تقديم الطبعة الثانية
هذه هى الطبعة الثانية من كتاب «البرصان والعرجان» لشيخنا أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. وكان من المأمول في الطبعة الأولى أن أراقب طبعها وإخراجها وصنع فهارسها. ولكن شاء القدر ألا أراها إلا بعد أن ظهرت لى من وراء الغيب مطبوعة مفهرسة بيد غيرى في سلسلة منشورات وزارة الثقافة والإعلام بالجمهورية العراقية. وهو أمر لم أصنعه ولم أعهده من قبل في جميع ما ظهر من كتبي المؤلفة أو المحققة. وقد ترتب على هذه الغربة التى طوّح فيها الكتاب أن تكثر أخطاء الطبع ويسوء الإخراج، ويشيع الخطأ والنقص كذلك في الفهارس التى أعدّها من صميم الأمانة في التحقيق.
ومع إيماني بأن الذين قاموا بإخراج الطبعة الأولى قد بذلوا كثيرا من الجهد في تصحيح تجارب الطبع وأنا لم آذن لهم به، إنّى أرانى قد طويت النفس على أسى عميق وأسف بالغ، وانتظرت على مضض منّى حتى تتاح لي فرصة إعادة الطبع.
وإني لسعيد اليوم إذ أتيح لي أن أخرج الطبعة الثانية التي باشرتها بنفسي كلمة كلمة وحرفا بحرف، وقمت بصنع فهارسها على الوجه الذي أرتضيه.
وعسى أن أكون قد وفقت فيما صنعت، وأنقذت هذا الكتاب الذي أعتز به وبإخراجه ليكون في ثوبه المرتضى، ونصابه الموثق المحقق.
1 / 5
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت وإليه أنبت.
عبد السلام محمد هارون مصر الجديدة في ١٤٠٧ هـ- ١٩٨٧ م.
1 / 6
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرّحمن الرّحيم كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما، حينما التقيت بالمغفور له الأستاذ العلامة حسن حسني عبد الوهاب التونسي الصمادحي (١٣٠١- ١٣٨٨ هـ- ١٨٨٤- ١٩٦٨ م) وذلك في دار المعارف بالقاهرة، وجرى ذكر هذا الكتاب فوعدني بصورة منه، وحالت ظروفه دون إنجاز ما وعد.
وفي أثناء عملي بجامعة الكويت في سنة ١٩٦٨ زارني في مكتبي المغفور له العلامة خير الدين الزركلي (١٣١٠- ١٣٩٦ هـ- ١٨٩٣- ١٩٧٦) وجرى الحديث بيننا في شأن الكتاب، فأخبرني أنه يمتلك صورة مصغرة منه (ميكرو فيلم) وأنه يعتزم إهدائي هذه النسخة لأقوم بتحقيقها ونشرها. وما إن رجع إلى مقره في بيروت حتى أوفد فاضلا من أقربائه حاملا هذه الهدية الثمينة، فبادرت بتكبيرها، وعكفت على النظر فيها إلى أن تحين فرصة تحقيقها ونشرها.
وكنت بين الفينة والأخرى أراجع بعض نصوصها، وأحاول فتح أغلاقها، وهي النسخة الوحيدة المعروفة في العالم كله، التى تقيم الآن في مدينة «بزو» في مكتبة الزاوية العباسية بالمغرب الأقصى. ومنها نسخة مصورة في الخزانة العامة للكتب بمدينة الرباط برقم ٨٧.
ومنذ عامين (في أوائل ديسمبر ١٩٧٩) تفضل المسئولون عن الثقافة في العراق الشقيق، بمكاتبتي لإعداد كتاب البخلاء للجاحظ ليكون هدية المهرجان في الاحتفال بالجاحظ رائدا للفكر العربى الموسوعي، في
1 / 7
غضون الأسبوع الأول من تشرين سنة ١٩٨٠ وذلك بناء على نبأ يقول:
إننى قد عثرت على نسخة مخطوطة منه لم يرها أحد من قبل، وإننى عاكف على تحقيقها. فكتبت إليهم معتذرا بأن هذا الخبر محرف، وإنني «لم أعثر إلى الآن على مخطوطة جديدة للبخلاء، وأتمنى أن أعثر عليها، وإنما أعكف الآن على إكمال تحقيق كتاب البرصان والعرجان للجاحظ من نسخته الوحيدة في العالم كله، التى صدرت عنها طبعة مشوهة تشويها مبنيا على نقص الخبرة بقراءة المخطوطات، وعدم التمرس الكامل بأسلوب الجاحظ» .
