ولم يكد يذهب عني ذلك الصديق الزائر، حتى سعدت بزيارة أخرى من ضيف عربي كريم، يحمل إلي نسخة من كتاب «حاطب ليل ضجر» للأديب الفاضل الشيخ عبد العزيز عبد المحسن التويجري، كنت قرأته مخطوطا بغير عنوان، فأيقنت أني ظافر بقراءة ثانية تمتع النفس وتعلو بها، شأن كل أدب رفيع، فقد كنت قرأت قبل ذلك ما نشره مؤلف هذا الكتاب الجديد، من أدب يدخل معظمه في «أدب الرسائل»، وأرى أن ليس في أدبنا الحديث كله، من ينافس الأديب الكبير الشيخ عبد العزيز التويجري في هذا الضرب من الأدب، وأخص ما تتميز به رسائله - أيا كان من يفترض أنها موجهة إليه - أنه يتخذ من تلك الرسائل وسيلة للكشف عن خفايا نفسه، وما تحمله من ذكريات الماضي - ماضي حياته بصفة خاصة - فيقارن بين ما كان من ناحية، وما هو كائن من ناحية أخرى، فلا يجد أمامه بدا من إيثار ما كان على ما هو كائن.
نظرت إلى الغلاف الجميل الذي يغلف كتابه الجديد «حاطب ليل ضجر»، ووقفت بضع دقائق عند العنوان، واسترعت انتباهي كلمة «ضجر»؛ لأن الضجر لا ينم عن القلق، ولقد كنت منذ قليل أتحدث مع زائري السابق، عما أحسه من «قلق» يسري في الأمة العربية كلها، وكان ذلك «القلق» هو الذي أخذت أحاول رده إلى منابته في حياتنا، وتساءلت سرا: ترى هل أراد القدر أن يسوق إلي هذا الكتاب الآن، وكاتبه صاحب القلم البليغ، هو من هو في رهافة حسه، ليكون معي شاهدا على الأمة العربية في يومها هذا؟ لقد جعل من نفسه «حاطب ليل»، ولم أدهش لذلك؛ لأنني أعلم مسبقا أنه كلف باستبطان ذاته، كمن يغوص إلى أجواف البحر ليخرج منها بما عساه مصادفة ، لا فرق عنده بين درة وحصاها، إذا هو ينشد الحق، لا يبالي أن تكون الحقيقة الواقعة مما يسر أو مما يثير الشجن، ولم أشك وأنا بعد عند عنوان الكتاب، في أن المؤلف قد جعل من نفسه «حاطب ليل»، بمعنى أنه قد صنع ما يصنعه محتطب ذهب ليجمع أعوادا للوقود، فالشبه قريب بين ذلك الحاطب يجمع الفروع الجافة ليوقد بها النار، وهذا الحاطب (وأعني مؤلف الكتاب) الذي جاب في حنايا نفسه وثناياها، ليعود بما عساه واجده من خلجات ونبضات وذكريات، ولماذا هو «ليل»؟ إنه كذلك لأن النفس - كل نفس - تضن بسرها فتخفيه حتى على صاحبها، وإذن فهي في ذلك أشبه بليل أرخى سدوله على الأشياء ليخفيها، ولكن بقيت لي من العنوان كلمة «ضجر». وما إن خلوت إلى نفسي، واستعنت بالعدسات المكبرة، حتى أدرت غلاف الكتاب لأرى كيف بدا وكيف سار، فطالعت أول ما طالعت قول المؤلف إن: «ما في هذه الرسائل قوافل من سوارح النفس، ملت المقام وضجرت، ثم تداعت في غير انتظام على فم القلم»، ثم قوله عن صاحب ذلك القلم، إنه راح: «يحتطب من أوديته النفسية وقودا يضيء لقلمه، في عتمة الليل، الطريق الذي يمشي عليه.»
