4
ذلك العاهل الشائب، ولكنه لم يزدر ولهلم كما كان يزدري الآخرين، ومهما يكن من أمر فإن بسمارك كان يصبر على نزوات الإمبراطور صبر الابن - الذي تسلم الأعمال منذ زمن طويل - على مشاكسات أبيه، وبسمارك يريد المنصب لمدة كبيرة، وبسمارك يود طول عمر مولاه لسنوات كثيرة، وولي العهد خصم لبسمارك، وفردريك قد يغدو مليكا في الغد، وفي هذا ختام لعهد بسمارك، والإنسان أمام ذلك يظن - أول وهلة - أن مشاعر بسمارك ومصالحه تحفزه إلى السؤال عن حال الرجل الجريح.
ولكن بسمارك مكافح حقود قبل كل شيء، ولكن بسمارك يمقت في الليل ويقدر في النهار، ولكن بسمارك لا يغفل عن عدوه أبدا، ولكن بسمارك يرقب عدوا جديدا على الدوام، ماذا؟ يتذرع الريشتاغ الذي صنعه بسمارك بحق الرفض فيقاوم خططه، أترى ريشتر وفيندهورست ولاسكر وبنيغسن ومن إليهم من القوة ما يحولون به دون مكافحته مخلي النظام ونهابي الأموال؟ أفلم يخطف أولئك «المهاذير» السلاح من يده؟ هنالك قذيفة منقذة ، ولا يهم مصدرها ، وبسمارك لا يعرف حتى الآن طبقة الجاني المجهول ولا حزبه، وبسمارك لا يعرف حتى الآن خطورة الجرح ولا إمكان شفاء الرجل الجريح البالغ من العمر ثمانين سنة، وبسمارك لا يعرف غير أمر واحد، وهو أن جرح الإمبراطور بيد أثيم له من القيامة ما لنصر ينال في ميدان القتال، وليخض غمار معركة انتخابية إذن! والآن يمكننا أن نسقط جميع أعدائنا في الداخل! وسنحل الريشتاغ!
حل الريشتاغ بعد عشرة أيام من محاولة قتل العاهل، وينال بسمارك أكثرية بفضل محاولة القتل الثانية هذه.
وليس القطب السياسي بسمارك بالذي يبالي بما كان من جنون الجاني، ومن عدم انتسابه إلى أي حزب سياسي كان، ومن انتحاره وقوله قبل الانتحار إنه لم يرد أن يفارق الدنيا قبل أن يرافقه رجل عظيم، فبسمارك يملأ الصحف باعترافات نوبيلينغ وبحديث آثام نوبيلينغ! وبسمارك يبلغ إلى جميع ألمانية برقيا وفي اليوم بعد اليوم قصة المؤامرات واكتشافها! وبسمارك يضع برلين تحت الحكم العسكري! وذلك لأن «أقوم تدبير هو تشجيع التصادم الذي لا مفر منه، ثم قمع الفتنة بالقوة، فإذا ما دب الذعر في الجمهور وافق الريشتاغ على قوانين قاسية».
بسمارك في سنة 1886.
وهكذا، يعود الوزير المستبد إلى أوائل عهده بعد نصف جيل، وعلى الدم والحديد أن يكون لهما من الفوز في الداخل مثل ما تم لهما في الخارج، ويعارض ولي العهد هذه التدابير، ويتسلم ولي العهد شئون الدولة في أثناء مرض أبيه، ولا يريد أن يبدأ عهده بطوفان من الدم، ويتمنى جميع الأحرار موت الإمبراطور وجلوس ابنه على العرش، بيد أن فردريك لم يجرؤ على الجهر بالكلام ضد القانون الاستثنائي ما اقترح هذا القانون لحماية حياة أبيه في الظاهر، وتزيد مشاعر ولي العهد إبهاما مقدارا فمقدارا.
ثم يحدث غير المنتظر، فقد شفي الشيخ، والخوذة هي الشيء الوحيد الذي أنقذه، والخوذة هي التي كان معتمرا بها في ذلك النهار على خلاف عادته، والآن وقد سبق أن نصر في ثلاث حروب على الرغم منه، يعرض نفسه للخطر مع مشيبه، وهذا أمر يمكن الشعب أن يدركه، ويصير العاهل الذي كان الشعب يمقته في الماضي محبوبا عنده إلى الغاية، وتعود إليه عافيته فينهض من فراشه ويقول مازحا إن نوبيلينغ داواه بأحسن مما اتفق للأطباء ما دام محتاجا إلى الفصد، وتبتهج ألمانية بأسرها، ويجد بسمارك مولاه أشد مرحا وأكثر حياة مما كان عليه في أي وقت مضى، ويشعر بسمارك والألمان وولي العهد وزوجه وأهل أوروبة وكل الناس بأن ولهلم سيتمتع بعمر طويل لم يتفق لأي عاهل منذ قرون، وهكذا تؤتي القذيفة ثمرها، ويفيد بسمارك من روح الوقت فيغامر بأخطر تدابيره.
وفي الانتخابات التي عقبت محاولة قتل الملك، وهي الانتخابات التي ما انفك بسمارك يعطي في أثنائها كلمة السر، ضعفت قوى اليسار كثيرا، على حين عظمت قوى اليمين إلى مدى بعيد، والآن يستطيع المعلم أن يحمل الريشتاغ على إجازة قانونه الاستثنائي وأن يغتنم الفرصة فيجعل نصوصه أشد صرامة مما كانت عليه، ويرعد الأحرار ويتوعدهم مرة أخرى كما في السابق، ويقبل العون من فيندهورست الذي أنبأ باسما بإفلاس سياسة الكنيسة.
ويغير جبهته، ويبدو قادرا على الانتفاع بالوسط وبالأحرار الوطنيين مناوبة وصولا إلى الأكثرية، وينص هذا القانون الجديد الذي سن لسنتين في بدء الأمر فجدد لأربع سنوات أخرى فيما بعد على حق السلطات في القضاء على كل نشاط يهدف إلى «تقويض النظام العام»، وأن يجازى كل من يحاول ذلك، ويمكن طرد أرباب المطابع وباعة الكتب وأصحاب الحانات أو اعتقالهم، ويمكن إبعاد كل من ينشر مذهبا اشتراكيا، ويمنع الاشتراكيون من حرية الصحافة وحرية الاجتماع، ويستطيع كل وال أن يعلن الحكم العسكري في ولايته.
Unknown page