المقال الثالث
عبد الناصر لم يتحول تجاه اليسار ... وإنما حول اليسار تجاهه!
من حق اليسار، قبل أن نفسر موقفه من التجربة الناصرية أن نرد على سؤاله المشروع: لماذا التركيز على سلبيات هذه التجربة في هذه الأيام؟
إن هذه الظاهرة قد لا تكون كلها عن سوء نية، أو عن رغبة في اصطياد الأخطاء؛ ذلك لأن الإيجابيات معروفة، وهي ليست معروفة فحسب، بل ظلت تعاد وتكرر وتردد على مسامعنا حتى حفظناها عن ظهر قلب.
وأصبحت تؤلف نسبة كبيرة مما يتعلمه أبناؤنا في المدارس ويمتحنون فيه آخر العام. وإنه لمن الطبيعي تماما، بعد أن ظلت وسائل الإعلام كلها تردد على مسامعنا وأمام أعيننا الحديث عن هذه الإيجابيات ثمانية عشر عاما، أن يكون رد الفعل بعد ذلك هو التركيز على السلبيات، فتلك ظاهرة إنسانية لا مفر منها. ولو شئنا أن نحدد المسئولية الحقيقية عن الحملة التي تركز على سلبيات التجربة الناصرية في هذه الأيام، دون إيجابياتها؛ لقلنا إن المذنب الأكبر في ذلك هو أجهزة الإعلام في العهد الناصري؛ إذ إن تركيزها على الدعاية للإيجابيات وحدها، والأسلوب المفرط في المبالغة، الذي كانت تلجأ إليه في هذه الدعاية، يتحمل النصيب الأكبر من المسئولية عن رد الفعل الذي يظهر في هذه الأيام.
ومن ناحية أخرى فإن الوعي السياسي الناضج لا يجد غضاضة في التركيز على السلبيات، مهما كانت قيمة الإيجابيات التي تقف إلى جانبها. ولدينا على ذلك مثل واضح في موقف الصحف الأمريكية من نيكسون أيام أزمة ووترجيت: إذ كان نيكسون قد اكتسب قبلها رصيدا إيجابيا، وخاصة في ميدان السياسة الخارجية يضعه في مستوى الرؤساء الأمريكيين القلائل جدا الذين نجحوا في تغير وجه السياسة الأمريكية تغييرا جذريا نحو الأفضل، ولكن ظهور فضيحة ووترجيت جعل الجميع يركزون على الجوانب السلبية في حكمه، ولم يشفع له نجاحه التاريخي في الميدان الخارجي، ولم يحاول هو ذاته أن يلتمس لنفسه عذرا بهذا النجاح؛ ذلك لأن الخطأ يظل خطأ حتى لو أحاط به الصواب من كل جانب.
وقل مثل هذا عن تشرشل حتى أسقطه الشعب البريطاني في الانتخابات عقب الحرب العالمية الثانية التي أحرز فيها تشرشل انتصارا سيذكره له التاريخ، أو عن ديجول الذي سقط في آخر انتخابات دخلها، بعد أن أنقذ بلاده من تخبط الجمهورية الرابعة وسياستها الحمقاء، ووضع السياسة الفرنسية في طريق الاستقرار؛ فضلا عن اعترافهم به بطلا قوميا أثناء الحرب العالمية الثانية.
وبالاختصار، فقد تكون المسألة راجعة إلى عاطفية مفرطة لدى الشرقيين، أو إلى عدم النضج الذي يجعلهم يخلطون بين العواطف على المستوى الشخصي والأحكام على المستوى السياسي الموضوعي. ولكن أيا كان الأمر فإن من يهتف في كل مرة يقرأ فيها حكما سلبيا على التجربة الناصرية: لماذا لا تذكرون الإيجابيات؟ ليس دائما على صواب. ومن يركز حديثه على السلبيات وحدها ليس دائما على خطأ.
والآن، أعود فأتساءل: ما الذي جعل اليسار يتخذ هذا الموقف، ويدافع دفاعا مطلقا عن تجربة لم تكن في حقيقتها يسارية بالمعنى الصحيح، ولم يكن لها من مقومات الاشتراكية، بالمقاييس العلمية الصحيحة، إلا أقل القليل؟
هذا السؤال يدخل بنا إلى لب الموضوع، ومن خلال إجابتنا عنه يمكن أن توضع قضية اليسار والتجربة الناصرية في موضعها الصحيح.
Unknown page