إذن فقد وجدت في هذا الكتاب، وفي كاتبه الأديب، ما يشد أزري في مسعاي، حتى وإن اختلفنا في النتائج، فكلانا لا تكفيه الأسطح ويريد الغوص وراءها إلى جذورها، إلا أن الفارق بيننا في ذلك هو أنه - لكونه أديبا مبدعا - يتجه نحو دخيلة ذاته باحثا وفاضحا، وفي حين أني أدير البصر فيما حولي، لأقيم الأحكام على المشاهد، وكلانا قد أخذه القلق مما رأى من أوجه حياتنا، فطفق يبني على ذلك القلق ما يبنيه، لولا أن محور القلق عنده كان في ذات نفسه وما يكمن فيها من ذكريات الماضي، فنراه يحفر في ذكرياته حتى يصل إلى الكبد والحشى، ويصبح كأنه قد عاد إلى ماضيه، في أدق ما كانت تنطبع به حواسه الظاهرة والباطنة على السواء من مؤثرات محيطة، وإن أدب الأستاذ التويجري في هذه العودة إلى الماضي، لهو أقرب ما يكون شبها بما فعله الأديب الفرنسي العظيم «مارسل بروست» (1871-1922م) في كتابه الخالد: «البحث عن الزمن المفقود»، فكلا الرجلين منجذب إلى أيامه السوالف، يركب إليها قطار الذكريات، متعقبا تلك الذكريات واحدة وراء الأخرى، حتى يصل إلى حيث يظن أنه هو ما كان قد سمعه ورآه في طفولته وشبابه، ذلك هو «القلق» الضجر عند الأستاذ التويجري، وأما القلق عندي فهو يجاوز حدود ذاتي إلى قلق عام، أراه ساريا في أصلاب الأمة العربية اليوم، وأحاول التعليل، وبعد هذا وذاك فقد نختلف في مغزى الحنين الذي نحسه معا إلى ماضينا، قريبه أو بعيده على حد سواء، فربما كان الكاتب الكبير الشيخ عبد العزيز التويجري يود لو أن ذلك الماضي قد عاد إليه ليعيش في بساطته وبراءته، وأما الحنين عندي إلى الماضي، فهو حنين إلى ما يصلح أن يكون ملهما بوثبة عربية قوية، نحو مستقبل يبنى على حضارة العصر بعلومها وفنونها وطموحها.
إذن فالسؤال الكبير الذي طرحته، وأطرحه على نفسي، هو: أين في حياة الأمة العربية ذلك الجذر العميق، الذي أنبت لها شجرة القلق بكل فروعها وأوراقها، وهي هي الشجرة الملعونة التي أكلنا من ثمارها المحرمة، فتمزقنا شعوبا، ثم تمزق كل شعب أفرادا لا يكاد يحس أحدهم بوجود الآخر إلى جواره، إننا جميعا في حالة تقرب مما يسميه علماء النفس «بالعصاب»، يملؤنا الشعور بالإحباط، والخوف، وسرعة الانفعال وشدته، والريبة في الآخرين، وغير ذلك من ظواهر الحياة العصابية القلقة الضجرة، فما الذي أحدث فينا هذا كله؟ إن علاج الداء مرهون بمعرفة طبيعته وأسباب حدوثه، ومهما يكن في الحياة الفردية أو الاجتماعية من علل نفسية، فهي آخر الأمر محصلة ظروف - داخلية وخارجية - ومن بين تلك الظروف، الحياة الثقافية التي تحياها الأمة العليلة أو الفرد العليل، وإذا كان هذا هكذا، كان سبيل العلاج هو تبديل ظروف بظروف، وزرع ثقافة في العقول وفي النفوس، لتحل محل ثقافة أدت إلى ما أدت إليه من أوجه الضعف.
واقرأ ما شئت لكبار العلماء في أطراف الدنيا ، ممن حاولوا بكل قدراتهم العلمية، أن يحللوا النفس الإنسانية في قوتها وفي ضعفها، وحاول أنت ما استطعت المحاولة، أن تقيم على مشاهداتك وخبراتك تحليلا وتعليلا للنفس الإنسانية - أو قل للشخصية الإنسانية، ليكون المعنى أوضح ظهورا - يؤدي بك إلى تفسير مقبول لقوة الشخصية أو ضعفها، فأنت في آخر الشوط واصل إلى نتيجة، تقترب من اليقين في صوابها، وهي أن الأمر في ذلك كله مرده إلى عاملين هما: الأمن وجودا وعدما، ثم إشباع الحاجات الطبيعية والنفسية وجودا وعدما كذلك، فالقوة - إذن - مرهونة بالطمأنينة ليسعى الإنسان في مسالك حياته وهو آمن، ومع الطمأنينة تقوم الدعامة الثانية، وهي أن يتاح للإنسان - فردا أو جماعة - ألا يتعرض لدواعي الإحباط بشتى صوره وأشكاله، ولقد حدث في مناسبة سابقة أن وجهت انتباه القارئ إلى قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
ففي هذه الآيات الكريمة بيان بالعاملين الأساسيين اللذين يؤديان بالإنسان إلى قوة وارتقاء وازدهار، وهما: أن يكون آمنا من الخوف، وأن يشبع حاجته الطبيعية إلى غذاء، وأذكر أني في تلك المناسبة السابقة التي تناولت فيها هذا الجانب من الموضوع، قد رأيت في العامل الأول - عامل الأمن من الخوف - ما ينتج ازدهارا في الجانب الثقافي من حياة الإنسان، وفي العامل الثاني ما يشير إلى الجانب الاقتصادي من تلك الحياة، وعلى هذين الجانبين: الثقافي والاقتصادي، تعتمد الحضارة بكل أبعادها.
