لقد أتيح لهذا الكاتب أن يزور متاحف الفن في كثير من بلاد العالم، وكانت عادته في تلك الزيارات أن يمهل الخطى وأن يطيل النظر، ولما كان الأغلب في تنظيم تلك المتاحف، أن تتسلسل عصور التاريخ مع تسلسل الغرف، بمعنى أن تكون مع فن القرن الخامس عشر في هذه الغرفة، ومع فن القرن السادس عشر في الغرفة التي تليها، وهكذا، أو أن تكون هنا مع فن مصر القديمة، وهناك مع فن اليونان أو الرومان، فقد كانت العادة عند هذا الكاتب، أن يحاول الوقوع على فارق جوهري يلحظه بين عصر وعصر في تاريخ الأمة الواحدة، أو بين أمة وأمة، مقيما استدلالاته على ملامح مميزة هنا أو هناك، مما يدل على أن لكل عصر مناخه العام، ولكل أمة طابعها المتميز، فإذا صح هذا حق لنا السؤال: ما الذي أدى إلى هذا التجانس بين مختلف المواهب، في الأمة الواحدة، أو في العصر الواحد؟ وأمكن الجواب عن هذا السؤال، ألا وهو أن وحدانية الأمة الواحدة، ووحدانية العصر الواحد، مبعثهما مما زخرت به قلوب الناس في زمانهم، من مشاعر ومن خواطر استجابوا بها لمؤثرات حياتهم، وهكذا تجيء الصلة الحميمة بين جمهور الناس ومن ينبعث من عمالقة المواهب في بنيه.
انظر - مثلا - إلى الفن التشكيلي في عصرنا هذا في مختلف اتجاهاته وتياراته: التجريدي، والتكعيبي والسريالي إلخ، ألا تشعر أمام هذا التنوع العجيب بسؤال يتردد في نفسك: لماذا؟ وهل يمكن أن يكون لهذا السؤال من جواب إلا وهو منتزع من روح العصر، فقد يكون العنصر المشترك في هذه المنوعات كلها، هو هروب إنسان العصر من واقعه الأليم بالقياس إلى نفسه من باطن، حتى ولو كان نافعا ودافعا إلى القوة والسيطرة والتقدم، بالقياس إلى صور الحياة العملية من ظاهر، فها هنا خرج الفنان ليحقق بموهبته شيئا كان كل إنسان من عامة الناس يتمنى أن يحققه لنفسه، وهو أن يجد مهربا من الحياة في صورتها الواقعية، إن الفنان الحديث يتمرد على «الواقع» ليخلق لنفسه على اللوحة واقعا آخر يرتضيه، إذا أعجبك أيها المشاهد، فعش معه فيه، وإن لم يعجبك فاترك الفنان في دنياه، وارحل أنت عنه «إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم»، وماذا يصنع الفنان السريالي - مثلا - سوى أنه يرسم على لوحته «حلما» من نوع ما يراه كل حالم في نعاسه، كما هي الحال في فن «سلفادور دالي»، إن ما يفعله الفنان السريالي هو نفسه الذي فعلته فطرة الإنسان لتخفف عنه عناء صحوه بأحلام نومه، وعسير على كاتب هذه السطور أن يذكر حياة الإنسان بين صحوه ونومه، دون أن تستعيد له ذاكرته نعمة الله عليه، من قدرة على أن مجيء صور أحلامه في لوحاته متسقة ناصعة، حتى ليجوز أن يختلط عليه الأمر، في كثير جدا من الحالات، أيكون مشهد معين بأحداثه، مما وقع له بالفعل في الحياة الصاحية، أم هو - يا ترى - ورد له في رؤياه؟ (أرجو من القارئ أن يفرق بين «رؤية» و«رؤيا»؛ فالأولى لرؤية العين، والرؤيا للحلم.)
وعند هذا الحديث مع نفسي، وعلى ذكر الفن السريالي والأحلام، دخلت من غفوتي السارحة، في منعطف جديد، إذ رأيتني مع جماعة من أقطاب حياتنا الثقافية فيما يشبه الحلم، أو ما يشبه لوحة من الفن السريالي، بمعنى أنني رأيت هؤلاء الأقطاب على أشكال ترمز إلى حقائقهم، أكثر منها صورا فوتوغرافية لقسمات وجوههم، مما جعلني أنظر إلى اللوحة محاولا فك رموزها، تماما كما أحاول إزاء حلم رأيته ثم صحوت لأشغل نفسي بما عسى أن يكون تأويلا له، مؤسسا على حقائق حياتي في عالم الواقع، فكيف تسلسلت معي الرؤى في ذلك الحلم العجيب؟
كنت أصعد في مصعد إلى طابق علوي من عمارة شاهقة، قاصدا إلى زيارة طبيب؛ إذ فوجئت في أذني بطنين مزعج، ينقلب آنا بعد آن إلى صفير، بدأت رحلتي في الصعود وحيدا، أو هكذا ظننت، لكن فجأة وجدت معي صديقا قديما، توفي من زمن ليس بقصير، إلا أن هذه الحقيقة عنه لم تكن هي حقيقته عندي في الحلم، ومع ذلك فقد كنت أعلم أنني لم أره منذ فترة أطول مما ألفناه معا في صداقتنا، فلما فوجئت بوجوده في المصعد، أخذتني دهشة متعددة الجوانب، ورحبت به معاتبا بأنه ذهب عني كل تلك الأشهر التي لم أره خلالها، وأما جوانب دهشتي لرؤيته، فهي أنه كان يرتدي جلبابا أبيض، وعهدته ممن يلبسون البدلة، ثم رأيته وقد أخرج من جيبه غليونا وضعه بين شفتيه وهم بإشعال التبغ في وعائه، ولم أكن قد رأيته قط يدخن الغليون، أو ربما فعل ونحن في سن المراهقة ثم أقلع، لم يكن قد أكمل إشعال التبغ حين وصل المصعد إلى غايته.
