ورودولف هذا متحفظ شهم نبيل مخلص كرون، ورودولف هذا فطري متواضع وإن لم يبخس مقدرته الخاصة، ورودولف هذا قد برئ ليقود بلدا بأسره، وهو لتردده في دخول الوزارة في الأوقات الحاسمة تراه يخصص حياته لزعامة حزب يمثل فيه دور الوسيط المطبوع مروجا لهذا الحزب بما يلقيه من خطب نادرة جزيلة وبمواظبته على اللجان وبصلاته الدائمة بزملائه الذين يوفق بينهم في كل وقت. والحزب نفسه هو حزب وسط، هو حزب الأحرار الوطني، وردولف يشغل في هذا الحزب مكانا بين أقصى طرفيه.
وبسمارك يجد رودولف لينا إلى الغاية، وبسمارك ينفر من قوة عاطفة رودولف وقلة حماسته، وبسمارك على حق في عده رودولف ألمانيا خياليا أقدر على التفكير مما على العمل، ولا غرو، فقد عزم رودولف على الجلوس بين الطلاب في غوتنجن للتعلم ابنا للسبعين من عمره.
ورودولف هو ابن جنرال من سكسونية الدنيا، ورودولف هو ابن أسرة قديمة كآل بسمارك، والمستشار بسمارك يحمل له احتراما لهذا السبب، ورودولف قد غادر وطنه هانوفر من أجل ألمانية ومن غير أن يحب بروسية، وبسمارك الذي ضم هانوفر إلى بروسية يمكنه أن يدرك هذا، وبسمارك يدعو رودولف في الحين بعد الحين ب «الصديق المكرم»، ويقود رودولف أناسا لا يناضلونه بلا قيد عندما يرغبون عن اتباعه، ولا يفقه بسمارك أمرا كهذا وينعت بسمارك بنيغسن بالرجل الغبي عند حدوث ذلك.
وترى بجانب بسمارك رجلا أوعر من ذلك وأفتر، ويدل قوامه الطويل على ثبات عزمه، ويكون له بشعره الرمادي الأشعث طابع معين، وهذا الرجل العبوس الأنوف الصوال - كبسمارك - هو ولهلم فون كاردوف، وهو أصغر سنا من المستشار بسمارك، وهو إذا لم يلبس نظارته بدت عيناه العسليتان حادتين ثاقبتين كعيني بسمارك. ونحن إذا ما نظرنا إلى ملامحه البرونزية أبصرنا لون أنفه الأبيض الضارب إلى زرقة، فعلمنا أنه مصنوع؛ وذلك لفقده أنفه الأصلي في مبارزة قام بها أيام كان طالبا.
وقد وقف نظر بسمارك مزاجه واستعداده، وما فطر عليه من تصميم على أن يكون مستقلا فقد أنقذه من براثن بسمارك، وهو ببقائه مستقلا يمكنه أن يظل موائما لبسمارك مخلصا لآل صديقه حينما يولي الأشراف الآخرون وجوههم شطر الشمس الجديدة، وكان فكر كاردوف أكثر تنقلا من أبناء طبقته فأخذ مكانه بين أحزاب اليمين، ويرغب كاردوف - غالبا - في النزهة في الجو الحر مغامرا، ويتعلق كاردوف بالمبادئ الاقتصادية السائدة لشرق الإلبة، فيبدو ذا تأثير في انتحال بسمارك لسياسة الحماية الجمركية.
وتبصر يهوديا بين هؤلاء الألمان الأريستوقراطيين، فهذا اليهودي نحيف أسمر اللون مع قسمات مستدقة، واسم هذا اليهودي هو إدوارد لاسكر، وهو لدة بنيغسن، وهو كهذا الأخير قد تعلم الركوب والمسايفة حينما كان يعيش في ملك الأسرة، ولما كان لاسكر صبيا درس التلمود في مدينة صغيرة ببوزن، ونقل إلى العبرية نظما كتاب «تقسيم الأرض» لشيلر، ولذا لا عجب إذا ما غدا من فوره منافسا لبنيغسن كمحام بارع ورجل حصيف وزعيم للحزب الجذري،
8
وهو أفضل من بنيغسن ناقدا ومجادلا وخطيبا، وكان قيام دولة دستورية مثله الأعلى على حين كان بنيغسن يميل بمثله الأعلى إلى قيام دولة وطنية، وكانت له ميول اشتراكية، ولكنه لم يكن دون بنيغسن وطنية، وكان إيجابيا في أهدافه، وكان رجلا ذا مطالب قليلة، وكان ذا مزاج استبدادي، وكان مضادا لبسمارك لهذا السبب، وبسمارك هو الذي كان يفضل أن يرى حوله أناسا سمانا لينين على أن يرى حوله رجالا نحافا غيورين.
ورجل من عرق لاسكر وحزبه يستمع إليه مرتابا مصفرا، وهذا الرجل هو لودفيغ بانبرجر، وهو شيخ ضيق الصدر مدور الكتف، ومن ينظر إليه في هذه الأيام حين صار نحيفا منهوكا لا يصدق أنه كان نشيطا في سنة 1848، أو أنه كان ذا قوى بدنية، أو أنه استطاع أن يمثل دورا في الحياة العملية ولو كان صغيرا، ولا بد من أن يكون قد أبدى غيرته في حقل البيان وحده.
ولكن لودفيغ بانبرجر وإن كان مسلولا دخل صفوف الجذريين بحماسة، وهو لما قام به من أفعال فيما مضى فر من بروسية مفكرا في الذهاب إلى أمريكة، ثم بقي بلندن في نهاية الأمر عائشا عند أقرباء أغنياء، ويعين موظفا ثانويا في مصرف لهؤلاء حينما كان في السادسة والعشرين من سنيه، ويغدو غنيا وينتقل إلى باريس وتلقي روحه الجوالة مرساها في مدينة النور هذه حيث يفتنه الذكاء الفرنسي والأسلوب الفرنسي والتهكم الفرنسي وحسان فرنسة، وفي باريس تفتح له جميع الأبواب نصيرا للفنون.
Unknown page