وذلك أن نسخة الكتاب، وطبيعة تأليفه، وندرة نصوصه، كل أولئك يلقي فوق كاهل الناظر فيه ما ينوء بحمله. وأشهد لقد كان مستوى الجهد الذي بذلته في تحقيق كل ما أخرجت من كتب شيخنا أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، أهون بكثير من هذا الجهد الجهيد الذي بذلته في تجلية كتابنا هذا، وذلك لما يطوي بين ثناياه من إشارات، وما يقتضى من تفسير وتوضيح ضنّ الجاحظ نفسه به على هذا الكتاب، الذي يقول فيه وفي أمثاله:
«وأنا أعلم أن عامّة من يقرأ كتابي هذا وسائر كتبي لا يعرف معاني هذه الأشعار، ولا يفسر هذا الغريب. ولكني إن تكلفت ذلك ضعف مقدار كل كتاب منه. وإذا طال جدا ثقل. فقد صرت كأني إنما أكتبها للعلماء [١]» .
ومن ثمّ كان إكبابي على إعداد نسختي هذه من البرصان ملتمسا عون الله وكان من المترقّب أن تظهر هذه النسخة في الأسبوع الأول من تشرين
_________
[١] ص ٣١ من المخطوطة.
1 / 8
الثاني سنة ١٩٨٠. ولكن الظروف التى طرأت من بعد حالت بين الكتاب ورؤية النور، ثم كان للكتاب أن يظهر في هذا الوقت الذي قدّره الله، وله الحمد والثناء.
اسم الكتاب:
العنوان الذي أبقاه الدهر على صدر الورقة الأولى من المخطوطة بخط يخالف خط صلب الكتاب هو:
«كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان» . كما أن الثابت في نهاية المخطوطة بخط الناسخ الأصيل للكتاب:
«تم كتاب البرصان والعميان والعرجان والحولان» .
ولكنا نجد في كتاب البيان والتبين [١] الذي ألفه الجاحظ بعد كتابنا هذا، ما صورته:
«احتجنا إلى أن نذكر ارتفاق بعض الشعراء من العرجان بالعصيّ، منذ ذكرنا العصا وتصرفها في المنافع. والذي نحن ذاكروه من ذلك في هذا الموضع قليل من كثير ما ذكرناه في كتاب العرجان» .
وكذلك نجد في مقدمة كتابنا هذا القول [٢]:
«وقد خفت أن تكون مسألتك إياي كتابا في تسمية العرجان والبرصان والعميان والصمان والحولان، من الباب الذي نهيتك عنه، وزهدتك فيه» .
_________
[١] البيان ٣: ٧٤.
[٢] صفحة ٤ من المخطوطة.
1 / 9
ويقول بعد ذلك بقليل [١]:
«وسألتنى أن أبدأ بذكر البرصان، وأثنّي بذكر العرجان» .
فإذا خرجنا من أجواء الكتاب نلتمس تسمية له، لا نكاد نجدها إلا في مواضع يسيرة، تتمثل فيما ذكره ياقوت في معجم الأدباء [٢]: «كتاب العرجان والبرصان» فقط، بتقديم العرجان على البرصان، وهي التسمية التى اقتبسها السندوبي في كتابه: «أدب الجاحظ» [٣] ونقلها عنه بروكلمان في كتابه:
«تاريخ الأدب العربي» [٤] .
ومنها بغية الوعاة للسيوطي، تذكر له «كتاب العرجان والبرصان والقرعان» .
والذي يبدو أن الجاحظ لم يستقر على وضع ثابت في تسمية الكتاب، فقد بدأ كتابه بالكلام على البرصان من ص ١٣- ٧٠ من المخطوطة، ثم ثنّى بالكلام على العرجان من ص ٣٠- ١٣٠ من المخطوطة. كما يبدو أنه أفرد كتابا للعميان والحولان، إذ نجده يقول في كتابنا هذا:
«وقد ذكرنا شأن عمرو بن هداب والذي حضرنا من مناقبه في «كتاب العميان»، فذلك لم نذكره هنا» .
والملحوظ أيضا أن الجاحظ في كتابنا هذا لم يعقد بابا أو فصلا
_________
[١] صفحة ٨ من المخطوطة.
[٢] معجم الأدباء ١٦: ١٠٧.
[٣] أدب الجاحظ للسندوبي ص ١٣٥.