كان الظن أننا سنخرج من مصعدنا لنجد عيادة الطبيب الذي قصدت إلى زيارته ولم أكن قد عرفت من صديقي إلى أين مقصده، لكننا خرجنا لنجد أمامنا بوابة واسعة، كتب عليها بأحرف مضيئة بأنابيب «النيون»: وكالة البلح. فوقفت وقفة مفاجئة وسألت مأخوذا بما أرى مما لم أكن أريده ولا أتوقعه: وما هذا؟ أين نحن؟ فأجاب صديقي: إنها «وكالة البلح» ماذا أردت لها أن تكون؟ قال ذلك صديقي في نغمة جادة ووجه عابس، وتلك علامة أخرى فيه عندئذ مما أدهشني، ولم أكن عهدتها سمة من سماته؛ إذ هو - كما عرفته - ضاحك ساخر، إني كما كنت في الحلم لم أكن قد سمعت بشيء اسمه «وكالة البلح»، فلما رأيت العبارة مكتوبة ووجدت صديقي على علم بها، بل لعله كان يقصد إليها، سألته: وماذا عسانا واجدين هنا؟ قال - وكنا ما زلنا واقفين أمام الباب الكبير المغلق - إن «وكالة البلح» مؤسسة تجارية قديمة، فيها كل ما ترغب في شرائه، تعرض الجديد والمستعمل، فيها كل أنواع الثياب، والأجزاء النادرة من العدد والآلات وفيها أحذية وقبعات وطرابيش، فيها أقدم صنوف الأزياء والأوعية والقدور والقلل، وأحدث صنوف الثلاجات وأجهزة الطهو والغسل، إنها تعرض المسروق والمستورد والناتج المحلي، ولا أطيل عليك؛ ففي هذه السوق العجيبة كل ما تشتهي الأنفس والأبدان وما لا تشتهي.
كان صديقي قد أشعل التبغ في غليونه، ووضعه بين أضراسه وتركه يرسل دخانه حلقات حلزونية في الهواء، ولم تستطع عيني أن تتابع ما فعلته أصابعه في الباب، ولعله ضغط على زر هناك، فانفتح الباب الكبير عن بهو فسيح، فيه ما بدا للعين في اللمحة الأولى أنه جماعات من أطفال وغلمان وقفوا، وتحركوا وانبعث زياطهم على نحو يتركك تنظر ذاهلا، لا تدري ماذا أنت واجد هناك: ولقد ظننت أنني وحدي كنت الذاهل لغرابة المكان ومن فيه، ونظرت إلى صديقي مع حركة من يدي، وكأنما أردت أن أنبئه بأني تهيأت للدخول، فإذا بي أجد صديقي شارد العينين، وكأنه تائه في فلاة لا يعرف لها شمالا من جنوب، ثم سمعته يهمس قائلا: ما هذا الذي أرى؟ هل أخطأنا طريقنا؟ لكن اللافتة رأيتها على الباب، وانفتح لنا الباب كما أردنا له، فوا عجبي مما أرى: ومع ذلك فهيا إلى الدخول لعل سرا ينكشف عنه الغطاء، لم تكن جماعات الأطفال والغلمان التي رأيناها من خارج الباب تتجمع وتتفرق هي التي ينتسب إليها المكان؛ إذ يبدو أنها جماعات جاءت لاهية لتتفرج على المشاهد المعروضة، وما نحن إلا وقد أمسكنا الخيط في أيدينا، وأعني أننا عرفنا طريقنا، فمن أين نبدأ، وكيف نسير، فالعارضون يعرضون أنفسهم وأفعالهم، في صمت لا يخلو من إشاعة الرهبة في نفوس المشاهدين.
