الكريم، هو قطعة بديعة قدت للعالم والشيطان اللذين لا يسهل عليهما أن يسرحا فريستهما ... علموه قواعد الدين!» وهو مع ذلك قد علم بسمارك السياسة الواقعية منذ زمن طويل.
وتبلغ معضلة الفارس النصراني «بسمارك» أقصى حد لها في مبارزة، ويصفه منافسه في المجلس، فينكه، وذلك من فوق المنبر بالدبلمي الذي يرد عمله في التاريخ إلى سيغار الكونت تون وبالعاجز عن الاختيار، ويجيب بسمارك عن ذلك بأن فينكه فاقد التربية فيدعوه هذا إلى المبارزة، ويرجع بسمارك ذلك العداء وتلك المبارزة إلى المحادثة الحادة التي وقعت في شهر مارس سنة 1848 حول خطط أوغوستا الماكرة، وعند صلاة المساء يسأل بسمارك القسيس هازئا أسئلة عن صواب إصابته الهدف عند إطلاقه النار في الصباح، «وكان الجو جميلا، وكانت الطيور تغرد على نور الشمس، وتزول أفكاري الكئيبة عند دخول الغابة.» وهنالك وجد من حاول مرة أخرى إصلاح ما بين المتبارزين، ويتم الاتفاق على أن يكتفي كل منهما بإطلاق عيارين فقط، ثم يتفق على إطلاق كل منهما عيارا واحدا فقط، ثم يذهب إلى تسوية الأمر بأن يعتذر بسمارك عما فاه به فيأبى ذلك ، ويأخذ كل منهما مكانه «وأطلق النار غير غاضب وأخطئ الغرض، ولا أنكر أنه مازجني شيء من الغم عندما أبصرت من خلال الدخان بقاء خصمي واقفا، فلم أقاسم الحضور سرورهم، وقد أزعجني خفض عدد الطلقات التي نتبادلها فوددت دوام المبارزة، والله يعلم ماذا يخبئ لفينكه.»
وفي ذلك التقرير الذي لا مراء في صحة ما ورد فيه من دلالة على المعاشرة، ما دام قد أرسل إلى حماته بأسلوب تقي، ترى ما بين بسمارك المكافح الشديد الشكيمة وبسمارك النصراني من تناقض، ومن المباح إطلاق النار، ولكن من المريب أخلاقا أن يسدد الفرد، وعلى الصائد ألا يساوره غضب إذن، ومما يزعج الصائد مع ذلك أن يبصر الطريدة واقفة سليمة بعد تبدد الدخان! ولا يرد خاطره سؤال عن السبب في سلامة نفسه أيضا، فالذي يهم ذلك الضارب الساخط «بسمارك» هو ما يبيته الرب لفينكه، لا العامل الذي ظل به «بسمارك» حيا، ففي هذه الحال - كما في أحوال أخرى - يبدو أنه يحقد على عدوه أكثر من حبه لنفسه.
وما كانت حنة لتصفح عنه قبل انقضاء زمن، فهي تحب الدعة بقدر ما يحب الصراع، وهي عاطلة من جميع الصفات الجوهرية التي تؤهله لمثل ذلك النزاع؛ أي عاطلة من الطموح وروح المصاحبة وحسن الصحة، وهي مريضة في الغالب، وهي لم تكن مريضة فقط؛ لوضعها أولادا تعنى بهم، على خلافه، ليل نهار؛ ولأنها تقضي في سبيل تربيتهم ساعات وشهورا من كل سنة، وهي ذات عينين ضعيفتين، وهي مضطرة إلى قصد المنتجعات الصحية، وهي تطالب بأن يوطأ لها كل شيء في الرحلات والمجتمعات، وهي لما ليس لديها من القوة ما تقوم به وحدها في تدبير المنزل؛ تلجأ إلى بسمارك في حفظ النظام بين الخدم وتسريح بعضهم وإمساك ما بقي منهم وفي ابتياع الرياش والأواني فيسر بما يجده من عمل في ذلك ملائم لما شب عليها مالكا للأراضي، وبسمارك - مع أن لديه ما ليس لديها من الأعمال الكثيرة - تراه يلتمس منها أن تراسله، وفي المراسلة تبصرها متقلبة الأطوار، فلا تعرف كيف توزع وقتها .