[٤] تاريخ الأدب العربى ٣: ١٢٣.
1 / 10
للعميان ولا الحولان ولا الصّمّان، وإن كان قد أورد أخبارا يسيرة ونتفا ضئيلة في ثنايا الكتاب لا تمثّل الجدّية ولا القصد المباشر [١] .
لهذا كله آثرت بداعي التّصوّن أن أستبقي عنوان الكتاب كما ورد على ظاهره، وكما سطر في آخره، وإن كانت شهرة الكتاب قديما تحتفظ بكتاب «البرصان» أو «كتاب العرجان» .
ولعل أقدم المؤلفات التي أشارت إلى كتابنا هذا هو كتاب (طبقات الشعراء لابن المعتز) الذي ألف كتابه قبل سنة ٢٨٠ أى بعد وفاة الجاحظ بربع قرن تقريبا، إذ نجد فيه هذا النص، في ترجمة أبى الخطاب البهدلي [٢]:
«وأشعار أبي الخطاب كثيرة جيدة، وهو أحد العرجان، ذكره الجاحظ في كتابه» .
ويأتي بعده أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري (٣٥٠- ٤٢٩) اقتبس منه في ص ١٠٤ من كتابه «ثمار القلوب» عند الكلام على «سعد المطر» . وهو نص مسهب [٣] .
كما روى عنه في ص ٢٤١ عند الكلام على «راحة صباغ»، وأنشد
_________
[١] انظر للعميان ص ١٣، ١٥، ٥٥، ٧٩، من المخطوطة. وللعوران ص ٣٨ وللحولان ١١٥ وللصمان ص ٤٦.
[٢] طبقات الشعراء لابن المعتز ١٣٥. ولم أجد لهذا النص من أثر في الكتاب. ولعله قد سقط من الكتاب. وأبو الخطاب هذا هو عمرو بن عامر، كان راجزا فصيحا راوية، أخذ عنه الأصمعى وجعله حجة وروى شعره. ابن النديم، ٧، ٢٣٣ وإنباه الرواة ٤: ١١٣ وجعل ثعلب اسمه عمرو بن عيسى. أنظر مجالس ثعلب ١٩٤.
[٣] أنظر ص ٥٥ من المخطوطة.
1 / 11
الأبيات اليائية الأربعة التي أولها:
وصفت بجهدى وجه حفص وخلقه ... فما قلت فيه واحدا من ثمانية [١]
ويأتى من بعدهما المرتضى المتوفى سنة ٤٣٦ الذي نظر في كتاب البرصان وأشار إليه في موضعين من أماليه في الجزء الأول:
الموضع الأول في ص ١٦٨ يقول في الكلام على بشر بن المعتمر:
«وذكر الجاحظ أنه كان أبرص» [٢] .
والموضع الثانى في ص ٣٠٣ عند الكلام على ذي الإصبع العدواني:
«وذكر الجاحظ أنه كان أثرم»، وروي عنه:
لا يبعدن عهد الشباب ولا ... لذّاته ونباته النّضر [٣]
فإذا ارتقينا إلى القرن الثامن الهجري وجدنا الحافظ مغلطاي بن قليج (٦٨٦- ٧٦٢) في حواشي نسخته من معجم الشعراء للمرزباني، يروي عن كتاب البرصان نقولا ثلاثة، كما نبه على ذلك المستشرق الألماني «فرتيس كرنكو» أو «سالم الكرنكوي» كما كان يؤثر هذه التسمية:
أولها في حواشي ص ٢٧٩: «قال الجاحظ في كتاب البرصان [٤]»: «أبو طالب أول هاشمي في الأرض ولده هاشميان [٥]» .
والثاني في حواشي ص ٣٦٠: «قال الجاحظ في كتاب البرصان تأليفه: ومن البرص الأشراف، والرؤساء المتوّجين مالك ذو الرّقيبة. وهو
_________
[١] ص ١١١ من المخطوطة.
[٢] انظر ما يقابله في ص ٥٧ من المخطوطة.
[٣] انظر لهذا النص ص ١٨٥- ١٨٦ من المخطوطة.
[٤] في الأصل: «البرسان» .
[٥] انظر ص ١٤ من المخطوطة.
1 / 12
الذي غصب الزهدمين» [١] .
