكبي قد لاحت له هذه اللمحة العابرة فما عدا بها تلك الخواطر الصوفية، ولا تلك الخواطر الطيبة التي أوردها مورد الاحتمال، ولم يقطع بالقول - على حد عبارة السيد الآلوسي - بغير دليل. •••
ولا تزال سمة الثقافة العصرية أغلب السمات على هذا الفعل المستنير، تجذبه المحافظة على سنة السلف أحيانا؛ بل تجذبه كثيرا، ولكنها لا تجذبه إلى جانبها إلا من جانب التجديد؛ لأن التجديد عنده هو محو الفضول عن العقيدة الإسلامية، والعودة بها إلى بساطة الحرية والاستقامة والاجتهاد في الفهم المنزه عن قيود التقليد.
الفصل السادس
أسلوب الكواكبي
كانت أساليب الكتابة في أواخر القرن الثامن عشر لا تتعدى أساليب الرسائل و«الخطابات» أو «الإفادات» بين عامة وخاصة.
وكانت الرسائل العامة - وهي رسائل الدواوين - مفرغة في قوالبها التقليدية، تتكرر على صورة واحدة في مناسباتها فلا يستبيح الكاتب أن يتصرف في ألفاظها ولا في ترتيب عباراتها وصيغة استهلالها وختامها، أو «ديباجتها وتقفيلتها» باصطلاحهم الذي حافظوا عليه نحو قرن كامل بعد هذه الفترة.
وجرى الاصطلاح على المفردات المتفرقة كما جرى على الجمل والعبارات في تلك الرسائل الرسمية، فأصبحت لغة الدواوين «لغة خاصة» بين الفصيحة والدارجة تتخللها الكلمات التركية أو الكلمات العربية بأوزانها التركية، وتندر فيها ملاحظة قواعد الإعراب فضلا عن قواعد الصرف على أصولها العربية.
ولم تكن هناك «كتابة» بمعناها المفهوم في أغراض الأدب والثقافة، فلم يكن في القرن الثامن عشر من يكتب ليعبر عن فكرة أدبية أو عن حالة نفسية، أو ليصور للقارئ معنى مبتكرا من عنده، أو معنى مفهوما من معاني العلم والمعرفة، وإنما الكاتب يومئذ من كان يستظهر أنماطا من الصيغ يتداولها جميع الكتاب على صورة واحدة في مناسباتها، ولا يستطيعون إعادتها بمعناها على صورة أخرى غير التي حفظوها وتداولوها.
أما كتابة «التعبير» فقد تعطلت في عصور الجمود والتقليد، ولم يشعر أحد بالحاجة إليها للتأليف والتصنيف أو للإفضاء بما عنده من الخواطر والآراء؛ إذ لم يكن ثمة من يؤلف ويصنف، ولم تكن ثمة خواطر وآراء يتبادلها الكتاب والقراء؛ بل لم يكن ثمة من يقرأ القديم ويرغب في نسخه وحفظه، وفي تعلمه وتعليمه؛ لقلة العناية بالعلم في غير أغراضه المتواترة التي يكتفون فيها بالحفظ والنقل والمحاكاة.
وظلت الكتابة للتعبير معطلة إلى أوائل القرن التاسع عشر الذي تنبهت فيه البلاد العربية لموقفها من أمم الحضارة، فاحتاجت إلى التعلم منها كما احتاجت إلى إحياء علومها وآدابها التي بقيت لها بقية من الفخر بها والحنين إليها، فانبعثت الكتابة العربية الحديثة مع حركة الترجمة وحركة الطباعة، وولدت «أساليب الكتابة» في مولدها الجديد يوم احتاج المترجم إلى فهم شيء مفصل مشروح بين يديه يؤديه من عنده بعبارة عربية تطابقه في معناه، ويوم شعر بالضرورة التي تلجئه إلى مراجعة كتب السلف ليتعلم منها أساليب الأداء ويستوعب منها محصوله من المفردات والتراكيب.
وبدأت الكتابة العربية - مع ابتداء حركة الترجمة والطباعة - ضعيفة متعثرة تشبه كتابة الدواوين وتلتفت إليها، ثم نشطت من عقالها قليلا قليلا حتى استقامت على قدميها في شيء من الاستقلال والثقة، فانقضى جيل من المترجمين والكتاب أو جيلان قبل أن تظهر في عالم الكتابة العربية أقلام يتميز بينها قلم من قلم، وأسلوب من أسلوب، ويتحدث القراء عن أسلوب هذا الكاتب وأسلوب ذاك.
وتنوعت الأساليب على حسب القراءات والمطالعات، فالذين أكثروا من قراءة كتب الأدب أو قراءة كتب التفسير والأحاديث النبوية ظهرت في أسلوبهم جزالة اللفظ وسلامة التركيب، وقلت فيه أخطاء النحو والصرف ومآخذ اللغة على الإجمال، والذين أكثروا من قراءة كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية ومراجع الحقوق والأحكام ظهرت في أسلوبهم سلاسة التعبير وسهولة الأداء ودقة المعنى على منهج أصحاب العلوم أو أصحاب الأحكام، ولكنهم لم يسلموا من بعض الخطأ في قواعد الإعراب والتصريف على ديدن أمثالهم ونظرائهم بين الكتاب الأقدمين.
وربما اتضح الفارق بين الأسلوبين بتسمية الأعلام من كتاب كل مدرسة متبعة في ثقافتنا العربية، فهما مدرستان: أدبية ينضوي إليها أمثال ابن المقفع والبديع والجرجاني وابن عبد ربه وابن زيدون، وعلمية ينضوي إليها أمثال الغزالي وابن خلدون وابن جبير وابن بطوطة وسائر كتاب التواريخ والرحلات ومباحث الأخلاق والاجتماع. •••
والكواكبي قد بدأ حياته الصحفية بعد منتصف القرن التاسع عشر، وأخذ يشدو في فن الكتابة خلال تلك الفترة المتوسطة بين ابتداء حركة الترجمة والطباعة وانتشار المطبوعات من كتب السلف، وما استتبعه من شيوع الفصاحة والاستقلال بالتعبير.
ولا أدل من أصالة طبعه من أسلوب كتابته، فإن أسلوبه ينم على مطالعاته، ومطالعاته تنم على الوجهة التي اتجه إليها بفطرته واستعد لها بتربيته، وهي وجهة العمل على محاربة الاستبداد وتدعيم مبادئ الحرية.
وكان الكواكبي كثير المطالعة فيما ينفعه في هذا المطلب، ويستحث خطاه إلى هذه الوجهة، قليل المطالعة فيما عداه من كتب العلم الذي يسميه علم اللغة أو العلم الموكل بشئون المعاد بمعزل عن شئون الحياة، وإلى هذا يشير في كتابه «طبائع الاستبداد» حيث يقول: «إن المستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوم اللسان وأكثرها هراء وهذيان، نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، أو سحر بيان يحل عقد الجيوش.»
ثم يقول: «كذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، المختصة بما بين الإنسان وربه؛ لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون.»
إلى أن يقول: «ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة؛ مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه ...»
ومن المؤلفين الذين ذكرهم في مقدمة طبائع الاستبداد «أولئك الذين ألفوا في علم السياسة ممزوجا بالأخلاق؛ كالرازي والطوسي والغزالي والعلائي، وهي طريقة الفرس، وممزوجا بالأدب كالمعري والمتنبي، وهي طريقة العرب، وممزوجا بالتاريخ كابن خلدون وابن بطوطة، وهي طريقة المغاربة». •••
ولا يرى من مطالعاته في الشعر أنه كان يخف إلى قراءة شيء من المنظوم على غير ذلك المثال الذي كان يستشهد به في بعض فصول «أم القرى» أو «طبائع الاستبداد» كقول المتنبي:
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
أو قوله الذي استشهد به على صفة المستبد:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
أو قوله في وصف الجهلاء المسخرين:
بأرض ما اشتهيت رأيت فيها
فليس يفوتها إلا كرام
أو قول أبي العلاء:
إذا لم تقم بالعدل فينا حكومة
فنحن على تغييرها قدراء
ولم يذكر من شعر الجاهلية غير كلام لعمرو بن نفيل ينعي فيه على الجاهليين عبادتهم للأرباب الكذبة وإيمانهم بالخرافة:
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الرجل الخبير
فهو قارئ تقوده فطرته إلى مطالعاته ، وكاتب تسري إلى قلمه أساليب الموضوعات التي يطالعها ولا تصلح لأسلوب غيرها، وبخاصة حين يجري بها القلم في الصحف السيارة حيث كتب الكواكبي مقالاته الأولى ومقالاته الأخيرة التي اجتمع منها كتاب طبائع الاستبداد، وما كتبه أثناء ذلك في غير الصحف - كأم القرى - فإنما هو فصول متتابعة تصلح للنشر في الصحف الدورية على النحو الذي ظهرت به في الكتاب.
وكان الكواكبي رحالة مطبوعا على السياحة في الآفاق، ولم يكن قصاراه أنه رحالة على صفحات الأوراق، وقد طالع كتب المؤرخين والرحالين قبل أن يخرج من بلده للطواف في الأرض والكتابة للتاريخ، وباشر الرحلة في صفحات الكتب قبل أن يباشرها على متون الإبل والسفن في الصحارى والبحار، فمن قرأ ابن خلدون وابن جبير وابن بطوطة ثم قرأ مقالات الكواكبي خيل إليه أنهم قد بعثوا من مراقدهم في رحلة من رحلات العصور يكتبون ويسجلون ما شهدوه وكابدوه لأبناء العصر الحديث.
وقد اتسم أسلوبه بسمة الأسلوب الذي تكتب به التواريخ والرحلات، وسلست عبارته في نسق مرسل واضح يقرر الواقع ويتبع المشاهدة ويتبسط في وصف ما يراه بالفكر كما يتبسط في وصف ما يراه بالعيان.
ولا يخفى أن هؤلاء الكتاب - كما قدمنا - قد تخصصوا لتسجيل المشاهدات الاجتماعية والتاريخية، ولم يتخصصوا لمباحث اللغة والبيان، فليس من الغريب أن تتسرب إلى أقلامهم أخطاء الألسنة في زمانهم، وأن يتردد في عباراتهم بعض السهو الذي يتحرز منه اللغويون وكتاب الأدب، في مدرسة ابن المقفع والبديع والجاحظ وعبد الحميد، وشأن الكواكبي في ذلك قريب من شأن ابن خلدون وابن جبير؛ بل من شأن الغزالي وابن مسكويه وسائر أصحاب الأقلام التي لم تتفرغ للأدب واللغة وشغلتها دقة التعبير عن دقة الإعراب.
تقرأ له - مثلا - في تعريف الاستبداد: «إن الناظر في أحوال الأمم يرى أن الأمراء يعيشون متلاصقون متراكمون ... أما العشائر والأمم الحرة ... فيعيشون متفرقون.» أو تقرأ مثل قوله: «الأزواج الحمقاء» ... «ولا يخرج قط» ... «وقوانين لكافة الشئون» ... «وحياة النائم المزعوج بالأحلام».
1 «وعلى هذا النسق يوضع كتابا للمنهيات» ... «وإن هؤلاء الأئمة الأقدمين لا يقدروا أن يطلعوا على ما لا يقدر المتأخرون أن يطلعوا عليه» ... «ولا تتحقق في الإنسان إلا في فن واحد فقط يتولع فيه فيتقنه.»
2
إلى أشباه هذه المآخذ التي كانت تشيع في صحافة عصره ولم يكد يسلم منها كتاب الأدب والبيان، وقد يعتبر الكواكبي من أقل زملائه ونظرائه تعرضا لهذه المآخذ والهنات. •••
ولا ننسى أن «الكواكبي» كان يتحرى فيما يكتب ويعمل شيئا واحدا لا يتحول عنه بفكره ولا بقوله، وهو محاربة الاستبداد.
ولا ننسى أن معيار القول النافع عنده أن يخشاه المستبد ولا يطمئن إليه، والمستبد لا يخشى علوم اللغة التي أكثرها هزل وهذيان ولكنه يخشى من الكلام حماسة الخطابة؛ لأنها تعقد الألوية وتحل عقدة الجيوش كما قال.
ولهذا كان هذا الأسلوب الخطابي من الأساليب المحببة إلى الكواكبي في كتابته، وكان يخيل إليه أحيانا أنه يلقي بالقلم جانبا ليتكلم إلى القراء كلام الخطيب على المنبر لمن يصغون إليه بالأسماع، أو يصغون إليه بالقلوب بدل الأسماع.
وكأننا نراه يهم بذلك وهو يختم كلامه على الاستبداد والترقي بهذه الكلمات:
على ذكر اللوم الإرشادي لاح لي أن أصور الرقي والانحطاط في النفس وكيف ينبغي للإنسان العاقل أن يعاني إيقاظ قومه وكيف يرشدهم إلى أنهم خلقوا لغير ما هم عليه من الصبر على الذل والسفالة، فيذكرهم ويحرك قلوبهم ويناجيهم وينذرهم، بنحو الخطابات الآتية.
ثم يقول:
يا قوم! ينازعني والله الشعور: هل موقفي هذا في جمع حي فأحييه بالسلام، أم أنا أخاطب أهل القبور فأحييهم بالرحمة؟!
يا هؤلاء! لستم بأحياء عاملين ولا أموات مستريحين؛ بل أنتم بين بين في برزخ يسمى السبت، ويصح تشبهه بالنوم.
يا رباه، إني أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون؛ بل هم موتى لأنهم لا يشعرون.
يا قوم! هداكم الله، إلى متى هذا الشقاء المديد، والناس في نعيم مقيم، وعز كريم، أفلا تنظرون؟!
وفي مثل هذا المقام يلتفت بعد ذلك بصفحات ليخاطب الشرق والغرب بهذا الخطاب؛ إذ ينادي الشرق، أولا، قائلا:
رعاك الله يا شرق! ماذا أصابك فأخل نظامك، والدهر ذاك الدهر ، ما غير وضعك ولا بدل شرعه فيك؟
رعاك الله يا شرق! ماذا عراك وسكن منك الحراك؟! ألم تزل أرضك واسعة خصبة ومعادنك وافية غنية، وحيوانك رابيا متناسلا، وعمرانك قائما متواصلا، وبنوك - على ما ربيتهم - أقرب للخير من الشر؟! أليس عندهم الحلم المسمى عند غيرهم ضعفا في القلب، وعندهم الحياء المسمى بالجبانة، وعندهم الكرم المسمى بالإتلاف، وعندهم القناعة المسماة بالعجز، وعندهم العفة المسماة بالبلاهة، وعندهم المجاملة المسماة بالذل؟ ... نعم ما هم بالسالمين من الظلم ولكن فيما بينهم، ولا من الخداع ولكن لا يفتخرون به، ولا من الإضرار ولكن مع الخوف من الله.
ثم يلتفت من خطاب الشرق إلى الغرب ليخاطبه على هذا النحو قائلا: رعاك الله يا غرب وحياك وبياك، قد عرفت لأخيك سابق فضله عليك، فوفيت وكفيت، وأحسنت الوصاية وهديت، وقد اشتد ساعد بعض أولاد أخيك، فهلا ينتدب بعض شيوخ أحرارك لإعانة أنجاب أخيك على هدم ذاك السور، سور الشؤم والسرور، ليخرجوا بإخوانهم إلى أرض الحياة، أرض الأنبياء الهداة.
يا غرب! لا يحفظ الدين غير الشرق إن دامت حياته بحريته، وفقد الدين يهددك بالخراب القريب ...
ولم يكن أسلوب المنبر ليسعده في جميع الأحوال؛ لأنه أسلوب لم يخلق له ولم يطبع عليه، ولكنه كان يكتب أحيانا ويحس أنه يثور ثورة الخطيب فيعمد تارة إلى أسلوب التوكيد والتثبيت، ويعمد تارة أخرى إلى أسلوب التصوير وتحريض الخيال، ولا يخطئه التوفيق أحيانا في هذا الأسلوب.
ومن ذلك قوله: «المستبد عدو الحق، عدو الحرية ... والحق أبو البشر والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام، نيام.»
أو قوله: «لو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن آوي يتلقف دواجن الحواضر في ظلام الليل.»
أو قوله: «الاستبداد لو كان رجلا يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال ...»
أو كقوله: «إنه المعترك الذي ... قل في البشر من لا يجول فيه على فيل من الفكر، أو على جمل من الجهل، أو على فرس من الفراسة، أو على حمار من الحمق، حتى جاء الزمن الأخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار الممتطي في التدقيق مراكب البخار.»
ومن توكيداته الخطابية ما يجري فيه على مثل قوله: «الاستبداد أشد وطأة من الوباء، أعظم تخريبا من السيل، أذل للنفوس من السؤال، داء إذا نزل بالنفوس سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء، والأرض تناجي ربها بكشف البلاء.»
ومنها ما يجري فيه على التوكيد بالتكرار كقوله عن التعاون: «به قيام كل شيء ما عدا الله وحده، به قيام الأجرام السماوية، به قوام كل حياة، به قيام المواليد، به قيام الأجناس والأنواع، به قيام الأمم والقبائل، به قيام العائلات، به تعاون الأعضاء، نعم؛ الاشتراك فيه سر تضاعف القوة بنسبة ناموس التربيع، فيه سر الاستمرار على الأعمال التي لا تفي بها أعمار الأفراد.»
ومنه ما يجري فيه على التوكيد بمثل هذا التكرار: «يجددون النظر في الدين نظر من لا يحفل بغير الحق الصريح، نظر من لا يضيع النتائج بتشويش المقدمات، نظر من يقصد إظهار الحقيقة لا إظهار الفصاحة، نظر من يريد وجه ربه لاستمالة الناس إليه.»
ونتأتى عند قوله: «إن المصلح ينبغي أن ينظر في الأمور نظر من يقصد إظهار الحقيقة لا إظهار الفصاحة، ونظر من يريد وجه ربه لاستمالة الناس إليه» ... فإنه قد أودع هذه الكلمة روح هذا الأسلوب الفصيح بمقصده البين وصمود صاحبه على هذا المقصد طوال حياته؛ بل أودعه في الحق روح كل أسلوب يؤدي للقارئ من وراء الجمل والمفردات فوق ما تؤديه ألفاظه ومعانيه، فإن إخوان الكواكبي الذين عاشروه وألفوا الاستماع إليه وقراءته معا يقولون إنهم كانوا يؤمنون بشيء واحد من حديث لسانه كما يؤمنون به من حديث قلمه؛ كانوا يؤمنون قبل كل شيء بإيمان المتكلم بفكرته، وشعوره ببداهة دعوته وصدق رغبته في إقناع غيره بما هو مقتنع بضرورته، لعامة قومه. وأسلوبه في الحديث وأسلوبه في الكتابة متقاربان متعادلان، لا يقع بينهما من الاختلاف إلا أن يكون اختلاف القائل المترسل بين الناس، والقائل المحتفل على هينة بينه وبين نفسه، وعلى هذا الوجه يصح أن يعتبر أسلوب الكواكبي نمطا من أنماط الحديث الخطابي أو الخطابة المكتوبة، على الطريقة التي تتسنى للمتحدث المطبوع وإن لم يكن في المحافل من الخطباء المطبوعين.
ولا شك أن الكواكبي قد حاول كل وسيلة من وسائل التعبير لإبلاغ دعوته «إظهارا للحقيقة لا إظهارا للفصاحة» ... فإنه قد عالج نظم الشعر، وأثبت في أم القرى بعض منظوماته في شبابه، فافتتح الكتاب بإحدى القصائد يقول منها:
دراك فإن الدين قد زال عزه
وكان عزيزا قبل ذا غير هين
فكان له أهل يوفون حقه
بهدي وتلقين وحسن تلقن
هلموا إلى بذل التعاون إنه
بإهماله إثم على كل مؤمن
هلموا إلى «أم القرى» وتعاونوا
ولا تقنطوا من روح رب مهيمن
فإن الذي شادته أسياف قبلكم
هو اليوم لا يحتاج إلا لألسن
واختتم الكتاب بقصيدة أخرى يقول منها:
غيرتمو يا حيارى ما بأنفسكم
فغير الله عنكم سابغ النعم
الله لا يهلك القرى إذا كفرت
وأهلها مصلحون في شئونهم
يا قومنا صححوا توحيد بارئكم
بدون إشراك أحياء ولا رمم
ونقحوا الشرع من حشو ومخترع
رجعى إلى دين أسلاف ذوي همم
هذي وسيلتكم لا غيرها أبدا
فاسعوا لنهضتكم يا خيرة الأمم
سياسة الدين أولى ما تساس به
شتى الخلائق من عرب ومن عجم
فيها الحياة وفيها حفظ رايتكم
خضراء سوداء حول الركن والحرم
ولم نقرأ له نظما غير هاتين القصيدتين، وهما - كما يرى القارئ - من الشعر الذي يوصف بأنه شعر العلماء، لعله حاوله زمنا ولم يجد فيه بغيته من نشر الدعوة وتنبيه النفوس والأذهان، فعدل عنه وارتضى لدعوته أوفق الأساليب لها، وهو أسلوب المواجهة الخطابية على منبر الصحافة كما صنع في كتابه «طبائع الاستبداد»، ومثله أسلوب الفصول التي يكتبها كأنها خطب ألقاها المتكلمون وتعاقبوا على إلقائها والحوار فيها كما يتعاقب المتفاوضون في مؤتمر المحاضرة.
إن الكواكبي لقدير على أن يجد نفسه حيث يريدها - كما يقول الغربيون في تعبيراتهم - فلم يبحث طويلا حتى وجده، ولم يبحث طويلا بعد أن وجد دعوته حتى وجد أسلوبه، وهو أسلوب الكاتب الذي يواجه القراء كما يواجه المستمعين.
الفصل السابع
المؤلف
توفر الكواكبي على قضيتين اثنتين لم يشتغل زمنا طويلا بقضية غيرهما، وهما: قضية البحث في أسباب تأخر الأمم - ولا سيما أمم العالم الإسلامي - وقضية البحث في عوامل الاستبداد في حكم الدول - ولا سيما الدول العثمانية.
وأودع زبدة آرائه عن قضية العالم الإسلامي في كتابه «جمعية أم القرى».
وأودع زبدة آرائه عن الحكم والاستبداد في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».
فهو قد استوفى رسالة التأليف في كلتا القضيتين اللتين تجرد لهما طوال حياته، فلا بقية من هذه الرسالة إلا أن تكون بقية الشرح والتفصيل ... أما لباب الرسالة وغايتها فقد استوفاها الكتابان.
ونعلم من أقوال مترجميه العارفين به أنه وضع كتابا سماه «صحائف قريش»، وكتابا آخر سماه «العظمة لله»، وترك ديوانا من الشعر لم تبق منه غير كناشة من القصائد في الحكمة والنسيب وأغراض المدح والرثاء والهجاء تزيد أبياتها على ثلاثة آلاف.
أما «صحائف قريش» فهو تذييل لكتابه الأول «أم القرى»، تضمن على ما يظهر نخبة من فصول الصحيفة الدورية التي أشار في الكتاب إلى اتفاق الجمعية على إصدارها، وقد أوصى المؤلف قراءه أن ينتظروها ويحفظوها: «فمن يظفر بنسخة من هذا السجل فليحرص على إشاعته بين الموحدين، وليحفظ نسخة منه ليضيف إليه ما سيتلوه من نشريات الجمعية باسم صحائف قريش التي سيكون لها شأن - إن شاء الله - في النهضة الإسلامية العلمية والأخلاقية.»
ولم يطلع أحد من زملائه في القاهرة على هذه «النشريات» ولا ورد من أخباره فيها أنه طبع صحيفة منها حيث كان يطبع كتبه ورسائله، ولكن ابنه الدكتور محمد أسعد يقول في مجلة الحديث: «إن الكتاب كان معدا للطبع ولكن حال دون ذلك سياحته الطويلة المذكورة في غير هذا المكان، ثم وقوع الوفاة الفجائية، فصودر مع الأوراق المصادرة، وأرسل هدية إلى السلطان فلم أعثر له على أثر.»
أما كتاب «العظمة لله » فهو كتاب سياسي «كسائر ما خطته يمينه» على قول الأستاذ محمد كرد علي في الجزء الثاني من مذكراته، وهو يقول قبل ذلك في هذه المذكرات: «الغالب أن السلطان اغتبط بموت الكواكبي وأراد القضاء على أفكاره المضرة فأرسل مدير معارف بيروت «عبد القادر القباني» يأخذ أوراقه ويرضي أسرته بمبلغ من المال، فما حمل إلا عددا معينا من كتب الكواكبي المطبوعة، أما المخطوطة فأخذها أحد البالغين الراشدين من أولاده، وفيها كانت أوراقه السرية وبعض كتبه التي بدأ وضعها، ومنها ما قرأ لي مقدمته واسمه: العظمة لله ...»
والذي نرجحه ونستدل من عنوان الكتاب عليه أنه إضافة إلى «طبائع الاستبداد»، ينكر فيها على المستبدين تطاولهم إلى مشاركة الله في عظمته، وينكر فيها على الخانعين من رعاياهم خضوعهم لتلك العظمة، ولا نخاله قد ذهب فيها شوطا بعيدا وراء المقدمة التي أطلع عليها صديقه كرد علي؛ لأنه لم يطلعه على شيء بعدها مع ملازمته إياه إلى يوم وفاته.
أما الديوان فمن أمثلته ما أشرنا إليه في الكلام على أسلوبه وهو يعيد فيه - نظما - بعض ما كتب نثرا في «أم القرى»، وطريقته فيه طريقة العلماء في منظوماتهم التي يخاطبون بها نظراءهم مخاطبة العارف للعارف، ولا تراد لخطاب قراء الشعر عامة؛ لأنها «مفهومات» لا تبلغ قراءها من جانب التخيل واستجاشة الشعور.
ويخطر لنا أنه في مديحه وهجائه أراد أن يستعين بالنظم على استمالة أمراء الجزيرة العربية الذين زارهم في رحلته إلى المشرق، وأنه وقف هجاءه على الذين استحقوا نقده في كتابيه، ثم استحقوا في صفتهم الشخصية نقدا غير نقد المبادئ والآراء.
وإن ضياع هذه الأوراق - بمنثورها ومنظومها - لخسارة تاريخية يأسف لها قراؤه ومترجموه، ولكن الخسارة فيها قدر أهون من قدر كما يقال في مقام السلوى لكل مصيبة لا حيلة لها، فإنها من الخسائر التي نعوض على كراهتها، وعوضها أن يسلم الكتابان اللذان أودعهما صفوة التجارب والدراسات من بواكير شبابه إلى ما قبل وفاته، وبادر إلى نشرهما بعد تردد منه في نسبتهما إليه، وما كانا ليسلما من مصير كمصير تلك الأوراق المفقودة لو لم يبادر إلى طبعهما قبل أن ينقضي عليه عام في القاهرة، وقبل أن تشغله عنهما رحلاته التي لا يملك فيها موعد ذهاب ولا موعد إياب.
الفصل الثامن
الجامعة الإسلامية والخلافة العثمانية
قبل أن ننتقل من الكلام على المؤلف إلى الكلام على مؤلفاته نبدأ القول ببيان الموقف الذي أوحى إليه اختيار موضوعه في تلك المؤلفات؛ بل أوحى إليه اختيار رسالة في الحياة، وهو موقفه بين قضية الاستقلال وقضية الجامعة الإسلامية، وكيف اتفق له الإيمان بالإصلاح الديني، والإصلاح الوطني في وقت واحد.
لقد فتح عينيه على المسائل العامة في إبان المشكلة الشرقية بين حوادث جبل لبنان وحوادث أرمينية، وأوفى على الكهولة في إبان حركة الجامعة الإسلامية والخلافة العثمانية التي ابتعثها السلطان عبد الحميد الثاني.
وكلتا الحركتين - الجامعة والخلافة - كثيرة الشعب مترامية الأطراف، يبلغ من تشعبهما أن يرى فيها الرأيان المتناقضان وكلاهما من وحي الإخلاص والغيرة على الوطن وعلى الدين.
فكان من دعاة الإصلاح من يرى أن الجامعة الإسلامية بزعامة الدولة الإسلامية الكبرى هي القوة التي بقيت لأمم الإسلام في عصر الاضمحلال، وقد أعوزتها قوة المال والعتاد وقوة العلم والصناعة وقوة السياسة والسيطرة الدولية، فلا أقل من قوة التضامن والاتحاد.
وكان في تلك الوجوه المتشعبة أن الجامعة الإسلامية بزعامة الدولة العثمانية تحمل هذه الدولة تبعات المشاكل والأزمات التي تتعرض لها شعوب الإسلام في الشرق والغرب، ويخشى عليها في ضعفها واضطراب أحوالها أن تنوء بها، فلا هي تنفع شعوب الإسلام بمجهودها ولا هي تنجو بنفسها من عواقب ذلك المجهود.
ومن وجوه هذه القضية المتشعبة أن الإطناب في لقب الخلافة يضفي على صاحب ذلك اللقب قداسة تحميه من نقد الناقدين ومآخذ طلاب الإصلاح، وتؤخر أعمال الإصلاح التي يرجى منها الخير للدولة العثمانية، وقد تؤخرها على سبيل القدوة في سائر بلاد المسلمين.
ومن وجوهها المتشعبة أنها تحرج الشعوب التي تطالب بحقوقها في ظل الحكم التركي، فلا تدري كيف تقدم أو تحجم بين رعاية حقوقها وبين العمل بما تقتضيه علاقتها بالخلافة وبالجامعة الإسلامية .
وليس من وجوهها الضعيفة أن إعلان الجامعة الإسلامية في العالم يعزز نشاط الحزب المتعصب وأحزاب التبشير بين الغربيين، ويقوي حجتهم في مناهضة الأحزاب السياسية التي ترمي إلى فصل السياسة عن الدين؛ بل يقوي حجة المستعمرين الذي يتلمسون الذرائع لغزو البلاد الشرقية، ويتلقفون هذه الذريعة لترويج مطامعهم كلما أعوزتهم ذرائع السياسة.
هذه طائفة من تلك الوجوه المتشعبة التي يتجه لها أنصار الجامعة وخصومها، ومصدر هذا التشعب أنها مسألة واحدة تجمع في طيها ثلاث مسائل كبرى، كل منها مزدحم مكظوظ بالخفايا والنقائض والعراقيل.
فهي في الواقع مسألة الدولة العثمانية ومسألة الخلافة ومسألة الجامعة، وكل منها مسائل شتى تتفرق في كل وجهة، ولا يجمع بينها غير العنوان.
فمسألة الدولة العثمانية هي مسألة البلقان الذي سمي بحق «مخزن البارود»، وهي المسألة الأرمنية والمسألة الطورانية، ومسألة الشعوب التي يحكمها الترك ولا تتكلم التركية ولا تنتمي إلى سلالتهم بين عناصر الأجناس.
ومسألة الخلافة هي مسألة الإمامة عند الشيعة وأهل السنة، ومسألة الولاية الشرعية بحق الإرث والعصبية أو بحق الشوكة والسلطان القائم، حيث قام من بلاد المسلمين.
ومسألة الجامعة تفتح أبواب الجامعة السياسية والجامعة الروحية وما إليها من جامعات التعاهد والاتفاق على شئون الثقافة والمعاملات، ولا ينفتح القمقم المغلق حتى يخرج منه الرصد الهائل منتشرا من محبسه يضيق به الفضاء، وإنما اضطر عبد الحميد إلى فتح القمقم لأنه حيلة من لا حيلة له سواه.
كان يسمع بأذنيه - كما يسمع العالم كله - اسم دولته الدائلة عند أعدائه المتربصين بها في القارة الأوروبية، بلا اختلاف بين قادر منهم وعاجز وبين مستعمر منهم ومتبدئ في صناعة الاستعمار، يتعلق بنصيب له يفرضه من ذلك الملك المباح.
كان اسم «التركة»، أو تركة الرجل المريض، عنوانا على البلاد العثمانية، أيا كان ساكنوها من مسلمين أو غير مسلمين، ومن ترك أو عرب، ومن أوروبيين أو آسيويين أو أفريقيين.
كانت «جامعة» في الحق يجمعها الطمع من أشتات الطامعين، وليس بينها من وحدة قط في رأي أولئك الطامعين إلا أنها تتماسك إلى حين، في طريق التفرق والزوال.
وكان لا بد له من جامعة باقية لا يزيلها عمل إنساني، ولكنها قد تنشط بعمل إنسان يؤيده الله، وتلك هي جامعة الإسلام بولاية خليفة المسلمين.
وليس عبد الحميد أول من تلقب بالخلافة من سلاطين آل عثمان، ولكنه كان أول من وضعها هذا الوضع الحاسم في معترك السياسة العالمية والسياسة الداخلية، وأول من جعلها مسألة حياة أو موت في تاريخ الدولة التركية.
أما قبل عصر عبد الحميد فقد كان للترك عامة موقف من مسألة الخلافة غير هذا الموقف، سواء منهم الترك العثمانيون والترك السلجوقيون، والشعوب التي غلب عليها اسم الترك في الدولة الإسلامية وليست منهم، كالديلم والشراكسة.
فقد تمكن رؤساء الترك من زمام الخلافة في عهود كثيرة، ولكنهم تهيبوها ولم يتقدموا لادعائها، ولعلهم لم يجدوا السبيل إلى ادعاء حقوقها التي كانت مقصورة على الأمة العربية، ينتهي بها أناس إلى أهل البيت النبوي ويتوسع أناس آخرون فيجعلونها عربية قرشية، ومن الشعوب الإسلامية غير العربية من كان يحصرها بين أهل البيت في أبناء علي وفاطمة - رضوان الله عليهما - فلا يجيزها لبني العباس، ولا يعترف لهم بحقوقها إلا اجتنابا للفتنة ورعاية للضرورة والتقية.
وجرى العرف نحو ثلاثة قرون على وحدة الخلافة في العالم الإسلامي، فمن نازع فيها فإنما ينازع فيها لأنه أحق بها على دعواه حسب الشروط التي يشترطها في مذهبه لصحة الإمامة، فيذهب خليفة ويأتي بعده خليفة، ولا تستقر الخلافة في وقت واحد لاثنين بحجة واحدة، وقد حدث أن الأمويين أقاموا لهم دولة بالأندلس، فلم يعلنوا خلافتهم على الأمم الإسلامية مع خلافة بني العباس ببغداد، ولم يخطر لعبد الرحمن الناصر أن يتلقب بلقب أمير المؤمنين عام (300-350ه)، إلا بعد قيام الدولة الفاطمية على مقربة منه في المغرب ومناداة أمرائها لأنفسهم بالخلافة، ولم يعارضهم الأمويون يومئذ إلا بتكذيب نسبتهم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ بل تصدى لهم من أمراء الموحدين من ينتسب إلى البيت النبوي لينازعهم الحق في إمارة المؤمنين.
وبعد قيام الدولة الفاطمية أصبح في العالم الإسلامي ثلاثة خلفاء، بين منتسب إلى النبي ومنتسب إلى قريش، وكلهم في نسبتهم العامة عرب قرشيون.
فلما كثر الجند من الترك في عاصمة الخلافة العباسية ملك قادتهم زمام الدولة، وبسطوا نفوذهم في قصر الخلافة، وصار كل من في القصر تبعا لهم مطيعا لأمرهم، بين حراس ومماليك وجوار وخدم وعيون وأرصاد، وانفرد الخليفة وحده بمقام الخلافة وليس له منها غير الاسم والخاتم وخطبة الجمعة في المساجد، وتهيأت للقادة من الترك فرصة المناداة لأنفسهم بالخلافة في بغداد لولا أنهم علموا أنهم يقيمونها على غير أساس من الدعوى الشرعية، وأنهم لا يطمئنون إلى ولاء رعاياهم من الترك أنفسهم إذا اغتصبوها بغير حجة من الشرع والسنن المأثورة، فتسمى أولئك القادة باسم السلاطين، وجعلوا يتقلدون مناصبهم في الدولة بتفويض من الخليفة صاحب الحق الشرعي في التنصيب والعزل والتفويض، وكان بعضهم يستبيح ضرب السكة باسمه كما فعل طغرل بك السلجوقي وزير القائم بأمر الله العباسي؛ لأنه تولى أمور المعاش و«الإدارة» بتفويض من صاحب الصفة الدينية، وهي الأمور التي يتولاها صاحب الشوكة و«السلطان».
ومما يدل على رسوخ الإيمان بشروط الخلافة بين أمم المشرق الإسلامية، أن رؤساء الدول التي قامت فيه تجنبوا لقب الخليفة أو أمير المؤمنين، واكتفوا بلقب السلطان أو الأمير أو النظام أو الشاه، ولم يشذ عن هذه القاعدة ملوك إيران من الشيعة؛ لأنهم يدينون بالإمامة لغير الملك صاحب العرش، وإنما يكون الملك نائبا عن الإمام محمد المنتظر إلى موعد أوبته في آخر الزمان.
