وكان وضع لاسال تجاه نابليون الثالث مثل وضع بسمارك، فعلى ما يحمله من مقت لاستبداد نابليون كان يفضل أن يسير بجانبه في الأزمات ضد النمسة على أن يسير بجانب النمسة ضد فرنسة، وما كان يجهر به لاسال فذو أثر كالذي يأتيه بسمارك في الخفاء، ومن قول لاسال: «إذا كان نابليون يرى تعديل خريطة جنوب أوروبة وفق مبدأ القوميات فإننا نرى صنع مثل ذلك في الشمال، وإذا كان نابليون يرى تحرير إيطالية فإننا نرى الاستيلاء على شليسويغ، وهكذا تكون بروسية قد غسلت عار أولموتز. وإذا كانت بروسية تتردد فإن ذلك يدل على عجزها عن القيام بعمل قومي.» والأمر الوحيد الذي يميزه هنا من بسمارك هو انتحاله أسلوب المحرض في الحقل القومي وسلوك بسمارك سبيل الدبلمية، وتلميذ هيغل وفيخته لاسال يصوغ مزاعمه بأسلوب أكثر فلسفة من أسلوب تلميذ مكيافلي بسمارك، ومن قول لاسال: «يتوقف على هذه الأمة الفلسفية النزعة، يتوقف على هذه الأمة الألمانية، وذلك بفضل نشوئها ووفق تاريخها الأدبي والمادي، ذلك المصير الأسمى وذلك الشرف الوحيد في التاريخ العام، فيكون لها من الأموال ما يسفر عنه المبدأ الشعبي البسيط غير المادي ويكون لها من الكيان ما يسفر عنه الفكر، ويشابه عمل كهذا خلق الرب للعالم! ولقد غدا هذا دينا حيا في كل قلب ألماني نبيل مسمى باسم الوحدة الألمانية الشعبي الجازم، وفي اليوم الذي تدق فيه جميع النواقيس إيذانا بولادة الدولة الألمانية نحتفل بعيد فيخته الحقيقي؛ أي باقتران روحه بالحقيقة!»
وكان بسمارك يغضي عن تكلف ذلك الأسلوب، وكان يقلب العبارة في ذهنه ويستخرج منها ما يراه من النتائج، وقد قرأ ما قاله الزعيم الجديد لاسال عنه في الاجتماعات العامة التي كان يمقتها، «ومما لا جدال فيه أن لدى بسمارك معرفة صحيحة بالمسائل الدستورية، فتنسجم وجهات نظره انسجاما تاما مع نظريتي، ويعلم بسمارك جيدا أن الدستور الحقيقي لبلد ليس قصاصة ورق، بل هو وليد أحوال واقعية.» ولسرعان ما سار خطوة واسعة إلى الأمام فقال في اجتماعات عامة عقدها في بلاد الرين: «إن التقدميين يلاطفون الأمراء في فرانكفورت ليزعجوا بسمارك، ولو كان علينا أن نتبادل نحن وفون بسمارك العيارات النارية لقضى العدل علينا بأن نعترف - حتى في أثناء ذلك - بأن بسمارك رجل وبأن الآخرين عجائز.»
وبسمارك قبل أن يقرأ ذلك الإقرار الحبي، أخذ برقية من سولنجن حيث منعت اجتماعات لاسال، وإليك نصها: «حضر العمدة التقدمي على رأس عشرة من الشرطة مسلحين بالبنادق والحراب فحلوا - بغير مسوغ شرعي - اجتماع عمال دعوت إليه، فاحتججت على غير جدوى، وليس من غير صعوبة أن حلت دون التجاء جمهور مؤلف من خمسة آلاف شخص إلى استعمال العنف؛ فالبدار إلى مراضاة قانونية حاسمة، لاسال.»
جاء ذلك في حينه؛ وذلك لأن بسمارك كان منذ بضعة أيام يقوم بلعبة ضد مؤتمر الأمراء فيطالب بإجراء استفتاء عام متماثل في أمر الجامعة الألمانية، ويدفع بسمارك تلك الشكوى إلى المراجع القانونية، ويزوره لاسال «ليعرب له عن شكره»، ثم يزور بسمارك في شتاء عام 1863-1864 ما يزيد على اثنتي عشرة مرة، ويطيل الاجتماع به في كل مرة، وتمضي عدة أعوام فيرى بسمارك من المصلحة أن يقطع تلك الصلات السياسة بلاسال فيقول في الريشتاغ: «أبصر في لاسال ما يجتذبني إليه اجتذابا شخصيا عجيبا؛ فلاسال هو من أكثر من عاشرتهم موهبة وأنسا، ولاسال طموح إلى أوسع مدى، وكانت محادثاتنا تدوم ساعات كثيرة فآسف على مرورها، وأظن أن لديه انطباعا جميلا بأنني كنت له مصغيا مدركا حسن الالتفات.»
بسمارك في سنة 1866.
وكانت تلك المحادثات بين أقوى ساسة الألمان في ذلك الدور تدور حول المسألة العظيمة القائلة بأن تقوم الوحدة الألمانية على أساس الأسر المالكة أو على أساس شعبي، والآن يرى لاسال أن الجمهورية الألمانية غاية لا تنال، والآن يرى بسمارك تعذر تحقيق حلف بين الأمراء، وكلاهما لا يقدر في نفسه هذين الحلين المثاليين، وإليك لمحة عن اجتماعاتهما ثبت أمرها بما رواه لاسال ، كما يأتي:
بسمارك :
ولم لا تصوتون مع المحافظين ما دمتم لا تأملون فوز مرشحيكم؟ فمصالحنا تسير مع مصالحكم، فأنتم تناضلون سائرين من وجهة نظركم ونحن نناضل سائرين من وجهة نظرنا، وذلك ضد رغبة الطبقة الوسطى في القبض على زمام السلطة.
لاسال :
يلوح أن تحالف المحافظين وحزب العمال أمر ممكن لأجل معين يا صاحب الفخامة، ولكننا لا نسير معا إلا لمسافة قصيرة في الطريق، ثم نصطرع بعنف أكثر مما مضى.
Unknown page