والثالث في حواشي ص ٣٩٥: «معاوية بن حزن بن موءلة، عرف بالمخجّل، على الكناية من البياض والبرص، قال يفخر ببياضه فيما ذكر الجاحظ في كتاب البرصان:
يا مىّ لا تستنكري حويلي ... ووضحا أوفى على خصيلي [٢]
فإذا كان القرن التاسع وجدنا الحافظ بن حجر العسقلاني (٧٧٣- ٨٥٢) يذكر كتاب البرصان في قوله: «وقع للشيخ مغلطاي في شرح البخاري في أول كتاب التيمم نسبة قصة الأسلع هذا إلى الجاحظ في كتاب البرصان» [٣] وهذا النص المشار إليه يقع في نهاية ترجمة الأسلع العرجي من كتاب الإصابة.
لمن ألف الجاحظ هذا الكتاب؟
يذكر التاريخ أن الجاحظ سمى كثيرا من كتبه لكثير من الولاة والكتّاب والقضاة، وأنه أهدى (كتاب الزرع والنخل) إلى إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب، و(كتاب الحيوان) إلى الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، كما أهدى إليه (كتاب الأخلاق المحمودة والمزمومة) و(كتاب الجد والهزل) أيضا. وأنه أهدى كتاب (البيان والتبيّن) إلى القاضي أحمد بن أبى دواد، كما أهدى إليه (كتاب الفتيا) . وأهدى إلى ولده القاضى محمد بن أحمد بن أبي دواد (كتاب المعاش والمعاد)،
_________
[١] انظر ص ٤٠- ٤١ من المخطوطة، والاقتباس هنا مبتور.
[٢] انظر ص ١٥ من المخطوطة.
[٣] في الأصل: «البرهان» وانظر هذا النص في ص ٦٠ من المخطوطة.
1 / 13
ورسالته في (نفي التشبيه)، ورسالته في (النابتة) . وكذلك أهدى (كتاب مناقب الترك) إلى الفتح بن خاقان وزير المتوكل. وأهدى (كتاب فصل ما بين العداوة والحسد) إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل ثم المعتمد. ووجّه (كتاب التربيع والتدوير) إلى أحمد بن عبد الوهاب الكاتب. و(كتاب مدح النبيذ وصفة أصحابه) إلى الحسن بن وهب الكاتب. وأهدى (رسالة المودة والخلطة) إلى الكاتب أبي الفرج محمد بن نجاح بن سلمة.
وهكذا نجد أن معظم كتبه ورسله ورسائله مهداة إلى من عرف التاريخ أسماءهم.
ولكن كتابنا هذا لم نقف على من ألف الجاحظ له هذا الكتاب، ورسم له منهجه، وحمله على تأليفه. وعسى الأيام أن يظهرن فيما بعد اسم من حمل الجاحظ على أن يقوم بصنع هذا الكتاب..
منهج الكتاب:
الكتاب كما يبدو مفصّل الأبواب، واضح التقسيم والتبويب، ولكننا لا نجد فيه قولا شافيا في جانب العميان والحولان، طبق ما هو مثبت في عنوانه المدوّن على وجهه، على حين نجد إضافات مسهبة للكتاب في ذكر عاهات لم ينص عليها في العنوان، كالحدب، والوقص، والأدران، والمفاليج، والأشجّين، ومن أصابته اللّقوة واعوجاج الوجه، وذوي الأعضاء المرغوب عنها لشبهها بالحيوان، ومن سقي بطنه، ومن قتلته الصواعق والرياح، وصغار الرءوس وكبارها، والكلام في الأعناق، والصّلع والقرع وذوي الجمم، والأعين والأعسر والأضبط.
هذا إلى ما تناثر في تضاعيف الكتاب من موازنات شتى ومضارعات
1 / 14
بين الإنسان والحيوان في كثير من الأمر، ومن يسير من القول في العميان، والعوران، والحولان، والصمان، والثّرم، أشرت إليه في حواشي الورقة السادسة من هذا التقديم.
ولم يرد الجاحظ بكتابه هذا أن يذكر العيوب والعاهات نعيا على أربابها، بل قصد بذلك أن يجلو صورة ناصعة مشرقة لذوى العاهات الذين لم تكن عاهاتهم لتحول بينهم وبين تسنّم الذرى. وقد مهّد لذلك بسرد شواهد وآثار من أدب العرب القدامى والمعاصرين له، في الاعتزاز ببعض العاهات والدفاع عنها والصعود أحيانا إلى الفخر بها والتمدّح، وصدق الانتماء.
