بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد ...
فقد اتّسم العصر العباسي بثروة فكرية عارمة تمثّلت بالدراسات والعلوم والآداب والآثار الجمّة، التي ظهرت في مرحلة ذهبية، كان لها كبير الأثر في تنمية الأدب وإغناء التراث العربي وتطويره. والملاحظ أن العصر العباسي كان غنيّا بالأدباء والشعراء على اختلاف مراحله، وهذا ناشىء عن الحياة الثقافية التي ازدهرت سواء في كثرة المدارس والعلوم والحلقات التدريسية، أو في تعدّد الأساتذة وكثرة المؤلفين وتضاعف النتاج وانتشار الثقافة.
وإذا عرف العصر العبّاسى بالعصر الذهبي، فإن ذهبيّته تلك رصّعت بولادة رجل كبير، استطاع أن يشكّل قفزة واسعة في ميادين الأدب واللغة والإجتماع والتأليف والكتابة، ألا وهو الجاحظ أحد أعلام الكتابة في العصر العبّاسي الثاني.
1 / 5
كنيته أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي، من بني كنانة، بن خزيمة من مضر. ولد في البصرة سنة ١٦٠ هـ تقريبا. ولقّب بالجاحظ لجحوظ في عينيه.
نشأ الجاحظ في بيت متواضع من أبوين فقيرين. ولم يتحدث الرواة عن أبيه، وإنما ذكروا جده الذي كان يعمل جمّالا عند بني كنانة. توفي أبوه وهو طفل، فتعهّدته أمّه، فكان لا بد أن يحيا في عوز وضيق.
وراح يبيع السمك والخبز ارتزاقا على ضفاف نهر سيحان في البصرة.
كان ميّالا منذ حداثته الى الدراسة والعلوم، فأكبّ على العلم يطلبه برغبة شديدة، فصار يختلف الى بعض الكتاتيب، وحلقات المسجديينّ في البصرة، ثم في المربد، وهو سوق قرب البصرة كان في الإسلام كسوق عكاظ في الجاهلية. وكان المربد ميدان التنافس بين الخطباء والشعراء.
فاكتسب الجاحظ علما وثقافة ومعرفة. وتلقى العلوم والآداب على أيدي جماعة من كبار أساتذة العصر وأدبائه ومفكرّيه، فغدا طالب علم للأخفش، والأصمعي، وأبي عبيدة، وأبي زيد الأنصاري، يدرس عليهم، ويتعمّق بعلومهم ومن ثم ينتقل الى حلقة إبراهيم بن سيّار فيتأثر به، ويضحى واحدا من المعتزلة كأستاذه النظّام البلخي أحد أئمة المفكرين، وشيخا للمعتزلة في ذاك العصر.
وكانت لمعتزلة تؤمن بالعقل، كما كان علم الكلام والجدل موضوع كل مجلس، وكل منتدى، فنزع الجاحظ نزعة إعتزالية ... وإذا كان اساتذة عصره قد طبّعوا الجاحظ بميزات فكرية وأدبية ولغوية وعلمية فريدة، فإن المعتزلة تركت آثارها العقلية عميقة في كتاباته، وطرائق تفكيره وتآليفه. وبات له نمط واضح ثابت، يستدلّ عليه من كتبه، ومن موضوعاته.
1 / 6
ولم يمض وقت طويل حتى إذا أحس باكتمال القوى، قصد بغداد، وأقام فيها. وهناك بزغ فجر الجاحظ، وأخذ يتألّق، واضعا كتبه الأولى منسوبة إلى عبد الله بن المقفّع، وسهل بن هارون، ليقرأها الناس وتشيع بينهم. فأصبح اسم الجاحظ يتردّد على كل شفة ولسان. وكثر الحاسدون، فأرادوا تقليد أسلوب الجاحظ، والإنتقاص منه، إلّا أنّهم لم يفوزوا.
وقرأ له الخليفة المأمون بعض كتبه في الإمامة، فأعجب بها، وقدم إليه أبو عثمان كتاب «العباسيّة» فنال ثوابه. وما كان من الخليفة المأمون إلّا أن أسند إليه ديوان الكتّاب، الذي لم يطل الإقامة فيه، وبعد ثلاثة أيام طلب الجاحظ من الخليفة إعفاءه من هذه المسؤولية التي تحتّم على صاحبها طبعا رصينا، ومسلكية صارمة لا تتلاءم ومزاج الجاحظ وطبائعه. وتوطّدت روابطه بكبار رجال عصره، فاتصل الجاحظ بمحمد بن عبد الملك الزيّات وزير المعتصم، وكتب له ومدحه، وأهداه كتاب «الحيوان» فأجازه الوزير بخمسة آلاف دينار، ثم أغدق عليه مالا كثيرا جعله يقوم برحلات عديدة إلى دمشق وأنطاكيا ومصر ...