وعلى هذا اتفق العرف في المشرق على اجتناب لقب الخلافة بغير شروطها، وجرى العرف على ذلك في مصر بعد زوال الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية، فإن ولاة الأمر من الأيوبيين - ومنهم صلاح الدين العظيم - كانوا يتلقبون بألقاب الملوك والسلاطين، ويحفظون شارة الخلافة لوريثها من الفاطميين إلى أن يبايعوا بها خليفة بغداد على مذهب أهل السنة الذي يدين به بنو أيوب، وعادت الخلافة وظيفة موحدة في العالم الإسلامي بعد زوال الدولتين الفاطمية والأندلسية، فانفرد بها خليفة بغداد، وإن لم يبق له منها - كما تقدم - غير الخاتم والعنوان .
ثم قضى «هلاكو» على آخر بني العباس، وقامت في مصر دولة المماليك الشراكسة، فلم يقدم أحد منهم على ادعاء الخلافة؛ بل عمد أقواهم وأشجعهم الظاهر بيبرس إلى الحيلة لإحياء لقب الخلافة وإسنادها إلى صاحب صفة شرعية من المنتسبين إلى بيوتها العريقة، فجاء برجل مجهول زعم أنه من ذرية بني العباس، وأشهد على ذلك شاهدين مجهولين في قضية علنية بمحضر كبير القضاة، ثم بويع هذا الرجل المجهول بالخلافة وتوارثها منه بنوه إلى عهد السلطان سليم العثماني الذي تلقى البيعة من آخرهم بالخلافة وعزز هذه البيعة بلقب «خادم الحرمين». •••
وقد كان سلاطين المماليك في مصر يستفيدون من إقامة «الخليفة العباسي» بينهم حجة يقابلون بها خصومهم أصحاب الإمارات والممالك الإسلامية الأخرى، فيقاومونهم أو يغيرون عليهم مفوضين بالقتال من صاحب الصفة الشرعية، وكان أقوى أولئك الخصوم سلاطين آل عثمان في بلاد الروم وما جاورها على مقربة من حدود البلاد المصرية، وهم السلاطين الذين تلقبوا بلقب «الغزاة» وجعلوه بديلا من لقب الخليفة الذي لا يقدرون عليه، فلما فتح السلطان سليم مصر وقضى فيها على دولة المماليك لم يكن يعنيه على ما يظهر من بيعة «الخليفة العباسي» إلا أن يتقي تفويضه لأحد غيره من الأمراء المسلمين بحجة شرعية لقتاله، فانتزع منه صفة الخلافة ليسقط كل حجة تجيز عصيانه أو إعلان الحرب عليه، وهو السلطان المعترف له بمقام «الغازي أمير المؤمنين».
على أنه سواء كان هذا كل قصده من بيعة الخليفة العباسي أو كان له مطمع آخر من تأسيس الخلافة العثمانية، لقد وقفت المسألة عند هذا الحد في عهده وعهود خلفائه، فلم يحاولوا أن يفرضوا بها فريضة جديدة في صفة الإمام أو شروط الإمامة، ولم يتخذوا منها مذهبا جديدا لتقرير حقوق الملك وحقوق الخليفة الشرعية للتمييز بين هذه الحقوق أو لتوحيدها والتوفيق بينها، وسكت شيوخ الإسلام في القسطنطينية عن بحث هذه المسألة من الوجهة الفقهية حتى لامهم الكاتب التركي المستعرب «حسن حسني الطويراني» عام (1850-1897م) على إغفالها، وقال في رسالته عن إجمال الكلام على مسألة الخلافة بين أهل الإسلام: «إن رأي الجمهور الجاري على لسان علماء المسلمين أهل السنة والمدون في كتب المعتقدات التي تدرس في العواصم كنفس القسطنطينية العظمى ومصر ومكة والشام وبغداد وغيرها، أن الأئمة من قريش، حتى إن حضرة صاحب الدولة والفضيلة عمر لطفي أفندي شيخ الإسلام السابق لما كتب حاشيته على العقائد النسفية لم يكتب شيئا بالسلب أو الإيجاب على مسألة الأئمة من قريش واختار التوقف ...»
وكل ما ذكره هذا الباحث المطلع عن استخدام سلاطين العثمانيين لصفة الخلافة: «أن المرحوم مصطفى باشا العلمدار الشهير، لما رأى أن المملكة العثمانية قد أخذت تنكمش من أطرافها، على النقيض من انبساط قوة أوروبة وتقدمها، وتبين أن القوة قد ابتدأت تخدمها في مقاصدها، اغتنم فرصة إيقاع البيعة للمرحوم الغازي السلطان محمود خان سنة 1223 هجرية فبايع له واشترط شروطا بين الخليفة وبين أمراء الأطراف في الروملي، فكان على مقام السلطنة أن يعمل بالشريعة وألا يقتل أحدا أو يصادر مال أحد إلا بوجه شرعي، وعلى الأمراء السمع والطاعة، وأن كلهم تحت التكافل، وأشهد على ذلك العهد شيخ الإسلام وعموم الرجال، وتم الوفاق على تأييد الأمن العمومي والشرع العادل، وعادت وفود الأمراء إلى بلادهم ...»
قال: «ولما رأى رشيد باشا الكبير أن لا سبيل للإصلاح إلا بعهد يناسب الزمان، اغتنم فرصة جلوس السلطان الغازي عبد المجيد خان وأصدر منه الخط الشريف المعروف بخط كل خانة، وفيه قرر ذات الخليفة رفع قوانين المصادرة، وأوجب العمل بالشرع وعدم سفك الدماء بلا حق، ورأى تنظيم النظامات والقوانين المطابقة لأحوال الشريعة. ولكن علم رشيد باشا أن هذا العهد لا يزيد على العهد الذي استحصل عليه مصطفى باشا العلمدار الشهيد من قبل، ولم تغن عنه الجامعة العثمانية، فأحب أن يأمن على مشروعه فحصل على قيد في ذلك الخط الشريف، ألا وهو إشهاد الدول على هذا المشروع، وصرح بذلك في الخط الشريف، فمهد للدول بهذا العمل مبادئ مسوغات التداخل الأجنبي بدعوى التأمين على الحقوق والأرواح، فنفع من جهة وأضر من جهة أخرى.»
ويفهم من كلام الطويراني بعد ذلك أن سياسة السلطان العثماني كانت تتراوح في عصره بين وجهتين: وجهة الخلافة ووجهة الملك على نظامه الحديث في البلاد الأوروبية، لعله يدفع عنه غائلة التعصب الأوروبي بمجاراة العصر في نظمه السياسية.
قال المؤلف الذي يبدو من سيرته ومن أقواله أنه كان على معرفة بمجرى السياسة العليا في زمانه: «ثم رأى العثمانيون رأيا آخر بعد ثمان وعشرين سنة، واحتجوا بأن احتياجات الدولة تضطرها إلى مبدأ مدني يكفي لمقابلة التزاحم السياسي، وهنالك صدر القانون الأساسي مصدقا عليه من جلالة مولانا السلطان الأعظم، وانعقد بمقتضاه مجلس الأمة مدة ثم رئي أنه غير مناسب للحال فلم يجتمع بعدها، أما أعضاء مجلس الأعيان فلا يزالون موظفين وإن لم يجتمعوا، لكن لما كان إلغاؤهما مخلا بالقانون الأساسي العثماني لم يلغيا بالكلية، ولم تزل القوانين موقتة ينتظر الحكم عليها بالدوام إلى ما بعد عرضها على المجلسين إن اقتضت الحكمة إعادتهما.»
وظلت حالة التردد بين وجهة الخلافة ووجهة الملك على هذا النحو الملتبس حتى نشطت دعوة الخلافة، ونشطت معها دعوة الجامعة الإسلامية في وقت واحد بعد ولاية عبد الحميد بسنوات قليلة، وعلى أثر انعقاد مؤتمر برلين وافتضاح مؤامرات التقسيم التي اتفقت عليها الدول الكبرى لانتزاع بلاد الدولة العثمانية من سيادتها بغير فارق بين الإسلامية منها وغير الإسلامية.
ولا خفاء بمقصد السلطان عبد الحميد من دعوته إلى الجامعة الإسلامية باسم الخلافة العثمانية، فما كان لمثله في حصافته ودهائه أن يطمع في سيادة فعلية على بلاد المسلمين باسم جامعة الإسلام، فإن أهون ما في هذا الطمع من الخطوب الجسام يوقعه في حروب لا طاقة له بها مع عصبة المستعمرين التي تملك كثيرا من بلاد الإسلام أو تتطلع إلى امتلاكها، وقد يوقعه هذا الطمع في حروب مع الأمم الإسلامية التي لا تزال على شيء من الاستقلال ولو كانت في ظل سيادته العامة، وهي السيادة «الاسمية» التي كانت تربط بعض الأمم بدولة آل عثمان منذ فتوحها الأولى.
فغاية الأمر فيما قصد إليه السلطان عبد الحميد من دعوته إلى الجامعة الإسلامية باسم الخلافة أن يحتمي بعطف العالم الإسلامي في وجه التعصب الأوروبي المطبق عليه من كل جانب، وأن يستمع العالم الإسلامي إليه حين يناديه بتلك الصفة؛ لأنه أكبر ولاة الأمر فيه وأعظمهم مركزا في مراسم السياسة الدولية، ولم يكن يخفى عليه أن العالم الإسلامي لا يقارع المسلمين سلاحا بسلاح ولا ثروة بثروة ولا نفوذا بنفوذ، ولكنه كان يقنع منه بما يستطيعه في كفاح الاستعمار ويعلم أنه يستطيع الكثير مما يخشاه المستعمرون، وبعض هذا الكثير المخشي أن يقلق حكوماتهم وشركاتهم ويقاطع متاجرهم ويدخل بينهم بالتأييد والخذلان في خصوماتهم، ويثير عليهم رعاياهم المتمردين ممن يستثارون باسم الحرية والمبادئ الديمقراطية ويجدون في العمل على التفرقة بين شئون الدين وشئون السياسة، وقد كان للسلطان عبد الحميد خبرة بهذا الفن من فنون الدعاية شهد به الغربيون والشرقيون، وبلغ من خبرته به أنه كان يستخدمه لتأليب فريق من رعاياه على فريق، وتنفير طلاب الإصلاح أنفسهم ممن يحرجونه بطلب الإصلاح على غير هواه.
وعرف دعاة الجامعة الإسلامية جميعا غاية ما يراد من هذه الدعوة باسم الخلافة العثمانية أو باسم الإسلام على التعميم.
فالسيد جمال الدين الأفغاني - أكبر دعاة الجامعة في عصره - يصرح بغاية الجامعة التي يدعو إليها فيقول من رسالة عن الوحدة الإسلامية:
لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا، فإن هذا ربما كان أمرا عسيرا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه، إلا أن هذا بعد كونه أساسا لدينهم تفضي به الضرورة وتحكم به الحاجة في هذه الأوقات.
هذا أوان الاتفاق، ألا إن الزمان يؤاتيكم بالفرص، وهي لكم غنائم، فلا تفرطوا ... إن البكاء لا يحيي الميت، إن الأسف لا يرد الفائت، إن الحزن لا يدفع المصيبة، إن العمل مفتاح النجاح ...
ولما ضرب المثل بملوك الإسلام الذي يقتدي بهم في حفظ حوزته ودفع أعدائه لم يقصر كلامه على الخلفاء منهم؛ بل عدد من ملوكهم طائفة من أمثال «محمود الغزنوي وملكشاه السلجوقي وصلاح الدين الأيوبي ...» عدا السلاطين العثمانيين الذين لم يتلقبوا بلقب الخلافة.
وربما كان الأمير شكيب أرسلان أشهر الدعاة إلى الجامعة الإسلامية باسم الخلافة العثمانية، فإنه عاش بين القسطنطينية وعواصم الغرب زمنا في خدمة هذه الجامعة، وهو مع ذلك يقول في تعقيبه على فضل الجامعة الإسلامية من كتاب حاضر العالم الإسلامي: «إن الخلافة لم تستتم شروطها الصحيحة إلا في الخلفاء الراشدين، وبعد ذلك فالخلافة لم تكن إلا ملكا عضوضا قد يوجد فيه المستبد العادل والمستبد الغاشم، وما انقادت الأمة إلى هذا الملك العضوض المخالف لشروط الخلافة سواء كان من العرب أو من الترك، إلا خشية الفتنة في الداخل والاعتداء على الحوزة من الخارج.»
وكان الأمير شكيب يستوجب هذه الدعوة وهو لا يجهل أحوال السلطان عبد الحميد؛ بل يقول عنه من تعليقاته على الترك في تاريخ ابن خلدون: «وفي زمن السلطان عبد الحميد ساءت الأحوال في مقدونية؛ لأن السلطان كان أكثر همه في المحافظة على شخصه، وكان شديد التخيل إلى درجة الوسواس، فاستكثر من الجواسيس وصار بأيديهم - تقريبا - الحل والعقد.»
ثم يقول: «وليس من الصحيح أن السلطان كان يعمل بموجب تقاريرهم كما هو شائع؛ بل كان يرمي أكثرها ولا يصدق ما فيها، ولكن اهتمامه بقضية أخبار الجواسيس ألقى الخوف في قلوب الرعية وصارت في قلق دائم، وأصبح الناس يبالغون في الروايات عن الجواسيس فساءت سمعة الحكومة وسخط الرأي العام على هذه الحالة ...» •••
على أن الجامعة الإسلامية - بغايتها التي أجملناها فيما تقدم - ليست من المسائل التي تسمح بالخلاف بين أحد من المسلمين في أرجاء العالم على حقها وعلى صوابها في شرعة الدين أو الخلق، وإنما يعرض لها الخلاف - بل يشتد - حين ترتبط بمسألة الخلافة العثمانية، وحين تنطوي هذه الخلافة على معنى السيادة والتبعية في الحكومة.
فالخلافة على هذه الصفة يرفضها القائلون بإمامة قريش، ويرفضها الداعون إلى استقلال العرب بسيادة الحكم، فيضطرون اضطرارا إلى الأخذ بمبدأ الخلافة العربية القرشية؛ لأنهم إذا سلموا مبدأ الخلافة للشوكة لم يتيسر لهم ترشيح دولة إسلامية لها من المركز الدولي يومئذ ما كان للدولة العثمانية.
ويعتقد الداعون إلى القومية العربية بحق أن الجامعة الإسلامية لا تناقض الدعوة إلى الجامعة العربية، ولا يلزم في توثيق عرى المسلمين أن تكون جامعتهم وقفا على خدمة بني عثمان، وأن يكون مستقبل الإسلام مرهونا بمستقبل دولتهم، وسعي الأمم الإسلامية في سبيل الحرية والمنعة موقوفا على سياسة تلك الدولة؛ بل على سياسة القائمين بالحكم فيها على مشيئة المصلحين وطلاب التقدم من أبنائها.
وقد تنصل أناس من الترك أنفسهم من الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في أواخر عهد السلطان عبد الحميد؛ لأنهم أرادوا أن يقيموا الحكم في بلادهم على مبدأ «مدني» كما قال الطويراني فيما تقدم، وأن يدحضوا حجة المتعصبين من الغربيين كلما شنوا الغارة عليهم باسم الدين أو باسم حماية رعايا الدولة غير المسلمين. ومن الترك من كان يؤثر الدعوة إلى الجامعة الطورانية على الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، ويخيل إليهم أنهم قادرون بهذه الوسيلة على تأسيس «اتحاد إمبراطوري» يقوده الترك وتشترك فيه الأقوام التابعة للدولة العثمانية على تعدد الملل والأديان.
ومما أعلمه في هذا الصدد من ذكرياتي الشخصية أن جماعة «تركيا الفتاة» بحثت في مصر بعد إعلان الدستور العثماني عن صحيفة عربية تدفع عنها وتشرح مقاصدها، فاختارت صحيفة «الدستور» التي كنت أكتب فيها وكان يصدرها الكاتب المؤمن النزيه «محمد فريد وجدي» رحمه الله، وكان فريد من أشد الكتاب في مصر غيرة على الجامعة الإسلامية، فأبى أن يجيبهم إلى اقتراحهم؛ لاشتراطهم أن تكف الصحيفة عن ذكر الجامعة وترفع من صدرها أنها لسان حالها، وقد حدث هذا بعد وفاة الكواكبي بخمس سنوات، وقبل هجوم إيطاليا على «طرابلس الغرب» وهجوم النمسا على بلاد البشناق، تنفيذا للسياسة الأوروبية التي سموها «بتقسيم تركة الرجل المريض».
وبين هذه الدعوات المتشابكة نشأ الكواكبي ونفذ ببصره إلى ما وراء الأفق المكشوف لمعاصريه، فاستطاع - كما سنرى - أن يختار للغد خير ما يرتضيه العربي الذي يؤمن بدينه ويعرف عقبات الطريق إلى قبلته، ولكنه ينظر إلى مستقبل العرب والإسلام نظرة الثقة والإيمان .
الفصل التاسع
أم القرى
أول كتاب وضعه الكواكبي كما تقدم في التمهيد السابق، فهو باكورة أعماله القلمية وفاتحة اشتغاله بالتأليف.
أما من ناحية التفكير والتحضير فلا يحسب الكتاب من أعمال البواكير؛ لأنه نتيجة ناضجة لدراسة طويلة وصل منها إلى نهاية الرأي في أحوال العالم الإسلامي وأسباب ضعفه وبواعث الأمل في صلاحه وتقدمه، فهو محصول حياة فكرية وقفها على هذه الدراسة في جوهرها، ولم تكن دراساته الأخرى إلا شعابا متفرعة عليها.
و«جمعية أم القرى» اسم أطلقه المؤلف على مؤتمر عام تخيل انعقاده في مكة المكرمة، وجمع فيه مندوبين ينوبون عن أمم العالم الإسلامي في المشرق والمغرب، يمثلون الهند والصين والأفغان والعراق والحجاز والشام ونجد واليمن ومصر وتونس ومراكش وغيرها من الأقاليم المشتركة بين هذه الأقطار، وألقى على لسان كل منهم خطابا يشرح حالة المسلمين كما اختبرها من شئون بلده ومما يعلمه عن شئون سائر البلدان الإسلامية، واجتهد في إتقان صورة المؤتمر السري بما له من المحاضر المسجلة والرموز المصطلح عليها وعلامات الأرقام التي يتفاهم عليها الأعضاء؛ لأنه أراد أن يتمم الصورة شكلا على ما يظهر، أو أراد أن يوقع في روع القارئ ما يبعث عنده الثقة باجتماع العزم على العمل وقيام المؤتمرين على تنفيذه، إلا أن الثابت من رواية أصدقائه وآله أنه ألف الكتاب قبل رحلته إلى مصر وإلى الحجاز، وتحدث هو عن هذا الكتاب إلى صديقه السيد محمد رشيد طه - صاحب المنار - فلم يزد على أن قال: إن للجمعية أصلا، وتوسع في سجله، وعاوده غير مرة بالتنقيح والحذف والزيادة.
وفي وسعنا أن نفهم هذا «الأصل» على سبيل الظن من تصفح ألقاب المندوبين في الكتاب، فلا بد أن يكون المؤلف قد التقى في بلده بأناس من فضلاء المسلمين الذين يترددون عليه في طريق الحج فذاكرهم في مسائل الدين ومصالح المسلمين، وسمع منهم وأسمعهم ما عنده من الآراء والمعلومات في هذه الشئون. ولا حاجة إلى التوسع في قراءة السجلات للتيقن من هذه الحقيقة البديهية ، فإن لمحة عابرة إلى الألقاب التي اختارها للمندوبين تشعر القارئ بمعرفة حسنة للأمم التي نسبهم إليها، يجوز أن تعرف بالسماع والاطلاع، ولكن لا يجوز أن تكون كلها سماعا واطلاعا مع إمكان المقابلة في حلب بينه وبين الوافدين إليها من عامة الأقطار الإسلامية لمختلف المقاصد والوجهات، ومع عناية المؤلف باستيعاب الأخبار والآراء في موضوع كتابه وقوله لصديقه: إن لها أصلا توسع فيه.
انظر مثلا إلى ألقاب الأستاذ المكي والصاحب الهندي والفاضل الشامي والمولى الرومي والمجتهد التبريزي والرياضي الكردي والعالم النجدي والمحدث اليمني والعلامة المصري والخطيب القازاني، وسائر الألقاب وعناوين الخطاب التي تخللت المساجلات والخطب على ألسنة هؤلاء الأعضاء.
إن هذه الألقاب لم توضع جزافا، ولم يتميز بعضها من بعض لأسباب تتعلق بأفراد المندوبين، ولا ينظر فيها إلى خصائص شعوبهم أو إلى السمات العامة التي تبرزهم بين جملة المسلمين، فإذا جاوزنا الألقاب إلى السجلات وما وعته من الآراء والأوصاف والوقائع ومناحي التفكير وضح لنا أن المؤلف قد صدر فيها عن علم واسع بأحوال الشعوب الإسلامية وأحوال السادة المتخصصين فيها للإمامة العلمية والفتوى الدينية، ويجوز - كما أسلفنا - أن يجتمع هذا العلم للمؤلف بالاطلاع والسماع على الألسنة، ولكن البعيد عن الظن الذي لا يجوز في حكم العرف والعادة أن يصل إلى حلب قصادها والعابرون بها من أرجاء العالم الإسلامي، ولا يتفق بينهم وبين الكواكبي لقاء مقصود أو غير مقصود، يتطرق فيه الكلام إلى حديث كحديث أم القرى كما سجلته محاضر الكتاب.
وغير بعيد أن يكون «الكواكبي» قد سمع بعض هذه الآراء واطلع على بعضها، ووصل إليها وإلى غيرها بإطالة التأمل وإمعان النظر وتقليب المسائل على شتى الوجوه، غير أن هذه الآراء لا تحتوي الكتاب ولا تغني عنه؛ فإن الكواكبي لم يعرضها عرض الحكاية ولا عرض النقل والرواية؛ بل كان عمله فيها عمل «الغربلة» والتحليل والنيابة عن المناقشة والموازنة والأخذ والرد الذي لا يتأتى في غير المجتمعات المشهودة.
فكل سبب من أسباب الأعضاء المتفرقين يعللون به ضعف المسلمين ينتهي إلى أن يكون سببا من ناحية ونتيجة من ناحية أخرى، وكل عرض من أعراض الجمود يجري به الدور والتسلسل على هذه الوتيرة، إلى أن تنتهي كلها إلى سبب الأسباب في عقيدة الكواكبي كما نفهمها في ديدنه وهجيراه في التفكير، وليس هناك سبب لجميع الأسباب غير الحكومة السيئة أو غير الاستبداد.
فلماذا يضعف المسلمون؟
يضعفون لأنهم أهملوا آداب الدين التي نهضوا بها في صدر الإسلام.
ولماذا أهملوا آداب الدين؟
لأنهم جهلوا لبابه وأخذوا منه بالقشور.
ولماذا جهلوها؟
لأنهم فقدوا الهمة وقنعوا بالضعة، واستكانوا إلى الخور والتسليم.
ولك أن تتابع حلقات السلسلة عكسا كما تابعتها طردا، فتقول: إنهم فقدوا الهمة لأنهم جهلوا، وإنهم جهلوا لأنهم أهملوا آداب الدين، وإنهم أهملوا آداب الدين لأنهم ضعفوا.
فكل علة من هذه العلل هي مقدمة من جهة ونتيجة من الجهة الأخرى، إلا الحكومة السيئة في تعليل الكواكبي، فإنها تبطل الدور والتسلسل؛ لأنها ملتقى الأسباب والنتائج في كل عرض من الأعراض، فالاستبداد جهل وضعف وإهمال وآفات تعرض للرعاة، ثم تعرض منهم للرعية، فتجري دواليك في حلقة مفرغة لا تنتهي أبدا مع بقاء الاستبداد؛ ومن ثم يصح أن يقال: إن الفكرة في أم القرى هي الفكرة في طبائع الاستبداد، وإن طبائع الاستبداد لا يحتوي شيئا لا يكتبه من كتب أم القرى قبل التنقيح أو بعد التنقيح.
ويقول الدكتور سامي الدهان في ترجمته للكواكبي في سلسلة «نوابغ الفكر العربي»: إن كتاب أم القرى «صدر في حياته منقحا بقلم السيد رشيد رضا أو بقلم الشيخ محمد عبده كما قال الأب شيخو». ويشير الدكتور سامي الدهان بهذا إلى قول الأب شيخو في تاريخ الآداب العربية في الربع الأول من القرن العشرين عند كلامه عن أم القرى: إنه «نظر فيه الشيخ محمد عبده».
ثم يعقب الدكتور الدهان قائلا: «وكل الذي نستطيع أن نقول في أسلوب كتابته: إنه قريب من أسلوب هذين الرجلين، وهو أسلوب الفحول لذلك العصر.»
ولا نرى ما يراه الدكتور الدهان من التشابه بين أسلوب الكواكبي وأسلوب الأستاذ الإمام أو تلميذه السيد رشيد؛ فإن في الكتاب من مآخذ النحو والصرف والتركيب ما يتحرج منه السيد رشيد غاية التحرج، ولا يسكت عن نقده إذا عرض عليه، كما صنع مرارا في تعقيبه على الرسائل والمصنفات التي يقرؤها لأصدقائه وزملائه، والأستاذ الإمام يكتب بقلمه على نهج غير نهج السيد رشيد، كما يظهر من أسلوبه في «رسالة التوحيد»، وفي «الإسلام والنصرانية»، وفي المقالات الأدبية، ويقع الالتباس أحيانا بين أسلوب الإمام وأسلوب تلميذه؛ لأن قراء المنار كانوا يحسبون أن تفسير القرآن الذي كان ينشر فيه مكتوب بقلم الشيخ محمد عبده، وهو في الحقيقة ملخص أو مقتبس من دروسه في الرواق العباسي بقلم صاحب المنار؛ ومن هنا يظن أن الأسلوبين على شبه قريب، وهما مختلفان مع اتفاقهما في التحرز من المآخذ اللغوية واجتناب الصيغ المولدة والصيغ التركية.
ولا يمتنع عندنا أن يكون الشيخ محمد عبده أو السيد رشيد قد نظرا في الكتاب وأبديا عليه بعض الملاحظات وأخذ المؤلف بما أبدياه؛ بل نحن نجزم بمراجعتهما لآراء الكتاب ونصيحتهما بحذف طائفة من العبارات السياسية التي وردت فيه، وتثبت هذه المراجعة من المقابلة بين النسخة التي طبعها السيد رشيد في مطبعة المنار والنسخ التي لم يشرف على طبعها؛ فقد حذفت منها العبارات التي اشتدت فيها الحملة على الدولة العثمانية، واتبع السيد رشيد في حذفها رأي الأستاذ الإمام فيما وجهه إليه من النصائح غير مرة؛ إذ قال السيد رشيد وهو يعد وجوه النقد التي كان أستاذه يصارحه بها: إنها تشمل «الخوض في سياسة الدولة العثمانية في بعض الأحيان» ... قال: «وهذا ما كنت أكرهه أنا أيضا فيعرض لي من الضرورة ما يحملني عليه، وجل عملي المهم منها كان سريا، وقد أشرت إلى ذلك في فاتحة المجلد الثاني عشر من المنار سنة 1327ه، ولم ننل منها ما نهواه إلا بعد أن اصطفاه الله ...»
والمشهور عن الأستاذ الإمام أنه ابتلي بالمتاعب المرهقة من آفات السياسة حتى ملها، واستعاذ بالله منها في كلمته المعروفة: «أعوذ بالله من السياسة ... ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس»، وطفق ينصح لمريديه باجتنابها لتمحيص القول في المبادئ والأصول التي يتجرد الناس من أهوائهم ومآربهم عند نظرها، ولا يصدون عنها ذهابا مع وساوس العصبية ونوازع المنفعة والنفاق، وقد كان الأستاذ الإمام يبيح النقد ويأبى الحملة على الدولة العثمانية في محنتها، وأحرى به أن يأبى الإغراق في هذا النقد على طريقة الكواكبي كلما استثارته حماسة الدعوة فشدد النكير وبالغ في الاتهام، ومن دلائل هذه المبالغة - ولا ريب - أنه استطاع أن يكتب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» ويخرج بهما من حلب ويحملهما في طريقه ولا يحال بينه وبين ذلك كما حيل بين أصحاب الأقلام وبين أمثال هذه الكتابة في الأقطار الأوروبية لزمانه، وكما يحال بينه وبين أمثالها في بلاد الدول المستبدة التي تخضع لحكوماتها المطلقة.
ولا نعتقد أن مراجعة الأستاذ الإمام أو صاحب المنار تجاوزت هذه الملاحظة إلى غيرها من أفكار المؤلف وآرائه، ومن تجاربه وتعليلاته؛ فإن مادته من هذه الأفكار والآراء ومن هذه التجارب والتعليلات أوفر جدا من أن تحتاج إلى مدد يضاف إليها، وحسبه نموذج واحد يلمسه بيديه ولا يقدر على الفكاك منه، ليقيس عليه كل ما أحصاه في أم القرى من فساد السلطة الدينية والسلطة السياسية في عصور الاستبداد أو عصور التخلف والجمود.
حسبه نموذج «أبي الهدى الصيادي» الذي انتزع نقابة الأشراف من بيت الكواكبي بغير حق من حقوق النسب أو الفضل أو الكفاية، ليضعه أمامه وينقل عنه آفات السلطتين ومواطن الحاجة إلى علاج هذه الآفات، والمقابلة فيها بين الداء والدواء.
لقد كان الكواكبي ينعى على جهلاء المسلمين استغاثتهم بأصحاب الأحضر، ولا يفرق بينها وبين الشرك بالله، ويضرب المثل على ذلك بقولهم:
عبد القادر يا جيلاني
يا ذا الفضل والإحسان
صرت في خطب شديد
من إحسانك لا تنساني
وقولهم:
رفاعي لا تضيعني
أنا المحسوب أنا المنسوب
وكان هؤلاء الجهلاء يستمدون دعاءهم من كتاب «قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر» الذي يؤلفه الصيادي أو يأمر بتأليفه، وينشره وينشر معه التصانيف من قبيله عن «فرحة الأحباب في أخبار الأربعة الأقطاب»، و«الجوهر الشفاف في طبقات السادة الأشراف»، و«ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد»، إلى غيرها من كتب المنثور والمنظوم في أشباه هذه الترهات.
وكان الكواكبي ينعى على العصر أن يرتفع بالجهلاء إلى مساند الأئمة العلماء، ولا بضاعة لهم من العلم والورع إلا بضاعة الحيلة والدسيسة وصناعة الزلفى والتقرب إلى السلاطين والأمراء، وقد ينقلون مناصبهم بالوراثة إلى ذريتهم فيوصفون في المهد بصفات الجهابذة والأولياء.
وقد كان الصيادي ينال غاية ما ينال من ألقاب العلم والشرف ويتشفع عند ولاة الأمر لمن يطمع في نيلها، وهو من الجهل بالكتابة بحيث يستكتب «المحاسيب» ما ينسبونه إليه من تلك التصانيف في كرامات الأقطاب.
قال الأستاذ خير الدين الزركلي صاحب الأعلام - وهو خبير بأصحاب السير والتراجم من أبناء الجيل القريب: «إن الصيادي صنف كتبا كثيرة أشك في نسبتها إليه، فلعله كان يشير بالبحث أو يملي جانبا منه فيكتبه له أحد العلماء ممن كانوا لا يفارقون مجلسه، وكانت له الكلمة العليا عند عبد الحميد في نصب القضاة والمفتين ... وله شعر ربما كان بعضه أو كثير منه لغيره ...»
نقول: ومن هذا الشعر ما بعث به إلى الأستاذ الإمام يثني فيه على رسالة التوحيد:
نعم فيها اختيارات ونسج
دقيق فيه درب للطراد
وغايتكم بما قد صين فيها
منزهة بحكم الاعتقاد
فدم نساج در هدى ثمين
مفيد للعباد وللبلاد
قائل هذا الشعر ومن يستعيره من نظم غيره سواء، وآية الجهل فيه أن يحسبه ناظمه أو طالب نظمه جديرا بالإهداء إلى شارح نهج البلاغة وراعي الشعراء والأدباء.
والكواكبي يعلم أن أمراء المسلمين تأخروا وأخروا معهم رعاياهم؛ لأنهم أحاطوا عروشهم بشراذم من الحاشية المتملقين، واستمعوا إلى مشورتهم في اختيار الولاة والرؤساء من أذنابهم وأقربائهم وإقصاء المرشحين للولاية والرئاسة من الكفاة المخلصين والأمناء العاملين.
فإن لم يكن قد علم ذلك من مشاهداته ومطالعاته فهو مدفوع إلى علمه بما يبصره أمامه من ذلك المثل البارز ولو كان وحيدا في زمنه، وما هو بالوحيد.
فالصيادي كان يتحكم في مناصب القضاة والمفتين كما قال صاحب الأعلام، وكان يتحكم في مناصب الولاة والرؤساء فيسندها إلى أصهاره وأقربائه، ويذهب هؤلاء إلى مراكزهم وهم يعلمون ما تفرضه الوظيفة عليهم، وأوله تعظيم شأن المحسن إليهم والتشهير بمن ينافسهم وينافسونه من جلة العلماء ودعاة الإصلاح.
قال صاحب المنار: إن أبا الهدى سعى في إسناد ولاية طرابلس إلى أحد أصهاره، فأصبح الناس يحجمون عن ذكر اسم جمال الدين والثناء عليه في مجلسه، ولم يقنع أبو الهدى بمصادرة هذا المصلح الكبير في حياته في البلاد التي يتناولها نفوذه من ولايات الدولة العثمانية، فكتب إلى صاحب المنار بعد وفاة جمال الدين كتابا «في التاسع والعشرين من رجب سنة 1316ه» - لعل الكواكبي قد اطلع عليه - عتب فيه عليه لثنائه على جمال الدين فقال: «إني أرى جريدتك طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به إلى الحسينية التي كان يزعمها زورا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميا أنه مازندراني من أحلاف الشيعة، وهو مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية.»
وكان هذا ديدن الصيادي في إنكار الحسب على غيره والاستئثار به لنفسه، ولو لم يكن صاحب الحسب من منافسيه على نقابة الأشراف أو حراسة الأوقاف ...! وإنما يقطع عليه السبيل ليخمله ويحبط مسعاه ولو كان فيه خير عميم للدولة وسائر المسلمين، وكذلك كان تدبيره لإحباط سعي جمال الدين في التقريب بين الدولة التركية والدولة الفارسية؛ لتتفق السياسة بينهما على محاربة الاحتكار ومقاطعة الدول المستعمرة التي تعتدي على إحداهما، تخويفا لها من عواقب المقاطعة على مطامعها الاقتصادية.
فإذا جاز أن تخفى على الكواكبي أسباب الفشل الذي مني به المسلمون فيما وعاه التاريخ، أو أحاطت به التجربة والمحادثة، فليس من الجائز أن تفوته أسباب الفشل التي تقتحم عليه داره وتسلبه قراره، ويبتليه بها الصيادي في شرفه ونسبه وعمله واجتهاده، ولا يرضيه منه إلا أن يعترف له بالشرف الذي اغتصبه منه، ويجزيه بالتأييد والتمكين على محاربته إياه.
غير أن الكواكبي لم تعوزه الأمثلة غير هذا المثل في بلدته وفي عاصمة الدولة، فكل من تولى الحكم في حلب كان مثلا كهذا المثل في كشفه عن المساوئ وهدايته إلى مواطن الإصلاح، ووسائل الكواكبي إلى كشف الحقيقة غير قليلة في نطاق حياته ومجال معيشته، إذا صرفنا النظر عن مطالعاته ومحادثاته؛ إذ هي وسائل الرجل المتصل بوظائف القضاء والإدارة ومراكز التجارة وشركات الاحتكار، وهي إلى جانب ذلك وسائل الرجل الذي يحمل تكاليف الوجاهة ويقيمه الناس مقام المسئول عن مرافق البلدة وخفايا الكسب والسعي فيها من مباح ومحظور.
إن المباحث في «أم القرى» تجربة شخصية لعبد الرحمن الكواكبي لا تعوزها الزيادة من تجربة غيرها، فليس في الكتاب فكرة يعز عليه في ذكائه وبحثه أن يستوحيها من مكانه وزمانه، ولا غضاضة على مثله أن يسترشد بعد ذلك بنصائح ذوي الرأي فيما يذاع أو لا يذاع، وفيما يحسن نشره لحينه أو يحسن إرجاؤه إلى حين.
وعلى الجملة، يصح عندنا أن نفهم أن جوهر الكتاب وهو البحث عن علل الأمم الإسلامية وعوامل شفائها عمل خالص للكواكبي، فرغ منه في بلدته قبل هجرته منها.
أما موضع تنقيحه والإضافة إليه والحذف منه فهو شكل الكتاب، وما كتبه فيه أخيرا عن شكل «الجمعية»، كما تخيلها وكما اعتقد بعد رحلاته في العالم الإسلامي أنه أقرب إلى تنفيذها، وقد نشر الكتاب في طبعات متلاحقة فأعيد فيه ما حذف منه، فلا التباس اليوم بين عمل الكواكبي في «أم القرى» وبين عمل الناصحين فيما أبقاه وفيما حذفه منه إلى حين.