وأشار في ذكاء إلى ذوي العاهات لهم ذمّة وميثاق عند من يطّلعون على عوراتهم وعيوبهم من الأطباء الذين يظهرون على شتى العيوب الباطنة السرّيّة، وكذلك المغسّلون الذين يطّلعون على هنات الموتى، إذ يقول:
«وأول الشروط التى وضعت في أعناق الأطباء ستر ما يطّلعون عليه في أبدان المرضى. وكذلك حكم من غسّل الموتى» [١] .
وهذه نظرة كريمة منه، وعزاء لمن تلقّى هذا الحظّ في دنياه بالرضا والصبر، أو بالسّخط والجزع.
وهو يقول في معرض النقد لكتاب الهيثم بن عدي، الذي كان تأليفه المغرض داعية لأن يطلب من الجاحظ تأليف هذا الكتاب:
«وقد خفت أن تكون مسألتك إياى كتابا في تسمية العرجان والبرصان، والعميان والصمان والحولان، من الباب الذي نهيتك عنه،
_________
[١] الصفحة ٨ من المخطوطة.
1 / 15
وزهّدتك فيه. وذكرت لي كتاب الهيثم بن عدي في ذلك، وقد خبّرتك أني لم أرض مذهبه، ولم أحبه له حظا في حياته، ولا لولده بعد مماته» [١] .
ثم يسوق الجاحظ نموذجا من كتاب الهيثم بن عدي في العرجان، الذي ليس فيه إلا سرد أسماء من ذكرهم من العرج الأشراف، ويعقّب عليه بقوله: «ولم يك ذكر غير هؤلاء» . ثم يقول:
«وذكر العميان، وكان الذي ترك منهم أكثر مما ذكر. والعرج الأشراف أبقاك الله كثير، والعمى الأشراف أكثر» .
فمذهب الجاحظ في هذا الكتاب ليس مذهب السرد أو التشهير، أو ذكر المثالب كما عناه الهيثم بن عدي صاحب كتاب المثالب، وإنما كان مذهبه في هذا الكتاب الفذ أن يجعله ذريعة إلى بيان نظرة العرب في أدبهم وأشعارهم إلى هؤلاء القوم الذين كتبت عليهم العاهة، وتعاملهم الإنسانيّ الرفيع معهم بالقول والفعل، الذي قد يصل إلى الإسراف في مدحهم إياهم بما بدا عليهم من تلك المظاهر أو استتر.
وحينما يتناول البرص والبرصان يسهب القول ويفيض فيه ويذكر أنواعه وأسماءه، ثم يتطرق إلى بيان مختلف أسبابه وعلله ومحاولات العرب وغيرهم في علاجه بضروب من الأصباغ، وألوان من الكى بالنار.
وهو كذلك لا يذكر الأمراض والعلل الأخرى كالاستسقاء واللّقوة والشجج، إلا ليذكر الذي رووا من الأحاديث والأخبار في ذلك الداء، ومن الروايات في ذلك الدواء، وكيف كانت تعزية العائد، وجواب المعود، وكيف كان دعاؤهم، وبأيّ ضرب من الكلام كان ابتهالهم؛ فإن ذلك
_________
[١] الصفحة ٤ من المخطوطة.
1 / 16
عظة لمن وعاه وصلاح لمن استعمله [١] .
مخطوطة الكتاب:
هى في الواقع مجموع يحمل رقم ١٦ في مكتبة «بزو» . وفيه كتب ثلاثة تقع في ٢١٤ صفحة لا تحمل تاريخا، وقد انطمس ترقيمها القديم وأثبت بدله ترقيم حديث بما يسمى اليوم بالأرقام الإفرنجية، وهي الأرقام العربية الأصيلة التي أخذها الفرنجة عن عرب الأندلس والمغرب.
وأول المجموعة هو كتابنا هذا. والكتاب الثانى كتاب الوكلاء، والثالث كتاب الصوالجة. والكتابان الأخيران لا يزال الحجر ساريا عليهما، ومن العسر بمكان أن يسمح القائمون بأمر المكتبة بتصويرهما [٢] .
وصفحة عنوان المخطوطة مسطور عليها:
كتاب البرصان والعرجان والعميان والحولان وكتاب الوكلاء، وكتاب الصوالجة تأليف أبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ تميم بن المعز:
كتبت ولو كتبت بقدر شوقي ... لأفنيت القراطس والمدادا
ولكنى اقتصرت على سلام ... يذكرنى الأحبة والودادا
وقد أثبت في أعلى الصفحة وجوانبها اليسرى هذه التمليكات.