ولما صارت الخلافة الى المتوكل، نكب الوزير ابن الزيات بيد القاضي محمد بن أبي دؤاد، فهرب الجاحظ، ثم أعيد الى القاضي مقّيدا، مغلول العنق، معتذرا عن فراره، وقد أبدى إبن أبي دؤاد إعجابه به، فقال «أنا أثق بظرفه، ولا أثق بدينه» . وقدم إليه الجاحظ كتابه «البيان والتبيين»، بعد أن انقطع إليه عاما كاملا. وتدرّجت إتصالاته حتى بلغت الفتح بن خاقان، فقدم له بعض كتبه. وجعله المتوكل مؤدبا لأولاده. ولما رأى بشاعته صرفه. وقد حدّث الجاحظ في ذلك عن نفسه، فقال: «ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني» .
واتصل أبو عثمان أيضا بإبراهيم بن العبّاس الصولي، وقد أهدى
1 / 7
إليه كتابه «الزرع والنخل» فمنحه جائزة مقدارها خمسة آلاف دينار.
وفي أخباره أنه زار سامرّاء أيضا، واللاذقية، وحلب، إلى أن استقر في البصرة مركز تأليفه وكتاباته، وفيها شرع يصنّف ويؤلف، فأخذت حياته تتبدّل من الفقر الى الغنى، ومن الصنعة الى الإنتشار، حتى ذاع صيته وملأ دنياه.
كان الجاحظ أسود اللون كجدّه فزارة، قصيرا، دميما، جاحظ العينين، قبيح المنظر. إلى أن قيل فيه:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ... ما كان إلا دون قبح الجاحظ
وهو نفسه كان يتحدث عن قبحه. فقد روي أن إمرأة طلبت منه أن يصطحبها إلى دكانه أحد الصاغة، فلما وصلت هناك قالت للصائغ: «مثل هذا»، وانصرفت. فسأل الجاحظ الصائغ، ماذا قد عنت المرأة بقولها ذاك، فأجابه بأنها قد طلبت رسم صورة شيطان على فصّ خاتمها، فاصطحبتك لتمثيل صورته. وهذا ما يؤكد بشاعة الصورة التي كان عليها.
ومهما تكن تلك البشاعة، فإن الجاحظ لم يكن ثقيل الظل، وإنما كان لطيفا محبوبا، عذب اللسان، قوي الشخصية. إستطاع بصفاء قلبه، وصدق واقعيته، ونفسيته المرحة أن يجمّل بشاعته ويزيل ما فيها من قرف واشمئزاز.
لقد تمتّع بطلاوة الحديث، ورطوبة الفكاهة، ورقة الدعابة. ومنح أبو عثمان ذكاء فائقا، وملاحظة دقيقة، وصراحة مطلقة، وعقلا راجحا، وثقة وتفاؤلا عميقين ما جعله رجلا عزيز الجانب غير مكروه، ومحبّبا غير محتقر.
ينتظر الناس فرحه الحاضر، وبديهته اليقظة، إنتظارهم كتاباته ونوادره وطرائفه.
ظلّ الجاحظ عطاء يفيض، وفكرا يدفق، حتى أصيب بالفالج ثم بالنقرس. وقد عانى أبو عثمان من هذه الأمراض آلاما شديدة قضت على عنفوان رجل أراد أن يستمرّ بعطائه الفكري من أجل الحياة والإنسان.
1 / 8
وفي أواخر حياته، سعى إليه المتوكّل طالبا إيّاه، فأجابه الجاحظ: «وما يصنع أمير المؤمنين بامرىء ليس بطائل، ذي شقّ مائل، ولعاب سائل، ولون حائل؟» . وقال المّبرد: «دخلت على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له:
كيف أنت؟ قال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير لا يشعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه» .
ولم يهجره الألم؛ بل تفاقم. وظل يرافقه مرافقة الكتب له. وما كاد يطوي صفحة من صفحاتها، حتى طوت سطور أيّامه الأخيرة بسقوطها عليه، مشكّلة قبره الذي أحب مغمورا بالورق والأحرف والكلمات.
وهكذا كانت ميتة شهيد الكتاب سنة ٢٥٥ هـ.