الفصل العاشر
طبائع الاستبداد
هذا الكتاب الذي يعد آية الكواكبي، يتألف من سلسلة مقالات نشرها لأول مرة في صحيفة «المؤيد»، وتناول في كل مقالة منها عارضا من عوارض الاستبداد التي يشاهد أثرها في أحوال الأمم والأفراد، وانتهى الكتاب وقد بحث فيه جملة العوارض الاجتماعية التي تصاحب الاستبداد في أحوال الدين والعلم والمجد والثروة والأخلاق والتربية والتقدم، ومهد للمقالات بتعريف الاستبداد، ثم عقب عليها بوسائل الخلاص منه والغلبة عليه.
ومقالات الكتاب جميعا تنبئ عن دراسة وافية للعوارض التي شرحها أو أجمل القول فيها، وتدل على تأمل طويل في موضوعاتها يستفاد من النظر والتجربة كما يستفاد من الاطلاع والمراجعة ؛ ولهذا خطر للأستاذ أحمد أمين - مترجم زعماء الإصلاح - أنها نتيجة دراسته بعد أن «ساح في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسية الغربية ودخل بلاد العرب وجال فيها واجتمع برؤساء قبائلها ونزل بالهند وعرف حالها، وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية وحالتها الزراعية ونوع تربتها وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة، ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته ولكنه عاجلته منيته ... نشر نتيجة دراسته في مقالات كتبت في المجلات والجرائد، ثم جمعت في كتابين اسم أحدهما طبائع الاستبداد، والآخر أم القرى ...»
والواقع أن الكواكبي درس موضوعات الكتابين قبل رحلته المطولة في البلاد الشرقية وقبل هجرته من حلب إلى القاهرة، وقد عني حفيده الدكتور عبد الرحمن الكواكبي بالتنبيه إلى ذلك في مقدمة الطبعة الأخيرة من كتاب أم القرى التي طبعت هذه السنة «1959م» فقال إنه: «لا بد في هذه المناسبة من الإشارة إلى حقيقة تاريخية تلقي ضوءا على موضوع هذا الكتاب، وهي أن جدي - رحمه الله - ألف «أم القرى» وطبائع الاستبداد قبل هجرته إلى مصر، وكان عمي الدكتور أسعد الكواكبي يتولى تبييض أم القرى له في حلب، كما أخبرني أيضا عالم حلب الثقة المرحوم الشيخ راغب الطباخ أن المؤلف أطلعه عليه قبل سفره إلى مصر، ولما كان السيد الفراتي لم يغادر حلب خلال مقامه فيها إلا إلى إستانبول، ولم يقم بجولاته إلى العالم الإسلامي إلا بعد رحيله إلى مصر، فإن المؤتمر الذي عقد في مكة، ويدور عليه موضوع الكتاب إنما هو مؤتمر تخيله المؤلف ليعرض فيه آراءه ...»
ويطابق هذا القول ما رواه الأستاذ الغزي للأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث كما نشره في مجلة الكتاب «سنة 1947م»؛ إذ يقول: «... وقبل سفره بيوم واحد زارني في منزلي يودعني، وأخبرني أنه عازم في غده على السفر إلى إستانبول لتبديل نيابته؛ أي نيابة قضاء رأشيا. وكنت عالما بكتابه «جمعية أم القرى»، وقد شعرت منه العزم على طبعه، فوقع في نفسي أنه سيعرج على مصر لطبعه ونشره؛ إذ لا يمكنه أن يطبعه في غيرها، وحذرته من ذلك وقلت له: «إياك يا أخي والسفر إلى مصر؛ فإنك متى دخلتها تعذر عليك الرجوع إلى وطنك؛ لأنك تعد في الحال من الطائفة المعروفة باسم «جوز تورك»، ولا يتأخر وسمك بهذه السمة قيد لحظة؛ لما اشتهرت وعرفت به من شدة المعارضة وانتقاد الأحوال الحاضرة!» فقال: «لم أعزم إلا على السفر إلى إستانبول للغرض الذي ذكرته لك.» وقد كتم سر سفره حتى عن أعز أصدقائه، ثم ودعني ومضى، وأنا أسأل الله تعالى أن يرعاه بعين رعايته، وأن يجعل التوفيق رائده والنجاح مرشده وقائده، وكانت مبارحته حلب في أوائل سنة 1316 هجرية «هكذا» ... وبعد أن مضى على مبارحته حلب نحو بضعة عشر يوما لم نشعر إلا وصدى مقالاته في صحف مصر، وأخذت جريدة المؤيد تنشر تفرقة كتاب طبائع الاستبداد الذي لم يطلعنا عليه مطلقا بخلاف كتاب «جمعية أم القرى»، فقد أطلعنا عليه مرارا، ثم إنه طبع الكتابين المذكورين وقام لهما في المابين السلطاني ضجة عظيمة، وصدرت إرادة السلطان بمنع دخولهما إلى الممالك العثمانية ... بيد أنهما رغما عن ذلك كله وصلا إلى حلب على صورة خفية، وقرأناهما في سمرنا المرة بعد المرة.»
فالدراسة التي توفر عليها في الكتابين كانت من مطالعاته وتجاربه ومشاهداته في حلب والآستانة وغيرهما من بلاد الدولة العثمانية، وهي كافية لمن كان في مثل فطنته للإحاطة بظواهر الاستبداد وخوافيه، والعلم بأثر الاستبداد في أحوال الأمم الكثيرة التي كان من اليسير عليه أن يتصل بها بين موطنه وعاصمة السلطنة الكبرى، وليس عليه أن يبحث في غير تجربة واحدة ليعلم كل ما أثبته في الكتاب من أثر الاستبداد في الدين والعلم والمجد والأخلاق والثروة وعوامل التقدم، وتلك هي تجربته لمساعي «أبي الهدى الصيادي» ووسائله في الاستئثار بنقابة الأشراف ومنصب شيخ المشايخ في الدولة، مع ذلك الجاه الذي كان يعينه على اللعب بمظاهر المجد ومداورات السياسة كما يشاء.
وقد صادف الكواكبي التوفيق في موعد وصوله إلى القاهرة، فإنه وصل إليها وهي في فترة من فترات الجفاء المتداولة بين «يلدز» و«عابدين»، ولولا ذلك لتعذر نشر المقالات في صحيفة المؤيد لسان القصر الخديوي، وهو يتحفظ غاية التحفظ في الإشارة إلى الدولة بكلمة تؤيد وشاية الجواسيس فيما اتهموا به الأسرة الخديوية غير مرة من التطلع إلى الخلافة والعمل على إثارة الفتنة في البلاد العربية، ولكن «المؤيد» يومئذ كان في حل من ذلك التحفظ الشديد، ليعرب عن استياء الخديو من خطة الدولة، ويومئ إلى سادة «يلدز» بالمساومة على مواضع الخلاف.
ومع هذا لم يستغن الكاتب عن بعض المصانعة عند عابدين وحاشيتها لتهوين الأمر على الصحيفة وتيسير مقامه في البيئة التي اختارها ولم يكن له بد من اختيارها، فقد حرص على هذه المصانعة إلى أن فرغ من نشر المقالات وأظهرها في أول طبعة، فقال في تقديمها: «أقول وأنا المضطر للاكتتام حسب الزمان، الراجي اكتفاء المطالعين الكرام بالقول عمن قال إنني في سنة ثماني عشر وثلاثمائة وألف وجدت زائرا في مصر على عهد عزيزها ومعزها حضرة سمي عم النبي العباس الثاني الناشر لواء الحرية على أكناف ملكه، فنشرت في بعض الصحف الغراء أبحاثا علمية سياسية في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، منها ما درسته ومنها ما اقتبسته، غير قاصد بها ظالما بعينه ولا حكومة مخصصة، إنما أردت بذلك تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين، عسى يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار ...»
ولقد كان في وسع الكواكبي أن ينشر مقالاته في صحيفة من صحف الاحتلال التي كانت تجاهر بمحاربة السيادة العثمانية خدمة للسيادة البريطانية، ولكنه لو فعل ذلك لخرج عن صفته الإصلاحية الإسلامية، وعرض نفسه لشبهات الدعاية الأجنبية، ووطن العزم على القطيعة الدائمة بينه وبين البلاد المشمولة بسيادة الدولة والمطالبة بالولاء لها في جوازاتها وشروط الإقامة فيها والرحلة منها وإليها، ويظهر من كتمان اسمه وتوقيعه بالحرف الأول منه أنه لم يكن قد وطن العزم على ذلك عند وصوله إلى القاهرة، وأنه أراد أن يختبر الحالة فيما حوله قبل أن يقطع بالعزم الأخير على المسلك الذي لا رجعة فيه. •••
والمرجح عندنا أنه طوى كتاب طبائع الاستبداد في حلب ولم يطلع عليه أصدقاءه لسبب غير التحرج من خطره والحذر من إفشاء خبره وإعنات أصحابه بكتمان سره، فإنه أطلعهم على كتاب أم القرى وفيه من المحذورات ما لا يقل عن أخطر المحذورات في كتاب طبائع الاستبداد، فقد صرح فيه بالدعوة إلى الخلافة العربية، وأنكر الخلافة على بني عثمان، ورماهم بالتواطؤ مع الدول على التنكيل بمسلمي الأندلس، ومسلمي الإمارات الآسيوية، وقد يرد على الخاطر أنه أغفل هذه المسائل في النسخة المخطوطة واكتفى فيها بالتلميح دون التصريح، وبالإشارة دون الإسهاب، ولكن الكتاب يشتمل بعد إغفال هذه المسائل على مآخذ منكرة أخذها على الأمراء المستبدين، وعزا فيها تخلف المسلمين إلى مساوئهم وسوء سياستهم وتدليسهم على رعاياهم وتقريبهم للمفسدين والدجالين من الولاة ورجال الدين، ولم يقل عن المستبدين كلمة في طبائع الاستبداد إلا كان لها نظير في معناها ومرماها من فصول أم القرى على ألسنة المسلمين الترك والعثمانيين، وهو تصريح بالحكومة المقصودة لم يرد له نظير في طبائع الاستبداد؛ إذ يتيح له عموم القول أن يعلن في تقديم الطبعة الأولى أنه «لا يقصد ظالما بعينه ولا حكومة مخصصة».
فليست الحيطة سر كتمان الكتاب عن أصدقائه الذين أطلعهم على كتاب جمعية أم القرى، وإنما نرجح أنه طواه عنهم؛ لأنه لم يفرغ من وضعه في صيغة النشر والتلاوة، ووقف به عند تدوين العناوين ورءوس التعليقات وإعدادها للتوسع فيها وإفراغها في قالبها الأخير عند تقديمها للطبع أو للنشر في الصحف، ويتبين ذلك من المقابلة بين مقالات المؤيد ومقالات الطبعة الأخيرة بعد تنقيحها، فإن الاختلاف بينهما أشبه بالاختلاف بين عجالة التحضير وبين النسخة المتممة للنشر والتلاوة، وقد ظهرت الطبعة المنقحة في ضعفي صفحات الطبعة الأولى، وقال الدكتور عبد الرحمن الكواكبي حفيده إنه: «ينشر هذا الكتاب للمرة الأولى على العالم العربي منقحا ومزيدا بقلم المؤلف، وهو يختلف كثيرا عن النسخة المطبوعة والمتداولة حتى اليوم.»
ويروي الأستاذ سامي الكيالي عن الدكتور أسعد الكواكبي ابن المؤلف أنه أخبره «بأن والده - رحمه الله - قد أضاف على الكتاب بعد طبعه إضافات كثيرة، والهوامش التي يحتفظ بها بقلم والده تؤلف كتابا مستقلا بحجم الكتاب المطبوع، وهو يعتزم طبع هذه النسخة قريبا ليطلع العالم العربي على ثمرة أفكار والده في الحرية الاستعباد».
ونجتزئ في المعارضة بين الطبعة الأولى وبين النسخة التي طبعها الدكتور أسعد وصدرت منذ سنتين، بالمقابلة بينهما في موضوع واحد يدل على سائر المواضيع: وهو كلامه على التربية.
ففي الطبعة الأولى وردت مقالة الاستبداد والتربية بالنص الذي ننقل منه ما يلي؛ إذ يقول:
خلق الله في الإنسان استعدادا للصلاح واستعدادا للفساد، فأبواه يصلحانه وأبواه يفسدانه؛ أي إن التربية تربو باستعداده جسما ونفسا وعقلا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقد سبق أن الاستبداد المشئوم يؤثر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم، بناء عليه تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته، واستعداد الإنسان لا حد لغايته، فقد يبلغ في الكمال إلى ما فوق مرتبة الملائكة؛ لأنه هو المخلوق الذي يحمل الأمانة وقد أبتها كافة العوالم، ويصح أن تكون هذه الأمانة هي تخيير تربية النفس على الخير أو الشر، وقد يتلبس بالرذائل حتى يكون أحط من الشياطين، بل أحط من المستبدين؛ لأن الشياطين لا ينازعون الله في عظمته، والمستبدون ينازعونه فيها، ولكن لحاجة في النفس، والمتناهون في الرذالة قد يقبحون عبثا لا لغرض، حتى قد يتعمدون الإساءة لنفسهم.
الإنسان في نشأته كالغصن الرطب، فهو مستقيم لدن بطبعه، ولكنها أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال الشر، فإذا شب يبس وبقي على أمياله ما دام حيا؛ بل تبقى روحه إلى أبد الآبدين في جحيم الندم على التفريط أو نعيم السرور بإيفائه حق وظيفة الحياة، ما أشبه الإنسان بعد الموت بالفرح الفخور إذا نام ولذت له الأحلام، وبالمجرم الجاني إذا نام فغشيته قوارص الوجدان بهواجس كلها ملائم وإيلام.
أما في الطبعة الأخيرة فهذه المقالة ترد على الصيغة التالية:
خلق الله في الإنسان استعدادا للصلاح واستعدادا للفساد، فأبواه يصلحانه وأبواه يفسدانه؛ أي إن التربية تربو باستعداده جسما ونفسا وعقلا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقد سبق أن الاستبداد المشئوم يؤثر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم ... بناء عليه تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته، وهل يتم بناء وراءه هادم؟! ... الإنسان لا حد لغايته رقيا وانحطاطا، وهذا الإنسان الذي حارت العقول فيه، الذي تحمل أمانة تربية النفس وقد أبتها العوالم، فأتم خالقه استعداده ثم أوكله لخيرته، فهو إن يشأ الكمال يبلغ فيه إلى ما فوق مرتبة الملائكة، إن كان هناك ملائكة غير خواطر الخير، وإن شاء تلبس بالرذائل حتى يكون أحط من الشياطين، إن كان هناك شياطين غير وساوس النفس بالشر، على أن الإنسان أقرب للشر منه للخير، وكفى أن الله ما ذكر الإنسان في القرآن إلا وقرن اسمه بوصف قبيح، كظلوم وغرور وكفار وجبار وجهول وأثيم، ما ذكر الله تعالى الإنسان في القرآن إلا وهجاه فقال:
قتل الإنسان ما أكفره ،
إن الإنسان لكفور ،
إن الإنسان لفي خسر ،
إن الإنسان ليطغى ،
وكان الإنسان عجولا ،
خلق الإنسان من عجل .
ما وجد من مخلوقات الله من نازع الله في عظمته، فالمستبدون من الإنسان ينازعونه فيها، والمتناهون في الرذالة قد يقبحون عبثا لغير حاجة في النفس، حتى وقد يتعمدون الإساءة لأنفسهم.
الإنسان في نشأته كالغصن الرطب، فهو مستقيم لدن بطبعه، ولكنها أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال الشر، فإذا شب يبس، ويبقى على أمياله ما دام حيا؛ بل تبقى روحه إلى أبد الآبدين في نعيم السرور بإيفائه حق وظيفة الحياة، أو في جحيم الندم على تفريطه. وربما كان لا غرابة في تشبيه الإنسان بعد الموت بالإنسان الفرح الفخور إذا نام ولذت له الأحلام، أو بالمجرم الجاني إذا نام فغشيته قوارص الوجدان بهواجس كلها ملائم وآلام.
ولم تخل مقالة من مقالات طبائع الاستبداد من مثل هذا التنقيح أو مثل هذه الزيادة على قلة في بعض المواضع وكثرة في غيرها، إلا أنه فارق بين النسختين كالفارق بين المسودة المعدة للتذكير والتحضير والنسخة التي فرغ منها عمل التأليف.
على أن العبرة بروح الكتابة وما نسميه «نفس الكاتب» في كلتا النسختين، ولم تكن هذه «الروح» في المقالات ولا في الطبعة الأولى بأخفى منها في الطبعة التي ظهرت بعد وفاة المؤلف؛ بل نرى أن روح الكاتب كانت في «مسوداته ومذكراته» أبرز منها في طبعته الأخيرة، كما يتفق أحيانا في الكتابة التي تمليها السجية عضو الخاطر والكتابة التي يدخلها التنقيح وتعمل فيها المراجعة، أو كما يتفق أحيانا بين الكتابة «المركزة» المتجمعة وبين كتابة التبسيط والإفاضة، وقد أحسن السيد محمد رشيد رضا حين شبه المقالات في الحالتين بالأديم الممدود، فقال في المنار: إن «الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في المؤيد ثم مدها صاحبها من الأديم العكاظي وزاد عليها، فكانت كتابا حافلا ينجلي له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى».
نعم، أوضح وأجلى، ولكن الأديم هو الأديم، ولعله قبل مده كان أوثق وأقوى.
وسرعان ما تداول القراء مقالة بعد أخرى من هذه «المذكرات» التي هيأها صاحبها للنشر في الصحافة حتى أحسوا أنها طبقة في النقد الاجتماعي لم يعهدوها لعامة الكتاب في الصحف، وعلموا من مطلعها أنها بقلم رجل من رجال الدين فخطر لهم أنها لا تكون لغير رجل من رجلين: الأستاذ الإمام محمد عبده أو السيد محمد رشيد رضا تلميذه ومريده، ولسنا نحسب أنه خاطر يخطر لمن يعرف أسلوب الرجلين ويحسن التمييز بينه وبين أسلوب تلك المقالات، فإن بضعة أسطر من المقالات كافية للجزم بأنها أسلوب من الكتابة غير أسلوب الإمام وتلميذه الرشيد، ولكن شيوع هذا الخاطر يدل على المنزلة التي قدرها جمهرة القراء لصاحب تلك المقالات، فلن يكون في تقديرهم إلا علما من أعلام الرأي والإصلاح.
ولم تنقطع الظنون عند وقوف المطلعين على سر مقالات المؤيد، فقد كان من اليسير على الكثيرين أن يفهموا أن محمد عبده وتلميذه الكبير لا يتسع لهما صدر «المؤيد» مع ما بينهما وبين القصر الخديوي من الجفوة والقطيعة، ولم يكن من اليسير على قراء ذلك العهد أن يفهموا كيف يتسنى هذا البحث لكاتب شرقي عرفوا أنه لا يعلم من اللغات غير اللغات الشرقية، ولا يحسن القراءة في غير لغته واللغتين التركية والفارسية.
قال السيد رشيد: «كنا على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح، حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا بتأليف الكتاب عندما اطلع عليه.»
ثم قال: «وقد زعم زاعمون أن معظم ما في الكتاب مقتبس من كتاب لفيلسوف إيطالي، ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية وأحوالنا، وذوقهم في العلم وذوقنا؛ يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم الاجتماع والسياسة من حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويرا ...»
وقال الأستاذ إبراهيم سليم النجار: «سبق لي أن قرأت في شبابي كتاب (الكوانترا-سوسيال)؛ أي العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ثم انقطعت عن الرجوع إليه، فلما قرأت كتاب طبائع الاستبداد أعاد إلى ذاكرتي كتاب الكاتب الإفرنسي العظيم، ولو كان الشيخ العربي يعرف ولو قليلا اللغة الفرنسوية لاعتقدت أنه أخذ عنه أو احتذى حذوه، ولكن الحقيقة أن العقول النيرة والقلوب الكبيرة نيرة وكبيرة مهما اختلفت لغاتها وبلادها وأقاليمها ...»
وإن الكواكبي نفسه ليعفي القراء والنقاد من مئونة الظن في اقتباسه واطلاعه على وصف الاستبداد وعوارضه الاجتماعية في كتب غيره، فإنه قد ذكر ذلك في كلامه، وتبرع به دون أن تدعوه الضرورة إلى ذكره، فكل ما يفهم من قراءة «طبائع الاستبداد» أن صاحبه على علم واطلاع في موضوعه، وتلك بداهة لا حاجة إلى التنبيه إليها؛ إذ كان من الغفلة أن يطالب الكاتب بالتأليف في موضوع لم يكن على علم به واطلاع فيه.
أما أن يكون الاقتباس على مثال ما نسميه بالسرقة المقصودة، فذلك إسراف في الظن لا مسوغ له، سواء رجعنا بالمعارضة والمضاهاة إلى الكتب التي سرد الكواكبي أسماءها أو إلى الكتب التي أفاضت في هذا الموضوع ولم يكن في وسعه أن يطلع عليها أو يسمع بأسمائها.
قال الكواكبي: «لا خفاء أن السياسة علم واسع جدا يتفرع إلى فنون كثيرة ومباحث دقيقة شتى، وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنه قلما يوجد إنسان لا يتحكك فيه، وقد وجد في كل الأمم المترقية علماء سياسيون تكلموا في فنون السياسة ومباحثها استطرادا في مدونات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب، ولا تعرف للأقدمين كتب مخصوصة في السياسة لغير مؤسسي الجمهوريات في الرومان واليونان، وإنما لبعضهم مؤلفات سياسية أخلاقية ككليلة ودمنة ورسائل غوريغوريوس، ومحررات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج، وأما في الشئون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مفصلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام، فهم ألفوا فيه ممزوجا بالأخلاق كالرازي والطوسي والعلائي وهي طريقة الفرس، وممزوجا بالأدب كالمعري والمتنبي وهي طريقة العرب، وممزوجا بالتاريخ كابن خلدون وابن بطوطة وهي طريقة المغاربة.
أما المتأخرون من أهل أوروبة ثم أمريكا فقد توسعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيرا وأشبعوه تفصيلا، حتى إنهم أفردوا بعض مباحثه في التأليف بمجلدات ضخمة، وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية وسياسة خارجية وسياسة إدارية وسياسة اقتصادية وسياسة حقوقية إلى آخره، وقسموا كلا منها إلى أبواب شتى وأصول وفروع، أما المتأخرون من الشرقيين فقد وجد من الترك كثيرون ألفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلة وممزوجة؛ مثل أحمد جودت باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والمؤلفون من العرب قليلون ومقلون، والذين يستحقون الذكر منهم فيما نعلم رفاعة بك، وخير الدين باشا، وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني ...» •••
ومن أيسر نظرة يدرك القارئ المطلع أن الكواكبي أراد أن يسرد بعض الشواهد على مبلغ اهتمام الأقدمين والمحدثين بعلوم السياسة ومباحثها، ولم يرد أن يستقصي مراجع الاطلاع في هذه العلوم والمباحث ولا مراجع الاقتباس منها في «طبائع الاستبداد».
ولو أنه قصد إلى الاستقصاء لما فاته أن يذكر من كتب الأقدمين أهم ما كتبه فلاسفة اليونان وأفضله في بابه، وهما كتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو، وليس هذا ولا ذاك من رؤساء الجمهوريات، ولا فاته أن يذكر الماوردي صاحب «الأحكام السلطانية»، أو بدر الدين بن جماعة صاحب «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام»، أو ابن تيمية صاحب «السياسة الشرعية»، أو محمد بن علي بن طباطبا صاحب «الفخري في الآداب السلطانية»، أو ابن حمدون صاحب «التذكرة في السياسة والآداب الملكية»، وغيرهم وغيرهم ممن صنفوا وألفوا في هذه المباحث، ولا يفوت المؤرخ ذكرهم في مقام الاستقصاء.
ولا يلزم أن يكون الكواكبي قد اطلع على كتب المؤلفين الذين ذكرهم في مقدمة «طبائع الاستبداد»، وإنما نرجح أن بعض هؤلاء المؤلفين كان يستدعيه إلى قراءته بإغراء من سيرته ومناسبات تأليفه، فمن الصعب على باحث كالكواكبي يعرف التركية أن يعرض عن قراءة «أحمد جودت» الصدر الأعظم الذي بلغ من عنايته بالعربية أن يؤلف في نحوها وبلاغتها ويعقب على التفسيرات القرآنية فيها، ولم يكن أروج من مصنفاته بين أدباء الترك والعرب بعد وفاته في أواخر القرن التاسع عشر «1895» ... ومن الصعب كذلك على كاتب مثله يعرف الفارسية أن يعرض عن قراءة العلائي الملقب بالمحقق الثاني «1463-1534» وهو المستشار الأمين المأمون للشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي الذي ينتسب والكواكبي إلى أسرة واحدة، ولكننا نراجع هؤلاء المؤلفين ونراجع غيرهم من المذكورين في مقدمة «طبائع الاستبداد» فنعلم أنهم مؤرخون يروون أخبار الدول والحكومات، ويعقبون على عهود السلاطين والأمراء، ويتحدثون عن العدل والظلم وعن العادلين والظالمين في سياق هذه الأخبار، أو نعلم أنهم من فلاسفة السياسة الذين يفصلون القول في أوضاع الحكم ودساتير الديمقراطية والنظم النيابية، أو أنهم ناصحون من حكماء الدين والمعرفة يوصون بالخير ويحذرون من الشر ويعظون الساسة بما ينبغي وما لا ينبغي في حق الله وحق الرعية، ولم يستخرج أحد من كتبهم مبحثا مفصلا في تحليل عناصر الاستبداد، وتفسير عيوبه وأعراضه وآثاره في طوائف الرعايا على تعدد أطوارها وشواغلها، كهذا المبحث الذي استوحاه الكواكبي من تجاربه ودراساته ونظراته وتأملاته، ولا يعود الفضل فيه إلى غير فطنته وابتكاره واستقلاله بفهمه وصحة نظره، فإن هذه المطالعات قد اطلع عليها المئات كما اطلع عليها الكواكبي، ولم يستخرجوا منها الكتاب الذي انفرد به ولم يسبقه أحد إليه.
وإنما يصدق وصف الاقتباس على مؤلف واحد لم يذكره الكواكبي في المقدمة، ولكنه ذكره واستشهد به في كلامه على التخلص من الاستبداد: «فتوريو ألفييري»، الذي أردف اسمه بنعت المشهور في قوله: «لهذا أذكر المستبدين بما أنذرهم به ألفييري المشهور حيث قال: لا يفرحن المستبد بعظيم قوته ومزيد احتياطه، فكم من جبار عنيد جندله مظلوم صغير؟!»
ولا بد أن يكون هذا المؤلف هو المقصود فيما رواه صاحب المنار عمن ينسبون أفكار الكواكبي إلى «فيلسوف إيطالي» معروف، فإنه صاحب أشهر كتاب عن الاستبداد ظهر في أواخر القرن الثامن عشر «1777»، وشاع بعد ذلك أيما شيوع بين أيدي الثوار الإيطاليين، ولا سيما جماعة الكربوناري - الفحامين - الذين أسسوا جماعتهم السرية معارضة لجماعة البنائين أو الماسون، وتسرب أعضاؤها إلى كل مكان يغشاه الإيطاليون في موانئ البحر الأبيض ومدن الشرق الأدنى، ومنها مدينة حلب التي كانت «مركزا مهما» لتجار البندقية والمتكلمين باللغة التوسكانية، وآوى إليها كثير من المثقفين والمهاجرين السياسيين منذ راجت فيها حركة التجارة على طريق الهند والأقطار الآسيوية.
وبين «الكواكبي» و«ألفييري» شبه قريب في السيرة والمنزع وظروف الحياة، فكلاهما تعود الرحلة في طلب المعرفة بأحوال الأمم، وكلاهما اضطر إلى الكتابة في ظل الرقابة، وكلاهما نزل مختارا أو مضطرا عن ثروته وعتاده، وزاد «ألفييري» فأسلم ما بقي له في الثروة إلى أخته لتسلمه منها نفقته التي يحتاج إليها، رغبة منه في التفرغ للرحلة والكفاح بالقلم والدعوة اللسانية.
وكتب «ألفييري» مقالاته عن الاستبداد
Della Tirannide ، فظهر فيها أثر اطلاعه على «روسو» و«منتسكيو» وعلى «مكيافلي» من قبل، ولم يظهر فيها مذهب خاص يجيز للناقد أن يصفه بالفيلسوف كما وصفه القائلون بأن الكواكبي نقله بحروفه واعتمد عليه في تفصيل آرائه.
والتشابه بين رءوس الموضوعات باد من النظرة العابرة إلى صفحات الكتابين، فقد كتب ألفييري في تعريف الاستبداد وتعريف المستبد، ثم كتب عن الخوف والتملق والطموح، ووزراء المستبد، ثم كتب عن الانحلال والدين والمقابلة بين الاستبداد القديم والاستبداد الحديث، وعن الشرف المزيف والمجد الكاذب، وعن نفوذ الزوجات في عهود الاستبداد، وعن وسائل المقاومة للاستبداد، وعن الشعوب التي لا تحس الطغيان، وعن الحكومات التي تركن إليه، ونظر في جميع هذه الموضوعات إلى أطوار الأمم الأوروبية على خلاف منهج الكواكبي في النظر إلى الأمم الشرقية والتعمق في وصف أحوالها، مما يجيز لنا أن نقول: إن مؤلف أم القرى كان خليقا أن يكتب آراءه عن الاستبداد ولو لم يطلع على الرسالة الإيطالية.
ويتساءل الأستاذ أحمد أمين: كيف وصلت الرسالة الإيطالية إلى علمه؟ وهو سؤال لا جواب له غير الحيرة إن لم تكن للكواكبي وسيلة أخرى للعلم بألفييري غير العلم بلغته، إلا أننا نعلم من «طبائع الاستبداد» أن ألفييري كان مشهورا عند الكواكبي في زمانه، ونعلم أن هذه الشهرة لا تستغرب مع كثرة الإيطاليين في حلب ورغبة الكواكبي في الاستفادة من معلومات أصحابه الأوروبيين المثقفين وهو كثير الاتصال بهم، وهو يلقونه على الدوام في أعماله وأعمالهم، وقد كان اسم «إيطاليا الفتاة» على كل لسان بين طلاب الحرية العثمانيين، ومنهم جماعة «تركيا الفتاة» الذين استعاروا اسمهم من اسم الجماعة الإيطالية، وقد كان الإيطاليون يسعون في تلقين دعوتهم ولا ينتظرون من يسألهم عنها، وكانوا ينتشرون في سواحل البحرين الأبيض والأحمر وينشرون فيها أنديتهم السرية التي تنتمي إلى طوائف الفحامين، وتحاول أن تزاحم في ميادين السياسة طوائف الماسون - أو البنائين الأحرار - التي غلب عليها في الشرق نفوذ الإنجليز والفرنسيين. ومن تاريخ الكواكبي بعد الهجرة من حلب نعلم أنه كان يلتقي بوكلاء الحكومة الإيطالية في شواطئ بحر العرب، وينتقل على إحدى السفن الإيطالية بإذن من أولئك الوكلاء، فليس بالعسير بعد ذلك أن يعرف الكواكبي شيئا عن الكاتب الإيطالي «المشهور» كما وصفه في كلامه، وأن يلم برءوس الموضوعات التي طرقها في رسالته عن الاستبداد وهو مشغول بمكافحة الاستبداد منذ صباه، وأن يعارض تلك الرسالة بما يقابلها معارضة الشاعر للشاعر في القصيدة المأثورة لديه، ولا ينقل منه شيئا بهذه المعارضة غير الوزن والقافية، أو غير العنوان والمناسبة.
ونحن نرجح هذا الاحتمال على قول بعض المعاصرين إن الكواكبي اطلع على ترجمة تركية لطبائع الاستبداد من عمل كاتب من أحرار الترك المهاجرين إلى سويسرة يسمى «عبد الله أمين»، فإننا نشك في ذلك؛ لأن مثل هذه الترجمة لا تطبع يومئذ في البلاد العثمانية، وإذا طبعت في مصر فلا بد أن تكون متداولة معهودة بين العثمانيين أصحاب الكواكبي، فلا يهمل ذكرها ولا يختلف الباحثون في أمرها عند السؤال عن مصدرها، ولا يخفى حقيقة هذا الأمر على مختار باشا الغازي وهو وكيل الدولة العثمانية المسئول عن أخبار هذه المنشورات التي تراقبها الدولة.
وأصاب السيد رشيد رضا إذ قال: إن مباحث طبائع الاستبداد لا يكتبها قلم أوروبي ولا يقتبسها شرقي من المراجع الأوروبية، ونزيد على هذا أن «ألفييري» نفسه لا يستطيع أن يصور عناصر الاستبداد كما صورها الكواكبي من وحي تجاربه وتأملاته في البلاد العثمانية وفي بلده وإقليمه بصفة خاصة؛ لأنه يحمل «مصورة» تريه ما يقع عليه حسه ولا تريه ما لم يشهده بعينيه.
فإذا كان جهل الكواكبي بالإيطالية يبعث على استغراب علمه بألفييري، فإن جهله بهذا الكاتب خاصة هو الغريب من رجل يعاشر الإيطاليين ويسمع بثورتهم ويسمع أن ثوار الترك يستعيرون منهم تنظيم حركتهم، ويسألهم ولا شك عن كاتبهم «المشهور» أو يتلقى منهم البيان عنه بغير سؤال.
وما كانت الشبهة أن اتصال الكواكبي بالإيطاليين قليل لا يسمح بهذه المعرفة، وإنما الشبهة أنها كانت تزيد على اللازم لهذه المعرفة، حتى خطر لبعضهم أنها تمتد من الصحبة إلى «التواطؤ» على السياسة الخفية، فلولا المصادفة التي وقعت على الرغم من الكواكبي، ولم تقع باختياره ولا بتدبيره لاستعصى على المدافع عنه أن يدحضها بغير حسن الظن وصدق الفراسة. «حدث في يوم ما أن قنصل دولة إيطاليا في حلب - السنيور أنريكو ويتو - بينما كان راكبا عربته، مارا في محلة الجلوم، التي هي محلة السيد عبد الرحمن الكواكبي؛ إذ وقع على ظهره حجر عائر صدمه صدمة عنيفة تألم منها جدا، بحيث اضطرته أن يعود إلى منزله وأن يرسل إلى الوالي تقريرا يطلب فيه منه البحث عن الضارب وإجراء العقوبة القانونية ... هذه الحادثة فتحت للوالي بابا يلج منه إلى إلصاق هذه الجناية بالسيد الكواكبي، لا سيما وقد كانت الحادثة في محلته وعلى مقربة من داره، وفي الحال أوعز إلى بعض شياطينه بأن يرفع إليه تقريرا فحواه أن الكواكبي منضم إلى عصابة أرمنية - وكانت ثورات الأرمن في تلك الأيام كثيرة - وأنه قبل يومين أغرى بعض الناس فرشق على قنصل إيطاليا حجرا أصاب ظهره، محاولا بذلك إحداث ثورة بين الأرمن والمسلمين بحلب ... وفي الحال أصدر الوالي أمره بإلقاء القبض على الكواكبي وزجه في السجن، وما أسرع ما أخرج من السجن مخفورا وأجلس على كراسي المحكمة لإصدار الحكم عليه.»
1
ويستوي اتهام الكواكبي في هذه القضية وبراءته منها في تكذيب الوشاة الذين رجموا بالظن فجعلوه صنيعة الإيطاليين، فإن الصنيعة لا يسلمه حماته المزعومون إلى الموت وهم ينظرون!
الفصل الحادي عشر
شخصية مكونة
«كان مربوع القامة، حنطي اللون، مستدير الوجه، خفيف العارضين، أقنى الأنف، واسع الجبين، ذا عينين زرقاوين، معتدل المقلة، لا غائرها ولا جاحظها، معتدل فتحة الفم، أزج الحاجبين، صغير الأطراف، معتدل الجسم بين السمن والهزال، أسود الشعر، قد وخطه الشيب حين فارق حلب إلى جهة مصر.»
هكذا وصفه صديقه الأستاذ كامل الغزي، ووصفه الأستاذ إبراهيم سليم النجار، وهو ممن عرفوه وصاحبوه فقال: «كان ربع القامة يميل إلى الطول قليلا، أبيض الوجه بياضا مشربا بشيء قليل من الحمرة، شأن سكان البلاد الباردة ... وقد أحاط خديه بلحية قصيرة كانت كالإطار لوجهه، مد فيها الشيب خيوطه.»
ووصفه ابنه الدكتور أسعد فقال: «كان ربعة إلى الطول أقرب، قوي البنية، صحيح الجسم، عصبي المزاج بتأن، أشهل العينين، أزج الحواجب، أبيض اللون، واسع الفم، عريض الصدر، أسود شعر الرأس والذقن، متأنق في لباسه، يتكلم بجهر هادئ وسلاسة وابتسام، يحسن السباحة والصيد والفروسية ...»