_________
[١] الصفحة ٧ من المخطوطة.
[٢] كان من حظ كتاب (الوكلاء) أن أقوم بتحقيق جانب منه في مجموعة رسائل الجاحظ ٤: ٩٥- ١٠٥ وقد نشر شيئا يسيرا منه ريشر في ص ١٩٤- ١٩٥ وكذلك نشر قدر ضئيل منه في مجموعة الساسى ١٧٠- ١٧٢.
1 / 17
لإبراهيم بن عمار أحمد ثم لإبراهيم بن عبيد الله بن محمد ...
ثم لمروان بن عيسى بن يحيى ... يثق بالله ويتوكل عليه عبده ...
عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن.
ثم ساقته المقادير للفقير إلى عفو الله تعالى محمد بن الشبلي لطف الله به وفي أيمن الصفحة تحت بيتي الشعر:
ملكا لمحمد بن على، اشتراه بوقية ونصف.
وفي نهاية أسفل الصفحة سطور خمسة كتب فيها:
باب هلاك العدو و... تأخذ ترابا من تحت رجلية وتخلطه مع ال ... وتعمل منه قرصة وتنقش عليه هذه الحروف بشوكة العقرب وتغرسها فيه و[تلقى] قرصته في النار ترى عجبا فيه....... الاط.......
أما صفحات كتاب البرصان فهى ٢١٢ صفحة في كل صفحة تسعة عشر سطرا مكتوبة بالخط الأندلسي الواضح الضارب إلى الجمال مع الشكل الكامل غالبا، وبعض تصحيحات ذاهبة في الندرة على هامش الصفحات.
وقد وقع خطأ ظاهر في أوضاع الصفحات وترتيبها لم يتنبّه له من أثبت أرقام الصفحات مسلسلة، وجلدت النسخة بناء على هذا الخطأ، ولكني تمكنت من تدارك هذا الخطأ بمتابعة سياق النص، وأعدت النسخة إلى صواب ترتيبها طبقا للنموذج الموضح بالصور المبيّنة على الصفحات التالية:.
كتاب الهيثم بن عدي:
ألحق بكتاب البرصان صفحتان كتب في أولاهما: «قال الهيثم بن
1 / 18
عدي» . وتحملان خمسة عنوانات: العميان الأشراف، العور، الحولان، الزّرق، الفقم وفي آخر سطر منهما:
ملكهم عبيد الله تعالى الحسن بن على الجلاوى ثم اليكليزى ...
وليس من المعقول أن تكون هاتان الصفحتان كتابا كاملا، أو ملخصا لكتاب الهيثم، فإن الجاحظ نفسه ينقل عنه في صلب كتابه، ويقول:
«قال الهيثم بن عدي: العرج الأشراف: أبو طالب، معاذ بن جبل، عبد الله بن جدعان» إلى آخر ما اقتبسه. على حين لا نجد في هذا النص المبتور شيئا من هذا. فلا يعدو الأمر في هاتين الصفحتين أن تكون شيئا من نصوص كتاب الهيثم..
تحقيق الكتاب:
كان لندرة نصوص البرصان وكثرة ما تزخر به من أعلام، مجهولة وإشارات أدبية وتاريخية غامضة، ما يتقاضى محقّقها ومفسرها كثيرا من الجهد، وصبرا جميلا في التهدى إلى مظانها في بطون المراجع، وحرصا على البعد عن مزلّات الفهم، كما كان رسم كلمات النسخة، والنمط الذي سارت عليه في الكتابة وفي الضبط، مقتضيا للتريث وطول النظر.
ولولا طول العهد منى بصحبة الجاحظ، ومعايشة أسلوبه ومراميه، لم يخرج هذا الكتاب بهذه الصورة التي ظهر بها، والتى أرجو أن أنال بها رضا الله جل وعز، ورضا الناس.
1 / 19
فالحمد لمن له الحمد وحده، ومن له الثناء كله، وهو الهادي لمن اهتدى، وما كنّا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
عبد السلام محمد هارون مصر الجديدة فى صبيحة الخميس ٢٦ من ربيع الأول ١٤٠٢ ٢١ من يناير ١٩٨٢.