للجاحظ أكثر من مئة وسبعين كتابا بين رسالة صغيرة ومؤلف، إلا أن معظم هذه الآثار لم يسلم. وإن عوامل كثيرة كانت سببا في ضياع مؤلفات عديدة لعباقرة عرب كالجاحظ. وبقي لنا بقية مما ألّفه أبو عثمان وأودعه خزائن التراث العربي، نذكر منها: كتاب البيان والتبيين، وكتاب الحيوان، وكتاب البخلاء الذي نخصّصه هنا بالتفصيل. وإنك إذا قرأته قراءة عميقة وجدت، ما يرمي إليه صاحبه من أبعاد تتناول حياة العصر العباسي، وشؤون الناس، وما أحاط بها من تغيّرات طارئة، وعادات دخيلة، وتقاليد غريبة، وأفكار جديدة على الأصعدة الإجتماعية والإقتصادية والفكرية.
إذن ما هو هذا الكتاب، وما غايته، وماذا يتضمن؟
هو كتاب يصوّر أحوال فئة من الناس اتخذت لنفسها منهجا معيّنا في التفكير والتصرّف والسلوك. وباتت مقتنعة به اقتناعا كاملا، تبدّدت في ظله كل الأشياء الأخرى. فإذا البخل هو واقعهم ومفهومهم وحياتهم التي يسيرون عليها، محاولين إسدال ستار من العلم عليه، علّهم في ذلك يقنعون الناس إيهاما بأنهم أصحاب فكر ومنطق، ورجال تدبير، وذو واقتصاد وتوفير.
كان الجاحظ في كتاب البخلاء عالما شأنه في جميع مؤلفّاته. كان عالما طبيعيا
1 / 9
في كتاب «الحيوان»، وعالما نقديا في «البيان والتبيين»، وها هو عالم إجتماعي وناقد في كتاب البخلاء، يدرس أحوال الناس من خلال سلوكهم ومعاشهم، يحلّل أوضاع طبقة من المجتمع العباسي تأثّرت بعوامل طارئة جديدة.
إستهل كتابه بردّ على صديق طلب إليه أن يحدّثه عن البخل ونوادره. وقد صدّره بمقدمة طويلة، حاول فيها أن يثير اهتمام القراء، وأن يشعرهم بشيء من الرغبة والتشويق. ومن المقدمة انتقل إلى إثبات رسالة سهل بن هارون التي بعث بها إلى بعض أقربائه، الذين اتّهموه بالبخل. وعمد الجاحظ أيضا إلى ذكر نوادر البخلاء وسرد قصصهم، بادئا بأهل مرو، وأهل خراسان، متوقفا عند أهل البصرة من المسجديين ممن يسميهم «أصحاب الجمع والمنع»، منتقلا الى الأشحّاء من أصحابه ومعاصريه كزبيدة بن حميد، وأحمد بن خلف اليزيدي، وخالد بن يزيد، وأبي محمد الخزامي، والحارثي، والكندي، وابن أبي بردة، واسماعيل بن غزوان، وموسى بن عمران، والأصمعي، والمدائني وطرائف شتّى، استطاع من خلالها أن يعطينا عيّنات صادقة عن كل حيلة، وكل نادرة بأسلوب قصصي طريف، وبراعه فنيّة رائعة. وبعد ذكر نوادره يجد الجاحظ أن البخل عندهم اقتصاد فني، ولهم في ذلك آراء قلما تخطر ببال إنسان.
وللبخلاء عند الجاحظ أقوال كثيرة في وضع كل شيء موضعه، في إظهار منافع المأكولات وأضرارها، فنوى الثمر يعقد الشحم في البطن، وقشور الباقلاء تحتوي الغذاء «إن الباقلاء يقول: من أكلني بقشوري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشوري فأنا الذي آكله» .
وأما غاية الكتاب هذا، فإننا نجد أن فريقا من الدراسين ذهب الى أن الجاحظ أراد منه الترويح عن النفس، وإضحاك القارىء. ولكن مهما يكن من أمر، فإن أبا عثمان لم يكن يقنع نفسه بأن مؤلّفه هذا قد وضع من أجل الهزل والتسلية، إنما له فيه أيضا غاية جليلة؛ وهي تصوير طبقة محددة ظهرت في المجتمع العباسي، أرادت أن تسلك طريقا جديدة من العادات والأخلاق التي لم يألفها العربي سابقا. وإن مؤثرات دخيلة أحدثت فجوات واسعة في
1 / 10
عادات العرب وتقاليدهم، فكان منها إنتشار البخل، وخاصة في العراق إبّان القرن الثالث الهجري.