وسمعنا وصف سجاياه وملكاته العقلية ممن عاشروه، كما قرأنا هذا الوصف بأقلام مترجميه، فرأيناهم يتفقون على سجايا خلقه وملكات عقله اتفاقهم على سماته وتكوين جسده، كأنهم ينظرون إلى ملامح محسوسة لا تخطئ العين رؤيتها ولا يختلف الناظرون إليها في وصفها، فما من ترجمة له لم تبرز في الكلام عليه صفات الوقار والحلم والفطنة والنجدة وعفة اللسان وحسن الملاحظة وصدق الإرادة، وكأنما ثبتت هذه الصفات في نفوس عارفيه؛ لأنها جاوزت أن تكون صفات مقدورة، وأصبحت أعمالا متكررة يؤيد بعضها بعضا فلا ينساها من رآها وسمع بها وبآثارها، وهي قد أصبحت فعلا في عداد الأعمال المشهودة، ولم تبق في حيزها من عالم السجايا والأخلاق، وسنحت لها منادح الظهور والثبوت مرات في جملة الوظائف التي عمل فيها، فكان في كل منها أمين الجهر والسر، خبيرا بعمله، غيورا على الضعفاء، حريصا على واجبه، متطوعا بما يزيد على الواجب كلما دعته إلى ذلك دواعي النجدة والإنصاف.
ثم خلا من أعمال الوظائف فكانت بطالته في عرف الحكومة أدعى إلى إبراز تلك السجايا والملكات من كل وظيفة تولاها؛ إذ كان يشغل وقته بالتطوع لدفع المظالم وإبلاغ الشكايات وتمحيص الأسانيد والنهوض بتكاليف الرئاسة وأعباء الوكالة الموروثة التي ألقاها على عاتقه مكانه من العلم والوجاهة وسابق الخبرة بولاية أعمال الناس، وافتتح لهذه الأعمال مكتبا مستعدا مفتوح الأبواب لمن يقصدونه بغير جزاء؛ بل يحمل النفقة أحيانا عن أصحابها الذين يعييهم حملها من ذوي الحاجات.
لا جرم يتفق واصفوه على سجاياه وملكاته؛ بل على صنائعه وفعاله، كاتفاقهم على ملامحه وسماته، فإنها ملامح مشهودة وصفات جاوزت حيز الظنون إلى حيز الأعمال.
ومرجع ذلك إلى أننا هنا أمام «شخصية مكونة»، قام كيانها المتين على أسس عميقة من عوامل بيئتها وأسرتها وظروف زمانها وظروف حياتها وسائر مقوماتها وعناصرها، وتكاد كل صفة من صفات الكواكبي تنسب إليه فلا تعجب لاتصافه بها، ولا تنقب طويلا حتى تجد تفسيرها كافيا ماثلا في عامل من تلك العوامل المتأصلة في ظروف زمانه أو ظروف مكانه.
رجل يتطلع إلى قلب دولة وإقامة دولة من طريق الدعوة.
أي عجب أن يتطلع إلى ذلك رجل يعلم أن سلفا من أسلاف أسرته أقام الدولة الصفوية من طريق الصومعة والمدرسة في بلاد غريبة عن بلاده، وأن الدولة التي يريد أن يقلبها قد تزعزعت في موطنه، ولم تعد إليه بعد فترة إلا وهي على حال من التزعزع لا تؤذن بالدوام؟!
رجل دائم الشعور بعروبته شديد الغيرة على نسبته العربية.
أي عجب أن يكون كذلك من يرجع إلى تاريخ بلدته من قبل إبراهيم - عليه السلام - فيعلم أنها عربية، ولم تزل عربية تحس عروبتها كلما أحست أنها «تهان من أجل هذه العروبة وتظلم في سبيلها»؟!
رجل يتصدى للجهاد في هذا السبيل وينهض بأمانة الإمامة فيه، ولا يلتمس لنفسه العذر في التخلف عنها.
أي عجب في إمامة رجل توارث الإمامة في بيته فطلبته قبل أن يطلبها؟!
ورجل يعرف الاستبداد فلا يصبر عليه ولا يستقر معه على قرار.
فهل من عجب أن يكون كذلك مصابا بعسف الاستبداد في سربه وفي تراث قومه وفي حقوق عشيرته وآله وأقرب الناس إلى جواره؟!
وإنه ليعلم أثر الاستبداد في الدين والدنيا، فأي عجب في هذا العلم وهو لا يتطلب منه إلا أن يعلم كيف توسل الكذبة من رجال الدين إلى اغتصاب حقه وحق بيته، وكيف يختلسون النسب والحسب ويزيفون الشعائر والشرائع ليصعدوا من ثم إلى مجالس الصدارة في الدين والدنيا وبين الرعية والرعاة؟
ورجل يتحفز للثورة، فأي عجب في ذلك وهو يعيش في عصر الثورة؟!
ورجل يتصل بالعالم في زمانه فلا تخفى عليه خافية من أخطاره وخطوبه، فأي عجب في ذلك وهو في بلد تلتقي عنده طرق العالم ولا ينقطع عنها أو ينقطع عنه الواردون إليه والطارئون عليه في سلمه وحربه؟
رجل واحد ندبته الحوادث لرسالته ولم تندب لها أحدا غيره، فأي عجب في ذلك وهو الذي تهيأ لتلك الرسالة بالاستعداد لها والقدرة عليها والشعور بدوافعها والعجز عن إغفالها والإغضاء عنها؟ •••
وقد تجرد الكواكبي لرسالته وتفرد بها في بيئته؛ لأن هذا الاستعداد الموروث منذ القدم يسانده استعداد خاص به من فطنته وخلقه ومطالعاته وبواعثه النفسية، فلا تكفيه الفطنة وحدها؛ لأن الفطنة لا تقدم ولا تؤخر ما لم تسعدها الخلائق التي تصبر على الشدة وتقدم على المخاوف وتضطلع بتكاليف النجدة والمروءة، ولا تغنيه الفطنة والخلق بغير البواعث النفسية التي تثير الضمير وتستجيش الخاطر، وبغير البيان الذي استفاده من دراسته واطلاعه وحسن إصغائه إلى ذوي المعرفة والخبرة من صحبه، ومن المصادفات النادرة أن يجتمع ذلك الاستعداد الموروث من القدم، وهذا الاستعداد الخاص بصاحبه لأكثر من نابغ واحد في حقبة واحدة، وهو كاف لارتياد الدعوة الأولى على سنة الطبيعة من القصد في غير ضرورة للسرف والزيادة. •••
والشخصية المكونة المنذورة لرسالتها هي هذه الشخصية التي تعاونت فيها العوامل هذا التعاون بين حديث وقديم وبين خاص وعام، وعلى هذا التكوين بنيت «شخصية» الرائد الذي كتب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد».
كان الرجل قضية حية متفقة المقدمات والنتائج.
كان شخصية قويمة جلية لا موضع فيها لغموض أو التواء.
مفتاحها إذا التمسنا المفتاح لبعض زواياها أنها «شخصية عزيز قوم يغضب لكرامته وكرامة قومه»، ولنا أن نفسر بهذا المفتاح كل سر فيها من أسرار الأعمال أو أسرار النيات.
الفصل الثاني عشر
في مصر
وصل الكواكبي إلى مصر في منتصف شهر نوفمبر سنة 1898، وتوفي بها في شهر يونيو سنة 1902، وتخلل هذه الفترة رحلتان، قال صديقه صاحب المنار عنهما: «إنه وجه همته أخيرا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين؛ ليسعى في الإصلاح على بصيرة، فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية - تركها وعربها وأكرادها وأرمنها - ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها، ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسيا الغربية، ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله أتم الاختبار، فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي، وما زال يوغل فيها حتى دخل في بلاد سورية، واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف استعدادهم الحربي والأدبي، وعرف حالة البلاد الزراعية، وعرف كثيرا في معادنها حتى إنه استحضر نموذجا منها.
وقد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي في موانئ الهند، وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسي في مسقط، فطافت به في سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقية الشرقية ، فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارا سبق به الإفرنج، وكان في نفسه رحلة أخرى يتمم بها اختباره للمسلمين، وهي الرحلة إلى بلاد الغرب، ولكن حالت دونه المنية التي تحول دون كل الأماني والعزائم ...»
وقال الأستاذ جورجي زيدان في كتابه عن مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر عن رحلته: «ومما يذكر له ونأسف لضياع ثماره أنه رحل رحلة لم يسبقه أحد إليها، ويندر أن يستطيعها أحد غيره؛ وذلك أنه أوغل في أواسط جزيرة العرب، فأقام على متون الجمال نيفا وثلاثين يوما، فقطع صحراء الدهناء في اليمن، ولا ندري ما استطلعه من الآثار التاريخية أو الفوائد الاجتماعية، فعسى أن يكون ذلك محفوظا في جملة متخلفاته. وتحول في هذه الرحلة إلى الهند فشرقي أفريقيا أيضا، وكان أجله ينتظره فيها.»
والمؤرخ الحلبي الأستاذ الغزي، وهو صديق الكواكبي، يذكر هذه الرحلات فيما كتبه بمجلة الحديث، ويشير إلى إشاعة القائلين إن الخديو عباسا استدعاه ليقوم بالدعاية لخلافة مصرية، وليسعى لدى الشيوخ وعربان الإمارات في ذلك، ويروى أنه جاءه كتاب من قنصل إيطاليا في حديدة باليمن - وهو من أسرة الصولا بحلب يسمى فرديناند ميخائيل - فذكر فيه أنه اجتمع بالسيد عبد الرحمن الكواكبي أثناء هذا الطواف.
1
ولا تنفصل هذه الإشاعة عن إشاعة أخرى فحواها أن الدولة الإيطالية يسرت له الرحلة؛ لأنها كانت تطمع في نجاح المسعى إلى خلع الخلافة التركية منذ توجهت محاولاتها الاستعمارية إلى شواطئ البحر، لعلها تستفيد من مصادقة الخلافة العربية المنتظرة بعد إقامتها على مقربة من مناطق نفوذها.
ولا بد لكل ملتفت إلى هذه الإشاعة أو تلك من تفسير التناقض بين العمل للخديو عباس والعمل للإمامة العربية القرشية، فإن عباسا لا يبذل المال لمن يسعى في إحباط مسعاه وإيثار سواه عليه، ولا مصلحة للدولة الإيطالية في إقامة الخلافة بأرض يحتلها الإنجليز ويسيطرون بها على شواطئ البحر الأحمر من شمالها إلى جنوبها، وليس ارتباط الأسرتين المالكتين في إيطاليا ومصر كافيا لحمل الدولة الإيطالية على اتباع هذه السياسة، فلا بد إذن من التفسير القاطع للظنون بين قولين لا يتفقان، وإن اتفقا في شيء واحد؛ وهو حرب الخلافة العثمانية. •••
أما اتصال الكواكبي بالخديو عباس فيكفي في تفسيره أن الكواكبي قد وصل إلى القاهرة خلال أزمة من الأزمات المستحكمة بين «عابدين» و«يلدز» وبين «عابدين» و«نقابة الأشراف» التي كان «أبو الهدى الصيادي» يتولاها في عاصمة الخلافة، فلا غرابة في اتحاد الخطة بين الخديو وبين صاحب طبائع الاستبداد في تلك الفترة، ولا في التحالف بينهما على اتقاء الشر من دسائس «يلدز» ودسائس «نقابة الأشراف» في آونة واحدة.
وكانت هذه الفترة من سنة 1898 إلى سنة 1902 أصلح الأوقات لانتفاع الكواكبي في مساعيه بزيارة القاهرة، فإنه استطاع أن ينشر مقالاته في «المؤيد» صحيفة الخديو الشبيهة بالرسمية، ولولا ذلك لاضطر إلى الكتابة في الصحف المتهمة بخدمة الاستعمار تعصبا منها للدول الأوروبية على دولة الخلافة، ولم يسلك هذا الطريق داع من دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي إلا تعثرت به السبل من خطواته الأولى.
ومضت هذه السنوات والخديو عباس يقاطع الآستانة ويأبى أن يقصد إليها في رحلة الصيف قبل أن يفلح رسله إليها في تسوية المشاكل المنغلقة بين يلدز وعابدين، ومنها مشكلة قاضي مصر من قبل الآستانة، ومشكلة جزيرة «طشيوز» التي استردها السلطان من الأسرة الخديوية، ومشكلة الصحافة التي تحمل على الدولة ويصرح المسئولون في القصر السلطاني بانتمائها إلى الخديو، أو بأن الخديو على الأقل يقصر في استخدام نفوذه لإسكاتها، وقد غضب الخديو غضبا شديدا يوم علم أن حاشية السلطان اتصلت بالسفارة الإنجليزية تسألها أن تتوسط عند الوكالة البريطانية في القاهرة لكف الحملة على السلطان في صحافتها العربية والأجنبية، وقد سافر أحمد شفيق باشا إلى الآستانة في صحبة الوالدة؛ للاحتجاج على ذلك وعلى غيره من مسائل الخلاف بين الأمير التابع والسلطان المتبوع.
قال شفيق باشا في مذكراته - أول مايو سنة 1899 - إنه أثار هذه المسألة في حديثه مع باشكاتب المابين، وأبلغه أن الخديو يشعر بالإغضاء عنه «في عدة مواقف آخرها أن المابين قصد إلى الحكومة الإنجليزية ليشكو إليها عدوان صحيفة من هذه الصحف تصدر في مصر كأن الخديو وكيل للسلطان الشرعي غير موجود».
وشاعت أخبار هذه المشاكل في الدوائر السياسية بالآستانة، فاستطلع السفراء أسرارها وتحدث غير واحد منهم إلى شفيق باشا عن حقيقتها، ولا سيما سفراء الدول التي كانت تقاوم الاحتلال البريطاني، ومنها يومئذ فرنسا وألمانيا وروسيا، قال شفيق باشا: «وفي اليوم التالي زرت سفير فرنسا فسألني عن سفر سمو الخديو للآستانة، فأشرت إليه بأنه قد لا يأتي في هذا العام نظرا لأشياء لا تشجع سموه على الزيارة، ولما سألني عنها بإلحاح أخبرته موجزا بمسألة الصحف فقال لي في النهاية: إن كل شيء يزول عند وجود سموه بالآستانة، ثم قال: إنني سأنتهز كل فرصة وأعرف السلطان بالحقيقة وأكرر عليه ما سبق أن قلته، وهو أن من صالحه أن يجعل الخديو راضيا؛ لأن سموه لو خلع الطاعة لأوقع الخليفة في ارتباك عظيم.»
ثم قال: «وزرت السفارة الروسية فقابلني مكسيموف الترجمان الأول - وله نفوذ عظيم في المابين - ورحب بي وقال لي إنه علم بمسألة الصحف، فأسف لما وقع ...»
ومضى شفيق باشا يقول: «... ثم ذهبت إلى المابين فلم ألق جديدا، وهناك قابلت نجيب بك ملحمة القوميسير العالي للدولة في البلغار، فتعرفنا بعد قليل، ودارت بيننا أحاديث أخبرني خلالها أن جماعة أبي الهدى أرادوا اجتذابه نحوهم، فطلبوا منه أن يرسل تقريرا ضد الحضرة الخديوية، وكان الواسطة في ذلك كريم أفندي صاحب جريدة تركيا التي تطبع في مصر، ولكنه أخذ الأوراق التي تثبت ذلك ورفعها للسلطات، فصدرت له الإرادة بحفظها عنده ...»
ونقل شفيق باشا في مذكرات سنة 1901: «في 24 نوفمبر أبلغني تحسين بك أن أبا الهدى تمكن من دخول السراي بعد أن كانت علاقته بها على غير ما يرام، وألقى بدسيسة ضد الخديو مؤداها أن سموه تآمر مع رفعت باشا الصدر الأعظم الذي توفي أخيرا، والقزلر أغاسي والمشير فؤاد باشا وغيرهم لخلع السلطان وتولية ولي العهد، وأن المتآمرين أخذوا رشوة قدرها عشرون ألف جنيه بواسطة الكريدي ليونيه، وأني كنت الواسطة بين الخديو ورشاد أفندي ولي العهد في هذه المؤامرة ...»
وكان الخديو في هذه الأثناء يسافر إلى الصحراء الغربية فيتلقى المابين تقارير الجواسيس بأنه «سيقابل هناك الشيخ جنينة وكيل السنوسي للمخابرة معه بشأن الخلافة العربية».
وفي أول يونيو سنة 1901 كتب شفيق باشا في مذكراته: «... إن بطرس غالي باشا ناظر الخارجية توجه من قبل كرومر إلى الخديو، وأبلغه أن الحكومة الإنجليزية ورد لها بلاغ من سفير الدولة بلندرة يقول فيه إن سموه أخذ في إرسال مدافع ونقود إلى الثائرين في اليمن ...»
وقال بعد ذلك إنه «في 31 أكتوبر طلبت للسراي وعرض علي تحسين بك صورة منشور عليه توقيع الخديو بصفته خديويا يدعو المسلمين فيه للخروج على السلطان ومبايعته بالخلافة ... ولكن جلالة الخليفة عرف أن هذه دسيسة».
ودامت هذه الجفوة إلى صيف سنة 1901 حين شعر الخديو بالتضييق عليه من قبل الإنجليز، فأخذ في التمهيد لإصلاح العلاقة بينه وبين السلطان، وقرر السفر إلى الآستانة قبل أن تبلغه الدعوة السلطانية بالحضور إليها كما جرت بذلك مراسم المابين. •••
ولا ندري هل كان الكواكبي يتحين الفرصة المؤاتية لسفره من حلب إلى القاهرة، أو أنه نزل بها فوجد الفرصة مؤاتية له بعد وصوله إليها، ولكن هذه الفرصة كانت ضرورية له في عمله فاستفاد منها أثناء مقامه بمصر، وأنجز كل ما أراد إنجازه فيها قبل رحلاته إلى المشرق وقبل انقلاب الموقف وتراجع الخديو عن خطته الأولى، فسرعان ما «اعتدل الجو» بين «يلدز» و«عابدين» حتى جاءه النبأ من قبل الخديو يوحي إليه بما لا يخفى عليه؛ إذ عرض عليه أن يصحبه إلى الآستانة ليقدمه إلى السلطان ويعيده إلى حظيرة رضاه، ولم يكن ليخفى على الكواكبي مغزى هذا الاقتراح الصريح، فإنه سواء قبل السفر إلى الآستانة أو اعتذر منه خليق أن يفهم أنه مطالب بالسكوت عن السلطان أو مبارحة البلاد، إلا إذا شاء أن يمكث بها في حماية الاحتلال.
ونحن لم نسمع بهذا الخبر من أصحاب الكواكبي الذين لقيناهم وسمعنا منهم الكثير من أخباره مع الخديو ومع الأستاذ الإمام، وإنما نعول على رواية الأستاذ كرد علي في الجزء الثاني من مذكراته التي يقول فيها: «وجاءني ذات ليلة يسمر معي في داري مع الحبيب رفيق بك العظم يستشيرني في أمر عظيم، قال: إن الخديو عباس عرض عليه أن يصحبه إلى الآستانة - وكان الخديو يصطاف فيها - ليقدمه إلى السلطان العثماني ويستجلب رضاه عنه، وبذلك تنحل هذه المشادة ويطمئن خليفة الترك إليه، فصعب علي وعلى رفيق بك إبداء رأي في موضوع جد خطير كهذا؛ لأن ابن عثمان لا تأخذه هوادة فيمن خرجوا على سلطانه، وخشينا أن تكون هناك دسيسة يذهب الرجل ضحيتها، ومما قال لنا: إنه حائر في أمره بين القبول والرفض، وإنه شعر بالأمس بوجع في ذراعه وما عرف له تعليلا، وتقوض المجلس وذهب السيد الكواكبي إلى داره، فما هي إلا ساعة وبعض ساعة حتى سمعت ابنه السيد كاظم في الباب يبكي وينوح، ويقول: قم يا كرد علي، فإن صديقك أبي مات ...»
وظاهر من سيرة الكواكبي في القاهرة أنه لم يقم بها إقامة طويلة متوالية، وإنما كانت إقامته بها مقتطعة تتخللها الرحلة بعد الرحلة على النحو الذي تقدم بيانه في ترجمته بأقلام أصدقائه.
أما المعلوم من أخبار إقامته بها فخلاصته أنه كان يؤثر السكن في الأحياء الوطنية بين شارع محمد علي والحي الحسيني إلى جوار الجامع الأزهر، وكان يؤثر في صحبته لمن يلقونه ويلقاهم أن يتجنب التحيز والتشيع لهذا الفريق من أصحاب الخصومات السياسية، فكان يلقى الأستاذ الإمام وتلاميذه كما يلقى الشيخ علي يوسف وزملاءه من أنصار السياسة الخديوية، وكان يجتمع بكل من تجمعهم جلسة «سبلندد» وجلسة «يلدز» من أندية القاهرة المشهورة، وبينهم طائفة من حزب «تركيا الفتاة» وطائفة من دعاة الجامعة الإسلامية، وكان المتطرفون من جماعة «تركيا الفتاة» يستحبون الجلوس بقهوة يلدز تفاؤلا باحتلال «يلدز» الكبرى في يوم من الأيام، فإذا وجدوه هناك جلسوا إليه فلم يعرض عنهم ولم يخض معهم في دعايتهم، وربما كان بينهم أذناب مدسوسون من قبل السلطان عبد الحميد أو الشيخ أبي الهدى أو خدام الدسائس الأجنبية المتلبسون بلباس الوطنية، فيعرفهم أو لا يعرفهم، ثم لا يبالي أن يستمعوا إليه ويستمع إليهم، وقد يعتصم بالصمت ساعات إذا تطرق بهم الحديث إلى غير ما يرتضيه.
وقد تعددت الروايات عن أخباره الأخيرة ليلة وفاته - رحمه الله - فمنها ما تقدم بيانه في مذكرات الأستاذ كرد علي، ومنها ما رواه أحد أصدقائه الشيخ صالح عيسى وكان مقيما في مصر؛ إذ يقول - كما جاء في عدد يناير 1943 من مجلة الكتاب: «وفي اليوم الخامس من شهر ربيع الأول سنة 1320 هجرية ورد على السيد عبد الرحمن من قبل حضرة الخديو - وكان مصطافا في الإسكندرية - بطاقة يدعوه فيها لحضور ضيافة يقيمها هذا اليوم في إحدى سراياته في الإسكندرية، فأجاب السيد الدعوة وركب قطار السرعة، وسار إلى الإسكندرية وقابل الحضرة الخديوية وحضر ضيافته وعاد إلى مصر من يومه، وفي الليل سهرنا معه في مقهى «ستانبول» مع جماعة من أدباء مصر وأفاضلها، يزيد عددهم على العشرة، وكنت جالسا جانب السيد عبد الرحمن، ولما صارت الساعة الرابعة عربية من تلك الليلة هممت بالقيام؛ لأن النوم غلبني، فاستدعاني إليه وكنت جالسا في قربه، وقال لي: أحس بوجع شديد في خاصرتي اليسرى، وهو إذا دام معي ساعة أخرى، فلا شك أنه يكون قاتلي! فقلت له: لا بأس عليك إن شاء الله. ثم انصرفت إلى منزلي ورقدت في فراشي؛ وما كاد شفق الفجر يلهب فحمة الليل إلا والباب يطرق علي، فنهضت من فراشي مسرعا وقلت: من بالباب؟ فأجابني الطارق بقوله: أنا كاظم، إن أخاك والدي قد مات، فدهشت من هذا الخبر المفاجئ!»
ونقل الدكتور سامي الدهان عن مجلة الحديث «1940» رواية أخرى فقال: «في مساء الخميس 14 يونيو سنة 1902 الموافق 5 ربيع الأول سنة 1320 هجرية، جلس في مقهى يلدز قرب حديقة الأزبكية إلى أصحابه وأصدقائه وفيهم السيد رشيد رضا والأستاذ محمد كرد علي وإبراهيم سليم النجار، وشرب قهوة مرة، وبعد نصف ساعة أحس بألم في أمعائه، فقام للحال وقصد مع ابنه السيد كاظم في عربة حنطور إلى الدار، وظل يقيء حتى قارب الليل منتصفه، فأصيب بنوبة قلبية ضعيفة، فأحس ابنه بالخطر وذهب يستدعي أقرب طبيب من المحلة، ولما عاد بصحبة الطبيب وجد أباه قد فارق الحياة ... وسرى الخبر صباح الجمعة في مدينة القاهرة، فأمر الخديو بدفن الكواكبي على نفقته الخاصة، وأن يعجل بدفنه، وأرسل مندوبا عنه لتشييعه ودفن في قرافة باب الوزير في سفح المقطم، واحتفل له السيد علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بثلاث ليال حضر فيها القراء.»
ويكاد أصحاب هذه الروايات المختلفة عن وفاته - رحمه الله - يتفقون على ظن واحد سبق إلى الكثيرين ممن سمعوا بنعيه في حينه، فقد خطر لهم جميعا أنه ذهب ضحية الغدر والدسيسة بتدبير من أبي الهدى أو من جواسيس السلطان عبد الحميد، وقال الأستاذ الغزي في مجلة الحديث: «كأن وفاته كانت منتظرة؛ لأنها لم يمض عليها يوم أو بعض يوم إلا وقد اتصلت بمسامع السلطان عبد الحميد، وعلى الفور أصدر إرادته إلى السيد عبد القادر القباني - صاحب جريدة ثمرات الفنون التي كانت تصدر في مدينة بيروت - لأن يهبط سريعا ويقصد محل إقامة السيد ويحرز جميع ما يجده من الأوراق ويرسلها إلى المابين ...»
وما كان أحد في ذلك العصر ليستبعد هذه الفعلة وأمثالها على المتهمين بها، ولكن تحقيق الخبر للتاريخ لا تكفي فيه مظنة السوء، وأرجح الأقوال في هذا النبأ ما كتبه الأستاذ محمد لطفي جمعة في مجلة الحديث «1937»؛ إذ يقول إنه «ذهب ضحية ذبحة صدرية». ويؤيد هذا القول ما شعر به الفقيد من أعراض الذبحة كوجع الذراع، وألم الجنب الأيسر، وما جاء في النبأ الأخير عن إصابته بنوبة قلبية خفيفة تلتها نوبة الوفاة، وربما كان للإعياء من أثر القيء فعله في تحريك عوارض النوبة وتعجيل القضاء المحتوم.
وما كان باليقين الذي لا ظن فيه، إلا ضحية الخيانة والظلم فيما تجنيان من داء يفعل في النفوس ما تفعله السموم في الأبدان. •••
وضريحه بالقاهرة في مثواه الأخير بباب الوزير، نقلته إليه مصلحة التنظيم بعد وفاته بنحو خمس عشرة سنة، وعلى صفحته المرمرية هذان البيتان لحافظ إبراهيم:
هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى
هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب
قفوا واقرءوا أم الكتاب وسلموا
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
الكتاب الثاني
الفصل الثالث عشر
برنامج إصلاح
فكر الكواكبي كثيرا، وأطال التفكير، في جميع المسائل التي بنى عليها دعوته إلى الإصلاح، وهي دعوة محيطة بشئون الشرق الإسلامي في زمنه على الإجمال، وشئون الشرق العربي على التخصيص، وليست من الدعوات التي تتجه إلى ناحية واحدة أو تنحصر في جزء من أجزاء الحياة العامة التي تتفرق العناية بها بين أشتات من المصلحين.
وقد نهج في دعوته منهج العلم التجريبي أو الفلسفة العملية، فنظر في جميع العلل وقدر جميع الوجوه، واعتمد البحث في تلك العلل من ناحية النفي وناحية الإثبات، فلا يزال بالعلة المقدرة يتتبع أعراضها ويستقصي آثارها ويرى أين مكان الصواب من تطبيقها على الواقع وتفسيرها بالرأي، وأين مكان النقص الذي تقصر فيه عن تفسير الواقع وموافقة الأحوال.
ويبدو لنا منهجه في التفكير والمراجعة من أسلوب كتابيه اللذين عرض فيهما آراءه في علل الضعف، وشفعهما بما يقترحه لعلاج ذلك الضعف والوقوف به عند حده واستئصال أسبابه ودواعيه.
فهو في كتاب «أم القرى» يختار أسلوب المساجلة بين طائفة من أصحاب الآراء ليعرض على لسان كل منهم وجهة نظر يشرحها من جانبه ويتلقى الرد عليها من مخالفيه، ومنهم من يعلل الضعف بالجهل، ومن يعلله بالفقر، أو يعلله بالاستبداد، أو يعلله بالخور والجبن وفساد الأخلاق، أو يعلله بالتواكل والتسليم للمقادير، ومنهم من يلقي التبعة فيه على الأمراء أو على العلماء أو على الخاصة دون العامة، أو على العامة دون الخاصة، ويعود باللائمة تارة على المسلمين وتارة على أعداء الإسلام، ثم يتراءى للقارئ من بين مطارح الأفكار ومذاهب الحوار مبلغ كل علة من الأثر، ومبلغ كل أثر من الأصالة في الضرر، ومبلغ الاشتراك بينها في التأثير، وأيها أحق بالابتداء أو أحق بالإرجاء.
وإنما يطلع القارئ في الواقع على رأي مفكر واحد يذهب بالنظر في شتى مذاهبه، ويراجع نفسه فيما يعن له من خواطره التي طرأت له فامتحنها وثبت عليها أو عدل عنها.
أما أسلوبه في كتاب «طبائع الاستبداد» فهو أسلوب التقسيم واستيفاء الكلام على كل موضوع من الموضوعات، أخذا وردا، وشرحا واستدراكا، وتقليبا للفكرة على وجوهها، كما تطورت في ذهن صاحبها وتقدمت بين بداءتها ونهاية التفكير فيها، وكل موضوع من موضوعات الكتاب عن الدين أو عن المجد أو عن العلم أو عن المال أو عن السياسة فهو مبحث مفروغ منه بين جوانب المناقشة وخواطر الظن والاستدراك وأدلة التشكيك والتفنيد، مما ينم على بحث طويل في ذلك الموضوع لم يقف عند سوانحه الأولى من الظن العاجل والرأي الفطير.
فمن اليسير - من أجل هذا - أن نسمي دعوة الكواكبي فلسفة اجتماعية أو نسميها مذهبا فلسفيا ينتظم بين مذاهب الحكماء المصلحين؛ لأنها استلزمت من تفكير صاحبها كل ما يستلزمه مذهب الفيلسوف من التحقيق والروية والمراجعة والتوفيق بين النقائض ووجوه الاعتراض.
ولكننا لم نشأ أن نسميها فلسفة ولا مذهبا فلسفيا كسائر المذاهب التي عرفت بأسماء أصحابها أو بعناوين موضوعاتها؛ لأن الدعوة هنا عمل يزيد على التفكير، ولا ينتهي عند مجرد التفكير.
فالدعوة التي تسمى «فلسفة» تدور على البحث والنظر ثم تترك العمل على قواعدها لمن يؤمن بها ويقدر على تطبيقها، وقد يكون البحث فيها مطلقا غير محدود بزمن من الأزمنة أو بلد من البلدان، ولكنه يرسل على إطلاقه كما ترسل القوانين الرياضية لمن يخترع لها أدواتها ويوفق بينها وبين مطالبها، فهي فكرة معلقة على زمن مجهول ومجال غير محدود.
ولا نحسب أننا نسمي دعوة الكواكبي باسمها الصحيح إذا سميناها «مذهبا فلسفيا» لنقول إنها هي «مذهب الكواكبي» في الإصلاح، فإن المألوف عن المذاهب أنها طريق يقابل طريقا آخر أو طرقا متعددة لتوضيح رأي أو تنفيذ عمل، ودعوة الكواكبي قد بلغت إلى مرحلة وراء المذهب ووراء الاختلاف عليه، وجاوزت المذهب إلى القرار الذي يوضع موضع التنفيذ ولا يعوقه عنه إلا أن يتولاه العاملون.
فصاحب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» لا يعرض لنا فكرة معلقة على مجال مجهول، ولا يعرض لنا مذهبا نقابله بمذهب يعقب عليه، ولكنه يعرض لنا «برنامجا» يتبعه عمل، وقرارا تنتهي إليه مذاهب الخلاف. •••
إن ذلك المنهج «العملي» لهو أجدر المناهج أن ينتظر من عقل كعقل الكواكبي فيما ورثه من استعداد الفطرة وفيما تعوده بتربيته وعمله، فإنه نشأ في بيئة لم تزل من قديم الزمن ملتقى لحركات النشاط والدأب من أنحاء العالم، وتربى في أسرة تعرف الصناعة كما تعرف تكاليف الرئاسة الدينية والدنيوية، وتولى أعمال الإدارة والتنظيم في كثير من الوظائف التي يناط بها تنفيذ الخطط وإعداد المشروعات للتنفيذ، وكاد أن يكون كل تقرير كتبه برنامجا لعمل يؤديه أو «مشروعا» لبرنامج يقترح تنفيذه على غيره.
ونكاد نجزم بأنه بقي في حلب قبل هجرته الأخيرة منها؛ لأنه لم يكن قد فرغ من التفكير ولم تتقرر في ذهنه فكرة صالحة للإنجاز أو صالحة لإقناع غيره بإنجازها، فلما نضجت في ذهنه هذه الفكرة وحصل في يديه برنامج العمل لم يكن في طاقته أن يبقى بعد ذلك ولو تهيأت له في بلده أسباب البقاء؛ لأن بقاء المصلح العامل ولديه خطة محضرة للعمل خليق أن يقلقه أشد من قلق الخوف والخطر، وحبس لقواه الجياشة بالحركة أشد من حبس القيد والاعتقال، وقد يكون غريبا من رجل غير الكواكبي أن يمكث في بلده ويؤلف الكتب التي تهدده في مأمنه؛ بل تهدده في حياته، ولا يخطر له أن يعقد العزم على الهجرة إلى بلد آخر يسطر فيه ما يدور في خاطره وهو آمن على نفسه وعلى ثمرات تفكيره.
ذلك غريب من رجل غير الكواكبي قد يقنع بالتفكير ويحسب أنه لباب دعوته التي يتمم بها رسالة حياته، فإذا خطر له أن ينجو بتلك الرسالة من الخطر أو المصادرة نجا بها وهي خاطر في ذهنه قبل أن يجري بها القلم فكرة مسجلة على ورق مقروء.
أما الرجل العامل بفطرته فالتفكير عنده تمهيد لرسالته، ينتهي فينتهي معه القرار وتبدأ الحركة، وإنه ليفكر ويراجع فكره ويستطيع القرار على التفكير والمراجعة إلى أن يتحول الفكر إلى برنامج مفصل وخطة محدودة، ويومئذ لا قرار ولا انتظار.
فلما عقد النية على الهجرة خرج من بلده وفي جعبته ذلك البرنامج المحيط بكل جزء من أجزاء الدعوة وكل مقصد من مقاصد الإصلاح.
خرج من بلده وفي جعبته الرسالة التي يخشى عليها، وغاية ما اتخذه من الحيطة أنه لم يعلن اسمه مع إعلان تلك الرسالة، ولعله آثر الكتمان لأنه أعون له على الحركة والتنقل بين الأقطار، وأستر له ولمن يتحرجون من لقائه إذا انكشفت مقاصده وتبين العاجل والآجل من نياته ومساعيه، ولا بد من مثل هذه الحيطة في دور الاستطلاع وجس النبض ووزن الخطى بين العجلة والأناة. •••
وأيا كان النص الذي انتهت إليه عبارة المؤلف في كتابيه الباقيين، فلقد كانت أعمال الإصلاح كما ينبغي أن يتولاها العاملون متى صحت عزيمتهم عليها ماثلة أمام بصيرته جلية المعالم في خلده، بعضها مشروح مسبب في إيجاز وسهولة، وبعضها مذكور كما تذكر رءوس المسائل للعودة إليها والإفاضة فيها، ولكنها تكفي بتفصيلها وإجمالها لتنسيق برنامج العمل والإحاطة بأصوله وفروعه فيما يشمله الإصلاح من شئون الدين والدنيا.
وما من شيء يعوز البرنامج الذي يحيط بمطالب الإصلاح في مسائل الدين والدولة ومسائل السياسة والأخلاق ومسائل الثقافة والثروة الاقتصادية والتربية الاجتماعية، وهذه هي المسائل التي احتواها الكتابان على تفصيل أو إجمال، وعلى جلاء وثقة فيما فصل وفيما أجمل، ومن هذين الكتابين نستخلص ذلك البرنامج الحافل بغير كلفة ولا مشقة، ونؤثر أحيانا أن نعتمد على عبارة المؤلف محافظة على منهجه وإثباتا لما يتخلل السطور من مقاصده ونياته.
وسنرى بعد الإحاطة بآرائه ومقترحاته أن دعوة هذا المصلح العامل تنتظم في عداد «الفلسفات» التي اشتهر بها حكماء الإصلاح والنظر، ويصح أن تسمى بالفلسفة الكواكبية في سياق المذاهب والآراء التي تنسب إلى أصحابها من الحكماء، وإنما يختار لها اسم «البرنامج»؛ لأن فيها مزية ليست في مذاهب الفلسفة؛ إذ هي فلسفة محضرة للعمل، بليغة في باب الأعمال؛ لأنها توافق مقتضى الحال.
الفصل الرابع عشر
الدين
يتلخص الإصلاح الديني عند الكواكبي في تحرير الإسلام من الجمود والخرافة.