1 / 20
[كتاب البرصان]
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وسلّم وهب الله لك حبّ الاستماع، وأشعر قلبك حسن التبيّن، وجعل أحسن الأمور فى عينك، وأحلاها في صدرك، وأبقاها أثرا عليك في دينك ودنياك، علما تقيّده [١]، وضالّا ترشده، وبابا من الخير تفتحه؛ وأعاذك من التكلّف، وعصمك من التلوّن، وبغّض إليك اللّجاج، وكرّه إليك الاستبداد [٢]، ونزّهك عن الفضول، وعرّفك سوء عاقبة المراء.
وقد علمت مع ذلك من مدح بقوله:
من أمر ذي بدوات لا تزال له ... بزلاء يعيا بها الجثّامة اللّبد [٣]
وأنّ الآخر [٤] قال:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا ممّا تجد
واستبدّت مرّة واحدة ... إنّما العاجز من لا يستبدّ
_________
[١] بهذه الكلمة آثار طمس فى الأصل، لم يظهر منها إلا القاف والياء والدال والهاء.
[٢] أضاعت الرطوبة الألف والدال من نهاية هذه الكلمة.
[٣] البيت للراعي في ديوانه ٥٢، وسمط اللآلىء ١: ٢٠٣، وفصل المقال ١٤٧، ونوادر أبى زيد ٧٥، واللسان (بزل، بدا، جثم، لبد) . والبدوات: جمع بداة كغداة.
والعرب تقول للرجل الحازم: فلان ذو بدوات، أي ذو آراء تظهر فيختار أجودها. وقد وردت الكلمة هنا برسم «بدأت» والمعروف «بدوات» . والبزلاء: الرأي الجيد الذى يشق عن الصواب. والجثّامة: البليد. واللبد، بضم ففتح: الذي لا يسافر ولا يبرح منزله ولا يطلب معاشا. ويقال أيضا «اللّبد» بفتح فكسر.
[٤] هو عمر بن أبى ربيعة. ديوانه ٧٦، والبيان ١: ٣٥.
1 / 27
ولا أعلم الموصوف بالاستبداد إلّا مجهّلا مذموما، ولأ أعرف المنعوت بالبدوات إلا مدفّعا مضعوفا. وإنّما الشّأن في وجدان آلة التصرّف، وفي تمام العزم بعد التبيّن، لا أعرف إلّا هذين البيتين، فليضمم مازاد، وليكتب ما.. لبّ [١] .
وما كلام الشّاعر في قصيدته، إلّا كقول الخطيب فى خطبته. وما ذلك إلّا كاحتجاج المحتجّ، واختبار المختبر، وأوصاف الواصف. وفي كلّ ذلك يكون الخطأ والصواب [٢]، وقد قال الشاعر:
قليل تصاريف الخليقة لا ترى ... خليلا لعبد الله في الناس قاليا [٣]
وقد وصف الآخر قول خليله المتلوّن والمستطرف فقال:
شرّ الأخلّاء خليل يصرفه ... واش، وأدنى صاحب يستطرفه
ملوّن تنكره وتعرفه
فاجعل محاسبة نفسك صناعة تعتقدها، وتفقّد حالاتك عقدة ترجع إليها [٤]، حتّى تخرج أفعالك مقسومة محصّلة، وألفاظك موزونة معدّلة، ومعانيها مصفّاة مهذّبة، ومخارج أمورك مقبولة محبّبة. فمتى كنت كذاك كانت رقّتك على الجاهل الغبيّ بقدر غلظتك على المعاند الذّكيّ، وتحبّ
_________
[١] لم يظهر من هذه الكلمة إلا هذان الحرفان.
[٢] كلمات مطموسة في الأصل.
[٣] الخليقة: الخلق. وقال زهير:
ومما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أى إنه ثابت الطبع غير مزعزع. والقالى: الكاره للشيء.
[٤] يقال اعتقد مالا أو ضيعة: اقتناهما. وكل ما يعتقده الانسان من عقار ونحوه فهو عقدة له.
1 / 28
الجماعة بقدر بغضك للفرقة، وترغب في الاستخارة والاستشارة بقدر زهدك في الاستبداد واللّجاجة، وتبدأ من العلم بما لا يسع جهله، قبل التطّوع بما يسع جهله.
ولا تلتمس الفروع إلّا بعد إحكام الأصول، ولا تنظر في الطّرف والغرائب، وتؤثر رواية الملح والنّوادر، وكلّ ما خفّ على قلوب الفرّاغ، وراق أسماع الأغمار، إلا بعد إقامة العمود، والبصر بما يثلم من ذلك العمود؛ فإنّ بعض من يكلف [١] برواية الأشعار بدأ برواية أشعار هذيل قبل رواية شعر عبّاس بن الأحنف، ورواية شعر ابن أحمر قبل رواية شعر أبي نواس.