والحقيقة، فإن غاية الكتاب تتعدّى الضحك والمرح، لتغدو أعمق وأشد، فإذا هي أقرب الى الردع والتأنيب، والهزء والسخرية، وذلك من أجل المنفعة العامة والإستفادة من أعمال البخلاء الشاذة إستفادة تجعلهم يميلون الى الكرم من غير إسراف، وإلى الجود في غير إقتصاد.
وهناك فريق آخر من الدارسين رأى أن كتاب «البخلاء» ما وضع إلا لأن الجاحظ كان واحدا من أولئك البخلاء، ولذلك تمكّن من معرفة أحوالهم بدقة، كاشفا حقائقهم كما هي بصدق وواقعية.
والواقع أن كتاب البخلاء يعتبر من الكتب النفيسة بمكان، لأنه دراسة واقعية لردة فعل إقتصادية. ومن أجل ذلك أفرد الجاحظ كتابا خاصا بالبخل صوّر هذه الحالة، وتغلغل أيضا بين طوايا النفس البشرية، وتفهّم نزعاتها، وحلّل أعمالها، ودرس نفسياتها، وقد قال: «ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء تبيّن حجّة طريفة، أو تعرّف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة» .
لقد اتّبع الجاحظ أسلوبا قصصيا إخباريا يربط الأخبار بعضها ببعض.
وكانت أقصوصة البخيل قصيرة، لكنها جمعت عناصر القصة الكاملة، من مقدمة وعرض وعقدة، الى حل وخاتمة.
ولم تكن أقاصيص الجاحظ خاوية فارغة؛ بل كانت نابضة مليئة بالحياة تستمد موضوعاتها من وحي فريق من الأشحاء المسجديين والخراسانيين وغيرهم، إختاروا أحاديثهم، وانتقوا ألفاظهم بأنفسهم. من هنا نضجت أقصوصة البخيل عند أبي عثمان، واستمرت حارة دافئة يقظة، تدفىء النفس فتثيرها، وتوقظ العقل فتحركه تارة بين الاسترخاء والاستمتاع، وطورا بين التصوير والتحكيم.
وقد تمّيز كتاب «البخلاء» بخصائص هامة كان منها الموضوعية التي برزت
1 / 11
جليّة في كتابه، إذ إن الجاحظ تجرّد من ذاته، وترك البخلاء أنفسهم يتحدثون عن قضاياهم، دون أن يدخل نفسه شريكا أو موجها في الصورة، أو في الموضوع.
ولم تجر أقاصيصه على وتيرة واحدة؛ بل كانت كل منها تطغى على الأخرى من حيث النكهة والموضوع والأسلوب. ويقيننا أن أسلوبه الصامت هذا، كان من الأساليب التي أدّت إلى نجاح نوادره وتحليل نفسيات بخلائه.
لقد رسم أبو عثمان بخلاءه بريشته الماهرة الساخرة التي يصعب على المتقدمين والمتأخرين استعمالها، أو إجادة التصوير بها، لأنها ريشة متميزة لها خصائصها الأسلوبية والذوقية والنفسية التي طبعت أدب الجاحظ بطابع خاص متفرّد.
كان الجاحظ في كتاب «البخلاء» فنانا بطبعه اعتمد لونا أساسيا، وهو الذات البشرية. فغاص الى أعماقها، يستنبط ما في جوانبها من عقد وغرابة وغموض. فهو لم يقص حكاياته لإثارة تلك الغرابة، وإنما للدلالة على تلك المواقف النفسية والتعقيدات التي كان يعانيها البخلاء في عصره.
وبالإضافة الى ذلك، فإننا لا نغفل الأسلوب المسرحي الذي تحقق له في كل نادرة، وخاصة في أقصوصة «مريم الصنّاع» و«شيخ النخالة» و«معّاذة العنبرية»، فإننا وبحق نجد أنفسنا أمام خشبة مسرح تقوم عليها هذه الشخصيات وتنهض وتتحرك كأنها من لحم ودم.
ومما ينبغي أن نقوله في كتاب «البخلاء» إن صاحبه لم يصل من خلاله إلى غاية واحدة، بل بلغ به غايات أخرى أكثر شمولية وإحاطة بدراسة الفرد والمجتمع والإنسان.
فإذا كان كتاب «البخلاء» قمة في النقد الإجتماعي والأخلاقي، وصورة ترسم حقيقة طبقة معينة، فإن كتب الجاحظ كلها توازي قمة «البخلاء» شموخا.
ولهذا قال ابن العميد: «كتب الجاحظ تعلم العقل أولا، والأدب ثانيا» .