وأخطر آفات الجمود عنده أنه جعل المسلمين صورة مقلدة ونسخة مستعارة، فهم مسلمون لذمة أسلافهم وليسوا بالمسلمين لذمة أنفسهم، وهم مسلمون بالتبعية وليسوا مسلمين بالأصالة، يدينون بالإسلام انقيادا منهم لمن تقدمهم ولا يحسبون أنهم أهل للخطاب على حدتهم، وقد صدق فيهم ما نعاه الكتاب المبين على القائلين:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون .
وعلاج هذه الآفة أن يعاد بالدين إلى بساطته الأولى التي يسرت فهمه لمن تقبلوا دعوته في صدر الإسلام، ولا تزال تيسره لمن يدعون إليه على بساطته وسهولته بين أبناء الشعوب الفطرية.
ومن واجب المسلمين في كل زمن أن يفهموا دينهم وأن يعرفوا حكمة فرائضهم وعقائدهم، فليس من الإيمان الصحيح أن يحال الفهم على من سلف وأن ينقاد الخلف كله لغير ما عرف، ولا يكمل إيمان المسلم بغير الفهم والاجتهاد في كل موطن من العالم وفي كل حقبة من الزمن، فإن تعذر اجتهاد المسلمين جميعا فقيام العلماء بأمانة الاجتهاد فرض كفاية لا يسقط عن جيل من أجيالهم، ولا سلامة لمن يسقطونه عن أنفسهم.
ولا يعفى المقلد من الفهم الذي هو قادر عليه، فإن «العامة يهديهم العلماء مع بيان الدليل بقصد الإقناع، فالعلماء لا يجسرون على أن يفتوا في مسألة مطلقا ما لم يذكروا معها دليلها من الكتاب أو السنة أو الإجماع، حتى لو كان المستفتي أعجميا أميا لا يفهم ما الدليل، وطريقتهم هذه هي طريقة الصحابة كافة والتابعين عامة والأئمة المجتهدين والفقهاء الأولين من أهل القرون الأربعة أجمعين».
وللمقلد أن يختار بين أقوال المجتهدين ولا حرج عليه؛ «فإن البعض وصفوا المقلد لأحد المذاهب إذا أخذ في بعض الأحكام بمذهب آخر ملفقا، واستعملوا لفظة التلفيق في مقام التلاعب بالدين أو الترقيع القبيح، والحال ليس ما سموه بالتلفيق إلا عين التقليد من كل الوجوه، ولا بد لكل من أجاز التقليد أن يجيزه؛ لأنه إذا تأمل في القضية يجد القياس أنه هكذا يجب على كل مسلم عاجز عن الاستهداء في مسألة دينية بنفسه ويسأل عنها أهل الذكر ... وعلى هذا الاعتبار ما المانع للمسلم المقلد أن يتعلم كل مسألة من الطهارة والغسل والوضوء والصلاة من مجتهد أو فقيه تابع لمجتهد؟ ... ولا يعقل أن يكلف هذا المقلد بأخذ دينه كله من عالم واحد؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - مع اجتهادهم وتخالفهم في الأحكام كان يصلي بعضهم خلف بعض مع حكم المؤتم منهم حسب اجتهاده بعدم صحة صلاة إمامه.»
1 •••
ويرى الكواكبي بحق أن الجمود والخرافة لا محل لهما بين أتباع دين متسم بالبساطة والجلاء، يأخذه خاصتهم وعامتهم مأخذ الفهم والبينة على حسب عقولهم ومصالحهم، فإن التدين على هذا العرف بمثابة بعثة متجددة يتلقاها المسلمون أبدا وكأنهم هم المسلمون الأولون جيلا بعد جيل.
ولم يغفل الكواكبي عن خطته العملية لتحقيق الإصلاح في هذا الباب، فإنه يذكر صفة العالم الذي يؤهله علمه للاجتهاد بالرأي والإقناع بالدليل، ويذكر موضوعات الكتب ودرجات هذه الموضوعات التي يتكفل علماء الإسلام بنشرها للعمل بها أو لفائدة المقلدين على تفاوتهم في القدرة على الاستفادة من المطالعة والمراجعة.
فينبغي للعالم المجتهد:
أولا:
أن يكون عارفا باللغة العربية المصرية القرشية بالتعلم والمزاولة، معرفة كفاية لفهم الخطاب لا معرفة إحاطة بالمفردات ومجازاتها وبقواعد الصرف وشواذه والنحو وتفصيلاته والبيان وخلافاته والبديع وتكلفاته، مما لا يتيسر إتقانه إلا لمن يفني ثلثي عمره فيه، مع أنه لا طائل تحته ولا لزوم لأكثره إلا لمن أراد الأدب.
ثانيا:
أن يكون قارئا كتاب الله تعالى قراءة فهم للمتبادر من معاني مفرداته وتراكيبه، مع الاطلاع على أسباب النزول ومواقع الكلام من كتبها المدونة المأخوذة من السنة والآثار وتفاسير الرسول - عليه الصلاة والسلام - أو تفاسير أصحابه - عليهم الرضوان، ومن المعلوم أن آيات الأحكام لا تجاوز المائة والخمسين آية عدا.
ثالثا:
أن يكون متضلعا في السنة النبوية المدونة على عهد التابعين وتابعيهم أو تابعي تابعيهم فقط، بدون قيد بمائة ألف أو مائتي ألف حديث؛ بل يكفيه ما كفى مالكا في موطئه وأحمد في مسنده، ومن المعلوم أن أحاديث الأحكام لا تجاوز الألف وخمسمائة حديث أبدا.
رابعا:
أن يكون واسع الاطلاع على سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وأحوالهم من كتب السير القديمة والتواريخ المعتبرة لأهل الحديث كالحافظ الذهبي وابن كثير ومن قبلهم، وكابن جرير وابن قتيبة ومن قبلهم كذلك، والزهري وأضرابهم.
خامسا:
أن يكون صاحب عقل سليم فطري لم يفسد ذهنه بالمنطق والجدل التعليميين والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورية، وبأبحاث الكلام وعقائد الحكماء ونزعات المعتزلة وإغرابات الصوفية وتشديدات الخوارج وتخريجات الفقهاء المتأخرين وحشويات الموسوسين وتزويقات المرائين وتمريقات المدلسين.
وعلى العلماء المجتهدين أن ييسروا لكل من المقلدين أن يأخذ من أحكام الدين ما هو أهل لفهمه حسب طاقته، فيقسمون المسائل «على مراتب في متون مخصوصة فيعقدون لكل مذهب من المذاهب كتابا في العبادات ينقسم إلى أبواب وفصول تذكر في كل منها الفرائض والواجبات فقط، وتنطوي ضمنها الشرائط والأحكام بحيث يقال إن هذه الأحكام في هذه المذاهب هي أقل ما تجوز به العبادات، ويعقدون كتابا آخر ينقسم إلى عين تلك الأبواب، والفصول تذكر فيها السنن بحيث يقال إن هذه الأحكام ينبغي رعايتها في أكثر الأوقات، ثم كتابا ثالثا مثل الأولين تذكر فيه سنن الزوائد بحيث يقال إن هذه الأحكام رعايتها أولى من تركها. وعلى هذا النسق يوضع كتاب للمنتهيات يقسم إلى أبواب وفصول تعد فيها المكفرات والكبائر وكذا الصغائر والمكروهات، ومثل ذلك تقسم كتب المعاملات على طبقات من الأحكام الإجماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية، وبمثل هذا الترتيب يسهل على كل من العامة أن يعرف ما هو مكلف به في دينه فيعمل به على حسب مراتبه وإمكانه، وبهذه الصورة تظهر سماحة الدين الحنيف».
2 •••
ويؤخذ من جملة الشروح والمساجلات في كتابي «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» أن الكواكبي يهتم أشد الاهتمام بإغلاق الباب على طوائف الوسطاء المحترفين في المسائل الدينية؛ إذ لا منفذ لوساطة الوسطاء في دين يعرفه المجتهدون من أتباعه في كل زمن، ويعرفه المقلدون على بساطته الأولى مع السؤال عن الدليل الواضح عند التباس الأمر عليهم بين المباح والممنوع.
ولكن هؤلاء الوسطاء يكثرون ويتشعبون حيث يحاط الدين بالخفايا والأسرار، ويتوارى خلف حجب الغموض والتهويل، ويمتنع فيه الاجتهاد بالدليل والسند المعلوم، ومن ثم تنجم الحاجة إلى الوسطاء من أشباه الكهان وأدعياء الخوارق والكرامات ، ممن يستغلون الدين لخدمة أنفسهم أو لخدمة الحاكمين المسخرين لهم على سنة التبادل في المنفعة والتعاون على التضليل وقيادة الرعية المستسلمة بالتمويه والتضليل.
قال الأستاذ من فصل الاستبداد والعلم: «إن العوالم يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل، فإذا ارتفع الجهل زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبد رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب ورئيس عادل يخشى الانتقام.»
واستغلال الجهل على ضروب تتسع فيها الحيلة لطوائف شتى من المشعوذين والدجالين وأصحاب السحر والتعاويذ ممن تروج بضاعتهم مع الغفلة والرهبة وتنكشف حقيقتهم مع الفهم والحرية، ومنهم علماء السوء وأدعياء التصوف والعبادة وأشباههم من المدلسين الذين يسمون أنفسهم بأهل الباطن، ويعنيهم أن يجعلوا السحر حكرا؛ ليستأثروا بتجارته ويساوموا عليه في أسواق المطامع والدسائس مساومة الغبن والخداع.
قال من فصل الاستبداد والدين في طبائع الاستبداد: «إن قيام المستبدين من أمثال أبناء داود وقسطنطين في تأييد نشر الدين بين رعاياهم، وانتصار مثل فيليب الثاني الإسباني وهنري الثامن الإنجليزي ... والحاكم الفاطمي والسلاطين الأعاجم المنتصرين لغلاة الصوفية والبانين التكايا لم يكن ذلك كله إلا بقصد الاستعانة بالدين أو بأهل الدين على ظلم المساكين.»
ويرى الكواكبي أن المتشددين من رجال الدين مسئولون كالحكام المستبدين عن شيوع التصوف الفاسد بين العامة وأشباه العامة من المسلمين المتقدمين والمتأخرين؛ لأنهم جعلوا الدين حرجا ثقيلا على النفوس، فمهدوا الطريق لمن يبيحون المحظورات باسم العلم «الباطن» والمعرفة الخفية التي ترفع التكليف عن الواصلين إلى الهداية من غير طريق الشريعة الظاهرة، ولولا العنت المرهق من أولئك المتشددين لما راجت سوق التصوف المكذوب ... قال بلسان الشيخ السندي: «فبناء على هذا التضييق صار المسلم لا يرى لنفسه فرجا إلا بالالتجاء إلى صوفية الزمان الذين يهونون عليه الدين كل التهوين، وهم القائلون: إن العلم حجاب، وبلمحة تقع الصلحة، وبنظرة من المرشد الكامل يصير الشقي وليا، وبنفخة في وجه المريد، أو تفلة في فمه، تطيعه الأفعى وتحترمه العقرب التي لدغت صاحب الغار عليه الرضوان ، وتدخل تحت أمره قوانين الطبيعة، وهم المقررون بأن الولاية لا ينافيها ارتكاب الكبائر كلها إلا الكذب، وأن الاعتقاد أولى من الانتقاد، وأن الاعتراض يوجب الحرمان؛ أي إن تحسين الظن بالفساق والفجار أولى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من الأقوال المهونة للدين والأعمال التي تجعله نوعا من اللهو الذي تستأنس به نفوس الجاهلين.»
قال: «على أن الناس لو وجدوا الصوفية الحقيقيين - وأين هم؟ ... لفروا منهم فرارهم من الأسد؛ إذ ليس عند هؤلاء إلا التوسل بالأسباب العادية الشاقة لتطهير النفوس من أمراض إفراط الشهوات، وتصفية القلوب من شوائب الشره في حب الدنيا، وحمل الطبائع بوسائل القهر، والتمرين على الاستئناس بالله وبعبادته عوضا عن الملاهي المضرة؛ طلبا للراحة الفكرية والعيشة الهنية في الحياة الدنيا، والسعادة الأبدية في الآخرة، وأين التهوين السالف البيان لصوفية الزمان من هذه المطالب التهذيبية؟» •••
على أن مصلحنا العامل قد نجا به إيمانه من تلك النظرة الضيقة التي تغلب على كثير من المصلحين الواقعيين الذين يقصرون نظراتهم إلى الإصلاح الديني على الشعائر وظواهر العبادات، كديدنهم في الاهتمام بما تقع عليه المشاهدة ويحصره الحس والاكتفاء به عما وراءه من طوايا النفس وكوامن الضمير.
فلم يكن «الكواكبي» مصلحا دينيا على هذا النحو الضيق المحدود؛ بل كانت عنايته بالشعائر والظواهر المحسوسة سبيلا إلى تصحيح جوهر الدين في أصوله التي انطوت عليها الطبائع الإنسانية، وكان إيمان الضمير عنده هو قوام الدين كله، وفضيلة الإسلام في اعتقاده أنه دين الإيمان على خلاف أديان المراسم والتقاليد التي أفسدتها الوثنية وبقاياها، فأوشكت أن تصبح كلها أشكالا وصورا مجردة من روح العقيدة وهداية الإلهام.
فإذا انقسمت الديانات إلى ديانات إيمان وديانات مراسم وتقاليد، فالإسلام في طليعة الديانات التي يغلب فيها الإيمان على المراسم الشكلية والتقاليد النقلية، وتفتح الباب على مصراعيه لوساطة الكهان وسلطان الهياكل والمحاريب.
وفي غير موضع من مساجلاته يذكر هذا الإيمان الأصيل في البديهة الإنسانية، فهو تارة «ناموس شريف واحد مودع في فطرة الإنسان، وهو إذعانه الفطري للقوة الغالبة؛ أي معرفته الله بالإلهام الفطري الذي هو إلهام النفس رشدها وإلهامها فجورها وتقواها، ولا ريب أن لهذه الفطرة الدينية في الإنسان علاقة عظمى بشئون حياته؛ لأنها أقوى وأفضل وازع يعدل سائر نواميسه المضرة، ويخفف مرارة الحياة التي لا يسلم منها ابن أنثى ...»
ويعود بعد قليل فيقول: «إن النوع الإنساني مفطور على الشعور بجود قوة غالبة عاقلة لا تتكيف، تتصرف في الكائنات على نواميس منتظمة ... وإن هذا الشعور يختلف قوة وضعفا حسب ضعف النفس وقوتها، ويختلف الناس في تصور ماهية هذه القوة حسب مراتب الإدراك فيهم أو حسبما يصادفهم من التلقي عن غيرهم، وذلك هو الضلال والهداية، على أن الضلال غالب؛ لأن موازين العقول البشرية مهما كانت واسعة قوية لا تسع ولا تتحمل وزن جبال الأزلية والأبدية ...»
ثم يقول بعد استطراد: «إن أصل الإيمان بوجود الصانع أمر فطري في البشر كما تقدم، فلا يحتاجون فيه إلى الرسل، وإنما حاجتهم إليهم في الاهتداء إلى كيفية الإيمان بالله كما يجب من التوحيد والتنزيه.»
وقد ثبت عنده كما قال: «ما يقرره الأخلاقيون من أنه لا يصح وصف صنف من الناس بلا دين لهم مطلقا؛ بل كل إنسان يدين بدين إما صحيح أو فاسد من أصل صحيح، وإما باطل أو فاسد من أصل باطل ...»
ومن ثم يتلخص كل إصلاح ديني نهض به الكواكبي في تصحيح الإيمان واعتبار الشعائر والفرائض آية على صحة الإيمان، تدل على سلامته بمقدار سلامتها من تشبيهات الوثنية وعوارض الشرك والزيغ عن الوحدانية، ولا بقاء للظلم والفساد مع هذا الإيمان، ولكنهما قد يبقيان ويطول بقاؤهما مع قيام الشعائر التي فارقتها روح الدين ولم يتخلف منها غير الرسوم والأشكال.
قال في كلامه عن الاستبداد والترقي في طبائع الاستبداد: «ولا أظنكم تجهلون أن كلمة الشهادة والصوم والصلاة والحج والزكاة كلها لا تغني شيئا مع فقد الإيمان، إنما يكون القيام حينئذ بهذه الشعائر قياما بعادات وتقليدات وهوسات، تضيع بها الأموال والأوقات.» •••
هذا الإيمان هو قوة الإسلام، وهو مبعث الغيرة التي تثير المؤمن على البغي والغشم؛ لأنهما استعباد يأنف منه من يرفض العبادة لغير الله.
ولهذا يعقب الكواكبي بعد تلك العبارة قائلا: «إن الدين يكلفكم - إن كنت مسلمين - والحكمة تلزمكم - إن كنتم عاقلين - أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر جهدكم، ولا أقل في هذا الباب من إبطانكم البغضاء للظالمين والفاسقين.» •••
ومما يذكر من محرجات الإصلاح الديني في عصر الكواكبي بصفة خاصة، أن أزمته لم تكن أزمة إصلاح ولا أزمة شعب يعاني مشكلاته الاجتماعية من هذه الناحية، ولكنها كانت أزمة الدين نفسه؛ بل أزمة العقيدة الروحانية على اختلاف الأديان في بلاد الحضارة؛ لأنها كانت أزمة الاصطدام بين الدين والعلم من أواخر القرن الثامن عشر إلى الحقبة التي نشأ فيها الكواكبي في القرن الذي تلاه، ولاحقته آثاره ولم تزل تلاحقه إلى أخريات أيامه في أوائل القرن العشرين.
وقد اصطدمت العقائد الدينية في الغرب بكشوف العلم الحديث ومذاهب التفكير العصرية، فاضطربت الأفكار وشاعت الشكوك ونزع الكثيرون من الناشئين إلى التعطيل وإنكار الدين، واقترن الإنكار بإباحة المحرمات والترخص في الشهوات والاسترسال مع غواية الحياة المادية التي وافقت أهواء المنكرين، فخيل إلى الناس في أمم الحضارة الغربية أن الدين مسألة مفروغ منها قد لحقت بآثار القرون الغابرة، وأن التحدث عن الإصلاح الديني مشغلة فراغ يضيع فيها الوقت على غير جدوى.
واقتربت هذه الصدمة من الشرق مع اقتراب العلوم الحديثة والدعوات الاجتماعية المتطرفة، فكان لها أثرها الطبيعي بين المسلمين وغيرهم من الشرقيين على حسب نصيبهم من العلم العصري والتربية الدينية وتقاليد المعيشة البيتية.
فمن المتعلمين على النظم الأوروبية طائفة أخذت بالقشور من العلم الحديث، وقل نصيبها من معرفة الدين، واستهواها حب التشبه بالأقوياء الظافرين، وخلبتها فتنة الحضارة وزخرف الحياة المادية، فتحللت من أواصر دينها وهان عليها أمر العقيدة وأمر الوطن، فلم يبق لها من الغيرة الدينية ولا من النخوة القومية غير المظهر والعنوان.
والكواكبي ينفض يديه من هذه الطائفة ولا يرتجي منها خيرا لإصلاح دينها ولا لإصلاح دنياها، وفيها يقول من كلامه في الاجتماع الثامن من مؤتمر أم القرى: «وأما الناشئة المتفرنجة فلا خير فيهم لأنفسهم فضلا عن أن ينفعوا أقوامهم وأوطانهم؛ وذلك لأنهم لا خلاق لهم، تتجاذبهم الأهواء كيف شاءت، لا يتبعون مسلكا ولا يسيرون على ناموس مطرد؛ لأنهم يحكمون الحكمة فيفتخرون بدينهم، ولكن لا يعملون به تهاونا وكسلا، ويرون غيرهم من الأمم يتباهون بأقوامهم فيستحسنون عاداتهم ومميزاتهم فيميلون لمناظرتهم ولا يقوون على ترك التفرنج كأنهم خلقوا أتباعا، ويجدون الناس يعشقون أوطانهم فيندفعون للتشبه بهم في التشبيب والإحساس فقط دون التشبث بالأعمال التي يستوجبها الحب الصادق، والحاصل أن شئون الناشئة المتفرنجة لا تخرج عن تذبذب وتلون ونفاق يجمعها وصف لا خلاق ... والواهنة خير منهم متمسكون بالدين ولو رياء، وبالطاعة ولو عمياء.»
والجامدون الذين سماهم بالواهنة وقال عنهم إنهم متمسكون بالدين ولو من قبيل الرياء، يفترقون إلى فريقين؛ بين جاهل لا يعرف شيئا من العلم الحديث ولا من علوم دينه، ومتعلم درس الدين على أساتذة من المقلدين مزجوا الدين بالخرافة، ولم يسلموا من علل الوهن والنفاق، وكلا الفريقين يجهل علوم دينه كما يجهل علوم عصره، وتصدمه هذه العلوم الحديثة صدمة الجديد المستغرب فينفر منها ويتبرم بها ويحذرها حذره من الكفر البواح، ولا يكلف نفسه مئونة البحث؛ لأن مجرد البحث فيها مدرجة إلى الكفر وأحبولة من أحابيل الضلال.
وهذه الطائفة هي «المصاب» الذي يراد الإصلاح الديني لتقويمه وإخراجه من ظلماته، فلا أمل في معونته على رسالة الإصلاح.
والطائفة المثلى - ومنها الكواكبي - طائفة الرواد السابقين الذين أفلتوا من إرهاق الجمود وتمردوا على أوهام الخرافة واطلعوا على حظ حسن من العلم الحديث، فوضح لهم أنه يرتهن به التقدم وتستمد منه القوة التي يصول بها الأوروبيون على بلادهم، وأنه هو العلم الذي يدعوهم إليه كتابهم ويحضهم عليه في كل آية من آيات الأمر بالتفكير والتدبر والنظر في ملكوت السماء والأرض والعمل الصالح في سبيل الدين والدنيا.
وتنقسم هذه الطائفة أيضا إلى فريقين: أحدهما يرى أن العلم الحديث مطلب مباح، بل فريضة واجبة توافق الدين ولا تناقضه في جملتها ولا في تفصيلاتها.
والفريق الآخر يذهب وراء هذا الاعتقاد في العلوم الحديثة خطوة أو خطوات، فيحاول أن يبين مكانها من القرآن الكريم ، وأن يردها إلى آيات تحتويها وتتقبل التفسير بمعانيها، وكذلك صنع الكواكبي - رحمه الله - فيما كتبه بقلمه أو فيما أسنده إلى غيره، وأفاض فيه بكلامه عن الاستبداد والدين في طبائع الاستبداد حيث يقول: ... لو أطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات لرأوا في آيات القرآن آيات من الإعجاز، ورأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله:
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
برهان عيان لا مجرد تسليم وإيمان، ومثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبة وأمريكا، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه.
وذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان .
وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة، والقرآن يقول:
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ، إلى أن يقول:
وكل في فلك يسبحون .
وحققوا أن الأرض منفتقة في النظام الشمسي، والقرآن يقول:
أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما .
وحققوا أن القمر منشق من الأرض، والقرآن يقول:
أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ، ويقول:
اقتربت الساعة وانشق القمر .
وحققوا أن طبقات الأرض سبع، والقرآن يقول:
خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن .
وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض؛ أي ترتج في دورتها، والقرآن يقول:
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم .
وكشفوا أن التغيير في التركيب الكيماوي، بل والمعنوي، ناشئ عن تخالف نسبة المقادير، والقرآن يقول:
وكل شيء عنده بمقدار .
وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور، والقرآن يقول:
وجعلنا من الماء كل شيء حي .
وحققوا أن العالم العضوي - ومنه الإنسان - ترقى من الجماد، والقرآن يقول:
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين .
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات، والقرآن يقول:
خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ، ويقول:
اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ويقول:
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ، ويقول:
ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين .
وكشفوا طريقة إمساك الظل؛ أي التصوير الشمسي، والقرآن يقول:
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا .
وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء، والقرآن يقول بعد ذكره الدواب والجواري بالريح:
وخلقنا لهم من مثله ما يركبون .
وكشفوا وجود الميكروب وتأثيره في الجدري وغيره من المرض، والقرآن يقول:
وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل ... أي من طين المستنقعات اليابس.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية، وبالقياس إلى ما تقدم ذكره يقتضي أن كثيرا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون ...
هذه الفكرة الضافية عن التوفيق بين الإسلام والعلم الحديث هي إحدى الأفكار الأساسية في دعوة الكواكبي إلى الإصلاح في جميع نواحيه؛ إذ كان الإصلاح الديني عنده غير منفصل عن إصلاح المجتمع كله في شئونه الدنيوية، وكانت فكرة ملازمة له منذ أخذ في الاطلاع على مراجع العلوم العصرية، فإن اطلاعه على تلك الكشوف التي أحصاها جميعا لا يتم في وقت واحد، ولا بد له من أوقات متتابعة يتخللها النظر والتأمل ويعود إليها بالمراجعة والمقارنة، فإن لم تكن فكرته هذه مما استوحاه في مطالعاته الطويلة فلعله قد استوحاها من دعاة التوفيق بين الدين والعلم الذين سبقوه إلى النظر في مشكلات العقيدة والتفكير منذ دعت الحاجة إلى وحدة التشريع - كما حدث في الدولة العثمانية - للتوفيق بين الأقضية المختلفة التي تطبق على رعاياها حسب اختلافهم في الجنس والملة، وسواء خطرت له فكرة الوفاق بين الإسلام والعلم الحديث ابتداء من أثر مطالعاته الخاصة، أو كانت إحدى خواطر العصر الشائعة على ألسنة المستنيرين. لقد تطورت في ذهنه وعاود النظر فيها حينا بعد حين سنوات غير قليلة، فقد كانت في ذهنه قبل أن يكتب «أم القرى»، وظلت في ذهنه إلى أن أودعها مقالاته عن طبائع الاستبداد، وزاد عليها ما استفاده من مطالعاته في هذه الأثناء.
ومما يلاحظ أن هذه الكشوف العلمية التي أوجز الإشارة إليها يوشك أن تحيط بإحصاء كشوف العلم الحديث في المسائل الكونية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كأنه ينقلها من سجل محفوظ، وهي ملاحظة ينبغي أن نتنبه إليها؛ لنعلم منها قوة اندفاع الأفكار الحديثة إلى البلاد الشرقية ومبلغ سريانها بين من يعرفون اللغات الأوروبية ومن يجهلونها، فإن الكواكبي لم يكن على علم بلغة من اللغات الأوروبية يساعده على المطالعة فيها، ولكنه قرأ أخبار الكشوف الحديثة واستقصاها كما يستقصيها غير المختصين بها من الأوروبيين أنفسهم في بلادهم، وتلك علامة قوية من علامات الصدمة التي أحسها الشرق بعد هزيمته أمام الغرب في غارات الاستعمار، ولنا أن نقول إنها كذلك علامة على اليقظة السريعة بعد تلك الصدمة الوجيعة؛ لأن سريان الفتوح العلمية مع الفتوح السياسية تشهد للشرق شهادة حسنة بالقياس إلى زمانها، وأقل ما في هذه الشهادة أنه تلقى الصدمة مفتوح العينين ليرى - وهو متنبه من غفوته - جهد ما يقدر أن يراه.
وكان رد الفعل سريعا كما نتبين الآن من موقف الكواكبي وإخوانه رواد الدعوة إلى الإصلاح، كان رد الفعل بين مصلحي الإسلام أسلم وأقوم وأدعى إلى الثقة والرجاء من رده العنيف بين الأوروبين: هناك كانت الأزمة أزمة الدين عند كثير من اليائسين، وهنا لم تكن للدين أزمة عند عارفيه، ولكنها أزمة الجهلاء به وبالعلم الحديث بين أهله، أو كانت أزمة الإقناع والاستنهاض لمحاربة الجهل بالدين الخالد والعلم الحديث على السواء.
ويقتضينا تقدير الكواكبي في هذا المقام أن نذكر الفارق بين نظرته إلى العلوم الدخيلة التي طرأت على الفكر الإسلامي حوالي القرن الثالث للهجرة، وبين نظرته إلى العلوم الدخيلة التي تلقاها المسلمون والشرقيون بعد ذلك بعشرة قرون، وهي من علوم النهضة الأوروبية الحديثة.
إن هذا الفارق بين نظرة الكواكبي إلى أثر الفلسفة اليونانية وأثر العلم العصري لهو آية من الآيات العديدة على استقامة النظرة العملية في تفكير هذا المصلح الحكيم؛ لأنه يتجه إلى الهدف المقصود بعد تثبيته والتيقن منه، ولا يبدد فكره وعزمه فيما يتشعب حوله من مطارح الظنون وأباطيل الأوهام على غير طائل، وهدفه هنا هو الإصلاح الديني في تجربته العملية، وخلاصة هذا الإصلاح الديني أنه هو العودة بالإسلام إلى بساطته الأولى، وقوامها الأول إيمان الضمير.
فالكواكبي لا يحفل - أمام هذا الهدف - بفلسفة اليونان من الوجهة النظرية، ولا يقومها في ميزان دعوته بقيمتها في الورق أو قيمتها في رءوس طلابها المنقطعين لها، وإنما يحكم على أثرها في التفكير الإسلامي حين يحكم على مذاهب أتباعها من المسلمين، وعلى أخلاط الوثنية التي اصطبغت بصبغتها واتخذت لها ألوانا من التصوف الكاذب، ومن التعمق الأجوف الذي تأباه بساطة الإسلام.
فالفلسفة اليونانية في ميزانه هي تلك الأخلاط العقيمة التي قال عنها بلسان المحدث اليمني وهو يصف العالم المجتهد ويشترط فيه: «أن يكون صاحب عقل سليم فطري لم يفسد ذهنه بالمنطق والجدل التعليميين، والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورية، وبأبحاث الكلام وعقائد الحكماء ونزعات المعتزلة وإغرابات الصوفية وتشديدات الخوارج وتخريجات الفقهاء المتأخرين وحشويات الموسوسين ...»
وهي التي عناها حين قال بلسان البليغ القدسي عن الدخلاء: «إنهم رجحوا الأخذ بما يلائم بقايا نزعاتهم الوثنية فاتخذ العمال السياسيون - ولا سيما المتطرفون منهم - هذا التخالف في الأحكام وسائل للانقسام والاستقلال السياسي؛ فنشأ عن ذلك أن تفرقت المملكة الإسلامية إلى طوائف متباينة مذهبا، متعادية سياسة، متكافحة على الدوام، وهكذا خرج الدين من حضانة أهله، وتفرقت كلمة الأمة فطمع بها أعداؤها ...»
وتلك الفلسفة التي جعل صلاح المسلمين مرهونا بتطهير العقيدة الإسلامية من بقاياها؛ هي منطق الجدل الذي قال إن الغربيين أهملوه وحققوا أنه لا ثمرة له «مع أنهم يعتنون بالبحث عن وسائط تفاهم العجماوات».
ونحسب أن حسنات المنطق وفلسفاته التي تتشعب منه أحرى أن تقبح في عيني أنصاره وعشاقه إذا وازنوا بين فوائده ومضاره، كما لمسها الكواكبي في عصره وفيما تقدمه من عصور الثقافة الإسلامية ... فإن أحسن ما في المنطق وفلسفاته الجدلية لا يعدو أن يكون تمرينات عقلية يتدرب بها الذهن على فتح أبواب البحث في المسائل النظرية ومسائل الغيب - أو ما وراء الطبيعة - التي قلما تسفر عن نتيجة قاطعة في موضوع من موضوعاتها، ومن خصائص هذه الموضوعات أنها ثقافة فردية يديرها المفكر في تأملاته بينه وبين نفسه، ولا تتألف منها دراسة عامة تتداولها الجماعات وتنتفع بها في مرافقها ومطالب تفكيرها، وقد غابت هذه الفلسفات الجدلية عن ميادين الثقافة الأوروبية قبل النهضة العلمية، فلم يكن غيابها ليعوق ظهور العلوم التجريبية، ولا ليعوق ظهور الصناعات والمخترعات التي تفتقت عنها تلك العلوم؛ بل يجوز أن يقال إن تلك العلوم قد ظهرت على الرغم من اعتراض المناطقة والمتفلسفين عليها وإنكارهم لوسائلها وأساليبها؛ إذ كان المناطقة المتفلسفون يصرون على آرائهم التي تقوم على براهين الجدل والمناظرة ويرفضون ما عدا تلك الآراء من قواعد البحث والتجربة، فغياب الفلسفات الجدلية لم يعطل في الغرب نهضة العلوم والصناعات؛ بل قليلها الذي بقي بين أنصاره وعشاقه هو الذي عطلها وأوشك أن يغلق عليها منافذها.
وهذه هي الفلسفات المنطقية على أحسنها في أضيق حدودها، فلا جرم تنزوي عن أعين أنصارها وعشاقها - فضلا عن منكريها - إذا حكموا عليها بأضرارها ونظروا إلى جرائرها التي تخلفت عنها كلما وصلت إلى عقول الجماعات وتلبست بالمذاهب والمعتقدات، وانتشرت على الصورة التي تنتشر بها الأفكار بين العامة وأشباه العامة، وتنتقل بها من لغة الرموز الخيالية والفروض المحتملة إلى لغة الواقع المجسم والشعائر المحسوسة والأشباح الظاهرة التي تعقلها الجماعات ولا تعقل فيما بينها فكرة مشتركة سواها.
إن أضرار الفلسفات الجدلية كانت حقيقة واقعة في كل أمة تسربت إليها، وكان أثرها في الأمة الإسلامية شبيها بأثرها بين اليهود وبين المسيحيين وبين أتباع «زرادشت» من المتقدمين والمتأخرين، لحاجة لا تنتهي وخصومات لا تنحسم ومماحكات على الصغائر والسفساف من القول لا طائل تحتها على حالي الثبوت أو البطلان، وجملة ما يقال عن آثارها في عالم العقيدة أنها تفسد بساطتها وتشوب صفاءها، وعن آثارها في عالم الثقافة أنها تثير المشكلات ولا تحلها، وتشغل مكان العلم ولا تئول به إلى عمل مفيد.
والنظرة العملية في طبيعة الكواكبي هي التي زهدته في ذلك المنطق وفلسفاته، وأوحت إليه أن البحث في لغة الحيوان الأعجم أولى وأصلح من البحث فيها، وقد تأصل في روعه هذا الرأي الثابت نتيجة لمطالعاته ونتيجة لمشاهداته الملموسة في وقت واحد.
فمن مطالعاته عرف غوائل الفتن التي أشاعها في العالم الإسلامي جدل المتفلسفين حول مسألة القدر ومسألة الصفات ومسألة القرآن وخلقه ومسألة الآيات وتأوليها، وأشباه ذلك في مسائل الإمامة الصريحة والمستورة أو الشريعة الظاهرة والعاطفة أو القياس والتقليد، وما انتهت إليه هذه المسألة خاصة من اجتراء المقلدين على رأي لم يجترئ عليه أعظم المجتهدين، وهو الرأي القائل بتحريم الاجتهاد على المسلمين جميعا بعد عصر التابعين، أو على الأكثر بعد تابعي التابعين.
ومن مشاهداته المحسوسة عرف وبال التصوف الكاذب والفلسفة الناقصة على ألوف من معاصريه الذين تلقفوا البدع وتوارثوها من دعاة العلوم الدخيلة بين وثنية ويونانية؛ فقد كان من وبال التصوف الكاذب والفلسفة الناقصة أنه هدم العلم والعمل، وأفسد الدين والخلق، وأشاع البطالة والإباحة بين من يسمون البطالة «اتكالا على الله»، ويسمون الإباحة وصولا يسقط الحدود ويسمح بالرخصة في المحظورات.
رأى الكواكبي أثر العلوم الدخيلة في النوبتين الأولى والثانية، فاحتكم إلى الواقع وإلى النتيجة العملية في موقفه الحاسم بينهما؛ فأما العلوم الدخيلة فيما مضى فقد كان أثرها مفسدة للعقيدة في بساطتها ومدرجة إلى العجز والفتنة في الحياة العامة، وأما العلوم الدخيلة في عصره فقد كان أثرها الواضح قوة لأصحابها وغلبة لهم على الجاهلين بها، وهداية إلى المصلحة والعمل والمعرفة بأسباب الحياة الواقعة، ولم تكن هذه المعرفة عنده بحاجة إلى برهان يؤيدها غير نتائجها الماثلة في سياسة الأمم وصناعتها وأدوات نجاحها واقتدارها.
فليست مهمة المصلح الحكيم أن يحارب هذه العلوم الدخيلة كما حارب أخوات لها من قبل، ولكن مهمته على نقيض ذلك؛ أن يرحب بها ويجتهد في نقلها واقتباسها ويتخذها سبيلا من سبل الإصلاح، وينظر كيف يقنع باسم الدين من يعارضون الإصلاح باسم الدين؛ لأنه جديد ولا محل للجديد عند الجامدين على القديم.
