وتلك الرؤيا ...
ثلاث صور تتزاحم وتلتحم وتتماس أطرها، فلا يبين منظر من منظر، ولكن وراء اجتماعها صورة أخرى لم ترها عيناه بعد ... فلعله يراها أو يرى تأويلها حين يدخل القسطنطينية ظافرا على حصانه!
إن الحقيقة الناصعة التي ينشدها من وراء هذه المعميات قد تمزقت الصحيفة التي تقص خبرها، فشطر منها في القسطنطينية، وشطر في يده، فإذا لم يوافق هنالك شطر الصحيفة التي يجد فيها تمام ما يعلم فلا بد أنه واجده عند الذين يتوارثون علم الملاحم من رهبان القسطنطينية. •••
وكان عتيبة بن النعمان في لهو الشباب، حين جاءه نعي أبيه، فغمه ذلك غما رده في الشباب إلى الكهولة.
وبكت الأم العجوز ما شاءت أن تبكي، فذكرته وذكرت أباه وذكرت أخاه عتبة، ثم فاءت إلى الصبر والرضا بقضاء الله، راجية في حفيديها بشير وعتيبة ما كانت ترجو عند ولديها اللذين مضيا، وخلفاها في وحدتها هذه الموحشة تجتر ذكرياتها السعيدة والمؤلمة وأحزانها المتعاقبة.
وبكت زوجه حتى غارت عيناها وزادت نحولا وشحوبا، وضاعف الحزن انقباضها عمن معها في الدار، فانطوت على ما في نفسها من آلام يعرف منها من يعرف طرفا، ولكن سائرها لم يطلع على غيبه أحد!
وبكت نوار؛ فقد كان النعمان أباها وعمها جميعا، وقد حمل على كتفيه عبء الثأر لأبيها، فلم يزل ينشده في كل مهلكة حتى أدركه أجله، ثم إنه إلى ذلك كله أبو عتيبة، وحسبها ذلك سببا إلى الحزن لا تغيض مدامعه ...
وسفرت نوار عن وجهها منذ جاءها النبأ بمصرع عمها، فقالت لصاحبها: قد مات أبوك يا عتيبة، وعليه نذر لم يتهيأ له الوفاء به. - نعم، الثأر لأبيك برأس بطريق من بطارقة الروم، أو الثواء تحت أسوار القسطنطينية في ضيافة أبي أيوب. - وتريد وفاء بهذا النذر يا عتيبة؟ - وأزيد عليه يا نوار، أن آتيك بتاج البطريق وأخدمك ابنته.
1
وتضرجت وجنتاها، وقد فهمت ما يعنيه، فقالت وقد غضت من بصرها: الثأر أولا يا عتيبة. - بل نذر أبي يا نوار، أما ثأر أبيك فلولا نذر مات النعمان ولم يف به لكان أخوك بشير جديرا بأن يحمل عبأه .
Unknown page