والأمة العربية اليوم ينقصها الجانبان بدرجة ملحوظة، ومن ثم جاء «القلق» الذي أشرنا إليه؛ فأما جانب «الأمن» من الخوف فلا أظن أن مواطنا عربيا واحدا، يشك في أن الطمأنينة لا تجد طريقها إلى صدورنا، ويكفيك أن تنظر لترى كم هم الأعداء الأقوياء الذين يحيطون بالأمة العربية، ويضمرون لها من الشر والغدر ما يضمرون، حتى لنسمعها قولة مترددة على الألسنة والأقلام بيننا، تقول إن الحروب الصليبية ما زالت قائمة، حتى وإن اختلفت الأهداف الفرعية لتلك الحروب، فالهدف الأساسي عند الأعداء قائم، وهو إيقاع الهزيمة بالأمة العربية، وأما الجانب الثاني ، وهو جانب الإحباط، المتولد عن امتناع القدرة على إشباع حاجاتنا الطبيعية والنفسية، فواضح مما يملأ الوطن العربي من فقر ومرض وجهل، ولا يستثنى الأقطار البترولية بثرائها؛ لأنها إن تكن قد أشبعت الحاجة إلى الضروريات المادية من طعام وكساء ومأوى ورفاهية، فلا أظنها قد أشبعت شيئا من حاجات أخرى لها الضرورة نفسها، ومن أهمها حسن القبول عند الآخرين، والآخرون المقصودون هنا، هم الشعوب الأخرى التي صنعت حضارة العصر، وحققت لنفسها من جبروت السلطان ما حققت، فكلنا يعلم بأي ميزان يزن أبناء الغرب المتقدم الإنسان العربي من أي شعب عربي جاء، بتروليا كان أم غير بترولي على حد سواء، وبالله لا تقل لي: وما لنا وموازينهم، فنحن كذلك نزنهم بميزاننا فإذا هم الخاسرون لا، لا تقل ذلك؛ لأنك تعلم حق العلم وأنت تقولها، أنك تكذب على نفسك، ولقد ذكرها ابن خلدون ذكرا مستفيضا، ليبين كم يكون الرأي في الحضارة المعينة لصناعها وأقويائها، لا لمن هم عيال عليهم، مفتقرون إليهم علما وعملا، فالمعول في تقدير الأمم والشعوب إنما يرتكز أساسا على مقدار المشاركة الإيجابية في الحضارة القائمة، والإضافة إليها بما هو جديد مبتكر، حتى ولو جاءت تلك الإضافة على طريق النقد البناء، ولا عجب إذا رأينا كفة الشعوب الصفراء آخذة في الصعود نحو اتجاه العصر وحضارته.
إننا الآن نبحث عن الجذور، جذور القلق الذي نزعم بأنه حالة تسود الأمة العربية في حياتها الراهنة: سياسة، وفكرا، وشعورا، فإذا تحدثنا في هذا السياق بلغة يستخدمها علماء النفس، قلنا إن موطن العلة إنما يكمن في بعد المسافة الفارقة بين «الأنا» و«الأنا الأعلى» في المواطن العربي، وشرح ذلك هو أن هذا المواطن العربي، إذ يقارن بين حياته كما هي واقعة بالفعل، من حيث منزلته بالنسبة إلى من تقدموا في مضمار العلوم والصناعات وفنون القتال، بل وفي أخص خصائص الإنسان، من فن وأدب، وتعاون على مساعدة المريض والفقير والمكروث بكارثة من كوارث الطبيعة وغير ذلك، أقول إن المواطن العربي حين يقيس حياته الفعلية في هذا كله، بحياة غيره ممن تقدموا في مضمار الحضارة التي أفرزها عصرنا ليعيش في ظلها وفي نورها، أو حين يعيش حياته تلك بما يرويه له تاريخ أمته عن أسلافه وهم في مواقع الريادة للعالم أجمع، وجد مسافة الفرق بين ما هو عليه، وما كان «ينبغي» أن يكون عليه، سواء أكان مدار القياس حياة أسلافه وهم في مجدهم، أم كان حياة معاصريه الذين طاروا في سماء التقدم بأجنحة النسور، وجدها مسافة لا تقاس بالشبر ولا بالمتر، بل تقاس بالفراسخ أو بالأميال، وإني لأرجو أن تقرأ هذا وأمامك اعتباران: أولهما أن مدار الحكم على موقع المواطن العربي، إما بالنسبة إلى الآخرين من معاصريه، وإما بالنسبة إلى الآخرين من أسلافه، إنما هو مقدار ما يضيفه إلى الدنيا كشفا وابتكارا، فكم هو بحاجة إلى الآخرين، وكم هم في حاجة إليه؟ أما الاعتبار الثاني، فهو أن كاتب هذه السطور، لا يباهي بما يكتبه؛ إذ هو لا يستثني نفسه من أي حكم يلقيه على المواطن العربي؛ لأنه هو نفسه مواطن عربي من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ينقصه ما ينقص سائر مواطنيه، فهذا الفارق البعيد بين «الأنا» العربية كما هي قائمة بالفعل، و«الأنا الأعلى» الذي يتمناه، هو أعمق الجذور التي أنبتت فينا حياة القلق الممرض، المضعف المميت.
حقائق الأشياء وظلالها
Unknown page