1 / 12
وجل ما نريد قوله إننا لا نريد التعريف بمؤلفات أبي عثمان التي كتب لها الخلود؛ وإنما نريد أن نكون بهذا العمل المتواضع قد أكدنا من جديد، تقديرنا للأدب الجاحظي وفكره، وأن نكون أيضا قد اهتدينا الى السبيل الصحيح لخدمة الفكر، والأدب، والحضارة، والإنسان. والله وليّ التوفيق ...
عباس عبد الساتر- ١٩٨٣-
1 / 13
توطئة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
تولّاك الله بحفظه، وأعانك على شكره، ووفقك لطاعته، وجعلك من الفائزين برحمته.
ذكرت، حفظك الله أنك قرأت كتابي في تصنيف حيل لصوص «١» النهار، وفي تفصيل حيل سرّاق الليل، وأنك سددت به كل خلل «٢»، وحصّنت «٣» به كل عورة «٤»، وتقدمت، بما أفادك من لطائف الخدع، ونبّهك عليه من غرائب الحيل، فما عسى ألا يبلغه كيد، ولا يجوزه مكر.
وذكرت أن قدر نفعه عظيم، وأن التقدم في درسه واجب. وقلت:
أذكر لي نوادر البخلاء في باب الجد، لأجعل الهزل مستراحا، والراحة جماما «٥»، فإن للجد كدا يمنع من معاودته، ولا بدّ لمن التمس نفعه من مراجعته.
1 / 15
وذكرت ملح «الحرامي» «١»، واحتجاج «الكندي» «٢»، ورسالة «سهل بن هارون» «٣»، وكلام «ابن غزوان» «٤»، وخطبة «الحارثي» «٥»، وكلّ ما حضرني من أعاجيبهم وأعاجيب غيرهم؛ ولم سموا البخل اصلاحا والشحّ اقتصادا، ولم حاموا على المنع «٦»، ونسبوه إلى الحزم؛ ولم نصبوا للمواساة، وقرنوها بالتضييع؟ ولم جعلوا الجود سرفا، والأثرة جهلا «٧»؟ ولم زهدوا في الحمد، وقلّ احتفالهم بالذم؟ ولم استضعفوا من هش «٨» للذكر، وارتاح للبذل؟ ولم حكموا بالقوة لمن لا يميل الى ثناء «٩»، ولا ينحرف عن هجاء؟ ولم احتجوا لظلف العيش «١٠» على لينه، ولمرّه على حلوه؟ ولم لم يستحيوا من رفض الطيّبات في رحالهم مع استهتارهم بها في رحال غيرهم؟ ولم تتابعوا في البخل؟ ولم اختاروا ما يوجب ذلك الإسم، مع أنفتهم من ذلك الإسم؟ ولم رغبوا في الكسب، مع زهدهم في الإنفاق؟ ولم عملوا، في الغنى، عمل الخائف من زوال الغنى، ولم يفعلوا في الغنى عمل الراجي لدوام الغنى؟ ولم وفروا نصيب
1 / 16
الخوف، وبخسوا نصيب الرجاء، مع طول السلامة، وشمول العافية؟
والمعافى أكثر من المبتلى؛ وليست الفوائد أقل من الحوائج «١» .
بل كيف يدعو الى السعادة من خصّ نفسه بالشقوة، فكيف ينتحل نصيحة العامة، من بدأ بغشّ الخاصة؟ ولم احتجوا، مع شدة عقولهم، لما أجمعت الأمة على تقبيحه؟ ولم فخروا، مع اتساع معرفتهم، بما أطبقوا على تهجينه «٢»؟ وكيف يفطن عند الاعتلال له، ويتغلغل «٣» عند الاحتجاج عنه، إلى الغايات عنه، الى الغايات البعيدة والمعاني اللطيفة، ولا يفطن لظاهر قبحه، وشناعة اسمه، وخمول ذكره وسوء أثره على أهله.
وكيف، وهو الذي يجمع له بين الكد، وقلة المرزئة «٤»، وبين السهر، وخشونة المضجع، وبين طول الاغتراب، وطول قلة الانتفاع، ومع علمه بأن وارثه أعدى له من عدّوه، وأنه أحقّ بماله من وليّه، أوليس هو أظهر الجهل والغباوة، وانتحل الغفلة والحماقة، ثم احتجّ لذلك بالمعاني الشداد، وبالألفاظ الحسان، وجودة الإختصار، وبتقريب المعنى، وبسهولة المخرج، وإصابة الموضع، فكان ما ظهر من معانيه وبيانه مكذّبا لما ظهر من جهله ونقصانه. ولم جاز أن يبصر بعقله البعيد الغامض، ويغبى عن القريب الجليل؟!.