وقد كان موقفه حيال العلوم الحديثة أصح وأصدق من المعارضين لتلك العلوم من رجال الدين الجامدين في أمم العصر الحديث، ولا سيما الأمة الإسلامية. هم يقولون عن كل جديد إنه باطل، وإنه يناقض الكتب المقدسة والوصايا المأثورة، وهو من وقف كموقفه يرد التهمة على أصحابها وينعى عليهم أنهم يعارضون العلم والقرآن معا؛ لأن العلم والكتاب يتفقان، وما كشفه العلم حديثا يجدد ما سبق به الكتاب، أو أشار إليه.
وكان الكواكبي موفقا في توفيقاته؛ لحسن فهمه كتاب دينه، وحسن اطلاعه على كشوف العلم الحديث في عصره، ولم يحدث بعد عصره ما يدعو إلى شيء من الاستدراك على موقفه إلا التفرقة في عصرنا هذا بين النظريات العلمية ومقررات العلم التي بلغت من الثبوت أن تحسب من القوانين الطبيعية أو نواميس الوجود المتفق عليها، فإذا جاز أن نوفق بين حقائق الكتاب وحقائق العلم المقررة؛ فمن الحسن أن نصطنع الأناة قبل التوفيق بين الكتاب وبين النظريات التي يتناولها البحث ويتطرق إليها الخلاف بين وجهات النظر ومعارض الآراء، ونذكر على سبيل المثال تفسير السموات السبع بالسيارات السبع، أو تفسير طبقات الأرض في علم «الجيولوجية» بالسبع الطباق؛ فإن الكشوف الفلكية قد زادت عدد السيارات ولا تزال تزيدها مع إحكام الرصد وتعميم النظر إلى طوارق المنظومة الشمسية من المذنبات والنجيمات، وهم يحسبون اليوم سيارات المنظومة الشمسية ثمانيا، عدا الكرة الأرضية والنجيمات، ويحدث مثل ذلك في حساب طبقات الأرض على حسب تعريف الطبقة ومكانها من مدار الكرة الأرضية، فإذا كان من الثابت أن القرآن الكريم لم يشتمل على آية تمنعنا أن نتقبل حقائق العلم، فقد يقع الخلاف فيما يحسب من الحقائق العلمية وما يحسب من نظريات البحث والتجربة، وقد يدعو الأمر حتما إلى التفرقة الدائمة بين الحقائق والنظريات، وحسبنا من كتابنا المبين أنه يأمرنا بالبحث في العلم ولا يصدنا عن حقائقه ولا نظرياته ولا عن التوسل بمحاولة من المحاولات لتمحيص تلك الحقائق أو النظريات.
وبعد نيف وخمسين سنة من قيام الدعوة الكواكبية لا يزال أساسه القويم الذي اختاره للإصلاح الديني صالحا للبناء عليه: عقيدة خالصة من شوائب الجهل والسفسطة، تؤمن بدينها ودنياها على بصيرة.
الفصل الخامس عشر
الدولة
الكلام على الدولة وعلى نظام الحكم شيء واحد في مصطلحات السياسة على إجمالها، ولكنه لم يكن شيئا واحدا في كلام الكواكبي ومعاصريه؛ لأن كلمة الدولة كانت تعني عندهم «الدولة العثمانية» إذا أرسلت على إطلاقها، وكانت لها مسألة خاصة مستقلة بشئونها عن شئون النظم الحكومية، يحددها مركز الدولة العثمانية الذي كان في أخريات أيامها على الخصوص نمطا عجيبا بين الأنماط الدولية يندر نظيره بين دول الشرق والغرب بما لها من تكوين فريد في رئاسة الدولة وأجناس الرعايا وقوام السلطة ومواقع البلاد بين القارات الثلاث: أوروبة وآسيا وأفريقيا.
كانت الدولة العثمانية سلطنة أو «إمبراطورية» متشعبة تجمع ألفافا من الأمم التي تختلف بأجناسها وأديانها ولغاتها ومصالحها، ويدل على مبلغ تشعبها وانقسامها أن الأمم التي خرجت منها واستقلت عن سيادتها بعد ثورات الاستقلال وتقرير المصير زادت على عشر أمم ذات عشر حكومات.
وكان اسم الدولة العثمانية يطلق عليها؛ لأن حكامها من بني عثمان قبيلة تركية تنعقد ولاية الأمر فيها لسلطانها وقائد جيشها من أبناء قومه؛ إذ كان الرعايا الآخرون بمعزل عن جيش الدولة، لا يشتركون في هيئة عسكرية - غير الكتائب المحلية - إلا جنودا متفرقين لا يتجمعون معا في فرقة مستقلة.
وكان رئيس الدولة يضيف إلى ولاية السلطنة وقيادة الجيش صفة الخلافة الدينية ولقب «أمير المؤمنين».
وهي على هذا المركز الحرج تواجه الدول الأوروبية مواجهة العدو القديم الذي تتربص به الدوائر وتتألب عليه لتقسيم بلاده بينها أو لإدخالها في دوائر نفوذها وحمايتها، وقد كاد اسم «الرجل المريض» يغلب على هذه الدولة ويصبح علما عليها يجهرون به في خطبهم وأقوال صحفهم، ولا يتكلفون كتمانه في معاملاتهم وصفقات التبادل والمساومة بينهم، وسميت بلادها باسم «تركة الرجل المريض»؛ تعجيلا بقسمتها وتوزيع حصصها عليهم قبل أن يتنازعوها، إذا وقع القضاء المحتوم بين ساعة وأخرى.
كان اسم «الدولة» يدور على الألسنة بين رعاياها فتنصرف الأذهان إلى حاضرها ومصيرها في هذا المركز العجيب الذي يؤذن بالزوال - أو بالتبديل على الأقل - في كل آونة، ولا يؤذن بالاستقرار أو بالطمأنينة إليه.
ومن ثم أصبحت للدولة مسألة خاصة مستقلة عن مسألة النظم الحكومية أو النظم السياسية في ولاياتها.
أصبحت مسألتها مسألة «السلطان» أو الإمبراطور أو أمير المؤمنين الذي يتولاها، وأصبحت بنية الدولة التي تتكون منها تابعة للصفة التي يتصف بها ولي الأمر؛ سلطانا أو إمبراطورا أو أمير مؤمنين.
علام تعتمد الدولة في تكوينها؟ أعلى الأشتات من الأجناس المتفرقة التي لا تجمعها جامعة واحدة؟ أعلى الجامعة الطورانية إذا كان لا بد لها من جامعة سياسية أو روحية تسندها بين أجزائها؟ أعلى الجامعة الإسلامية؟ أعلى الوحدة الائتلافية؟ أعلى التسليم بالواقع وانتظار المجهول في مهاب الأقدار؟
لا بد من مبدأ أساسي من هذه المبادئ يركن إليه صاحب الدعوة إلى المستقبل ويبني دعوته عليه.
وقد كان برنامج الكواكبي في هذه المسألة صريحا محدودا لا تخفى منه خافية على من يعتزم العمل فيه، وكل ما اتخذه من الحيطة لهذا الأمر الجلل أنه أعلن قواعده وترك نتائجه المحتومة تنكشف في حينها، وهي غير مجهولة.
وهو يقيم برنامجه في مسألة الدولة والخلافة على هذه القواعد الثلاث: (1)
أن ينفصل الملك عن الخلافة. (2)
وأن تعود الخلافة إلى الأمة العربية. (3)
وأن تقوم الخلافة على أساس الانتخاب والشورى والتعاون المتبادل على سنة المساواة بين الأقطار الإسلامية.
ويستند في كل قاعدة من هذه القواعد إلى مراجعه التاريخية كما يستند إلى مقتضيات الضرورة العملية في أحوال العالم الحديث.
فهو يقرر من تحصيله التاريخي أن خلافة بني عثمان لم تنعقد بها بيعة من حكومات المسلمين ولا من رعاياها، فلا يقبلها ملوك إيران والمغرب وأئمة الجزيرة العربية الذين لم يخضعوا لسيادة الدولة التركية، ولا يذكرها المسلمون في صلاة الجمعة إلا حيث يدينون لتلك السيادة في أوضاعهم السياسية، ولم يحدث قبل السلطان محمود العثماني أن تلقب أحد من سلاطين القسطنطينية بلقب الخلافة وإمارة المؤمنين ؛ «إذ صار بعض وزرائه يخاطبونه بذلك أحيانا تفننا في الإجلال وغلوا في التعظيم، ثم توسع استعمال هذه الألقاب في عهد ابنيه وحفيديه إلى أن بلغ ما بلغه اليوم بسعي أولئك الغشاشين الذين يدفعون ويقودون حضرة السلطان الحالي للتنازل عن حقوق راسخة سلطانية لأجل عنوان خلافة وهمية مقيد في وضعها بشرائط ثقيلة لا تلائم أحوال الملك، معرضة بطبعها للقلقلة والانتزاع والخطر العظيم ...»
ويرى من تحقيقه التاريخي أن ساسة الترك لا يقصدون «غير التلاعب السياسي وقيادة الناس إلى سياستهم بسهولة، وإرهاب أوروبة باسم الخلافة واسم الرأي العام ...»
قال بعد أن بين أن مآرب الملك غلبت في تاريخ الدولة العثمانية على واجبات الخلافة كما تمليها مصالح الأمم الإسلامية على من يستطيع رعايتها: «إني أذكر لك أنموذجا من أعمال لهم أتوها رعاية للملك وإن كانت مصادمة للدين ... فهذا السلطان محمد الفاتح - وهو أفضل آل عثمان - قد قدم الملك على الدين فاتفق سرا مع فرديناند ملك الأراغون الإسبانيولي ثم مع زوجته إيزابيلا على تمكينهما من إزالة ملك بني الأحمر آخر الدول العربية في الأندلس ... مقابلة ما قامت لديه روما من خذلان الإمبراطورية الشرقية عند مهاجمة مكدونيا ثم القسطنطينية، وهذا السلطان سليم غدر بآل العباس واستقصاهم، حتى إنه قتل الأمهات لأجل الأجنة، وبينما كان هو يقتل العرب في الشرق كان الإسبانيون يحرقون بقيتهم في الأندلس، وهذا السلطان سليمان ضايق إيران حتى ألجأهم إلى إعلان الرفض ... ثم لم يقبل العثمانيون تكليف نادر شاه لرفع التفرقة بمجرد تصديق مذهب الإمام جعفر، كما لم يقبلوا من «أشرف» خان الأفغان اقتسام فارس؛ كي لا يجاورهم ملك سني، وقد سعوا في انقراض خمس عشرة دولة وحكومة إسلامية ... وأعانوا الروس على التتار المسلمين وهولاندة على الجاوة والهنديين، وتعاقبوا على تدويخ اليمن ... وباغت العسكر العثماني المسلمين مرة في صنعاء والزبيد وهم في صلاة العيد ...»
قال: «أليس الترك قد تركوا الأندلس مبادلة وتركوا الهند مساهمة وتركوا الممالك الجسيمة الآسيوية للروسيين، وتركوا قارة أفريقيا الإسلامية للطامعين وتركوا المداخلة في الصين كأنهم الأبعدون.»
ولم يشأ الكواكبي أن يفرق بين ضرورات الواقع وبين دواعي الاختيار في هذه الأعمال ؛ لأنه نظر إلى النتيجة التي يقيم عليها حجته، وهي فشل التصدي لواجبات الخلافة مع قيود الملك ومأزق السياسة وصعوبة الوحدة الجامعة بين دول الإسلام. •••
وإذا كان انفصال الخلافة عن الدولة ضرورة قاسرة ومصلحة مختارة فليس أولى بالخلافة من الأمة العربية ... وقد تبسط الكواكبي في سرد الشروط والأسباب التي قضت أحوال الحكومات الإسلامية وشعوبها في عصره بملاحظتها، ولكن الغاية الجوهرية التي لا ترتبط بتلك الأحوال تتلخص فيما يلي: (1)
أن يكون الخليفة عربيا. (2)
وأن يكون اختياره بالانتخاب. (3)
وأن تكون وظيفته روحية. (4)
وأن يعاونه مجلس شورى تتمثل فيه جميع الشعوب الإسلامية. (5)
وأن تنفذ وصاياه طواعية في المسائل الدينية، ولا تتعرض في تنفيذها للمشكلات السياسية.
ولا بد من التمهيد لقيام الخلافة بإعداد الأذهان في العالم الإسلامي لقبول هذا النظام، وإيثاره على نظم التقاليد التي فرضتها مآرب أصحاب السلطان ودسائس الدعاة المغرضين بعد عصر الخلفاء الراشدين، وتتصدى لهذه المهمة جماعة منظمة تعمل أساس الشورى والاختيار وتتخذ مقرها في ميناء متوسط كبورسعيد أو الكويت، ثم تعلن دعوتها وتبلغها إلى ولاة الأمور في الأقطار الإسلامية.
ويظهر من تفصيل الخطط التي رسمها الكواكبي للتدرج في تحقيق وظيفة الخلافة على هذه الصورة أنه كان شديد الحذر من مقاومة الدول الكبرى التي تعنيها مسألة الخلافة الإسلامية، وأنه أفرط في الحذر أحيانا؛ فقدم حساب التقية والمجاملة على كل حساب يشغله في حينه، ولم يخالف الحقيقة حين اهتم بتفسير فريضة الجهاد على النحو الذي يزيل مخاوف الدول ومخاوف الأمم من غير المسلمين على التعميم؛ فقد أصاب حين قال:
إنه ليس في علماء الإسلام مطلقا من يحصر معنى الجهاد في سبيل الله في مجرد محاربة غير المسلمين؛ بل كل عمل شاق نافع للدين والدنيا، حتى الكسب لأجل العيال، يسمى جهادا، وبذلك يعلمون أن قصر معنى الجهاد على الحروب كان مبنيا على إرادة الفتوحات ... كما أعطى اسم الجهاد مقابلة لاسم الحروب الصليبية ...
وكذلك أصاب حيث قال:
إن أصل الإسلامية لا يستلزم الوحشة بين المسلمين وغيرهم، بل يستلزم الألفة ... وإن العرب أينما حلوا في البلاد جذبوا أهلها بحسن القدوة والمثال لدينهم ولغتهم ...
ولكنه بالغ في دفع الخوف واتقاء المقاومة حين استطرد قائلا:
إن العرب لم ينفروا من الأمم التي حلت ببلادهم وحكمتهم، فلم يهاجروا منها كعدن وتونس ومصر بخلاف الأتراك؛ بل يعتبرون دخولهم تحت سلطة غيرهم من حكم الله؛ لأنهم يذعنون بكلمة ربهم تعالى شأنه:
وتلك الأيام نداولها بين الناس .
ثم كشف عن أسباب تلك المبالغة في التقية حين قال بعد ذلك:
فإذا علم السياسيون هذه الحقائق وتوابعها لا يتحذرون من الخلافة العربية؛ بل يرون من صوالحهم الخصوصية وصوالح النصرانية وصوالح الإنسانية أن يؤيدوا قيام الخلافة العربية بصورة محدودة السطوة مربوطة بالشورى على النسق الذي قرأته.
فالكواكبي «الدبلوماسي» السياسي هنا أظهر من الكواكبي الثائر، و«أم القرى» هنا أسلوب من العمل غير أسلوب «طبائع الاستبداد»؛ فإن الكواكبي الثائر لم يقبل من المسلم أن يذعن للغضب والسيطرة في حكومة مسلمة، ولم يحمد منه أن يستكين لتداول الدول وحكم الأيام جهلا بمعنى التسليم للقضاء، وإنما هي مزالق الحيلة لا تؤمن مزلتها في طريق الثورة، ولا سلامة من عثراتها قبل استوائها على جادتها المثلى.
على أن الكواكبي الثائر كاد أن يتكشف لقارئه في «أم القرى» وفي صدد الكلام على الخلافة والدول الأجنبية، حيث قال وهو يتكلم عن القضية الخامسة والأربعين: «إذا صادفت الجمعية معارضة في بعض أعمالها من حكومة بعض البلاد - ولا سيما البلاد التي هي تحت استيلاء الأجانب - فالجمعية تتذرع «أولا» بالوسائل اللازمة لمراجعة تلك الحكومة وإقناعها بحسن نية الجمعية، فإذا توفقت لرفع العنت فيها، وإلا فلتلجأ الجمعية إلى الله القادر الذي لا يعجزه شيء ...»
ومراد الكواكبي من عبارته هذه واضح عند من يفهم أن اللجوء إلى الله «القادر الذي لا يعجزه شيء» يعني كل شيء غير التسليم والنكوص عن العمل الذي بدأ وتقدم وتمت له أسباب التدبير. •••
إلا أن القارئ يستطيع أن ينفذ إلى الغاية الجوهرية في أمر الدولة والخلافة من وراء الخطط أو النماذج العملية التي تصلح لبعض الأزمنة ولا تصلح لغيرها، والتي رسمتها الحوادث للكواكبي ولم يرسمها لنفسه باختياره، ولعله كان يعيد فيها النظر لو تراخى به الأجل فيمحو منها ويثبت ويزيد عليها وينقص منها، ولا يدعها لخلفائه - بأية حال - على الصورة التي بقيت لنا بعد نصف قرن من وفاته.
فإذا نفذ القارئ من وراء تلك الخطط الموقوتة إلى الغاية الجوهرية، فلا نزاع في تلك الغاية ولا في الإيمان بأن الوصول إليها هو مبعث الدعوة التي اضطلع بها وصمد عليها، وخلاصتها في كلمات معدودات: أن دعوى الخلافة في القسطنطينية لا ينبغي أن تعوق الأمة العربية عن نهضة الإصلاح والحرية.
الفصل السادس عشر
النظام السياسي
علوم السياسة أقرب العلوم إلى أن تكون «اختصاصا» للكواكبي بين دراسات عصره، نفهم ذلك من كلامه في مقدمة «طبائع الاستبداد»، كما نفهمه في مباحث الكتاب كله؛ لأنها مباحث مشروحة على إيجازها لا يجول فيها قلم كاتب لم يتوسع في هذه الدراسات.
ولكننا قد علمنا من طبيعة تفكير الكواكبي أنه يدرس ليعمل وينفذ، أو ليدل على وسائل العمل والتنفيذ؛ فكل ما كتبه في موضوعات العلم السياسي فهو من قبيل «المذكرات الإيضاحية» التي تبين حدود العمل المطلوب وتبين الطريقة التي تتبع في تنفيذه، وما عدا ذلك من مباحث النظر والتأمل فقد بقيت في كتاباته المعروفة «رءوس موضوعات» لم يتسع له الوقت لاستيفائها، ولعله لم يجد من لوازم عمله أن يستوفيها على المنهج المدرسي كما يصنع الباحث الذي يدرس الموضوع ليؤلف فيه أو ليضطلع بتعليمه والإقناع به من الوجهة النظرية، وإنما أحالها بعناوينها المجملة لمن يريد أن يرجع إليها في مصادر التخصص والبيان ليصحح النظر أو ليحقق وسائل العمل المتفق.
ومن قبيل هذه المباحث التي تركها «رءوس موضوعات» في الصفحات الأخيرة من «طبائع الاستبداد» قوله في مبحث الحقوق العمومية: «هل للحكومة صفة المالكية؛ أم صفة الأمانة والنظارة على الأملاك العمومية؛ مثل الأراضي والمعادن والأنهر والسواحل والقلاع والمعابد والأساطيل والمعدات، ومثل حقوق المعاهدات والاستعمار، ومثل حقوق إقامة الحكومة وتأمين العدالة وتسهيل الترقي الاجتماعي وإيجاد التضامن الإفرادي، إلى غير ذلك مما يحق لكل فرد أن يتمتع به وأن يطمئن؟»
ومن هذه المباحث قوله عن توزيع السلطة: «هل يجمع بين سلطتين أو ثلاث في واحد؟ أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان ولا يجوز الجمع منعا لاستفحال السلطة؟»
وقد أثبت من عناوين هذه المباحث خمسة وعشرين عنوانا قال عنها: «إن كلا منها يحتاج إلى تدقيق عميق وتفصيل طويل وتطبيق على الأحوال والمقتضيات الخصوصية.»
ثم مضى قائلا إنه ذكر «هذه المباحث تذكرة للكتاب ذوي الألباب وتنشيطا للنجباء على الخوض فيها بترتيب؛ اتباعا لحكمة إتيان البيوت من أبوابها، وإن اقتصر على بعض الكلام فيما يتعلق بالمبحث الأخير منها فقط، أعني مبحث السعي في رفع الاستبداد».
وإنما خص هذا المبحث الأخير لأنه يمس فيه الوسيلة العملية التي لا يكفي فيها مجرد التأمل وتقليب وجوه النظر في مختلف الآراء، وذلك شأنه في كل ما يكتبه عند وجوب التفرقة بين ما يدرس وما يعمل، ووجوب التفرقة أيضا بين ما يشرع في عمله وبين ما يؤجل إلى حين ليعمل في أوانه.
ولا ننسى أن الكواكبي كان يكتب ما ينوي إعلانه في بلاد تابعة للسيادة العثمانية، سواء منه ما كتبه في حلب قبل هجرته الأخيرة، وما كتبه في مصر باسمه الصريح أو باسم مستعار، فلم يكن في وسعه أن يعلن ما يمنعه القانون ويمنعه العرف الشائع بين الناشرين، ومنهم أصحاب الصحف والمطابع التي تدين بالولاء للدولة صاحبة السيادة، ولكنه كان يتحرى التعبير عن رأيه بالأسلوب الذي يدل عليه دلالة لا شك فيها دون أن يخرج بالنص المكتوب عن حدوده القانونية. وعلى صعوبة التعبير البين عن خطط الثورة لم يكن برنامجه في مسألة النظام السياسي بالبرنامج المجهول عند قرائه، ولو لم يكن منهم من يلقاه ويسمع منه الرأي الصريح فيما يريده وفيما يراه.
فلم يكن أصرح - في حدود القانون - من دعوته للعرب إلى الاستقلال بحكم أنفسهم حيث يقول في «أم القرى»: إن التطابق في الجنس بين الراعي والرعية «يجعل الأمة تعتبر رئيسها رأسها، فتتفانى دون حفظه ودون حكم نفسها بنفسها حيث لا يكون لها في غير ذلك فلاح أبدا كما قال الحكيم المتنبي:
وإنما الناس بالملوك ولا
يفلح عرب ملوكها عجم
ومما لا خلاف فيه أن من أهم حكمة الحكومات أن تتخلق بأخلاق الرعية وتتحد معها في عوائدها ومشاربها».
بل هو يصرح بما هو أقوى من ذلك وأدل على رأيه في حكومة عصره التركية؛ إذ يقول: إن التطابق بين الراعي ورعيته من العرب هو الواقع الممكن الذي لا محيد للحاكم عنه، وليس قصارى الأمر فيه أنه سياسة حسنة أو نصيحة مستحبة، ويستشهد بذلك بالحكومات - غير العربية - التي حكمت العرب قبل الترك العثمانيين؛ إذ يذكر آل بويه والسلجوقيين والأيوبيين والغوريين والأمراء الجراكسة وآل محمد علي، ثم يقول: «فإنهم ما لبثوا أن استعربوا وتخلقوا بأخلاق العرب وامتزجوا بهم وصاروا جزءا منهم، وكذلك المغول التاتار صاروا فرسا وهنودا، فلم يشذ في هذا الباب غير المغول الأتراك؛ أي العثمانيين، فإنهم بالعكس يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم لهم، فلم يسعوا باستتراكهم كما أنهم لم يقبلوا أن يستعربوا، والمتأخرون منهم قبلوا أن يتفرنسوا أو يتألمنوا، ولا يعقل لذلك سبب غير شديد بغضهم يستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم.» •••
ولا حاجة بالكواكبي بعد هذا البيان عن ضرورة التطابق بين الراعي والرعية إلى كلمة صريحة أو غامضة لجلاء الوجهة التي ينبغي أن تنتهي إليها مساعي العرب في يقظتهم، فلا بد أن يفلحوا ... ولن يفلحوا وهم عرب يملكهم عجم ... وملوكهم القائمون بالأمر لا يستعربون ولا يروقهم أن «يستترك» رعاياهم، ومنهم من يؤثر أن يتفرنس ويتألمن ويتجه نحو الغرب ولا يحول وجهته إلى قبلة شرقية.
فالغاية الماثلة أمام المجاهدين في سبيل اليقظة العربية هي «الاستقلال» وإقامة الدولة التي يقيمها العرب ويرعاها العرب، والمطالبة في انتظار تحقيق هذه الغاية بخير ما يمكن من وجوه الإصلاح التي تزيل أسباب الخلل في إدارة السلطنة العثمانية، وأهمها - فيما يهم البلاد العربية - «التمسك بأصول الإدارة المركزية مع بعد الأطراف عن العاصمة وعدم وقوف رؤساء الإدارة في المركز على أحوال تلك الأطراف المتباعدة وخصائص سكانها».
ويلحق بهذا السبب سببان آخران يبدو للنظر لأول وهلة أنهما متناقضان لولا أنهما يرجعان إلى حالتين مختلفتين، وهما حالة الرعية الشرقية وحالة الرعية الأجنبية غير العربية ممن تشملهم قوانين الامتيازات أو القوانين المحلية المقصورة على بعض الأقاليم.
فالسبب الأول يرجع إلى «توحيد قوانين الإدارة والعقوبات مع اختلاف طبائع أطراف المملكة واختلاف الأهالي والأجناس والعادات» ... ولا يخفى ضرر هذا التوحيد من الوجهة الاجتماعية والإدارية، حيث تتبع «الإجراءات» الواحدة في المقاضاة وتدبير الدواوين بين أطراف دولة تمتد من وادي النهرين إلى البحر الأبيض، ومن البحر الأسود إلى خليج عدن، وتسري على أقوام بينهم من الاختلاف ما بين الأرمن والجركس والترك والعرب في الحاضرة والبادية.
والسبب الآخر يرجع - كما قال الكواكبي - إلى «تنويع القوانين الحقوقية وتشويش القضاء في الأحوال المتماثلة».
ففي ظاهر الأمر يبدو أن صاحب «أم القرى» يشكو في وقت واحد من توحيد الإجراءات والقوانين ومن تنويعها واختلافها، وهي شكوى متناقضة، ولكنه تناقض في الظاهر دون الحقيقة كما أسلفنا؛ لأن هذه الشكوى في مؤتمر أم القرى خاصة، إنما يثيرها التنويع الذي يقوم على التمييز بين جنس وجنس وطائفة دون طائفة؛ إذعانا للمعاهدات الأجنبية تارة أو مراعاة للمنازعات الطائفية واستبقاء لبواعث تلك المنازعات تارة أخرى. وقد كان هذا التمييز عرفا شائعا في نظم الدولة يعم تشريعات الإدارة والأحوال الشخصية، ويختلف بالإقليم الواحد بين فئة وفئة وبين عشيرة وعشيرة، ولا يقتصر على الأجانب ولا على الأقاليم التي نشبت فيها الثورات وتدخلت فيها الدول لتقرير نظام الولاية أو الإدارة فيها.
فالكواكبي كان يشكو في الحالتين من شيء واحد، وهو مخالفة الشريعة للمصلحة؛ إما بالتسوية حيث تفرق الأحوال، أو بالتفرقة حيث تلزم العدالة والمساواة.
وربما أضاف الكواكبي شكواه الفنية إلى هذه الشكوى الاجتماعية من تلفيق القوانين والإجراءات، فإنه - وهو الخبير بفقه التشريع - كان ينكر من دعاة التجديد من فقهاء الترك أنهم على تقديره لم يحسنوا المحافظة ولم يحسنوا الابتداع، وأن الدولة ترخصت في تبديل قواعد التشريع لغير ضرورة وتشددت في بعضها الآخر كذلك لغير ضرورة «وجاءها أكثر من هذا الخلل في الستين سنة الأخيرة؛ أي بعد أن اندفعت لتنظيم أمورها فعطلت أصولها القديمة ولم تحسن التقليد ولا الإبداع، ففشلت حالها ولا سيما في العشرين سنة الأخيرة التي ضاع فيها ثلثا المملكة وخرب الثلث الباقي وأشرف على الضياع؛ لفقد الرجال وصرف حضرة السلطان قوة سلطنته كلها في سبيل حفظ ذاته الشريفة وسبيل الإصرار على سياسة الانفراد».
وقد صرح الكواكبي بالحل الملائم لهذه المشكلات السياسية والقانونية لبلاد العرب، ولبلاد الدولة عامة، في أطوار الانتقال، فقال في هامش الصفحة التي سرد فيها أسباب الخلل من أم القرى: إن «من أهم الضروريات أن يحصل كل قوم من أهالي تركيا على استقلال نوعي إداري يناسب عاداتهم وطبائع بلادهم، كما هي الحال في إمارات ألمانيا وولايات أمريكا الشمالية، وكما يفعله الإنكليز في مستعمراتهم والروس في أملاكهم».
وفحوى هذا الحل أن يؤخذ الذي عرف بعد ذلك باسم «اللامركزية»، وشعر ساسة الترك أنفسهم بضرورته بعد تفكير الكواكبي فيه بسنوات، فهو - ولا ريب - رائد الدعوة اللامركزية التي جهر بها «حزب الائتلاف والحرية»، وضم إليها أناسا من زعماء الترك والعرب وبعض الأقوام المشتركين في تركيب السلطنة العثمانية، وكانوا ينادون بالائتلاف لتكوين السلطنة من الشعوب المتآلفة مع استقلالها بحكوماتها الذاتية، وينادون بالحرية لتغليب حقوق الشعوب في سياسة أمورها على حقوق السلطنة المتفردة بالحكومة المركزية، ويقابلون بذلك دعوة المركزيين المعروفين باسم حزب الاتحاد والترقي، يريدون بذلك أن تكون الوحدة المركزية في الدولة غالبة على الائتلاف، وأن تكون حجة «الترقي» بقيادة الرئاسة الحاكمة غالبة على حجة المطالبة بالحرية لكل ولاية على انفراد.
ولا يلجئنا مؤلف «طبائع الاستبداد» إلى مراجعة واستنباط للعلم بصفة الحكومة التي يختارها ويسعى إليها، فلا بد أن تكون - بالبداهة - حكومة غير مستبدة أو «حكومة مسئولة».
أما العنوان الذي يطلق عليها في مصطلحات العلم السياسي فينبغي أن يتوافر لها بين الشروط الكثيرة شرطان على الأقل من شروط الحكومات المسئولة؛ وهما أن تكون «ديمقراطية اشتراكية ».
وقد عرف الاستبداد تعريفين يختلفان بعض الاختلاف لفظا ويتفقان كل الاتفاق في المعنى والنتيجة.
فالاستبداد - كما قال في مقدمة طبائع الاستبداد - هو «التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى».
أو هو - كما قال بعد ذلك - «تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة».
ويمتنع الاستبداد - نظرا وفعلا - بقيام الحكومة المسئولة، وأفضل هذه الحكومات التي تجتمع لها مبادئ الديمقراطية والاشتراكية، وتتراءى هنا طبيعة التفكير العملي التي تمتزج بآراء الكواكبي في كل مسألة يتسع فيها مجال البحث والمناقشة، وتتساوى فيها وجوه النظر عند تحقيق نتيجتها العملية وضمان المصلحة المنشودة بضمان تلك النتيجة.
فليست العبرة عند الرجل العليم بمنافذ الاستبداد أن يتوافر للحكومة شكل من أشكال الدستور وصورة من صور الحقوق الكثيرة التي ترشح أفراد الرعية للنيابة أو الانتخاب، وإنما المهم في جميع الأشكال على تعدد المصطلحات والدساتير أن يكون ولي الأمر مسئولا عن عمله محاسبا عليه، وأن يمتنع عليه الاستبداد، وهو التصرف بالهوى والأمان من التبعة «بلا خشية حساب ولا عقاب محققين».
فلا يمتنع الاستبداد بامتناع حكومة الفرد، ولا يتحقق الحكم الصالح باشتراك الكثرة فيه أو بتأييد الكثرة للحاكمين المتعددين، أو كما قال في المقدمة: «إن صفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو بالوراثة، تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد الوارث أو المنتخب متى كان غير محاسب، وكذلك تشمل حكومة الجمع ولو منتخبا؛ لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله نوعا، وقد يكون أحكم وأضر من استبداد الفرد، ويشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ؛ لأن ذلك أيضا لا يرفع الاستبداد ولا يحققه ما لم يكن المنفذون مسئولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسئولون لدى الأمة التي تعرف أن تراقب وتؤدي الحساب.»
ولا يمتنع الاستبداد في شكل من أشكال الحكومة مع غفلة الأمة وقدرة الحاكمين على تضليلها والتمويه عليها، قال: «إنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب من أسباب غفلة الأمة أو إغفالها لها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها شيء من القوتين الهائلتين المهولتين: جهالة الأمة والجنود المنظمة.»
ومن علامات الحكومة الصالحة التي يتعذر عليها الاستبداد في رأي الكواكبي أن يشترك فيها من عناهم القرآن الكريم بأهل الذكر، واصطلح الفقهاء على تسميتهم بأهل «الحل والعقد» من قادة الأمة وهداتها، قال بلسان الإمام الصيني في أم القرى: «وهؤلاء الذين نسميهم عندنا بالحكماء هم الذين يطلق عليهم في الشريعة الإسلامية اسم أهل الحل والعقد الذين لا تنعقد الإمامة شرعا إلا ببيعتهم، وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله - عز شأنه - نبيه بمشاورتهم في الأمر ... لأنهم رؤساء الأمة ووكلاء العامة والقائمون في الحكومة الإسلامية مقام مجالس النواب والأشراف في الحكومات المقيدة.»
وإذا أشار الكواكبي إلى الطبقة العليا في «أم القرى» أو «طبائع الاستبداد» لم يدع أحدا من قرائه يفهم أنها الطبقة العليا بالألقاب أو الطبقة العليا بالميراث؛ لأنه يسمي أصحاب الألقاب من خدام الاستبداد «بالمتمجدين» أو أدعياء المجد، ويقول: إن هذا التمجد «خاص بالإدارات الاستبدادية؛ لأن الحكومة الحرة التي تمثل عواطف الأمة تأبى كل الإباء إخلال التساوي بين الأفراد إلا لموجب حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا أثناء قيامه في خدمتها؛ أي الخدمة العمومية، كما أنها لا تميزه بوسام أو تشرفه بلقب إلا إعلانا لخدمة مهمة».
وإنما يكون التمجد - كما قال - «أن يتقلد الرجل سيفا من قبل الجبار يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلق على صدره وساما مشعرا بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، أو يتحلى بسيور مزركشة تنبئ بأنه صار أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وبعبارة أوضح وأخصر: هو أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم».
وطبقة الميراث - ما لم يميزها العلم والخلق الرفيع - هي جرثومة البلاء كما قال، وأبناؤها «هم الأكثر عددا والأهم موقعا، وهم مطمح نظر المستبد في الاستعانة وموضع ثقته».
قال من كلامه عن الاستبداد والمجد: إن هؤلاء الأصلاء «هم جرثومة البلاء في كل قبيلة ومن كل قبيل؛ لأن بني آدم داموا إخوانا متساوين إلى أن ميزت الصدفة بعض أفرادهم بكثرة النسل، فنشأت منها القوات العصبية، ونشأ من تنازعها تميز أفراد على أفراد، وحفظ هذه الميزة أوجد الأصلاء ... فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة أشراف، ومتى وجد بيت من الأصلاء يتميز كثيرا على باقي البيوت يستبد وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا كان لباقي البيوت بقية بأس، أو المطلقة إذا لم يبق أمامه من يتقيه».
ثم قال: «إذا لم يوجد في أمة أصلاء بالكلية، أو وجد ولكن كان لسواد الناس صوت غالب، أقامت تلك الأمة فعلا أو حكما لنفسها حكومة انتخابية لا وراثة فيها ابتداء، ولكن لا يتوالى بضع متولين إلا ويصير أنسالهم أصلاء يتناظرون، كل فريق منهم يسعى لاجتذاب طرف من الأمة استعدادا للمغالبة وإعادة التاريخ الأول ...» •••
فالطبقة العليا - في تعبير الكواكبي - لا تعني طبقة من طبقات المظاهر المصنوعة ولا المظاهر الموروثة: لا تعني حملة الألقاب والرتب التي يخلعها الحاكم المطلق على خدامه وعبيد سلطانه، ولا تعني أصحاب الوجاهة المنقولة من الأسلاف إلى الأعقاب دون أن ينتقل معها سبب من أسباب الوجاهة النافعة، وإنما الطبقة العليا في تعبير صاحب «طبائع الاستبداد»، و«أم القرى»، هي الطبقة التي استعدت بكفايتها ودرايتها لقيادة الأمة والاضطلاع «بالخدمة العمومية» والسبق إلى تكاليف العمل والمعرفة، تتولاها وكالة عن جمهرة الأمة، ولا بد في ولايتها من صوت غالب لسواد الأمة، على أية حال، كما يؤخذ من إحصائه لأسباب فساد الحكومة فيما جمعه من هذه الأسباب السياسية والدينية والأخلاقية في فصل خاص ألحقه بفصول أم القرى.
وأيا كان مفاد «الطبقة» في تعبير الكواكبي خاصة، فقوام النظام الصالح كله أمران: أن تتساوى الطبقات في الحقوق القانونية، وأن تتقارب في الثروة ودرجات المعيشة.