ولا يؤثر فيها ما يحرص عليه فيوفق لصنعه، ولا تكتم استنكارها لحياته الدنيوية، وتكتب في ساعة أزمة إلى صديقها كودل كتابا تقول فيه: «ليتنا نذهب إلى شونهاوزن فلا نبالي بسوى أنفسنا وأولادنا وأهلينا والمخلصين من أصدقائنا؛ فما أكثر سروري بذلك! ولا ريب عندي في أنه يعود إلى سابق نضارته إذ ذاك، وهو عندما بدأ تلك الحياة الدبلمية، البائسة العاصفة التي لم تأته بصالح، لم يجد فيها غير الغم والخصام والحسد والكنود، وهو لو نفض عن رجليه العزيزتين غبار ذلك الكدر العقيم، وهو لو ترك جميع تلك السخافات التي لا تلائم خلقه القويم الكريم لغدوت سعيدة راضية، ولكن من المؤسف أنه لا يفعل ذلك؛ لما يراه من ضرورة خدمة «الوطن المحبوب»!»
ولا نبصر بذلك الكتاب ما يدور في خلدها التقي النقي من الأماني فقط، بل نبصر به أيضا مقدار ظهوره مفخرة لها، وليس من خداع في ذلك، وأي شيء يكون طبيعيا عنده أكثر من أن يوصف سموه الخلقي العتيد نفعا له وللآخرين، ومن أن يصرح بأن خصومه أو زملاءه أو رؤساءه الذين هم دونه براعة أكثر منه مخادعة! ولا مراء في أن امرأة تكون من الدهاء ما توجهه معه نفسيا، أو تكون من الطموح ما تدفعه معه إلى ضروب المكايد؛ تغدو ثقيلة الوطأة مع الزمن، وما فطر عليه بسمارك من بصر بالأخلاق فجعله يختار - صائبا - حنة بوتكامر زوجا له؛ فهي قد أحبته دون سواه، وما فطرت عليه من عواطف فلم يحفزها إلى انتقاده ولا إلى عبادته إلها، فهي قد أسرت فؤاده ولم تطلب منه أمرا ولا عبقرية.
وما يجب عليها أن تصنعه فقد علمها إياه بسهولة، وهو لم يعلمها أكثر من ذلك، ويكتب إليها في الأيام الأولى قوله: «وأنت يا بنيتي، يجب أن تعرفي الجلوس في البهو رزانا وقورا، وأن تظهري فطونا ذات لقانية
5
مع أصحاب السعادة.» وتتعلم الفرنسية والفروسية، وهو إذا ما طالبها بشيء يجده كثيرا عليها لم يعتم أن يسترد ما طلب، حتى إنه يتكلم عن نفسه مغاضبا لما فرط منه، «فلقد تزوجتك لأحبك في الله وعلى حسب احتياجات فؤادي؛ ولكي يكون له بين الغرباء مكان يقيه شديد الرياح، ولكي يكون لي ملجأ آوي إليه لأدفأ عند وجود البرد والزوابع في الخارج.» بيد أن الدبلمي لم يلبث أن بدا، فهي إذا ما عبرت عما في نفسها غاضبة واجدة على الرجال قال لها بسبب جواسيس البريد إنه لا ينبغي لها «أن ترعد كتابة ضد بعض الناس على ذلك الوجه؛ وذلك لعدي مسئولا عما تكتبين، وهذا إلى وجود جور فيما تكتبين عن أولئك. ولا تكتبي إلي شيئا يمكن الشرطي أن ينقله إلى الملك أو إلى الوزير. ولا تنسي أن ما تهمسين به إلى شارلوت في حمامك ينقل إلى الملك في قصر سانسوسي مع المبالغة.»
ولم يكلل بدء أمرها في البلاط بالنجاح، ولم يصدر هذا الخطأ عنه أو عنها، فقد دعي إلى نزهة في باخرة على نهر الرين، ويحضرها معه ليقدمها إلى الملك والملكة، غير أن «صاحبي الجلالة جهلاها مع أننا قضينا عدة ساعات - جميعا - في لجنة صغيرة على المركب، ولم تكن الملكة في عافية فلم يكن لديها من النشاط ما ترعاها به، وتعرض أميرة بروسية عنها عمدا، وعلى ما كان من محاولة الأمير أن يلاطف زوجي التي أهملت على ذلك الوجه أثبتت زوجي تمسك أبيها البوميراني بالنظام الملكي بما سكبته من العبرات. وإن ما أنتم عليه من النبل يجعلكم تقدرون ما يساورني من الألم بسبب ما أصاب زوجي من الإهانة التي أعدها أشد من كل ما أصاب به. ومن الطبيعي أن حاولت إقناعها بأنه لم يحط من قيمتها وبأن ذلك من عادات البلاط.»
Unknown page