وقلت: فبيّن لي ما الشيء الذي خبّل «٥» عقولهم، وأفسد أذهانهم، وأغشى تلك الأبصار، ونقض ذلك الإعتدال؟ وما الشيء الذي له
1 / 17
عاندوا الحق، وخالفوا الأمم «١»؟ وما هذا التركيب المتضاد، والمزاج المتنافي؟ وما هذا الغباء الشديد الذي الى جنبه فطنة عجيبة؟ وما هذا السبب الذي خفي به الجليل الواضح، وأدرك به الجليل الغامض؟! وقلت: وليس عجبي ممن خلع عذاره في البخل، وأبدى صفحته للذمّ، ولم يرض من القول إلا بمقارعة الخصم، ولا من الإحتجاج إلا بما رسم في الكتب؛ ولا عجبي من مغلوب على عقله، مسخّر لإظهار عيبه، كعجبي ممن قد فطن لبخله، وعرف إفراط شحّه، وهو في ذلك يجاهد نفسه، ويغالب طبعه، ولربما ظن أن قد فطن له، وعرف ما عنده، فموّه شيئا لا يقبل التمويه، ورقع خرقا لا يقبل الرقع. فلو أنه كما فطن لعيبه، وفطن لمن فطن لعيبه، فطن لضعفه عن علاج نفسه، وعن تقويم أخلاقه، وعن استرجاع ما سلف من عاداته، وعن قلبه أخلاقه المدخولة «٢» إلى أن تعود سليمة، لترك تكلّف ما لا يستطيعه، ولربح الإنفاق على من يذمّه، ولما وضع على نفسه الرقباء، ولا أحضر مائدته الشعراء، ولا خالط برد «٣» الآفاق، ولا لابس الموكلين بالأخبار، ولاستراح من كدّ الكلفة، ودخل في غمار الأمة.
وبعد، فما باله يفطن لعيوب الناس إذا أطعموه، ولا يفطن لعيب نفسه إذا أطعمهم؟ وإن كان عيبه مكشوفا، وعيب من أطعمه مستورا؟
ولم سخت نفس أحدهم بالكثير من التبر «٤»، وشحّت بالقليل من الطعم؟ وقد علم أن الذي منع يسير في جنب ما بذل، وأنه، لو شاء أن
1 / 18
يحصل بالقليل مما جاد به أضعاف ما بخل به، كان ذلك عتيدا «١»، ويسيرا موجودا.
وقلت: ولا بدّ من أن تعرفني الهنات «٢» التي نمت على المتكلفين «٣»، ودلّت على حقائق المتموهّين، وهتكت عزّ أستار الأدعياء، وفرّقت بين الحقيقة والرياء، وفصلت بين المقهور المنزجر «٤»، والمطبوع المبتهل «٥»، لتقف، كما زعمت، عندها، ولتعرض نفسك عليها ولتتوهّم مواقعها وعواقبها.
فإن نبّهك التصفّح بها على عيب قد أغفلته، عرفت مكانه فاجتنبته، فإن كان عتيدا ظاهرا معروفا عندك، نظرت؛ فإن كان احتمالك فاضلا على بخلك دمت على إطعامهم، وعلى اكتساب المحبة بمؤاكلتهم؛ وإن كان اكتراثك غامر الإجتهاد، سترت نفسك وانفردت بطيّب زادك، ودخلت مع الغمار «٦» وعشت عيش المستورين. وإن كانت الحروب بينك وبين طباعك سجالا، وكانت أسبابكما أمثالا وأشكالا، أجبت الحزم الى ترك التعرّض، وأجبت الإحتياط إلى رفض التكلّف، ورأيت أنّ من حصّل السلامة من الذمّ، فقد غنم؛ وأنّ من آثر «٧» الثقة على التغرير، فقد حزم.
وذكرت أنك الى معرفة هذا الباب أحوج، وأنّ ذا المروءة الى هذا العلم أفقر؛ وإني إن حصّنت من الذمّ عرضك، بعد أن حصّنت من
1 / 19
اللصوص مالك، فقد بلغت لك ما لم يبلغه أب بار، ولا أم رؤوم.
