قالت: «ولكني لا أفهم ...»
قلت: «ستفهمين كل شيء ... بعد أن أتنفس وأشكر الله.»
ثم قصصت عليها الحكاية، فضحكت، ولما سكنت الضجة، واستطاعت أن تتكلم أخبرتني أني غلطت، وأن هذا مسكن جيران، وأن كلبهم كان قد ضاع، فرده عليهم بعضهم، وأن هذه السيدة الضخمة لا بد أن تكون قد استرابت بي وشكت في أمري، لأنها تعرف الذي أعاد الكلب، ففهمت ما بدا منها من الجفوة، ولماذا تركتني واقفا على عتبة الباب وأبت أن تدعوني إلى الدخول.
فقلت: «إذن ناوليني بوبي ...»
وحملته عنها وصعدت معها إلى أمها ...
وضحكنا كثيرا في ذلك المساء، ولا أحتاج أن أقول إني نسيت صديقي وعشاءه ... وهبني لم أنسهما، فإني لا أعرف البيت.
نزهة وسليمة باشا
قلت يوما لإخواني - وأنا في بغداد: «يا ناس حرام عليكم. ألا سبيل إلى السماع في بلادكم؟ فقد صدئت أذني، وأخشى - إذا اقتصر الأمر على الولائم - أن أنقلب، من رأسي إلى أخمص قدمي، معدة ليس إلا.»
فسكتوا يومين، ثم ضربوا لنا موعدا بعد عشاء - فقد كانت أوقاتنا مكظوظة بالمآدب - ثم مضوا بنا إلى بيت أنيق، في حي جديد، وقالوا: «تفضلوا»، فتفضلنا - أعني دخلنا. وأنا أعجب لمن هذا البيت؟ ولماذا جاءوا بنا إليه؟ وكانت التي فتحت لنا الباب جارية قصيرة عظيمة الثديين، ثقيلة الردفين، ولا عنق لها. ففزعت من هذه «الفاتحة» واستعذت بالله في سري، وتوجهت إليه تعالى بقلبي فقلت: «يا رب، يا رءوف، يا لطيف، إنك تعلم أني ههنا غريب، وأني فوق ذلك ليتيم، وأولادي صغار، فارحمني والطف بي وبهم في قضائك.»
فاستجاب الله دعائي بسرعة، ولا عجب، فإنه تعالى رحيم كريم، وهذا عصر اللاسلكي. ورقينا في سلم عالي الدرج، وأنا أكره السلاليم، وأتقي الصعود فيها، ولم أكن أعلم أن الله سبحانه قد استجاب لي، فقلت: هي ليلة سوداء، وأمري إلى الله ولا حول ولا قوة إلا به، وندمت على ما اشتهيت وطلبت ... وفرغنا من هذه المرقاة التي دوختني وقطعت أنفاسي، وخلصنا منها إلى ما كان حقه - لو كان البيت في مصر - أن يكون ردهة تتوسط الحجرات، ولكنها هنا شرفات على محاذاة الجدران الأربعة، يطل منها المرء على صحن الدار، ونظرت فإذا إلى اليمين غرفة صغيرة في وسطها صينية عظيمة مثقلة بالصحون الملأى بألوان شتى من الآكال، ولم أعدها، ولكنها فيما خيل إلي لا تقل عن ستين أو سبعين صحنا، فحولت وجهي عنها لأني شبعان، ودخلنا حجرة واسعة وثيرة الأثاث أنيقته، فأدرت عيني فيها وقد انشرح صدري، واستويت على مقعد مريح جدا، ووضعت رجلا على رجل، وشرعت أدخن.
Unknown page