فلا مناص من إعداد الشعوب لنيل «الأخوة العمومية بالتجاوب بين الأفراد والقناعة بالمساواة الحقوقية بين الطبقات».
ولا مناص من توزيع الثروة توزيعا يمتنع به التفاوت، فإن الاستبداد - كما قال في طبائع الاستبداد - هو الذي جعل «رجال السياسة والأديان ومن يلتحق بهم، وعددهم لا يتجاوز الخمسة
1
في المائة يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة.»
قال: «وإن أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهين والمحتكرين وأمثال هذه الطبقة - ويقدرون كذلك خمسة في المائة - يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع، وهذه القسمة المتفاوتة بين بني آدم وحواء إلى هذه النسبة المتباعدة هي قسمة جاء بها الاستبداد السياسي.» كما قال وكرر المقال مما نعود إلى بيان رأيه المفصل فيه عند الكلام على برنامجه المختار لإصلاح الحياة الاقتصادية.
ويقتضي التساوي بذلك - الطبقات على هذا المبدأ - ألا تستأثر طائفة من الأمة بإنجاب أهل العلم والدراية؛ بل يكون حكماء الأمة - كما قال بلسان الحكيم الصيني - «من أي طبقة كانت من الأمة؛ إذ قضت سنة الله في خلقه ألا تخلو أمة من الحكماء».
ولا فرق بين طائفة وطائفة في التخلق بأخلاق الاستبداد متى قام الأمر على الحكم المطلق وامتنعت المساواة في الحقوق بين الناس؛ «فإن الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها؛ من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا؛ لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس، إنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته وأنصار لدولته، شرهون لأكل السقطات من ذبيحة الأمة، وبهذا يأمنهم ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. هذه الفئة المستبدة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له، والمحافظين عليه، واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان، واحتاج إلى حفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعا أعلاهم وظيفة وقربا ...» •••
والكواكبي يذكر السلف الصالح للاقتداء به في أخلاق الرعاة والرعايا، ولكنه يحذر قارئه ويعيد التحذير مرة بعد مرة من الخلط بين الاقتداء بأخلاق الحاكمين الأولين وبين الدعوة إلى تقديس أولئك الحاكمين أو إحاطتهم بهالة من عصمة الربوبية أو الرسالة، فإنه - مع تقريره أن الخلافة الإسلامية لم تثبت من قبل لغير الخلفاء الراشدين وآحاد معدودين من أمثال عمر بن عبد العزيز - يرى أن الفصل بين الملك والخلافة ضرورة لا محيص عنها؛ كي يتسنى للرعية أن يحاسبوا ولي الأمر ويقيموا ولاية الأمر على أساس الحكومة المسئولة، وقد يحال بينهم وبين ذلك بانتحال صفة القداسة التي يعتصم بها الخليفة من محاسبة رعاياه ومراجعة الأمة في مجموعها لسياسة الدولة.
ولا اكتراث للصور والأشكال في كل ما تقدم من قواعد الحكم وأنظمته وسائر شروطه، فكل صورة من صور الحكم حسنة نافعة إذا تحققت فيها المحاسبة، ولحقت فيها تبعات الحكم فعلا بمن يتولاه، وكل أمة قادرة على محاسبة حكامها إذا عمت فيها المساواة الحقوقية وامتنع فيها التفاوت البعيد في الأرزاق والأقدار، وانجابت عنها غشاوة الغفلة بين عامة أهلها وارتفع إلى مكان القيادة من استعد بكفايته ودرايته لقيادتها، كائنا ما كان منشؤه من عامة طبقاتها.
الفصل السابع عشر
النظام الاقتصادي
قدمنا في الكلام على النظام السياسي أن الكواكبي يعتبر التفاوت في الثروة دعامة من أقوى دعائم الاستبداد؛ لأنه يسمح لأصحاب النفوذ الديني أو الدنيوي - وهم لا يزيدون على الخمسة في المائة من جملة السكان - بأن يستأثروا لأنفسهم بنحو نصف الثروة العامة.
وهو ينكر مثل هذا الإنكار أن يحصل مثل هذا التفاوت بأية ذريعة من الذرائع ولو كانت ذريعة العمل والصناعة، فليس من الجائز أن يعيش إنسان واحد بمثل ما يعيش به المئات أو الألوف؛ لأنه يتفوق على غيره بعمل بارع أو صناعة نفيسة، ولا لأنه يحسن الوساطة والمداورة في سوق البيع والشراء أو في سوق الفكر والضمير، «فهناك أصناف من الناس لا يعلمون إلا قليلا، إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة والمشعوذين باسم الأدب والدين ...»
والمال على العموم «لا يجتمع في أيدي الأغنياء إلا بأنواع من الغلبة والخداع» ... وليس من شأن التفاوت في القدرة والهمة أن تمنح إنسانا واحدا ما يقوم بنفقات الألوف من الناس، وليس هذا التفاوت مما يحتاج إليه العامل المقتدر لإتقان عمله أو يحتاج إليه المجتهد الطموح لاستنهاض همته وإشباع طموحه؛ بل ربما كان فيه مدرجة للغواية والبطالة ومدعاة إلى الإسراف والإسفاف.
وليس المطلوب أن يبطل التفاوت بين الناس في المعرفة والذكاء، ولا أن يبطل التفاوت بينهم في المساعي والجهود، فلا يقتضي الأمر - كما قال - «أن يتساوى العالم الذي صرف زهوة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذلك الجاهل النائم في ظل الحائط، ولا ذلك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل، ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت؛ بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته ويقاربه في معيشته ويعينه على الاستقلال في حياته».
وأيا كان جهد المجتهد وعلم العالم فلا يجوز أن يزيد الرزق على الحاجة تلك الزيادة المفرطة التي تسمح لطائفة من الأمة بتسخير جميع طوائفها؛ «لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان، وهذا معنى الآية:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى ... فضرر الثروات الإفرادية في جمهور الأمم أكبر من نفعها؛ لأنها تمكن الاستبداد الداخلي فتجعل الناس نصفين: عبيدا وأسيادا، وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل للأمم التي تغنى بغناء أفرادها التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة ...» •••
وتظهر لنا سعة اطلاع الكواكبي في مسائل الإصلاح من إحاطته بأوائل الأعمال والآراء التي كانت تحسب في أواخر القرن الماضي طليعة سابقة؛ بل طليعة متهجمة، في مجال الإصلاح الاقتصادي والمذاهب الاشتراكية، فذكر تحديد الملكية الزراعية وذكر تأميم المرافق العامة، ومضت بعده خمسون سنة قبل أن يتيسر تنفيذ هذه الآراء في بلادنا الشرقية.
قال: «هذه إيرلندة مثلا قد حماها ألف مستبد مالي من الإنكليز ليتمتعوا بثلثي أو ثلاثة أرباع ثمرات أتعاب عشرة ملايين من البشر الذين خلقوا من تربة إيرلندة، وهذه مصر وغيرها تقرب من ذلك حالا وستفوقها مالا، وكم من البشر في أوروبة المتمدنة - وخصوصا في لندن وباريس - لا يجد أحدهم أرضا ينام عليها متمددا؛ بل ينامون في الطبقة السفلى من البيوت حيث لا ينام البقر، وهم قاعدون صفوفا يعتمدون بصدورهم على حبال من مسد منصوبة أفقية، يتلوون عليها يمنة ويسرة.»
قال: «وحكومة الصين المختلة النظام في نظر المتمدنين تحرم قوانينها أكثر من مقدار معين من الأرض لا يتجاوز العشرين كيلومترا مربعا؛ أي نحو خمسة أفدنة مصرية أو ثلاثة عشر دونما عثمانيا. وروسيا المستبدة القاسية في عرف أكثر الأوروبيين وضعت أخيرا لولاياتها البولونية والغربية قانونا أشبه بقانون الصين، وزادت عليه أنها منعت سماع دعوى دين غير مسجل على فلاح، ولا تأذن لفلاح أن يستدين أكثر من نحو خمسمائة فرنك، وحكومات الشرق إذا لم تستدرك الأمر فتضع قانونا من قبيل قانون روسيا تصبح الأراضي الزراعية بعد خمسين عاما، أو قرن على الأكثر، كإيرلندة الإنجليزية المسكينة ...»
وقال بعد أن قرر أن الشرط الأول لإحراز المال أن يأتي من بذل الطبيعة أو بالمقايضة أو في مقابل عمل أو مقابل ضمان: والشرط الثاني ألا يكون للتمول تضييق على حاجيات الغير؛ كاحتكار الضروريات أو مزاحمة الصناع والعمال والضعفاء، والتغلب على المباحات؛ مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحا لكافة مخلوقاته ...
وعلى هذا السبق إلى الإحاطة بالآراء المستحدثة يتبين من ثنايا أقواله العامة في الاقتصاد أنه كان يتقصى معارفه الاقتصادية من أصولها التي تقدم بها الزمن أحقابا طوالا قبل عصر الميلاد، فلا شك في اطلاعه على قواعد الاقتصاد السياسي فيما كتبه أرسطو أو فيما نقل عنه، فإنه يحصر أسباب الرزق في مواردها الثلاثة؛ وهي الزراعة والصناعة والتجارة، ويعرف هذه الموارد كما عرفها أرسطو حيث يقول عن الزراعة إنها استخراج ثمرات الطبيعة، وعن الصناعة إنها تهيئة تلك المواد للانتفاع بها، وعن التجارة إنها توزيعها على الناس، «وكل وسيلة خارجة عن هذه الأصول وفروعها الأولية فهي وسائل ظالمة لا خير فيها ...»
وعند الكواكبي أن الإنسان النافع لقومه لا بد أن يؤدي عملا من هذه الأعمال في أصولها وفروعها التي لا تزال إلى اليوم مورد الرزق المشروع في عرف خبراء الاقتصاد والسياسة، وعلى كل فرد من أفراد الأمة «متى اشتد ساعده أو ملك قوت يومه، أو النصاب على الأكثر، أن يسعى لرزقه بنفسه أو يموت جوعا».
ثم يعطف فيقول: «وقد لا يتأتى أن يموت الفرد جوعا إذا لم تكن حكومته مستبدة تضرب على يده وسعيه ونشاطه ...»
فإذا حدث العجز عن كسب الرزق لسبب قاهر غير الكسل والتقصير، فالأمة مسئولة عن إزالة هذا العجز، أو معونة المبتلين به على المعيشة التي لا يقدرون على تحصيلها؛ «فالعدالة المطلقة تقضي أن يؤخذ قسم من مال الأغنياء ويرد على الفقراء بحيث يحصل التعديل، ولا يموت النشاط للعمل.»
وهذه سياسة تتحراها أمم الغرب الحديثة إيثارا للسلامة بعد أن وضح لها وبال العاقبة من جراء الظلم في توزيع الثروة، ولكنها فريضة يقررها الإسلام دينا ويعين عليها اتباع أحكامه؛ لأنه يقرر صرف العشور والزكاة في المصارف العامة؛ ومنها سداد الديون، «ولا يخفى على المدقق أن جزءا من أربعين من رءوس الأموال يقارب نصف الأرباح المعتدلة باعتبار أنها خمسة بالمائة سنويا.»
ويقول الكواكبي - ولعله يجنح في ذلك إلى الأخذ بالمذهب الظاهري: «إن الأرض الزراعية ملك عام للأمة، يستنبتها ويستمتع بخيراتها العاملون فيها بأنفسهم فقط، وليس عليهم غير العشر أو الخراج الذي لا يجوز أن يتجاوز الخمس لبيت المال.»
فالمعيشة الاشتراكية - في حكم الدين والسياسة الرشيدة - هي «أبدع ما يتصوره العقل ... لولا أن البشر لم يبلغوا بعد من الترقي ما يكفي لتوسيعهم نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى إدارة الأمم الكبيرة ...»
وعلى هذا يتلخص برنامج الكواكبي الذي اختاره لتدبير الثروة العامة في الاشتراكية التي تقوم على المبادئ التالية: (1)
تعميم العمل المثمر بين أفراد الأمة وتحريم الكسب بغير عمل مشروع. (2)
اجتناب التمييز بين أفراد الأمة بغير مزية لازمة للخدمة العامة. (3)
اجتناب التفاوت المفرط في توزيع الثروة بين الأفراد أيا كان حظهم من التفاوت في الكفايات والأعمال. (4)
قيام المجتمع على التعاون والتضامن بين العاملين فيه، وإزالة أسباب العجز عن الكسب أو معونة العاجزين عنه لضرورة من ضرورات المرض والحرمان. (5)
تأميم المرافق العامة ومنع الاحتكار.
وبهذه المبادئ على عمومها يدخل الكواكبي في زمرة الاشتراكيين لا مراء، ويلتقي بأهم المذاهب الاشتراكية في أصل من أصولها الكبرى، ويكاد أن يجري مع القائلين بالتفسير الاقتصادي للتاريخ في مجال واحد، لولا فارق عظيم في تعريف المال ترتبط به فوارق كثيرة.
فالمال عن أصحاب التفسير الاقتصادي مقصور على العملة وما تشتريه، والمال عند الكواكبي هو «كل ما ينتفع به في الحياة» ... «فالقوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدين مال، والثبات مال، والجمال مال، والترتيب مال، والشهرة مال ...»
نعم ... وكل ما يجري فيه المنع والبذل كما يقول صاحب القانون، أو تستعاض به القوة كما يقول صاحب السياسة، أو تحفظ به الحياة الشريفة كما يقول صاحب الأخلاق، فهو مال. «والمقصود من المال هو أحد اثنين لا ثالث لهما؛ وهما تحصيل لذة أو دفع ألم ... والحكم العدل في طيب المال وخبيثه هو الوجدان الذي خلقه الله صبغة للنفس وعبر عنه في القرآن بإلهامها فجورها وتقواها.»
والوجدان هو مرجع الاختيار أولا وآخرا، بين المال الحلال والمال الحرام.
الفصل الثامن عشر
التربية القومية
تفيد كلمة التربية في كتابي «الكواكبي» مقصدين: أحدهما التربية العامة وتشمل كبار الأمة وصغارها، وهي التي تتكفل بتهذيب الصفات القومية وتوفير عدة الأمة من الأخلاق والعادات جيلا بعد جيل.
والآخر تربية الناشئين في المدارس ومعاهد التعليم، وتزويدهم بما ينفعهم وينفع أمتهم في أعمالهم الخاصة وأعمالهم المشتركة.
وعنده أن الحكومات المنتظمة - كما قال في طبائع الاستبداد - «تتولى ملاحظة تربية الأمة من حين تكون في ظهور الآباء، وذلك بأن تسن قوانين النكاح ثم تعتني بوجود القابلات والملقحين والأطباء، ثم تفتح بيوت الأيتام اللقطاء، ثم المكاتب والمدارس للتعليم من الابتدائي الجبري إلى أعلى المراتب، ثم تسهل الاجتماعات وتمهد المراسح وتحمي المنتديات وتجمع المكتبات والآثار، وتقيم النصب المذكرات، وتضع القوانين للمحافظة على الآداب والحقوق، وتسهر على حفظ العادات القومية وإنماء الإحساسات الملية، وتقوي الآمال وتيسر الأعمال وتؤمن العاجزين عن الكسب من الموت جوعا، إلى أن تقوم باحتفالات جنائز ذوي الفضل على الأمة ...»
وقد ألف الكواكبي «أم القرى» قبل تأليفه «طبائع الاستبداد»، فأحصى بلسان المسلم الإنجليزي بعض مقومات التربية التي يعنى بها الغربيون، وهي بعبارته:
تخصيصهم يوما في الأسبوع للبطالة والتفرغ من الأشغال الخاصة؛ لتحصل بين الناس الاجتماعات وتنعقد الندوات، فيتباحثون ويتناجون.
وتخصيصهم أياما يتفرغون فيها لتذاكر مهمات الأعمال لأعاظم رجالهم الماضين تشويقا.
وإعدادهم في مدنهم ساحات ومنتديات؛ تسهيلا للاجتماع والمذاكرات وإلقاء الخطب وإبداء التظاهرات.
وإيجادهم المتنزهات الزاهية العمومية، وإجراء الاحتفالات الرسمية والمهرجانات بقصد السوق للاجتماعات.
وإيجادهم محلات التشخيص المعروف بالكوميديا والتياترو بقصد إراءة العبر واسترعاء السمع للحكم والوقائع، ولو ضمن أنواع من الخلاعة التي اتخذت شباكا لمقاصد الجمع والأسماع ويعتبرون أن نفعها أكبر من الخلاعة.
ومنها اعتناؤهم غاية الاعتناء بتعميم معرفة تواريخهم الملية المفصلة المدمجة بالعلل والأسباب لحب الجنسية.
ومنها حرصهم على حفظ العاديات المنبهة وادخار الآثار القديمة المنوهة واقتناء النفائس المشعرة بالمفاخر.
ومنها إقامتهم النصب المفكرة بما نصبت له من مهمات الوقائع القديمة.
ومنها نشرهم في الجرائد اليومية كل الوقائع والمطالعات الفكرية.
ومنها بثهم في الأغاني والنشائد الحكم والحماسات، إلى غير ذلك من الوسائل التي تنشئ في القوم نشأة حياة اجتماعية.
ولا تتم في الأمة تربية قومية بغير تعليم المرأة كما قال في أم القرى: «إن ضرر جهل النساء وسوء تأثيره في أخلاق البنين والبنات أمر واضح غني عن البيان.»
وهذا فضلا عن سوء تأثيره في الرجال من الأزواج؛ لأن الرجل - كما قال - «يغره أنه أمامها - أي أمام زوجته - وهي تتبعه فيظن أنه قائد لها، والحقيقة التي يراها كل الناس من حولهما دونه أنها إنما تمشي وراءه بصفة سائق لا تابع».
ويفسر الكواكبي حجاب المرأة الشرعي بأنه «محدود بعدم إبداء الزينة للرجال الأجانب، وعدم الاجتماع بهم في خلوة أو لغير لزوم»؛ لأن الحجاب بهذا المقدار يكف من سوء تأثير النساء ويفرغ أوقاتهن لتدبير البيوت «توزيعا لوظائف الحياة».
ويرى الكواكبي أن «جهالة النساء المفسدة للنشأة الأولى وقت الطفولية والصبوة» هي علة من أكبر العلل التي أصابت الحياة القومية في الشرق بداء «الغرارة» كما سماه وفسره بالقصور عن طلب «الإتقان» في أعمال العاملين، وإن كان لهم علم بما يعملون ويشرفون عليه.
فالذين يفهمون صناعاتهم من الشرقيين غير قليلين ، ولكنهم يقنعون بالفهم ولا يجيدون العمل ولا يذهبون فيه إلى غايته التي تخليه من النقص وتجمع له مزايا الإتقان والوفاء؛ لأن الفهم شيء يقدر عليه المرء قبل التطبيق، وإنما يظهر الإتقان أو النقص عند تطبيق الأعمال التي يتداولها الناس، فلا يقع الإتقان حيث يثقل أمره على الناس في معاملاتهم، وحيث يتهاونون فيه ولا يطلبونه أو يبذلون فيه حقه، وهنا يظهر أثر «التربية القومية» في المعاملات، أو يظهر الفارق البعيد بين فهم العمل والعناية بإتقانه واجتناب النقص والتقصير فيه.
ومن الأمثلة التي أوردها الكواكبي على الغرارة في كبار الأعمال وصغارها أننا نتوهم «أن شئون الحياة سهلة بسيطة، فنظن أن العلم بالشيء إجمالا ونظريا بدون ثمرة عليه يكفي للعمل به، فيقدم أحدنا مثلا على الإمارة بمجرد نظره في نفسه أنه عاقل مدبر، قبل أن يعرف ما هي الإدارة علما، ويتمرن عليها عملا يكتسب فيها شهرة تعينه على القيام بها ... ويقدم الآخر منا على الاحتراف - مثلا - ببيع الماء للشرب بمجرد ظنه أن هذه الحرفة عبارة عن حمله قربة وقدحا وتعرضه للناس في مجتمعاتهم، ولا يرى لزوما لتلقي وسائل إتقان ذلك عمن يرشده مثلا إلى ضرورة النظافة له في قربته وقدحه وظواهر هيئته ولباسه، وكيف يحفظ برودة مائه، وكيف يستبرقه ويوهم ليشتهى به، ومتى يغلب العطش ليقصد المجتمعات ويتحرى منها الخالية له عن المزاحمين، وكيف يتزلف الناس ويوهم بلسان حاله أنه محترف بالإسقاء كفا للسؤال، إلى نحو هذا من دقائق إتقان الصنعة المتوقف عليها نجاحه، وإن كانت صنعته بسيطة حقيرة».
والتخصص في رأي الكواكبي علاج نافع لشفاء الأمم الشرقية من هذه الغرارة؛ لأن «الكياسة لا تتحقق في الإنسان إلا في فن واحد فقط ... وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فالعاقل من يتخصص بعمل واحد».
ولا غنى - مع التخصص - من الترتيب على أنواعه، ومنها ترتيب أوقات المرء حسب أشغاله وإهمال ما لا يتسع الوقت له أو تفويضه إلى غيره، ومنها ترتيب النفقة على قدر الكسب المضمون، ومنها ترتيب أمر المستقبل «لإراحة نفسه من الكد في دور العجز من حياته، فيربي أولاده ذكورا وإناثا» ليستغني كل منهم بنفسه متى بلغ أشده.
ومن الترتيب المطلوب أن يرتب المرء أموره الأدبية على نسبة حالته المادية، وأن يرتب ميله الطبيعي للمجد والتعالي على حسب استعداده، فلا يتطاول إلى مقامات لا يبلغها. •••
ويكثر الكواكبي من الحض على التشبه بالغربيين في بعض صفاتهم القومية، وأشرفها في تقديره صفات الولع بالمعرفة واليقظة الاجتماعية والاستعداد بالقوة والمنعة، ولكنه يشفق من الإفراط في الإعجاب بأمم الغرب أن يئول إلى استكانة الشرقيين أمامها، وفقدانهم للثقة بأنفسهم في معاملتها، ويعيب على غالب أهل الطبقة العليا من الأمة - كما قال بلسان السيد الفراتي أو بلسانه هو في أم القرى - «أنهم ينتقصون أنفسهم في كل شيء، ويتقاصرون عن كل عمل، ويحجمون عن كل إقدام، ويتوقعون الخيبة في كل أمل. ومن أقبح آثار هذا الخور نظرهم الكمال في الأجانب واتباعهم فيما يظنونه رقة وطرافة وتمدنا، وينخدعون لهم فيما يفشونهم به كاستحسان ترك التصلب في الدين والافتخار به ...»
وهو على إعجابه بالمستحسن من أخلاق الأوروبيين القومية لا يرى أنهم سلموا من العيوب في جملة أخلاقهم القومية، ويأخذ عليهم - كما قال في باب الاستبداد والأخلاق من «طبائع الاستبداد» - أنهم ماديون و«أن الغربي حريص على الاستئثار، حريص على الانتقام كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق. فالجرماني مثلا جاف الطبع، يرى أن العضو الضعيف الحياة من البشر يستحق الموت، ويرى كل الفضيلة في القوة، وكل القوة في المال، فهو يحب العلم ولكن لأجل المال، ويحب المجد ولكن لأجل المال. واللاتيني مطبوع على العجب والطيش، يرى العقل في الإطلاق، والحياة في خلع الحياء، والشرف في الزينة، واللباس والعز في التغلب على الناس».
وهذه هي المآخذ التي يقابلها عند الشرقيين - كما قال بعد ذلك - «أنهم أدبيون يغلب عليهم ضعف القلب وسلطان الحب والإصغاء للوجدان، والميل للرحمة ولو في غير موقعها، واللطف ولو مع الخصم، والفتوة والقناعة والتهاون في المستقبل؛ ولهذا ليس في شأن الشرقي أن يجوز ما يستبيحه الغربي، وإن جوزه لا يحسن استثماره ولا يقوى على حفظه ... ويهتم في شأن ظالمه المستبد، فإذا زال لا يفكر فيمن يخلفه».
بل هو يرى للشرق رسالة باقية في هداية الإنسانية وإنقاذها من طغيان الحضارة المادية التي يتمادى فيها الغرب، ويوشك أن يتردى في هاوية من عواقبها لا نجاة له منها بغير مدد روحاني من الشرق كالمدد الذي تلقاه العالم من أديانه الأولى، ويناشد الغرب في ختام كتاب طبائع الاستبداد فيقول: «يا غرب! لا يحفظ لك الدين غير الشرق إن دامت حياته بحريته؛ وإن فقد الدين يهددك بالخراب القريب!» ويسترسل سائلا وكأنه ينظر بلحظ الغيب إلى طغيان مذاهب الهدم الجحود: «ماذا أعددت للفوضيين إذا صاروا جيشا جرارا؟ هل تعد لهم المواد المفرقعة وقد جاوزت أنواعها الألف؟ أم تعد لهم الغازات الخانقة وقد سهل استحضارها على الصبيان؟!» •••
فمساك التربية القومية فيما أوصى به الكواكبي أنها نهضة مفتوحة العينين تمضي على بصيرة وثقة، ولا تستسلم للإعجاب الذليل ولا للمحاكاة العمياء، وأنها ملكة «تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، أهم أصولها وجود المربين، وأهم فروعها وجود الدين».
وما من أمة تأخذ بأسباب هذه التربية يعييها أن تدرك الغاية من نفعها، وأول هذه الأسباب صدق الرجاء في إدراك تلك الغاية - كما قال في مقدمات أم القرى: «فلا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم أسباب الضعف والفتور؛ كي لا نيأس من روح الله، ولا نتوهم الإصابة في قول من قال إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال إذا نزل الضعف في دولة أو أمة فلا يرتفع؛ فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان واليابان وغيرها، كلها أمم أمثالنا استرجعت شأنها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم الأدبية للحياة السياسية.»
وإنما هي حضانة علم وحضانة أخلاق، وعشرون سنة تقوم بحضانة العلم، وأربعون سنة تقوم بحضانة الأخلاق، إذا كانت عشرون سنة كافية لتخريج فئات من المتعلمين يبتدئون الدراسة من مكاتب التعليم الأولى وينتهون بها إلى معاهد التخصص والإحاطة بأدوات العمل والصناعة، وإذا كانت تربية الأخلاق إنما تتم بتدريب الجيل كله على سنتها وعادتها، وحدها الأوسط أربعون سنة تنتقل بالأمة من جيل إلى جيل. •••
وتتبع التربية القومية؛ بل تسبقها في دور النهضة، تربية «المربين» أو الزعماء الذين يقودون الأمة ويرسمون لها طريقها ويصبرون على تدريبها وتصحيح أخطائها.
وقد رأيناه يقول إن للنهضة أصولا أهمها وجود المربين، وسنرى أنه - كدأبه في وصاياه الجامعة - لم ينس أن يوصي بالخطة التي تهيئ لهؤلاء المربين أن يروضوا أنفسهم ويعدوا عقولهم وضمائرهم للصبر على متاعبهم وتذليل عقباتهم ونسيان «ذواتهم» في سبيل رسالتهم، وهي رياضة صارمة قوية تجمع بين الشدة العسكرية والزهادة الصوفية، وخلاصتها - كما جاء في ختام طبائع الاستبداد: (1)
أن يجتهد المريد في ترقية معارفه؛ لا سيما العلوم النافعة الاجتماعية كالحقوق والسياسة والاقتصاد، والفلسفة العقلية وتاريخ قومه من جوانبه الجغرافية والطبيعية والسياسية، مع النظر في الإدارة الداخلية والإدارة الحربية. (2)
أن يتقن أحد العلوم التي تكسبه الاحترام بين قومه. (3)
أن يحافظ على الآداب والعادات. (4)
أن يقلل الاختلاط بالناس حفظا للوقار واجتنابا للارتباط القوي بأحد، كيلا يسقط بسقوطه. (5)
أن يتجنب مصاحبة الممقوت عند الناس؛ لا سيما الحكام. (6)
أن يجتهد ما أمكنه في كتم مزيته العلمية عمن دونه ليأمن من غوائل حسدهم، وإنما عليه أن يظهر مزيته لبعض من هم فوقه بدرجات كثيرة. (7)
أن يتخير من ينتمي إليه من الطبقة العليا، ولا يكثر التردد عليه ولا يظهر له الحاجة. (8)
أن يحرص على الإقلال من بيان آرائه لكيلا تؤخذ عليه تبعاتها. (9)
أن يحرص على أن يعرف بحسن الأخلاق؛ ولا سيما الصدق والأمانة والثبات. (10)
أن يظهر الشفقة على الضعفاء والغيرة على الدين والعلاقة بالوطن. (11)
أن يتباعد من مقاربة المستبد وأعوانه إلا بمقدار ما يأمن شرهم إن كان معرضا لذلك.
قال بعد سرد هذه الصفات: «فمن يبلغ سن الثلاثين - فما فوق - حائزا على الصفات المذكورة يكون قد أعد نفسه على أكمل وجه لإحراز ثقة قومه ... وبهذه الثقة يفعل ما لا تقوى عليه الجيوش والكنوز.»
وربما بالغ الكواكبي في التوصية باجتناب المظهر الذي يثير الحسد ويغري بالمقاومة في دور الدعوة والإقناع وتأليف الأنصار والأعوان؛ بل قد بلغ من الحرص على ذلك أنه أثبته في خاتمة أم القرى، فجعل «مظهر الجمعية العجز والمسكنة»، وأوصاها في القضية السابعة والأربعين بأن «لا تقاوم ولا تقابل إلا بأساليب النصيحة والموعظة الحسنة وتلاطف وتجامل جهدها من يعادي مقاصدها ... إلا في الضرورات».
إلا أنه لا ينكر على المصلح الذي انقادت له زعامة الأمة أن يدفعها دفعا إلى التقدم والخير؛ لأنه يقرر غير مرة أن بلاء الشرق «فقد السراة والهداة، فلا أمير عام حازم مطالع يسوق الأمة طوعا أو كرها إلى الرشاد، ولا حكيم معترف له بالمزية والإخلاص تنقاد له الأمراء والناس، ولا تربية قويمة ينتج منها رأي عام لا يطرقه تخاذل وانقسام».
الفصل التاسع عشر
التربية المدرسية
تنظيم التربية المدرسية عمل يستقل به خبراؤه المختصون بالإشراف على إدارة المدارس وتحضير مناهج التدريس، وفي وسعهم أن يحصروا المعلمين والمتعلمين ويقسموا لمعاهد التربية مراحلها التي تكفي لأوقات الاستعداد وأوقات التكملة والانتهاء، على حسب الحاجة المتجددة إلى كل صنف من أصناف الدراسات.
وربما بدأت أعمال هؤلاء الخبراء عند نهاية العمل السابق الذي يتصدى له الإمام المصلح لحث الأمة على افتتاح المدارس وتعليم الأبناء، فليس «تصنيف» المواد المدرسية من عمل الإمام المصلح في دور التنبيه والاستنهاض والحض على طلب العلم كله، كائنا ما كان.
ولكن الإمام الكواكبي قد نشأ في عصر ثقافي مريج ملتبس المظاهر بالحقائق، كثير البقايا من الماضي والطلائع من المستقبل، فاضطر إلى مهمة من مهام «التخليص» بين البقايا والطلائع، ووجب عليه المشاركة في «تصنيف العلوم» المدرسية؛ ليميز على الأقل صفة العالم الجدير بمكانة الإرشاد والهداية وصفة العلم الذي يفضل في رسالته الأولى؛ وهي كفاح الاستبداد والدعوة إلى الحرية.
وكذلك كان العلم عنده علمين: علم يطمئن إليه الاستبداد ولا يخاف عقباه، وعلم يعرف به الإنسان «أن الحرية أفضل من الحياة»، ويدرك به «النفس وعزها والشرف وعظمته، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرحمة وما هي لذاتها ». •••
ومن الظروف الثقافية التي ألجأته في عصره إلى المشاركة العامة في مناهج التربية المدرسية، أن العلم كان في بعض المراسم «منحة» حكومية تخلع على طائفة من أصحاب الحظوة من المهد بغير حاجة إلى مدرسة ولا إلى دروس.
فالطفل من طائفة «زادكان»؛ أي الأصلاء، ينعت في المنشور الرسمي عند ولادته «بأنه أعلم العلماء المحققين» ... ثم يكون فطيما فيخاطب بأنه «أفضل الفضلاء المدققين» ... ثم يصير مراهقا فيعطى المولوية، ويشهد له بأنه «أقضى قضاة المسلمين معدن الفضل واليقين رافع أعلام الشريعة والدين وارث علوم الأنبياء والمرسلين» ... ثم يكبر فيوصف «بأعلم العلماء المتبحرين وأفضل الفضلاء المتورعين ينبوع الفضل واليقين»، إلى آخر ما في تلك المناشير من الكذب المبين.
يقول الكواكبي بلسان المولى الرومي بعد ما تقدم: «ولا ريب أن التسعين في المائة من هؤلاء العلماء المتبحرين لا يحسنون قراءة نعوتهم المزورة، كما أن الخمسة والتسعين في المائة من أولئك المتورعين رافعي أعلام الشريعة والدين يحاربون الله جهارا ويستحقون ما يستحقون من الله وملائكته والمؤمنين.»
ثم يقول: «ويكفي حجة عليهم ... تمييزهم جميعا بلباس عروس محلى بكثير الفضة والذهب مما هو حرام بالإجماع ولا يحتمل التأويل ... اقتبسوا هذا اللباس من كهنة الروم الذين يلبسون القباء والقلنسوات المذهبة عند إقامة شعائرهم وفي احتفالاتهم الرسمية ...» •••
وأمر هؤلاء «العلماء» بغير علم وبغير تعليم مفروغ منه، لا يحتاج من الدولة إلى أكثر من المنشورات الرسمية لإعداده وتمكينه من مناصبه، ولا يحتاج من الإمام المصلح في دور النهضة إلى أكثر من التنبيه إليه لإسقاط شأنه والإعراض عنه.
لكن الشأن الذي لا يغني فيه مثل هذا التنبيه إنما كان شأن «العلماء» بنوع من العلم المطلوب في معاهده، ولكنه لا يلتقي بالإصلاح في طريقه أو تلتقي به في بعض الطريق ويتولى عنه في سائرها.
من هؤلاء طائفة العلماء الجامدين على التقليد، ولا يعنيهم من العلم غير الإلمام بأشكال الفرائض والشعائر على سنة التقليد الأعمى بغير نظر في حكمتها ومعناها، ومن هؤلاء من كان يحرم تعليم الأبناء دروس الجغرافية الحديثة؛ لأنها تعلمهم أن الأرض مستديرة وأنها تدور حول الشمس وتدور حول نفسها، خلافا لما توهموه من معنى انبساط الأرض واستقرارها أن تميد بمن عليها، ومن هؤلاء من كان يستريب بالتليفون؛ لأن انتقال الصوت على مدى الفراسخ والأميال من فعل الشيطان، ولن يؤذن له أن يفعله بعد سليمان!
وأحسن من هؤلاء حالا من كانوا يبيحون المعرفة بالعلوم الحديثة، ولكنهم يحرمون أسماءها، ولا يجيزون تدريس الظواهر الطبيعية إلا أن تسمى «بعلم الخصائص التي أودعها الله - سبحانه وتعالى - طبائع الأشياء ...»
وأحسن من هؤلاء حالا من كانوا يسمحون بتعليم جميع العلوم ويقصرون النفع منها على تخريج الموظفين وصناع المعامل التي تديرها الحكومة لخدمة أغراضها ومآربها، وقد كان في بلاد الدولة العثمانية ولاة يفتحون المدارس ويبعثون البعوث إلى بلاد القارة الأوروبية لتحصيل الصناعات والعلوم العملية والنظرية التي تعينهم على تنظيم الدواوين وإدارة مصالح الري والزراعة، وتعمير الخزانة العامة لمنفعتهم أو منفعة السلطة الحكومية.
ونشأ مع هذه «التصنيفات المدرسية» صنف من العلوم قد تعم الحاجة إليه في توسيع نطاق الثقافة وتنويع أبواب المعرفة، وهو العلوم الفكرية الكمالية من فلسفة وبلاغة وتحليل لأصول التشريع والتاريخ وما إليها، ولكنها مما يحتمل الإرجاء إلى ما بعد الوثبة الأولى من وثبات الإصلاح في رأي بعض القادة الذين يرتبون أدوار الثقافة بترتيب الضرورات الفردية، ولا يحسبون حسابا كبيرا للفارق بين ضرورات الأمم وضرورات الأفراد. •••
في مثل هذا العهد من عهود التنازع على اختيار العلوم المقدمة يلتجئ الإمام المصلح إلى المشاركة في عمل الخبير المدرسي المتفرغ لتصنيف علوم الدراسة وإعداد مناهج التربية في مراحلها المتتابعة.
وقد اضطر الكواكبي إلى المشاركة في هذا العمل، ونظر إليه - كعادته - من زاويته التي هي أولى عنده بالتقديم من كل زاوية، وهي ناحية النظر إلى الاستبداد وما يخشاه المستبد من العلوم وما لا يخشاه، وما هو أحق - من ثم - بالابتدار به والتعويل عليه في كل نهضة تنبعث لطلب الحرية ومكافحة الاستبداد.