وسألت أن أكتب لك علّة «خبّاب» «١» في نفي الغيرة، وأن بذل الزوجة داخل في باب المؤاساة والأثرة؛ وأن فرج الأمة في العارية، كحكم الخدمة؛ وأن الزوجة في كثير من معانيها كالأمّة، وأنّ الأمة مال كالذهب والفضة، وأن الرجل أحقّ ببنته من الغريب، وأولى بأخته من البعيد؛ وأن البعيد أحقّ بالغيرة، والقريب أولى بالأنفة، وأنّ الإستزادة في النسل كالإستزادة في الحرث، إلا أن العادة هي التي أوحشت منه، والديانة هي التي حرّمته، ولأن الناس يتزيّدون أيضا في استعظامه، وينتحلون أكثر مما عندهم في استشناعه.
وعلّة «الجهجاه» «٢» في تحسين الكذب في مواضع، وفي تقبيح الصدق في مواضع، وفي إلحاق الكذب بمرتبة الصدق، وفي حطّ الصدق الى موضع الكذب. وأن الناس يظلمون الكذب بتناسي مناقبه «٣»، وتذكّر مثالبه «٤»، ويحابون «٥» الصدق بتذكّر منافعه، وبتناسي مضارّه.
وأنهم لو وازنوا بين مرافقهما، وعدّلوا بين خصالهما، لّما فرّقوا بينهما هذا التفريق، ولما رأوهما بهذه العيون.
ومذهب «صحصح» «٦» في تفضيل النسيان على كثير من الذكر، وأن الغباء، في الجملة، أنفع من الفطنة، في الجملة، وأنّ عيش البهائم أحسن موقعا من النفوس، من عيش العقلاء؛ وأنك لو أسمنت بهيمة، ورجلا ذا مروءة، أو امرأة ذات عقل وهمّة، وأخرى ذات غباء وغفلة،
1 / 20
لكان الشحم إلى البهيمة أسرع، وعن ذات العقل والهمّة أبطأ؛ ولأن العقل مقرون بالحذر والإهتمام، ولأن الغباء مقرون بفراغ البال والأمن، فلذلك البهيمة تقنو «١» شحما في الأيام اليسيرة، ولا تجد ذلك لذي الهمة البعيدة. ومتوقع البلاء في البلاء، وأن سلم منه، والغافل في الرجاء إلى أن يدركه البلاء. ولولا أنك تجد هذه الأبواب وأكثر منها مصوّرة في كتابي الذي سمّي «كتاب المسائل» «٢» لأتيت على كثير منه في هذا الكتاب.
فأما ما سألت من احتجاج الأشحّاء، ونوادر أحاديث البخلاء، فسأوجدك ذلك في قصصهم، إن شاء الله تعالى، مفرّقا وفي احتجاجهم مجملا، فهو أجمع لهذا الباب من وصف ما عندي، دون ما انتهى إليّ من أخبارهم، على وجهها. وعلى أن الكتاب أيضا يصير أقصر، ويصير العار فيه أقل.
ونبتدىء برسالة «سهل بن هارون» ثم بطرف أهل «خراسان»، لإكثار الناس في أهل خراسان.
ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبيّن حجّة طريفة، أو تعرّف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة. وأنت في ضحك منه، إذا شئت، وفي لهو، إذا مللت الجدّ.
وأنا أزعم أن البكاء صالح للطبائع، ومحمود المغبّة «٣»، إذا وافق الموضع، ولم يجاوز المقدار، ولم يعدل عن الجهة، ودليل على الرقة، والبعد من القسوة، وربما عدّ من الوفاء، وشدّة الوجد على الأولياء. وهو من أعظم ما تقرب به العابدون، واسترحم به الخائفون.
1 / 21
وقال بعض الحكماء لرجل اشتد جزعه من بكاء صبيّ له: لا تجزع، فإنه أفتح لجرمه، وأصح لبصره.
وضرب «عامر بن عبد قيس» «١» بيده على عينه، فقال: جامدة شاخصة «٢»، لا تندى «٣» .
وقيل: «لصفوان بن محرز» «٤»، عند طول بكائه، وتذكّر أحزانه:
«إن طول البكاء يورث العمى»؛ فقال: «ذلك لها شهادة» فبكى حتى عمي.
وقد مدح بالبكاء ناس كثير، منهم «يحيى البكّاء»، وهيثم البكّاء» .
وكان «صفوان بن محرز» يسمى: «البكاء» . وإذا كان البكاء (وما دام صاحبه فيه فإنه في بلاء، وربما أعمى البصر، وأفسد الدماغ، ودل على السّخف، وقضي على صاحبه بالهلع، وشبّه بالأمة اللكعاء «٥» وبالحدث الضّرع) «٦» كذلك، فما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور، الى أن ينقطع عنه سببه.
ولو كان الضحك قبيحا من الضاحك، وقبيحا من المضحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلي والقصر المبنيّ: «كأنه يضحك ضحكا» .