وناس من أصحاب الفتيا نظروا في العين والدّين [٢] قبل أن يرووا الاختلاف في طلاق السّنّة [٣] .
وناسّ من أهل الكلام نظروا في الجزء [٤] والطّفرة [٥] والمداخلة [٦]
_________
[١] كلمة غير واضحة، ولعلها «يكلف» كما أثبت.
[٢] العين: ما ضرب نقدا من الدنانير والدراهم، أو هو الذهب بعامّة.
[٣] طلاق السنة موضع خلاف بين الفقهاء. والمشهور فيه أن يطلق المرأة في طهر لم يلامسها فيه. هذا من ناحية التوقيت. وقد اختلفوا في العدد أيضا: هل هو واحدة، أو ثلاث بين كل منها شهر. والمرجع فى ذلك موسوعات الفقه.
[٤] رسمت في الأصل: «الجزو» . والمراد به الجزء الذي لا يتجزأ. انظر له الحيوان ٣: ٣٧- ٣٨.
[٥] الطفرة: مسألة كلامية تنسب إلى إبراهيم النظام، كما في الفصل ٥: ٦٤ وهي قوله: إن المار على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها ذلك المار، ولا مرّ عليها، ولا حاذاها، ولا حلّ فيها. وانظر أيضا الفرق بين الفرق ١٢٤، وتأويل مختلف الحديث ١٦، والحيوان ٤: ٢٠٨/٥: ١٢٤.
[٦] المداخلة: مقالة كلامية لقوم زعموا أن الألوان، والطعوم، والروائح، والأصوات،
1 / 29
والمجاورة [١] قبل أن ينظروا في التوحيد والعدل [٢] والآجال [٣] والأرزاق.
وسئل بعض العلماء عن بعض أهل البلدان [٤] فقال: «أبحث الناس عن صغير، وأتركهم لكبير» .
وسئل عن بعض الفقهاء [٥] فقال: أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما كان.
وقد خفت أن تكون مسألتك إيّاى كتابا في تسمية العرجان والبرصان، والعميان والصّمّان [٦]، والحولان، من الباب الذي نهيتك عنه، وزهّدتك فيه.
_________
والخواطر، أجسام، وأن تلك الأجسام بزعمهم تتداخل في حيز واحد. وممن ذهب إلى ذلك إبراهيم النظّام. أنظر الفصل ٥: ٦٠- ٦١، والفرق ١٢٢، والحيوان ٤: ٢٠٨.
[١] المجاورة ويقال لها أيضا التماسّ: باب من الكلام يبحث في اتصال الأجسام بعضها ببعض، كالماء باللبن، والدقيق بالماء، والزيت بالخل. انظر الكلام عليها مفصلا في الفصل ٥:
٦١ والفرق بين الفرق ٢٠٤. وانظر أيضا الحيوان ٤: ٢٠٩.
[٢] أشير في هامش الأصل إلى أنها في نسخة: «قبل أن ينظروا في التوحيد والعدل» .
وعلى ذلك فكلمتا «التوحيد والعدل» هما من إحدى نسخ الكتاب» .
[٣] الآجال: جمع أجل، بالتحريك، وهو مدة الحياة.
[٤] هى الكوفة. أنظر البيان ٢: ٢٥٣ ففيه: «وسأل معاوية ابن الكواء عن أهل الكوفة فقال: أبحث الناس عن صغيرة، وأتركهم لكبيرة» .
[٥] هو أبو حنيفة، ففي البيان ٢: ٢٥٣: «وسئل شريك عن أبى حنيفة فقال: أعلم الناس بما لا يكون، وأجهل الناس بما يكون» . وفي الحيوان ١: ٣٤٧/٣: ١٩ «وسئل حفص بن غياث عن فقه أبى حنيفة» وتتمة الخبر في الموضع الأول: «فقال أعلم الناس بما لم يكن وأجهل الناس بما كان»، وفي الموضع الثانى: «قال: كان أجهل الناس بما كان»، وفي الموضع الثانى: «قال: كان أجهل الناس بما يكون وأعرفهم بما لا يكون» .
وفي هامش النسخة: «هو أبو حنيفة» .
[٦] الصمان: جمع أصم. وهذه الكلمة لم ترد فى تسمية كتابنا هذا لا في عنوانها ولا فى خاتمتها.
1 / 30