قال في طبائع الاستبداد: «المستبد لا يخشى علوم اللغة؛ تلك العلوم التي بعضها يقوم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان ... نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية أو سحر بيان يحل عقد الجيوش؛ لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيرا من أمثال الكميت وحسان، أو أمثال منتسكيو وشيلار، وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، المختصة بما بين الإنسان وربه؛ لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيه عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور ما أخذ فصاروا لا يرون علما غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر، على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا مزية بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه، في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم ويسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد.» •••
ويقول الكواكبي بلسان الرياضي الكردي في أم القرى: «إن السبب العام هو أن علماءنا كانوا اقتصروا على العلوم الدينية وبعض الرياضيات وأهملوا باقي العلوم الرياضية والطبيعية، التي كانت إذ ذاك ليست بذات بال ولا تفيد سوى الجمال والكمال، ففقد أهلها من بين المسلمين واندرست كتبها وانقطعت علاقتها فصارت منفورا منها ... والمرء عدو ما جهل؛ بل صار المتطلع إليها منهم يفسق ويرمى بالزيغ والزندقة، على حين أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب، وعلى كر القرون ترقت وظهرت لها ثمرات عظيمة في كافة الشئون المادية والأدبية ...»
فعلوم الرياضة والطبيعة التي كانت قبل بضعة قرون مجموعة من المعادلات النظرية والخواطر الفكرية هي التي تطورت بها نهضة الثقافة في الغرب، فأصبحت في طليعة علوم القوة والعمل، وقام عليها تقسيم المتخصصين للكشف والاختراع واستطلاع حقائق المادة واستنباط القوانين التي تحكمها وتفسرها.
ولازمتها علوم نظرية ولكنها لازمة لتوسيع الثقافة العامة؛ ولا سيما ثقافة القادة المتطلعين إلى كفالة النهضة في أوائلها؛ ولهذا يوصى الشاب الذي يتطلع إلى هذه القيادة أن «يوسع معارفه مطلقا»؛ ولا سيما في العلوم الاجتماعية كالحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية والتاريخ والجغرافية والإدارة الداخلية والإدارة الحربية ... وسائر ما نسميه في هذا العصر بالمعلومات العامة.
وإذا أراد هذا الشاب أن يكسب في قومه «موقعا محترما»، فلا غنى له مع سعة معلوماته العامة من الاختصاص بأحد العلوم التي يشعر الناس بقدرها؛ كعلم الدين أو الطب أو الإنشاء أو الحقوق. •••
على أن التربية المدرسية - تربية أبناء الأمة - تبدأ قبل المدرسة ولا تنتهي بانتهائها - كما قال في طبائع الاستبداد: «إن التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين وهي وظيفة الأم وحدها، وتربية النفس إلى السابعة وهي وظيفة الأبوين والعائلة معا، ثم تضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ وهي وظيفة المعلمين والمدارس، ثم تأتي تربية القدوة بالأقربين والخلطاء إلى الزواج وهي وظيفة الصداقة، ثم تأتي تربية المقارنة وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق.» •••
فالتربية الفردية، على هذا قصة محبوكة الطرفين بين حجر الأموية في الطفولة الباكرة وبين كنف الزوجية بعد استواء السن وتقدمها ... لا جرم يكثر الحض في كلام الكواكبي على تصحيح وظيفة المرأة في الحياة والتحذير من جهلها وسوء تربيتها والانحراف بها عن سوائها، فإن النساء - كما جاء في طبائع الاستبداد - اقتسمن مع الرجال أعمال الحياة قسمة ضيزى ... «وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن محمدتين في الرجال، وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ويظلم أو يظلم فيعان، وعلى هذا القانون يربين البنات والبنين ويتلاعبن بعقول الرجال كما يشأن ... ومن المشاهد أن ضرر النساء بالرجال يترقى مع الحضارة والمدنية على نسبة الترقي المضاعف، فالبدوية تشارك الرجل مناصفة في الأعمال والثمرات فتعيش كما يعيش، والحضرية تسلب الرجل لأجل معيشتها وزينتها اثنين من ثلاثة، وتعينه في أعمال البيت، والمدنية تسلب ثلاثة من أربعة وتود ألا تخرج من الفراش، وهكذا تترقى بنات العواصم في أسر الرجال، وما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبة أن تسمى المدنية النسائية؛ لأن الرجال فيها صاروا أنعاما للنساء.»
الفصل العشرون
الأخلاق
يكتب الكواكبي في جميع مباحثه بقلم الباحث المحلل الذي يزن آراءه بميزان المنطق العملي والتجربة العلمية، وينحو هذا النحو في كتابته عن الأخلاق وفي كتابته عن السياسة الحاضرة أو التاريخ الغابر، ولكنه يصل إلى بعض الصفات في سياق كلامه على الأخلاق ، فيخيل إليك أنه يود لو يدع القلم جانبا ليأخذ بيده ريشة النغم ويترنم وهو يتكلم، وأولى هذه الصفات صفة الإرادة وصفة الحرية، وسائر الصفات التي تلغي الاستبداد أو يلغيها الاستبداد.
يقول في باب الأخلاق من طبائع الاستبداد: «ما هي الإرادة؟ هي أم الأخلاق، هي ما قيل فيه تعظيما لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة. هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة، فالأسير إذن دون الحيوان؛ لأنه يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه.»
ثم يقول في وصف الأسير مسلوب الإرادة: «لا نظام في حياته فلا نظام في أخلاقه، قد يصبح غنيا فيضحى شجاعا كريما، وقد يمسي فقيرا فيبيت جبانا خسيسا، وكذا كل شئونه تشبه الفوضى لا ترتيب فيها، فهو يتبعها بلا وجهة. أليس الأسير قد يبغي فيزجر أو لا يزجر، ويبغى عليه فينصر أو لا ينصر، ويحسن فيكافأ أو يرهق، ويسيء كثيرا فيعفى وقليلا فيشنق، ويجوع يوما فيضوي ويخصب يوما فيتخم، ويريد أشياء فيمنع ويأبى شيئا فيرغم ...؟»
ومما قاله عن الحرية في أم القرى: «إن البلية فقدنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؟ هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه!»
ثم قال: «إن الحرية أعز شيء على الإنسان بعد حياته ... بفقدانها تفقد الآمال وتبطل الأعمال وتموت النفوس وتتعطل الشرائع وتختل القوانين.»
وقد عرفنا من كل ما كتبه هذا المفكر العامل أنه منطقي مع نفسه في مذاهب تفكيره ... ولكن ما كتبه عن الإرادة والحرية بصفة خاصة أدل على هذه السليقة فيه، أو أعمق دلالة عليها من مسائل كثيرة طرقها ولا يستغرب فيها أن تتناسق وتطرد على وتيرة واحدة لظهور العلاقة بينها، وإنما اختصاص الإرادة والحرية بالتمجيد والتقديس آية من الآيات الصادقة على أصالة التفكير والشعور فيما يكتب عن هذه الأمور، أو هو آية على نفس مطبوعة بتفكيرها وإحساسها على إدراك مساوئ الاستبداد والفطنة لمواطن ضرره ومواطن طبه وعلاجه ، فلا الشجاعة ولا الكرم ولا العفة ولا المروءة تصور الخلق المطلوب في مناضلة الاستبداد كما تصوره الإرادة والحرية، ولا شيء ينفع في ذلك النضال مع فقدان الإرادة والحرية، ولا بد أن تقترنا معا لتمام الأهبة في ثورة الأمة على المستبد؛ لأن الإرادة بغير حرية تبع لصاحب السيادة؛ ولأن الحرية بغير إرادة تفقد الباعث على الحركة، فلا تدري لها وجهة تذهب إليها. ولعل العبد يعتزم ويريد ويصمد على عزمه وإرادته في خدمة سيده، فلا جدوى لغير هذا السيد في ملكة الإرادة التي يتصف بها عبيده ومطيعوه.
والاستبداد - كما لا يخفى - يتلخص في تغليب إرادة واحدة لا تسمح بإرادة أخرى تعمل إلى جانبها على خلاف هواها، فليس من الطبيعي أن يبقى لمن خضعوا له طويلا عمل يريدونه لأنفسهم ويتدبرونه فيما بينهم، فلا تعنيهم إرادة غير إرادة الحاكم المسلط عليهم، ولا يشغلهم شاغل في حياتهم غير الخوف من غضبه والسعي إلى رضاه، وشر من عملهم له راغمين خوفا منه، أن يعملوا له راضين جهلا بحقيقته وانقيادا لخداعه وخداع أذنابه ومؤيديه. •••
والواقع أن مؤلف طبائع الاستبداد قد حصر مشكلة الأخلاق جميعا في وضع واحد: خلاصته أنها «حرب إرادات بين الحاكم المطلق والرعايا المحكومين، فاستطاع - من ثم - أن يحسم المشكلة حسما سريعا بقسمة الأخلاق إلى قسمين متعارضين: قسم لمصلحة الحاكم المستبد، وقسم لمصلحة الرعايا المحكومين.
فمن مصلحة المستبد شيوع أخلاق الملق والنفاق والريبة والأثرة التي تشغل المحكوم بمنفعته القريبة دون كل منفعة عامة ينتفع بها هو أو ينتفع بها غيره بعد حين. «وأقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم - حتى الأخيار منهم - على ألفة الرياء والنفاق ... وأنه يعين الأشرار منهم على إجراء ما في نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح؛ لأن أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذي شر وعقبى ذكر الفاجر بما فيه؛ ولهذا شاعت بين الأسراء قواعد كثيرة باطلة كقولهم: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب»، وقولهم: «البلاء موكول بالمنطق»، وقد تغالى وعاظهم في سد أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه الأقوال من الحكم النبوية ...»
ومن آثار أخلاق الذلة والخضوع أنها تؤذي الأجسام فضلا عن العقول، وتشيع المرض في بنية الحي كما تشيع المرض في ضميره، وإن في ذلك شاهدا بينا «يقاس عليه نقص عقول الأسراء البؤساء بالنسبة إلى الأحرار السعداء، كما ظهر الحال أيضا ... من الفرق البين في قوة الأجسام وغزارة الدم واستحكام الصحة وجمال الهيئات».
ومن سوء أثر الاستبداد أنه «يضعف الثقة بالنفس»، ويفقد الناس ثقة بعضهم ببعض «فينتج من ذلك أن الأسرى محرومون طبعا من ثمرة الاشتراك في أعمال الحياة؛ يعيشون مساكين بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين، والعاقل الحكيم لا يلومهم بل يشفق عليهم ويلتمس لهم مخرجا، ويتبع أثر أحكم الحكماء القائل: «رب ارحم قومي؛ فإنهم لا يعلمون» ...»
ولا بقاء للاستبداد إذا تعود الناس الاشتراك في الرأي والتعاون على العمل، فعلى هذا الاشتراك يقوم نظام الرعايا الأحرار في الأمم التي سقط فيها حكم الاستبداد وخلفته حكومة الأمة للأمة؛ «فبه سر الاستمرار على الأعمال التي لا تفي بها أعمار الأفراد. نعم، الاشتراك هو السر كل السر في نجاح الأمم المتمدنة، به أكملوا ناموس حياتهم القومية، به ضبطوا نظام حكوماتهم، به قاموا بعظائم الأمور، به نالوا كل ما يغبطهم عليه أسرى الاستبداد الذين منهم العارفون بقدر الاشتراك ويتشوقون إليه، ولكن كل منهم يبطن الغبن لشركائه باتكاله عليهم عملا واستبداده عليهم رأيا، حتى صار من أمثالهم قولهم: «ما من متفقين إلا وأحدهم مغلوب» ...»
ويرى الكواكبي أن حكم الاستبداد قد استفحل بين المسلمين بعد إهمالهم حياة الجماعة والمشاورة بين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، وأن سبب الفتور الذي أصابهم - كما جاء بلسان خطيب من «خطباء» أم القرى - «هو فقد الاجتماعات والمفاوضات ... إذ نسوا حكمة تشريع الجماعة والجمعة وجمعية الحج، وترك خطباؤهم ووعاظهم - خوفا من أهل السياسة - التعرض لشئون العامة، كما أن علماءهم صاروا يسترون جبنهم بجعلهم التحدث في الأمور العمومية والخوض فيها من الفضول والاشتغال بما لا يعني، وأن إتيان ذلك في الجوامع من اللغو الذي لا يجوز، وربما اعتبروه من الغيبة والتجسس أو السعي بالفساد، فسرى ذلك إلى أفراد الأمة وصار كل فرد لا يهتم إلا بخويصة نفسه وحفظ حياته في يومه، كأنه خلق أمة وحده ...!» •••
ولما فرغ من قسمة الأخلاق بمقياسه الدائم إلى قطبين متقابلين: أخلاق الاستبداد وأخلاق الحرية، أو أخلاق لمصلحة الحاكم المطلق وأخلاق لمصلحة الرعايا، نظر في تقسيمها درجات على حسب المصلحة التي تعنى بها، وأنواعا على حسب نصيبها من الشرف والرفعة.
فالمصالح التي تحققها الأخلاق هي مصلحة الإنسان نحو نفسه، ومصلحته نحو عائلته، ومصلحته نحو قومه، ومصلحته نحو الإنسانية، وهذه هي الأخلاق العليا التي تسمى عند الناس بالناموس.
ثم هي أنواع: «الخصال الحسنة الطبيعية كالصدق والأمانة والهمة والمدافعة والرحمة ... والخصال الكمالية التي جاءت بها الشرائع الإلهية كتحسين الإيثار والعفو وتقبيح الزنا والطمع ... ويوجد في هذا النوع ما لا تدرك كل العقول حكمة تعميمه فيمتثله المنتسبون للدين احتراما وخوفا ... والنوع الثالث: الخصال الاعتيادية، وهي ما يكتسبه الإنسان بالوراثة أو التربية أو الألفة ... والتدقيق يفيد أن الأقسام الثلاثة تشتبك وتشترك ويؤثر بعضها في بعض فيصير مجموعها تحت تأثير الألفة المديدة ... ترسخ أو تتزلزل حسبما يصادفها من استمرار الألفة أو انقطاعها ... فالقاتل - مثلا - لا يستنكر شنيعته في المرة الثانية كما استقبحها من نفسه في الأولى، وهكذا يخف الجرم في وهمه حتى يصل إلى درجة التلذذ بالقتل كأنه حق طبيعي له، كما هي حالة الجبارين وغالب السياسيين الذين لا ترتج في قلوبهم عاطفة رحمة عند قتلهم أفرادا أو أمما لغاياتهم السياسية إهراقا بالسيف أو إزهاقا بالقلم.»
وهنا يئول الأمر إلى مساوئ الاستبداد في إفساد الأخلاق؛ لأن ألفة الأحوال العامة تتبعه وتنطبع انطباع العادة في ظله، «ويكفيه مفسدة لكل الخصال الحسنة الطبيعية والشرعية والاعتيادية تلبسه بالرياء اضطرارا حتى يألفه ويصير ملكة فيه فيفقد بسببه ثقة نفسه بنفسه.» •••
ولا يفوتنا - ونحن نختم القول في آراء الكواكبي - أننا أمام «برنامج عملي» يصدق عليه وصف «البرنامج»، قبل أن يصدق عليه وصف الفلسفة أو المذهب أو النظرية، فلم يكن يعنيه أن يدرس الأخلاق من وجهة الأصول العامة والمبادئ النظرية كما عناه أن يدرسها من زاوية النظر إلى الاستبداد وأثر الحكومة المستبدة التي يبدأ منها ويعود إليها في كل شرح من شروحه وكل سند من أسناده؛ ولهذا اخترنا اسم «البرنامج» لفلسفته العملية، واخترناه إنصافا لمنهجه في التفكير وتبرئة له من ضيق الحصر الذي يلازم الفكر المحدود فلا يخرج منه؛ لأنه لا يقدر على تجاوزه لأنه مشغول في بحوثه بالأمر الذي يعنيه.
الفصل الحادي والعشرون
وسيلة التنفيذ
عرضنا فيما تقدم برنامج الإصلاح في دعوة الكواكبي من أهم جوانبها السياسية والاجتماعية.
ويبدو من النظرة العاجلة - كما يبدو في إطالة النظر في هذه البرامج - أنها خطة ثورية لقلب نظام الحكم المطلق في بلاد العرب، وإقامة الحكم القومي على أساس الشورى في تلك البلاد.
فما هي وسيلة الكواكبي إلى تحقيق تلك الخطة الثورية؟
إنه لم يكتمها وإن أخفى غايتها التي لا خفاء بها مع العلم بمقدماتها ...
وسنرى أنه كان «واقعيا عمليا» في وسيلته، كما كان «واقعيا عمليا» في دعوته، فإن وسيلته التي اطمأن إليها كافية لتحقيق الغاية القصوى كما يريدها، وعلينا أن نتذكر تلك الغاية القصوى ونحصرها في نطاقها؛ لكي نعلم كفاية الوسيلة لتحقيق الغاية منها.
علينا أن نذكر أنه كان يريد قلب نظام الحكم المطلق في بلاد العرب، ولم يكن ذلك موقوفا على قلب هذا النظام في الدولة العثمانية أو قلب نظام الحكم في القسطنطينية عاصمة السلطان العثماني ومركز الحكومة التركية، فإن قلب الحكومة المستبدة في الدولة التركية قد يحتاج إلى وسيلة غير وسيلته المختارة لتحرير بلاد العرب واستقلالها بشئونها، سواء تم هذا الاستقلال دفعة واحدة أو جاء على درجات تترقى من الحكم الذاتي إلى تمام الاستقلال.
كان «الكواكبي» عربيا بتفكيره وشعوره في ثقته الكبرى «بقوة الكلمة» أو قوة الدعوة المنتظمة، وتتراءى هذه الثقة القوية بفعل الكلمة في إيقاظ الشعوب من عنوان كتاب «طبائع الاستبداد» الذي أردفه على الغلاف بسطر يقول فيه إنه «كلمات حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غدا بالأوتاد».
ومن ثقته بفعل الدعوة المنتظمة قوله في مقدمة أم القرى: «أيقنوا أيها الإخوان أن الأمر ميسور وأن ظواهر الأسباب ودلائل الأقدار مبشرة أن الزمان قد استدار ونشأ في الإسلام أقطاب أحرار وحكماء أبرار، يعد واحدهم بألف وجمعهم بألف ألف، فقوة جمعية منتظمة من هؤلاء النبلاء كافية لأن تخرق طبل حزب الشيطان وتسترعي سمع الأمة مهما كانت في رقاد عميق، وتقودها إلى النشاط وإن كانت في فتور مستحكم عتيق ... لأن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها الثبات على مشروعها عمرا طويلا يفي بما لا يفي به عمر الواحد الفرد، وتأتي بأعمالها كلها بعزائم صادقة لا يفسدها التردد، وهذا هو سر ما ورد في الأثر من أن يد الله مع الجماعة، وهذا هو سر كون الجمعيات تقوم بالعظائم وتأتي بالعجائب، وهذا هو سر نشأة الأمم الغربية، وهذا هو سر النجاح في كل الأعمال المهمة؛ لأن سنة الله في خلقه أن كل أمر - كليا كان أو جزئيا - لا يحصل إلا بقوة وزمان متناسبين مع أهميته، وأن كل أمر يحصل بقوة قليلة في زمان طويل يكون أحكم وأرسخ وأطول عمرا مما إذا حصل بمزيد قوة في زمان قصير، وكلنا يعلم أن مسألتنا أعظم من أن يفي بها عمر إنسان لا ينقطع، أو مسلك سلطان لا يطرد، أو قوة عصبية حضرية حمقاء تفور سريعا وتغور سريعا ...»
قال: «ولا ينبغي الاسترسال مع الوهم إلى أن الجمعيات معرضة في شرقنا لتيار السياسة فلا تعيش طويلا - ولا سيما إذا كانت فقيرة - ولم تكن كغالب الأكاديميات؛ أي المجامع العلمية، تحت حماية رسمية؛ بل الأليق بالحكمة والحزم الإقدام والثبات وتوقع الخير إلى أن يتم المطلوب.»
فهذه الوسيلة - وسيلة الكلمة الحية والدعوة المنتظمة - كافية صالحة لتحقيق غايتها، مفضلة على الوسائل الأخرى التي قد يستخدمها الدعاة لقلب الدول وإقامة النظم وقيادة الشعوب من حال إلى حال.
فإذا انتشرت الفكرة بين قادة الرأي في البلاد العربية فقد تحققت نتيجة لا شك فيها ولا حاجة إلى نتيجة أكبر منها، وهي تصعيب كل حكم للعرب يخالف الدعوة وإحراج الدولة الحاكمة في بلادهم سواء عولت في حكمها على التعاون معهم أو اعتمدت على السطوة وحدها لإخضاعهم وتطويعهم، وكلاهما مطلب عسير لا يطول عليه صبر الحاكم الأجنبي ولا تطول فيه المحكومين.
أكان الكواكبي يزهد في الثورة الدموية أو يحجم عنها خوفا من أخطارها؟ كلا ... فقد فكر طويلا في هذه الثورة وبحث كثيرا في أحوالها، كما يظهر من استقصائه لجميع هذه الأحوال في خاتمة كتاب طبائع الاستبداد، فوقر في خلده أن تدبير هذه الثورة قبل إعداد العدة لما بعدها خطل في الرأي ومضيعة للجهود ومجازفة بالنتيجة المرجوة، ووقر في خلده - مع هذا - أن العامة لا يثورون في الأغلب الأعم إلا لأسباب محصورة قلما تجتمع في وقت واحد. «فلا يثور غضبهم على المستبد إلا عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبد على مظلوم يريد الانتقام لناموسه، أو عقب حرب يخرج منها المستبد مغلوبا ... أو عقب تظاهر المستبد بإهانة الدين ... أو عقب تضييق شديد عام مقاضاة لمال كثير لا يتيسر إعطاؤه ... أو في حالة مجاعة أو مصيبة عامة لا يرى فيها الناس مواساة ظاهرة من المستبد ... أو عقب تعرض المستبد لناموس العرض أو حرمة الجنائز أو تحقير الشرف الموروث ... أو عقب تضييق يوجب تظاهر عدد كبير من النساء ... أو عقب الظهور بموالاة شديدة لمن تعتبره الأمة عدوا لشرفها ...»
والمستبد - كما قال - لا تخفى عليه هذه المزالق مهما كان غبيا لا يغفل عن إتقانها.
وقد كاد الكواكبي يستقصي كل سبب يثير العامة ويهيج سخطهم على الحاكم لساعتهم على غير هدى منهم لغايتهم أو لعمل ينفعهم، ويدل استقصاء الكواكبي لهذه الأسباب على طول تفكيره في تدبير الثورة العامة حيث ترجى الفائدة من نشوبها، وهي - في الواقع - لا ترجى لها فائدة قبل اتضاح الخطة التي تعقبها وتستقر عليها، وقبل تعميم الدعوة إلى تلك الخطة بين القادرين على تحقيقها؛ «فإن معرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، كما أن معرفة الغاية لا تفيد شيئا إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقا؛ بل لا بد من تعيين المطلب والخطة تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل أو لرأي الأكثرية ...»
ولم يكن هذا الثائر المتمكن من قواعد الثورة ليجهل فعل القوة العسكرية في تبديل النظم وتقويض الحكومات، فقد كان يقول لصحبه ومن يخاطبهم بدعوته: «لو ملكت جيشا لقلبت حكومة عبد الحميد في أربع وعشرين ساعة!» وكان قصاراه من البيان في هذا الصدد أن يفضي به إلى ثقاته حيث لا يتأتى إعلانه في الصحافة المنشورة ولا جدوى من إعلانه ونشره، وممن صرح لهم بهذا الرأي «إبراهيم سليم النجار» الذي قال عنه في مجلة الحديث إنه لو لم يكن شيخا دينيا لكان قائد جيش فاتح ...
نعم هكذا كان ينبغي أن يفكر في تدبير الوسيلة لقلب حكومة عبد الحميد في القسطنطينية؛ لأن دعوته إلى النهضة العربية لا تغني شيئا في محاربته السلطان القائم بالأمر في العاصمة التركية ما لم تسعفه قوة السلاح، ولكنه في دعوته التي تجرد لها لا يلفي بين يديه وسيلة أنفع من وسيلته، ولا يصل إلى نتيجة مرموقة أفضل من النتيجة التي يصل إليها بالكلمة الحية والجماعة المنتظمة، وحسبه أن يبلغ بها حد الإقناع في قومه ليسقط كل حكومة تسوسهم في عقر دارهم على غير اعتقادهم واختيارهم، وإنما المسألة هنا مسألة وقت مقدور لا شك بعد انقضائه في الغاية التي يئول إليها. •••
وأيا كان القول الفصل في كفاية الدعوة وحدها لاستقلال العرب بالحكم الذاتي أو بالانفصال من الدولة العثمانية، فالحقيقة التي لا خلاف عليها أن الدعوة ألزم وسيلة من وسائل العمل النافع حين يكون المقصود إقناع أصحاب الحق بحقهم وتعزيز الثقة بأنفسهم وبإمكان الظفر بأمنيتهم، قبل التغلب بوسيلة من الوسائل على غاصب الحق أو المعارض فيه، فإن زوال القوة الغاصبة قبل اتفاق أصحاب الحق عليه وعلى الغاية من إدراكه، قد يفتح أبواب الفتنة على مصاريعها ويمهد الطريق لغاصب طارئ بعد غاصب معزول.
ويقل الخلاف في مسألة الخلافة وكفاية الدعوة لإقامتها على الصورة التي تداولتها آراء الكواكبي بألسنة المتكلمين في أم القرى، وبخاصة حين يكون الخليفة إماما روحيا محدود السلطان في شئون الدولة، فليس للسلطان العثماني في هذه الحالة وجه من الوجوه لإبطال بيعة الخلافة بالقوة العسكرية لو استطاعها مع جميع الأمم الإسلامية، المستقلة وغير المستقلة، وهو لا يستطيعها ولو تهيأت له الذريعة الشرعية لاستخدام قوته العسكرية.
على أن الراجح في تقديرنا أن الكواكبي إنما أراد شيوع الفكرة بين المسلمين ببطلان دعوى الخلافة العثمانية؛ لأن بقاء هذه الفكرة على شيوعها في العالم يومئذ قد يشل حركته ويضعف حجته، ويمثله للناس كأنه محارب للخلافة الإسلامية مؤيد للغارة عليها من جانب الدول الاستعمارية، فإذا ارتفعت هذه الشبهة فهو قمين أن يكسب الرأي العام إلى صفه، وأن يتقي دسائس الدول التي لا يعييها أن تبثها بين الأمم التابعة لها إحباطا لمسعاه؛ بل لعل هذه الدول ترحب بالخلافة المنعزلة عن الدولة وتفضلها على الخلافة التي تعترضها في ميادين السياسة الدولية. •••
ويحق لمن يترجم الكواكبي أن يتنبه إلى رأيه عن الدعوة في مقام حرج من مقامات الترجمة له وتقديره على حسب أعماله ومساعيه.
ونقول إنه مقام حرج؛ لأنه مقام النظر في النيات الخفية التي يتوقف عليها الشيء الكثير في موازين التقدير والحكم على الأعمال والأخلاق، وهي على لزومها لاستيفاء بحث المترجم وتصحيح نقده عرضة للمنازعة والمغالطة خفية المسلك على من يحسن النية وعلى من يسيئها في تقدير العظيم.
لم أكن قد لقيت الكواكبي ولا رأيته في زيارة من زياراته للقاهرة؛ لأن زيارتي الأولى كانت بعد وفاته بشهور، ولكنني لقيت من عرفوه وصاحبوه في بعض مجالس العالم الإسلامي «محمود سالم بك» فيما أذكر، وهو ممن أقاموا زمنا في باريس لنشر الدعوة الإسلامية والرد على أقوال الصحف والساسة في المسألة الشرقية، ومن هؤلاء الذين لقوه - حيث سكنت زمنا بحي العباسية - شيخ متوقد الفطنة متتبع لأحوال الزعماء الدينيين خاصة فيما يدور حول العلاقة بين القاهرة والقسطنطينية، وبين المهاجرين من بلاد الدولة العثمانية، وبين حملة الأقلام وأقطاب الدين من المصريين. وكان حي العباسية وما جاوره في ذلك العصر ملتقى الكثيرين من زوار قصر الدمرداش وقصور الرؤساء المعتزلين وأصحاب الوظائف الكبرى في القصور الخديوية، ومنها قصر القبة مسكن الخديوي «عباس الثاني» يومذاك، وقلما يقيم في سواه.
قال لي ذلك الشيخ الفطن: إن أناسا من أصحاب الكواكبي كانوا إذا سمعوا عنه أنه يعمل لحساب الخديوي ويهيئ الجو في بلاد العرب لمبايعته بالخلافة تبسموا وقالوا: والله ما يعمل الرجل إلا لحساب نفسه، ألا ترونه حريصا على الخلافة العربية القرشية حريصا على النسبة إلى قريش في بيت من بيوت الإمارة؟
ولم أعرف يومئذ موقع الصواب في هذه المظنة، ولكنني قرأت كتب الكواكبي بعد ذلك عن الدعوة فرأيت أن الرجل يدعو إلى غاية طويلة الأمد يعلم أنها لا تتم في حياة فرد واحد، ويوطن العزائم على ذلك بين قرائه وصحبه، وهو أحرى أن يطمعهم في سرعة الإنجاز وسرعة الجزاء، لو كان له مأرب يتعلق به ويعلق به آمال العاملين معه غير مضطر إلى التصريح بمراده.
وكل ما يفهم من حرص الكواكبي على الخلافة العربية القرشية أنه لم يكن يعمل لمبايعة الخديوي عباس الثاني بالخلافة الإسلامية، وأنه ربما استعان به لإضعاف خلافة عبد الحميد والانتفاع بنفوذه في البلاد المصرية، ولكنه لا يستطيع أن يوفق بين خلافة عباس الثاني ودعوته إلى الخلافة العربية القرشية «الروحية» ... ولا يرى من إشاراته إلى اختلال الأمن حول الأماكن المقدسة أنه كان يرشح أحدا من بيت معلوم؛ بل ليس بين الإمارات العريقة في أواسط القرن التاسع عشر من تنفعه دعوة الكواكبي بشروطها المقررة في «أم القرى» سواء كانت دعوة إلى الخلافة أو إلى الدولة، ولكن دعوته - تلك - بشروطها من ناحية الدين وناحية السياسية تنتهي إلى غايتها إذا تفاهم الناس على شروطها وانخلعت بيعة العثمانيين في بلاد العرب، ثم قامت الجامعة الإسلامية بعد ذلك على أساس غير أساسها المرسوم في خطط عبد الحميد.
يكفي أن يقال إن الأمة العربية تبحث عن إمام عربي تبايعه بالخلافة الروحية ليبلغ الكتاب أجله، وتصبح المسألة بعد ذلك مسألة أسماء وأيام.
خاتمة المطاف
ونتيجة الأخبار والوقائع، وزبدة التعليقات والمعلومات، أننا أمام حياة عظيمة مقدرة لعمل مسمى، يوشك كل جزء من أجزائها وكل عنصر من عناصرها أن يشير إلى ذلك العمل ويترقب الوجهة التي اتجه إليها.
فليس في ترجمة الكواكبي صفحة لا تنتظم في كتاب السيرة كما ينتظم الفصل المنتظم في السفر المجموع.
نشأته في حلب ملتقى المفارق بين المشرق والمغرب والشمال والجنوب، أو مجس النبض بين أعصاب العالم المعمور.
ومعيشته في منتصف القرن التاسع عشر، عصر النهضات القومية والمطامع الدولية، وفرصة التحفز والصراع في ميادين العلم والخلق والثروة، بين الغرب المستعد بأهبته والشرق الذي لا أهبة له غير الخوف والرجاء.
وأسرته التي نبت منها في منبت الجاه والرئاسة، ووظائفه التي تثير فيه كوامن الغضب وتدفعه كل يوم إلى مصطدم الكرامة بين إنسان وإنسان، وبين قوم وقوم، وبين فكرة وفكرة، وبين مصير ومصير.
كل جانب يأوي إليه كأنه هاتف يناديه: كن عربيا للعرب، ولا يهولنك بعد ذلك ما يكون، فلن يكون إلا الخير، ولن يكون إلا خيرا مما أنت فيه.
وتمت حياة الرجل ولم تتم رسالته في خدمة قومه، ولكنها كانت كذلك رسالة مسماة، لو اطلع على عواقبها بعد سنوات معدودات لرضي عنها واطمأن إلى عواقبها، وعلم أنه قد أراد ما يريده الزمن، أو أنه قد سبق الزمن إلى ما أراد.
وحسب المصلح صاحب الدعوة عرفانا بعظمته وإنصافا لمقصده أن يسبق الزمن وأن يحسن السبق إلى مجراه، وأن يأتي بالغد المجهول من ظلمات الغيب فيمشي فيه على هدى قبل أن تهتدي إليه شمس النهار.
وهكذا نظر الكواكبي إلى الغيب فيما اختاره من وجهة العمل للغد المجهول كأنه اليوم المعلوم.
وضع قضية الإصلاح في موضعها، وأصاب من حيث أخطأ الدعاة في زمنه، بين مخلصين منهم ومدعين!
لم تكن قضية الجامعة العربية عند الكواكبي دعوة تناهض الدعوة إلى الجامعة الإسلامية.
كلا ... ولا كانت «الخلافة الإسلامية» أمامه هدفا يرميه ويعاديه.
وكل ما في الأمر أنه نظر إلى لقب الخلافة في بني عثمان فلم يعلق عليه مستقبل المسلمين ولا مستقبل العرب ولا مستقبل الترك أنفسهم، وهم شركاء بني عثمان في الدولة والسلالة.
ولم يمض على وفاته ربع قرن حتى كان نواب الأمة التركية في أول مجلس لهم يمثلها حق تمثيلها قد عرفوا هذه الحقيقة كما عرفها الكواكبي وسجلها في أول صفحة من صفحاته، فأعلنوا عزل الخليفة قبل نهاية الربع الأول من القرن العشرين، ثم اجتمعت وفود العالم الإسلامي من نحو خمس عشرة أمة في القاهرة بعد ذلك بسنة، وانصرفوا وهم لا يحسون أن العالم الإسلامي رهين بذلك اللقب حيثما كان.
وهذه هي المعجزة ...
هذه هي آية العبقرية التي تلهم صاحبها ما يحسب اليوم كفرا ويحسب في الغد حقيقة من حقائق الإيمان والحكمة، ومصلحة من مصالح الواقع والعيان.
كان الكواكبي في عرف قوم من الجاهلين أو المتجاهلين عدو الجامعة الإسلامية، عدوا لخليفة الإسلام، عدوا لنفسه ولقومه، عدوا لإخوانه في الدين من الترك العثمانيين.
ثم ارتفع حجاب من حجب الغيب فلم يبق أحد يخالف ذلك العدو المبين في دعوة دعاها أو في نية خفية انتواها؛ لأنه صنع المعجزة بعبقريته الملهمة، وإنما العبقرية الملهمة من آيات الله.
ولم يزل سبق الزمن كرامة العبقرية التي من أجلها استحقت الذكرى بعد زمانها، واستحقت الإعجاب من كل ذي طبع قويم وكل ذي سليقة إنسانية تحس أنها ذات نصيب من عظمة الإنسان، ولكن الإعجاب الصادق البصير يضيف إلى تحية العظيم مزيدا من العلم بمعدنه ومعدن العبقرية فيه، وما كان مبلغ القدرة في العبقرية الكواكبية أنها مجهر كبير يريه مدى السنين حيث يقصر النظر حوله عن مدى الأيام، ولا كانت قدرته كالمفتاح الذي يدير لوالب الزمن إلى الأمام عشرين درجة أو أربعين سنة أو خمسين ... هذه قدرة لو صحت على هذه الصفة لكانت إلى قدرة الصناعة أقرب منها إلى قدرة الفكر والضمير، وإنما كانت عبقرية الكواكبي ملكة نادرة تتلاقى فيها فضيلة العقل الثاقب وفضيلة الضمير الأمين.
كان مقتدرا بعقله على التمييز بين الأشكال والعناوين وبين الحقائق والأعمال، وكان خبيرا بالتفرقة بين عوامل البقاء والنهضة في الأمم وبين مراسم السمت والزينة في الدول والحكومات، وكان يدرك موقع الخطر وموقع السلامة، فلا يهوله ذهاب لقب ولا ييأس من مصير أمة تأخذ بأسباب الحياة.
وكانت هذه فضيلة العقل الثاقب في هذه العبقرية الملهمة.
أما فضيلة الضمير الأمين فيها فهي التي أبت عليه أن يكتم ما يعلم، وأوحت إليه أن يعلم بما اهتدى إليه ولا ينكص على عقبيه.
والدنيا لا تضن بإعجابها على عبقرية تنفرد بالفكر السديد ولا عبقرية تنفرد بالخلق الحميد.
ولكن الجدير بالإعجاب والتشريف معا عبقرية يلتقي فيها سداد الفكر وشجاعة الضمير.
Unknown page