وقد قال الله جل ذكره: «وأنه هو أضحك وأبكى وأنه قد أمات وأحيا»، فوضع الضحك بحذاء الحياة «٧»، ووضع البكاء بحذاء الموت؛
1 / 22
وأنه لا يضيف الله إلى نفسه القبيح، ولا يمن على خلقه بالنقص.
وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيما، ومن مصلحة الطباع كبيرا، وهو شيء في أصل الطباع وفي أساس التركيب؟ لأن الضحك أول خير يظهر من الصبي، وبه تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علّة سروره، ومادة قوّته.
ولفضل خصال الضحك عند العرب، تسمّي أولادها «بالضحّاك» و«ببسام» و«بطلق» و«بطليق» .
وقد ضحك النبي، ﷺ، ومزح، وضحك الصالحون ومزحوا، وإذا مدحوا قالوا: «هو ضحوك السنّ، وبسّام العشيّات «١»، وهشّ الى الضيف، وذو أريحية «٢» واهتزاز، وإذا ذموا قالوا: «هو عبوس، وهو كالح «٣»، وهو قطوب، وهم شتم المحيا، وهو مكفهّر أبدا، وهو كريه، ومقبّض الوجه، وحامض الوجه، وكأنما وجهه بالخجل منضوج» !.
وللضحك موضع وله مقدار، وللمزح موضع وله مقدار، متى جازهما أحد، وقصّر عنهما أحد، صار الفاضل خطلا «٤»، والتقصير نقصا.
فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزح إلا بقدر، ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي له جعل الضحك، صار المزح جدا، والضحك وقارا.
وهذا كتاب لا أغرّك منه، ولا أستر عنك عيبه، لأنه لا يجوز أن
1 / 23
يكمل لما تريده، ولا يجوز أن يوفى حقّه، كما ينبغي له. لأنّ ههنا أحاديث كثيرة، متى اطلعنا منها حرفا عرف أصحابها، وإن لم نسمّهم، ولم نرد ذلك بهم وسواء سميّناهم، أو ذكرنا ما يدل على أسمائهم، منهم الصديق والوليّ والمستور والمتجمّل، وليس يفي حسن الفائدة لكم، بقبح الجناية عليهم.
فهذا باب يسقط البتّة، ويختلّ به الكتاب لا محالة، وهو أكثرها بابا، وأعجبها منك موقعا. وأحاديث أخر ليس لها شهرة، ولو شهرت لما كان فيها دليل على أربابها، ولا هي مقيّدة أصحابها، وليس يتوفر أبدا حسنها إلا بأن يعرف أهلها، وحتى تتصل بمستحقها، وبمعادنها، واللائقين بها؛ وفي قطع ما بينها وبين عناصرها ومعانيها، سقوط نصف الملحة «١»، وذهاب شطر النادرة.
ولو أن رجلا ألزق نادرة «بأبي الحارث جمّين» «٢»، «والهيثم بن مطهر» «٣»، و«بمزبّد» «٤»، و«ابن أحمر» «٥»، ثم كانت باردة، لجرت على أحسن ما يكون.
ولو ولّد نادرة حارّة في نفسها، مليحة في معناها، ثم أضافها إلى «صالح بن حنين» «٦» والى «ابن النواء» «٧»، والى بعض البغضاء، لعادت باردة، ولصارت فاترة، فان الفاتر شرّ من البارد.
وكما أنك لو ولّدت كلاما في الزهد، وموعظة الناس، ثم قلت: هذا
1 / 24
من كلام «بكر بن عبد الله المزنىّ» و«عامر بن عبد قيس العنبري»، و«مؤرق العجلي» و«يزيد الرقاشي» «١»، لتضاعف حسنه، ولا حدث له ذلك النسب نضارة «٢» ورفعة لم تكن له.
ولو قلت: قالها «أبو كعب الصوفي» «٣»، أو «عبد المؤمن» «٤» أو «أبو نواس» «٥» الشاعر أو «حسين الخليع» «٦»، لما كان لها إلا ما لها في نفسها، وبالحري أن تغلط في مقدارها، فتبخس «٧» من حقّها.
وقد كتبنا لك أحاديث كثيرة مضافة إلى أربابها، وأحاديث كثيرة غير مضافة إلى أربابها، أما بالخوف منهم، وأما بالإكرام لهم.
ولولا أنك سألتني هذا الكتاب لما تكلّفته، ولما وضعت كلامي موضع الضيم والنقمة، فإن كانت لائمة أو عجز، فعليك، وإن كان عذر، فلي دونك.
1 / 25