كان المشهد الأول قوامه شخصان وقفا ظهرا لظهر، كل منهما أمسك بسوط طويل، وأمام أحدهما قطة سوداء مقيدة أرجلها، وأمام الآخر قطة بيضاء مشدودة في عنقها بحبل رفيع، وقد ارتديا ملابس غريبة فأحد الرجلين تلفع بأردية عربية لم يحسن حبكها على جسده، فكانت مع حركة ذراعيه العنيفة، تميل إلى السقوط فيسرع إلى إعادتها، وأما الثاني فكان يلبس سترة وسراويل، لكنها أوسع جدا من حجمه، فكانت تثير الضحك لولا أن جهامة الرجل كانت تنشر الرعب فلا يجرؤ متفرج على ابتسامة، ودع عنك أن يضحك بصوت مسموع، ولم يكن يفعل هذان العارضان شيئا أكثر من أن يلهب أولهما بسوط القطة السوداء، وبأن يصنع الثاني الصنيع نفسه مع القطة البيضاء، والقطتان تموءان بأصوات مخيفة وكأنهما تحولتا إلى عفريتين من الجن، ترى ما هذا الذي يفعلانه؟ لا صديقي القديم ولا أنا استطاع أن يفهم معنى الذي يراه، إلا أن الأمر الواضح في الرجلين معا هو ذلك الغل الذي يملأ قلبيهما إذ هما يهويان، كل منهما بسوطه اللاهب على قطته، مما يدل على أن كلا منهما قد وجد العداء المر في فريسته، ورأى لا منجاة له إلا بقتل عدوه، وعندما أخذنا صديقي وأنا نتحرك إلى مشهد آخر، رمى إلينا القدر بمن يهمس لنا قائلا: أرأيتما كيف جعل أحدهما من الغرب عدوا، وجعل الآخر من العرب عدوا، فطفق كل منهما يفتك بعدوه في غيظ مسموم وجهالة عمياء، فما زادنا الهامس بهمسته تلك إلا حيرة على حيرة.
وانتقلنا إلى المشهد الثاني، وقد ذكرني بخطباء الأحد في حديقة «هايد بارك» في لندن، حيث يقيم كل خطيب منبره، ويلقي خطابه بأعلى صوت يستطيعه، سواء أكان أمامه سامع أم لم يكن؛ ففي المشهد الثاني وجدنا رجلين، كل منهما على منبره، وقد نصب المنبران ظهرا لظهر، لكن ما أشد ما كان بينهما من اختلاف؛ فأحدهما يخاطب جمهورا ضخما تجمع أمامه ليستمع، وأما الآخر فلم يكن أمامه إلا سامع واحد. واقتربنا فأدركنا العلة، فأولهما يقول لجمهوره ما يحب ذلك الجمهور أن يسمعه، دون أن يعرف المتكلم أو السامع كيف يمكن أن تتغير صورة الحياة بما يقال ويسمع ، فالذي يقوله القائل يعرفه السامع قبل أن يسمعه، فلا المتكلم تغيرت حياته بما قال، ولا السامع ستتغير حياته بما يسمع، وأما الخطيب الثاني فهو يخطب بلغة غير لغتنا، وفي موضوع لا يؤرق أحدا منا؛ ولذلك فقد استحق عقابه، وذهبت كلماته أدراج الرياح.
وانتقلنا إلى المشهد الثالث، فرأينا منظرا مثيرا حقا، وداعيا إلى تساؤل: إذ رأينا صندوقا زجاجيا مستطيلا، طول ضلعه الأكبر نحو ثلاثة أمتار وطول ضلعه الأصغر نحو متر ونصف المتر، وأما عمقه فيبلغ نصف المتر على وجه التقريب، والصندوق مركب على قائمة خشبية مسدودة الجوانب، وفي أحد جانبيه الأصغرين ثقبان مستديران، وفي الجانب الصغير المقابل باب صغير، ينفتح وينغلق بلوحة زجاجية تنزلق في اتجاه جانبي، وقفنا عند هذا الصندوق ولم يكن بداخله شيء، لكن لم تمض دقيقتان حتى جاء الحارس بأرنبين صغيرين، فتح لهما الباب وأدخلهما ثم أغلق دونهما الباب: وأخذ الأرنبان يقطعان الصندوق طولا وعرضا وثبا سريعا وكأنهما يتسابقان، إلى هنا والمنظر لافت للأنظار لكنه غير مفهوم، وفجأة أطلت من الثقبين المستديرين عينان حمراوان تثيران الرعب، ولا بد أن تكونا عيني حيوان داخل القائمة الخشبية المغلقة، على أنهما ما كادتا تظهران وتسلطان النظر على الأرنبين حتى تجمد الأرنبان كل في موضعه - وكأنما هما مقدودان من حجر.
أحسست بالقشعريرة تسري في بدني، ونظرت إلى صديقي لأجده على جهامته وعبوسه، وكأن لا شيء مما نراه قد اهتزت له شعرة في بدنه، وقد ذكرت لك أن عهدي بصديقي ذاك الذي لم أكن قد رأيته منذ سنوات، أنه ضاحك دائما ساخر دائما، قلت له إني لم أعد راغبا في رؤية شيء من هذا المعرض السخيف، وبينما نحن في طريقنا إلى الخروج، وقعت عيني على غرائب، فهنالك تيجان معلقة في الهواء بلا ملوك، وبجوارهما ملوك على عروشهم ولكن بغير تيجان، وهنالك نافورات تحسبها من بعيد تنفث قطرات الماء في حوض مرمري أقيمت فيه، وتقترب فإذا هي أقلام تنفث نثارا من كلمات على ورق أبيض، وهكذا.
Unknown page